عودة إلى مدينة الذكريات "بارلا"
بعد قضائه ما يقارب ثلاثة أشهر في إسطنبول، حنّ الأستاذ إلى زيارة المدن التي قضى فيها فترات لا يمكن نسيانها من حياته.
فزار "أميرداغ" ثم توجه إلى "أسكي شهر" ومنها إلى "إسبارطة" بقى فيها ثمانين يوماً. ومن إسبارطة توجّه مع رهط من طلابه إلى مدينة الذكريات بارلا.. المدينة التي شهدت أول انبثاق لحركة النور ولرسائل النور.. ومنها انتشرت إلى الأرجاء "الكلمات" و"المكتوبات" و"اللمعات" التي تمثل أنوار هداية القرآن الحكيم.. فـبارلا هي المركز الأول لمدرسة رسائل النور. المدينة التي سيق إليها منفيا قبل خمس وعشرين سنة، فبارك اللّٰه له في أيام النفي، وجعل تلك الأيام من أعز الأيام على قلبه، وجعل ذكريات هذه البلدة من أحب الذكريات إلى نفسه.
وها هو يعود إليها، في يوم رائق من أيام الربيع، حاملاً ثقل تلك السنين الحافلة بالأحداث والمواقف والابتلاءات...يعود إليها طليقاً يحف به بعض ثمار دعوته.. طلاب يتلألأ النور في جباههم المضيئة، وتطفح قلوبهم بحب اللّٰه ورسوله.
ويسمع أهل البلدة بقدوم الأستاذ، فيخرجون رجالاً ونساءً، وأطفالاً وشباباً لرؤيته. ويقفز الأطفال الصغار وهم يرددون: "جاء الشيخ.. جاء الشيخ!"
إنهم لم يروا هذا الشيخ الوقور، ولكنهم سمعوا عنه من آبائهم وأمهاتهم.
وبينما كان الأستاذ يتقدم نحو البيت الذي بقي فيه ثماني سنوات، إلى البيت الذي كان أول مدرسة نورية، مرّ من أمام بيت تلميذه القديم "مصطفى جاويش"([1]) وهو النجار الذي عمل له الغرفة غير المسقّفة بين أغصان الشجرة التي كان يقضي فيها ساعات العبادة والتأمل.
مرّ أمام دار تلميذه ورأى القفل الكبير على باب الدار. كان تلميذه القديم الوفي قد توفي سنة 1937، بينما كان الأستاذ يعيش في منفاه في "قسطموني". مات هذا الرجل ولذلك لم يتيسر له لقاؤه بعد خروجه من بارلا. ولم يشعر إلا والدموع تتساقط من عينيه وتبلل خده.
وأخيراً وصل إلى بيته السابق، إلى مدرسته الأولى حيث كانت شجرته الحبيبة تنتصب أمامه وكأنها -هي الأخرى- ترحب به.. جاشت في نفسه العواطف وطلب من طلابه ومن الأهالي أن يتركوه وحده.
ثم ذهب إلى تلك الشجرة التي قضى معها أكثر من ثماني سنوات احتضنها وأجهش ببكاء طويل.
كانت هذه الشجرة قطعة من حياته، ومن ذكرياته. كم من ليال قضاها بين أغصانها يتهجد ويذكر اللّٰه! كم من ساعات قضاها يؤلف رسائل النور ويسمع حفيف أغصانها وأوراقها وتغريد الطيور عليها. كم من ليلة من ليالي الشتاء الطويلة الحالكة أرق في غرفته، فلم يكُن له أنيس في وحدته غير صوت هذه الشجرة تعصف بها الرياح، أو يسمع صوت قطرات الأمطار على أوراقها. لقد كانت له أنساً في وحدته، وسلوة في وحشته، وصديقاً في غربته.
وها هو الآن يرجع إليها بعد عشرين عاماً يتحسسها، ويريد أن يضمها إلى صدره ولا يتمالك نفسه من البكاء عند لقائها.
بعد ذلك صعد إلى غرفته، واختلى بنفسه هناك مدة ساعتين تقريباً. كان يبكي وهو يستعيد ذكريات أيامه الطويلة التي قضاها هنا، وكان الناس والطلاب المحيطون بالبيت يسمعون نشيج الشيخ فتدمع أعينهم كذلك.
وإنه لمظهر من مظاهر تجليات الرحمة الإلهية اللانهائية. ففي زمن قد سلف، نفي من شرقي الأناضول إلى أرجاء "إسبارطة"، ومنها إلى ناحية "بارلا" بين الجبال، لعله يموت هنا ويخبو ذكره. ولكن لم تثنه عن سبيل دعوة القرآن والإيمان حوادث العصر التي أحاطت بالأمم والشعوب وغيرت العقول والتصورات. فقد أيقن بيقين إيماني في روحه، بأن الشعب سوف يحتضن يوماً الحقيقة التي يدعو إليها، وسوف يكون سعيد الوحيد، ألف سعيد، ومائة ألف سعيد، وبأن فتوحات وانتشار الحقائق الإيمانية التي يخاطب بها الإنسانية آتية لا محالة، وبأن غيوم الظلمات المحيطة بالآفاق الإسلامية زائلة بنور الهداية التي اقتبسها من القرآن، وينشط الروح من جديد في الإيمان الذي يظنونه آيلاً إلى الموت، فيبعث النفوس ويعيد الحياة إلى أمة الإسلام.
[1]() اللمعات، اللمعة العاشرة.
