حول فكرة المهدية
«هناك أمارات أعلمُ منها أن أعداءنا الخفيين يحاولون النيل من رسائل النور والتقليل من قيمتها، فينشرون وَهْم وجود فكرة المهدية -من الناحية السياسية- فيها ويدّعون أن رسائل النور وسيلة لهذه الفكرة، ويبحثون ويدققون عسى أن يعثروا على سند لهم لهذه الأوهام الباطلة. ولعل العذاب الذي أتعرض له نابع من هذه الأوهام. وأنا أقول لهؤلاء الظالمين المتسترين وللذين يسمعون لهم ويعادوننا:
"حاش!... ثم حاش!... إنني لم أقم بمثل هذا الادعاء، ولم أتجاوز حدي ولم أجعل الحقائق الإيمانية وسيلة شخصية أو أداة لنيل الشهرة والمجد، وإن السنوات الثلاثين الأخيرة خاصة من عمري البالغ خمسة وسبعين عاماً تشهد وتشهد رسائلُ النور البالغة مائة وثلاثين رسالة، ويشهد الآلاف من الأشخاص الذين صادقوني حق الصداقة بهذا.
أجل، إن طلاب النور يعرفون هذا، كما أنني سردت الحجج التي أظهرت في المحاكم أنني لم أسْعَ من أجل مقام أو مرتبة لشخصي أو من أجل الحصول على مرتبة أو مقام أو شهرة معنوية أو أخروية، بل سعيت بكل ما أملك من قوة لتوفير خدمة إيمانية لأهل الإيمان، وربما كنت مستعداً لا للتضحية بالمراتب الدنيوية الفانية وحدها بل -إن لزم الأمر- بالتضحية حتى بالمراتب الأخروية الباقية لحياتي في الآخرة، مع أن الجميع يسعون للحصول على هذه المراتب، ويعلم أصدقائي المقربون بأنني -إن لزم الأمر- أقبل ترك الجنة والدخول إلى جهنم من أجل أن أكون وسيلة لإنقاذ بعض المساكين من أهل الإيمان([1]) وقد ذكرت هذا وبرهنت عليه في المحاكم من بعض الوجوه، ولكنهم يرومون بهذا الاتهام إسناد عدم الإخلاص لخدمتي الإيمانية والنورية، ويرومون كذلك التقليل من قيمة رسائل النور وحرمان الأمة من حقائقها.
أيتوهم هؤلاء التعساء أن الدنيا باقية وأبدية؟ أم يتوهمون أن الجميع مثلهم يستغلون الدين والإيمان في مصالح دنيوية؟ إن هذا التوهم يقودهم إلى الهجوم على شخص تحدى أهل الضلالة في الدنيا وضحى في سبيل خدمة الإيمان بحياته الدنيوية، وهو مستعد للتضحية بحياته الأخروية إن لزم الأمر في سبيل هذه الخدمة. وأنه غير مستعد لأن يستبدل ملك الدنيا كلها بحقيقة إيمانية واحدة، كما صرح في المحاكم، ويقودهم إلى الهجوم على شخص هرب بكل قوته من السياسة ومن جميع مراتبها المادية منها وما يشمّ منها معنى السياسة سواءً أكانت من قريب أو بعيد وذلك بسر الإخلاص، وتحمّل عذاباً لا مثيل له طوال عشرين عاماً، ومع ذلك لم يتنـزل -حسب المسلك الإيماني- إلى السياسة. ثم إنه يعد شخصه من جهة النفس- أقل مرتبة من كثير من طلابه، لذا فهو ينتظر دوماً دعاءهم واستغفارهم له، ومع أنه يعد نفسه ضعيفاً وغير ذي أهمية، إلا أن بعض إخوانه الخلص أسندوا إليه في رسائلهم الخاصة بعضاً من فضائل النور، وذلك لكونه ترجماناً للفيوضات الإيمانية القوية التي استمدوها من رسائل النور، ولم يخطر ببالهم في ذلك أي معنى سياسي، بل على مجرى العادة، ذلك لأن الإنسان قد يخاطب شخصاً عادياً ويقول له: "أنت ولي نعمتي... أنت سلطاني". أي يعطون له -من زاوية حسن الظن- رتباً عالية لا يستحقها، وهي أكثر ألف مرة من رتبته ومن قيمته. وكما هو معلوم فإن هناك عادة قديمة جارية مقبولة -لم يعترض عليها أحد- فيما بين الطلاب وبين أساتذتهم وهي قيام الطلاب بمدح مبالغ فيه لأساتذتهم قياماً منهم بحق الشكر، ووجود بعض التقاريظ والمدح المبالغ فيه في خاتمة الكتب المقبولة.. فهل يعد هذا ذنباً بأي وجه من الوجوه؟ صحيح أن المبالغة تعد في جانب منها مخالفة للحقيقة، ولكن شخصاً مثلي ليس له أحد، ويعاني من الغربة ما يعاني، وله أعداء كثيرون، وهناك أسباب عديدة لكي يبتعد عنه معاونوه ومساعدوه… أفيستكثر علىّ هؤلاء البعيدون عن الإنصاف أن أشدّ من الروح المعنوية لهؤلاء المساعدين والمعاونين ضد المعارضين العديدين، وأن أنقذهم من الابتعاد والهرب وأحُول دون كسر حماستهم المتجلية في مديحهم المبالغ فيه، وأن أُحَوّل هذا المديح إلى رسائل النور ولا أردهم رداً كاملاً وقاطعاً؟ وهكذا يظهر مدى ابتعاد بعض الموظفين الرسميين عن الحق أو عن القانون وعن الإنصاف عندما يحاولون أن ينالوا من الخدمة الإيمانية التي يؤديها شخص بلغ من العمر عتياً وهو على أبواب القبر، وكأن هذه الخدمة مسخرة لغرض من أعراض الدنيا.
إن آخر ما نقول: لكل مصيبة ﴿إِنَّا للّٰه وَإِنَّـا إِلَيْهِ رَاجِعونَ﴾"».([2])
[1]() ذكر لي الأخ "محمد فرنجي" وقال: كنت أزور الأستاذ مراراً، وكان يقول في أكثر من مرة: لقد رضيت بدخول جهنم لأجل إنقاذ إيمان شخص واحد. وكرر القول نفسه لدى زيارتي الأخيرة له. فوقع في نفسي شيء، إذ كيف يدخل جهنم من كان سبباً لهداية أناس كثيرين جداً؟. وإذا بالأستاذ يعتدل في فراشه ويشير إلى بيده ويقول: ليس خالداً.. ليس خالداً.. بل مثلما يدخل أحدهم جهنم من جراء ذنب ثم يدخل إلى الجنة.
[2]() الشعاعات، الشعاع الرابع عشر.
