سعيد النور وطلابه

الأديب الشاعر عثمان يوكسل(*) 

شيخ كبير السن وذو حظ عظيم. يلتف حوله الناس من عمر ثماني سنوات إلى ثمانين سنة. أعمارهم وعقولهم وأشغالهم شتى، لكنهم يجتمعون على شيء واحد: الإيمان باللّٰه، باللّٰه رب العالمين، وبرسوله الكريم r، وبكتابه العظيم. ونرى كل واحد منهم كمن وجد شيئاً بعد أن ضيعه، كأن القرآن يتنـزل طرياً. حينما تطّلع على سعيد النور وطلابه، تحس بنفسك في خير القرون. وجوههم نور، باطنهم نور، ظاهرهم نور... وكلهم في حضور واطمئنان. ما أعظم السعادة في ربط الآصرة بخالق الكون العلي القدوس الدائم الحاضر الناظر، وما أجمل السير في سبيله، بل عشق سبيله حتى الوله.

سعيد النور شيخ عاصر ثلاثة عهود وخبر حوادث الزمان، هي نظام المشروطية، وحكومة الاتحاد والترقي، والجمهورية. عهود زاخرة بالتغيـير والانقلاب والانهدام. ما من شيء إلا وأصابه الهدم، غير رجل واحد ظل منتصباً. رجل قدم إلى إسطنبول من شواهق الشرق، من حيث تشرق الشمس، يحمل إيماناً راسخاً كالطود. جعل هذا الرجل صدره المفعم بالإيمان سداً منيعاً أمام أشرار العهود الثلاثة، ولم يفتأ يدعو إلى اللّٰه، ويدعو إلى الرسول r، ولا إلى شيء إلاّ اللّٰه والرسول. رأسه شامخ كقمة جبل "آرارات"، لم يطأطئه ظالم، ولم يغلبه عالم. صلب كالصخور، إرادة قوية عجيبة، ذكاء كالبرق. هذا هو سعيد النور. لم تثن المحاكمُ العسكرية والمدنية والانقلابات والثورات ومنصات الإعدام المنصوبة له وأوامر النفي والتغريب، رجلَ المعنويات العظيم عن طريقه. قاوم كل ذلك بقوة وشجاعة لانهاية لهما نابعتان من الإيمان. يقول اللّٰه تعالى في القرآن الكريم: ﴿وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ﴾(آل عمران:133). فكأن كلام اللّٰه هذا تجلى في سعيد النور!.

لقد قرأت مرافعاته في المحاكم. لم تكن دفاعاً عن النفس، بل دفاعاً عن دعوة عظيمة، وشواهد ومعلقات للجلادة والجرأة والذكاء.

لماذا تسنم سقراط موقعاً مرموقاً؟ أليس بسبب استصغاره الحياة من أجل الفكر؟ سعيد النور يعدل سقراط في الأقل! لكن أعداء الإسلام سعوا إلى تعريفه بصفة "رجعي" و"متعالم". ففي نظرهم ينبغي للرجل السامق أن يكون أجنبياً! لقد اقتيد من محكمة إلى محكمة، لكنه كان يحكم وهو محكوم. وانتقل من سجن إلى سجن، لكن السجون صارت "مدارس يوسفية" بهمته. سعيد النور جعل السجون نوراً، والقلوب نوراً. وذاب عتاة القتلة وأعداء الاستقرار والأخلاقِ القساةُ أمام صرح الإيمان هذا، كأنهم خلق جديد، مؤمنون سلَمٌ للناس ومواطنون خيّرون. فهل اسـتطاعت مدارسكم ومناهج تربيتكم ذلك؟ أم تستطيع؟ غرّبوه ونفوه من بلد إلى بلد.. فصار كل بلد نفي إليه وطنًا له، وأحاط به مؤمنون أنقياء وأطهار حيثما حلّ وغُرّب. وعجزت القوانين والممنوعات والشرطة والجندرمة وجدران السجون السميكة عن التفريق بينه وبين إخوته المؤمنين، فتحولت الكثافة المادية المتراكمة بين المرشد الكبير وطلابه إلى لطائف بفضل الدين والعشق والإيمان. وخلفت تهديداتُ وتحديدات القوة العمياء والمادة الميتة أمواجاً متلاطمة في بحار عالم الروح، وماجت من حجرات القرى لتحيط بأطراف الأرض وتدق أبواب الجامعات.

هرع أبناء الوطن الذين انتهكت مقدساتهم زمناً طويلاً، والأجيال الذين حُكم عليهم بالفناء، والمتلهفون للإيمان إلى سبيله وإلى نوره. طافت رسائل النور للأستاذ من يد إلى يد، ومن لسان إلى لسان، ومن بلد إلى بلد، واقتبس كل شاب أو هرم، كل أمي أو متعلم، كل صغير أو كبير، بقبس من ذلك النور. وصار كل طالب ماكنة أو مطبعة فتحدى الإيمان التقنية، فكتبت رسائل النور واستنسخت آلاف النسخ.

وفزع العمي الذين انطفأت بصائرهم وأنوار أرواحهم وصاروا خرائب، من هذا النور والضياء، فساقوا الرجل العزيز إلى المحاكم بحجة مخالفة الثورة والعلمانية -التي لا يـملون من تردادها- وقادوه إلى السجون. بل حاولوا قتله بالسم مراراً، فصارت سمومهم تريـاقاً... والسجون مدارس. وتجاوز نورُه، نورُ القرآن، نورُ اللّٰه، حدودَ الوطن وسرى في أرجاء العالم الإسلامي. إن في تركيا الآن قوة ينبغي أن تقف إزاءها باحترامٍ كلُّ الهيئات وجميع المواطنين المحبين لوطنهم، هي سعيد النور وطلابه. إنهم ليسوا جمعية ولا هيئة ولا حزباً، وليس لهم أرض ولا مقرات، ولا يرفعون أصواتهم بالضجيج والخطب والمظاهرات والمهاترات. إنهم زحام الجمع المؤمن الثابت الواعي من المجهولين العارفين الناذرين أنفسهم لهذه الدعوة العظيمة.

Ekranı Genişlet