الفصل الثامن
في منفى أميرداغ
(المدرسة النورية الثالثة)
1944/8/1/ - 1948/1/23
نفي آخر
«عندما كنت نزيل غرفة في "أميرداغ" تحت الإقامة الجبرية وحيداً فريداً، كانت عيون الترصد تتعقبني وتضايقني دائماً فأتعذب منها أشد العذاب، حتى مللت الحياة نفسها وتأسفت لخروجي من السجن، بل رغبتُ من كل قلبي في أن أعود إلى سجن "دنيزلي" أو أدخل القبر، حيث السجن أو القبر أفضل من هذا اللون من الحياة.([1]) [حتى كتب إلى المسؤولين في أنقرة:]
إذا كان الحاكم والمدعي واحداً، فإلى من تُرفع الشكوى؟ لقد حرتُ طويلاً في هذه المشكلة..
أجل، إن حالتي اليوم وأنا طليق مراقَب أكثرُ شدة عليّ من الأيام التي كنت مسجوناً فيها، وإن يوماً واحداً من هذه الحياة يضايقني أكثر من شهر كامل في سجني الانفرادي ذاك. لقد مُنعت من كل شيء رغم ضعفي وتقدمي في السن وفي هذا الشتاء القارس. فلا أقابل غير صبي وشخص مريض. على أنني منذ عشرين سنة أعاني مأساة حبس منفرد.
إن مضاعفة المضايقات والمراقبة عليّ وعزلي عن الناس أكثر من هذا الحد سيمس غيرة اللّٰه سبحانه وتعالى وتكون العاقبة وخيمة..
إنني أقول: إن أهم وظيفة لهذه الحكومة -بمسؤولي الأمن ومأموري العدل فيها- والتي تعاملني معاملة وجدانية إنسانية هي حمايتي حماية تامة. لأن الحكومة وثلاث محاكم عدلية برأت ساحتنا وأفرجت عنا بعد إجراء تدقيقات دامت طوال تسعة أشهر على ما كتبتُه خلال عشرين سنة من مؤلفات ومكاتيب. ولكن المنظمة السرية التي تعمل بخفاء في خدمة الأجنبي ألقت في روع قسم من الموظفين الشبهات -بجعلها الحبة قبة- طمعاً في إفساد براءتنا. وغايتهم في ذلك هي أن ينفد صبري فأقول: "كفَى كفى"! على أن سبب غضبهم عليّ في الوقت الحاضر هو سكوتي، وعدم تدخلي بأمور الدنيا. وكأنهم يريدون أن أتدخل حتى تتحقق لهم بغيتهم.
أبيّن لكم بعض مكايدهم التي يستعملونها في بث الشكوك والشبهات في قلوب قسم من الموظفين الحكوميين إذ يقولون: إن لسعيد نفوذاً في الأوساط العامة، وإن مؤلفاته كثيرة ولها تأثير بالغ في الناس، فمن يتقرب منه يصادقه، لذا يلزم كسر هذا النفوذ بتجريده من كل شيء وإهانته وعدم الاهتمام به وتجنيب الناس منه وإخافة محبيه. وهكذا أصبحت الحكومة في حيرة من أمرها فتشدد عليّ الخناق وتضاعف المضايقات. وأنا أقول:
أيها الإخوة المحبون لهذه الأمة والبلاد!
أجل، إن هناك نفوذاً وتأثيراً كما يقوله المنافقون، ولكن ليس لي، وإنما لرسائل النور. فرسائل النور لا تنطفئ وكلما تعرض لها شيء قويت! ولم تستعمل إلاّ لصالح الأمة والبلاد ولا يمكن غير ذلك. إن قيام محكمتين عدليتين طوال عشر سنوات بتدقيقات ما كتبتُه خلال عشرين سنة تدقيقاً شديداً لم يسفر عن حجة حقيقية لإدانتنا.. وهذه حجة لا تُجرح، وشاهد صدق لدعوانا.
نعم، إن المؤلفات ذات تأثير بالغ، ولكن لمصلحة الأمة والبلاد. وذلك بإرشادها إلى الإيمان التحقيقي لمائة ألف من الناس من دون أن تمسّ أحداً بسوء. فتأثيرها إذن هو في العمل لسعادتهم الدنيوية وحياتهم الأبدية.
إن مئات المساجين المحكومين في سجن "دنيزلي" -وبعضهم قد عوقب بعقوبات شديدة- قد أصبحوا متدينين ذوي أخلاق فاضلة بعد قراءتهم "رسالة الثمرة" وحدها، حتى الذين قتلوا ثلاثة أشخاص تحاشوا عن قتل بقة الفراش بعد قراءتهم لتلك الرسالة. مما دفع هذا الوضع مدير السجن على الإقرار بأن السجن أصبح في حكم مدرسة تربوية.. كل هذا حجة قوية لا تجرح لصدق مدّعانا.
نعم، إن تجريدي من جميع حقوقي الإنسانية بعد هذا كله إنما هو ظلم مضاعف وعذاب مضاعف وغدر وخيانة لهذه الأمة في الوقت نفسه. ذلك لأن الدليل القاطع على أن هذه الأمة المتدينة -التي لم يجد أحد أي ضرر مني رغم بقائي ما يقرب من أربعين سنة بين ظهرانيهم- بحاجة إلى قوة معنوية وتسل عظيم، هو: أن الأمة لا تلتفت إلى الدعايات المغرضة المشاعة ضدي، فتتوجه في كل مكان إلى رسائل النور وتشتاق إليها.. بل أعترف أنهم يبدون من التوقير والاحترام لي يفوق ما أستحقه بمائة ضعف، فأنا لست أهلاً له.([2])
ورغم هذا هيأ اللّٰه أسرة "جالشقان" في أميرداغ فبذلوا كل ما في وسعهم شيباً وشباباً لتأمين راحة شيخ كبير وعالم فاضل مهما كانت التبعات، حيث كان الحارس ملازماً بابه لا يغادره».([3])
[1]() اللمعات، اللمعة السادسة والعشرون، الرجاء الخامس عشر.
[2]() الملاحق، ملحق أميرداغ 1. على الرغم من أن الأستاذ النورسي لم يراجع الجهات الرسمية طوال فترة سجنه أو نفيه في غضون ما يقرب من عشرين سنة خلت، ولم يستدع إلى مقر الوالي إلا مرة واحدة في قسطموني، إلاّ أنه في هذه الفترة من حياته في أميرداغ أي خلال ثلاث سنوات ونصف السنة استدعِي خمس عشرة مرة من قبل المراجع الرسمية، منها دائرة الأمن أو مخفر الشرطة أو العدلية.. وفي الوقت نفسه نراه يقدم عرائض إلى الجهات المسؤولة لبيان الظلم الواقع عليه كالمذكورة أعلاه، وعريضة مقدمة إلى وزير الداخلية والى مدير الأمن العام، والى مدير أمن أفيون، وإلى رئيس مجلس الأمة والمسؤولين في أنقرة والى رئيس الجمهورية والى المدعي العام والى حاكم التحقيق لأميرداغ.. كل ذلك دليل على مدى الظلم المجحف الذي كان يرزخ تحته. (ب2/1206).
[3]() T.H.Emirdağ Hayatı.
