مطالعة الكون
عندما كان الأستاذ يتجول في السهول الممتدة على مد البصر وبين المروج المزدهرة بالأثمار والأزهار، كان يتصفح كتاب الكون المنظور بنظراته الدقيقة الواعية ويقرأ ما وراءه من معان ورموز، كمن يقرأ كتاباً مفتوحاً بين يديه بكل اهتمام وذوق، وكان يقول لنا في أثناء ذهابنا وإيابنا في السيارة: "هل تطالعون كتاب الكون أيضاً؟"
كان للأستاذ علاقة متينة مع المخلوقات ويشفق كثيراً جداً على الأشجار والحيوانات بل حتى على الأحجار أيضاً. فعندما يرى كلباً -مثلاً- في الطريق يشفق عليه ويبادرنا بالقول: "هل لديكم كسرة خبز؟" فيأخذها ويعطيها للكلب.
ويقول: هذه حيوانات وفية، وإن عدْوها وعواءها ناشئان عن صدقها ووفائها.
وكان عندما يرى في السهول السلحفاة -مثلاً- على حوافي السواقي يقول: "ما شاء اللّٰه، بارك اللّٰه، ما أجملها من مخلوق، فالصنعة والإتقان في خلقها ليس بأقل منكم".
وأحياناً عندما كان الأستاذ يرى مملكة النمل أو يرانا نحرك حجراً وتحته مملكة النمل كان يعيد الحجر إلى مكانه ويقول: لا تقلقوا راحة هذه الحيوانات.
وعندما كان يلتقي في تجوله صيادي الأرانب والطيور يقول لهم: "لا تروعوا هذه الحيوانات ببنادقكم ولا تؤذوا غيرها".
وهكذا وبهذا الأسلوب كان ينصح الصيادين الهواة. حتى جعل الكثيرين منهم يتخلون عن الصيد.
وعندما يلتقي الرعاة في السهول الخضراء وهم يرعون حيواناتهم في مروج بين الجبال والوديان والسهول، يلاطفهم ويقول لهم: "إنكم إذا ما أديتم الصلاة في أوقاتها الخمسة خلال اليوم يصير اليوم بكامله بمثابة عبادة لكم، لأنكم برعيكم هذا تقدمون خدمة كبيرة للبشرية فإن انتفاع بني البشر من أصوافها ولحومها وألبانها هو بحكم الصدقة لكم، فلا تؤذوا إذن هذه الحيوانات البريئة النافعة".
ولم نكن نرى الأستاذ في تجواله في الفلوات فارغاً دون عمل أبداً؛ فهو إما ينشغل بقراءة "الجوشن أو دلائل النور، خلاصة الخلاصة، حزب النوري، التحميدية، السكينة، الأوراد القدسية"([1]) التي كان يقرؤها كل يوم حتى أثناء تناول الشاي أحياناً. وكنا نقرأ له من رسائل النور وهو يستمع ويتأمل ويتفكر أو يصحح رسائل النور المستنسخة.
وفي تجوالنا هذا كان الأستاذ يتسلق أعالي الأشجار العالية ويفضل الصلاة على الصخور المرتفعة. وكان يقول لنا: "لو كان فيّ قوة شبابكم هذا لما نزلت من هذه الجبال".
فكان يطالع ويتدبر في آيات كتاب الكائنات الكبير دائماً.
وعندما كنا في جبل "جام" ونحتاج إلى أخشاب الأشجار فالأستاذ كان يمنعنا من قطع الأشجار كيفما اتفق بقوله: لا تقطعوا الأشجار فإنها تذكر اللّٰه وتسبحه.([2])
[1]() هذه أسماء الأدعية التي يتضمنها كتاب "حزب أنوار الحقائق النورية"؛ منها أدعية مأثورة عن الرسول r، ومنها عن الصحابة الكرام رضوان اللّٰه عليهم، ومنها بعض أدعية الأولياء الصالحين من السلف أو بعض فقرات أدعية الأستاذ النورسي نفسه.
[2]() ذكريات عن سعيد النورسي ص75.
