الشعاع الثاني عشر

 

دفاع محكمة دنيزلي 

باسمه سبحانه

أيها السادة! إنني أؤكد لكم أن الذوات الموجودين هنا إما لا تربطهم رابطة مع رسائل النور أو هناك مجرد رابطة بسيطة معها، مع أن لي العديد من الإخوة الحقيقيين بكل معاني الأخوّة التي تستطيعون تصورها. ولي على درب الحقيقة العديد من الأصدقاء الواصلين للحقيقة.

إننا أيها السادة على يقين تام لا يتزعزع بأن الموت بالنسبة لنا -بسر القرآن الكريم- ليس إعداماً أبدياً بل مذكرة تسريح.. بينما يعد هذا الموت بالنسبة لمعارضينا وبالنسبة للسائرين في درب الضلالة موتاً أكيداً وإعداماً أبدياً "إن لم يكن يؤمن بالآخرة إيماناً لا شبهة فيه".. أو أن هذا الموت يعد بالنسبة إليه سجناً انفرادياً أبدياً ومظلماً "إن كان يؤمن بالآخرة ولكنه منغمس في حياة السفاهة والضلالة".

إنني أسألكم: أتوجد في هذه الدنيا مسألة أكبر من مسألة الموت؟.. أهناك مسألة إنسانية أهم وأكبر من هذه المسألة؟ فكيف إذن يمكن أن تستغل هذه المسألة من أجل شيء آخر؟.. ومادام من المستحيل أن يكون هناك شيء آخر أهم من هذه المسألة، إذن فلِمَ أنتم منشغلون بنا هكذا؟

إننا لا ننظر إلى أشد عقوبتكم وأقصاها إلا أنها تسريح وتذكرة سفر إلى عالم النور، لذا فإننا ننتظرها بثبات كامل.. ولكننا نعلم علم اليقين أن الذين وقفوا ضدنا وأصدروا الأحكام ضدنا سيلقون عن قريب عقابهم بالإعدام الأبدي وبالسجن الانفرادي، ذلك العقاب المرعب.. إننا نوقن ذلك وكأننا نشاهدهم في عذابهم هذا كما نشاهدكم أنتم في هذا المجلس.. إننا نشاهدهم هكذا ونتألم كثيراً من الناحية الإنسانية من أجلهم. وأنا على أتم استعداد لإثبات هذه الحقيقة المهمة والبرهنة عليها وإفحام أكبر المنكرين لها وإلزام أشد المتمردين عليها.. وأنا على أتم استعداد لقبول أي عقاب كان إن لم أقم بهذا الإثبات أوضح من الشمس في رابعة النهار وأمام أكبر علمائكم وفلاسفتكم وليس فقط أمام المختصين من هذه اللجنة الذين لا يملكون أي نصيب من العلم ومن الاختصاص، إنهم مشبعون بالحقد ولا علم لهم بالمعنويات ولا يهتمون بها...

والخلاصة: إن أمامكم طريقين: إما إن تطلقوا الحرية الكاملة لرسائل النور أو تحاولوا -إن استطعتم- أن تغلبوا الحقائق الواردة فيها وتقضوا عليها.

إنني لم أكن حتى الآن أفكر فيكم ولا في دنياكم، وما كان في نيتي أن أتفكر فيهما في المستقبل، ولكنكم اضطررتموني إلى هذا، وربما كان هذا ضرورياً لتنبيهكم

 

 وإيقاظكم، ولعل القدر الإلهي هو الذي ساقنا إلى هذا. أما نحن فإن مرشدنا هو الدستور القائل "مَن آمن بالقدر أمِن من الكدر" لذا فقد عقدنا العزم على تحمل جميع صنوف مضايقاتكم بكل صبر.

الموقوف    

سعيد النورسي

*  *  *

باسمه سبحانه

أيها السادة! إنني مقتنع تماماً -نتيجة شواهد ودلائل عديدة- بأن الهجمات التي تُشن علينا ليس مبعثها الزعم القائل بأننا "نستغل الشعور الديني للإخلال بالأمن الداخلي".. كلا، ولكن ذلك الهجوم -الذي يتم تحت ذلك الغطاء الزائف- يتم في سبيل الكفر والزندقة ويستهدف إيماننا وإنهاء مساعينا وخدماتنا في سبيل هذا الإيمان ومن أجل إقرار الهدوء.. ونحن نملك أدلة وبراهين عديدة على هذا. ولنقدمْ هنا برهاناً واحداً فقط على ذلك:

لقد قرأ عشرون ألف فرد عشرين ألف نسخة من رسائل النور في غضون عشرين سنة، ورضوا بها وتقبلوها. ومع ذلك لم تقع حادثة واحدة مخلة بالأمن من قبل طلاب رسائل النور، ولم تسجل المراجع الرسمية أية حادثة من هذا القبيل، كما لم تستطع المحكمة السابقة ولا المحكمة الحالية العثور على مثل هذه الحادثة، علماً بأن نتائج مثل هذه الدعاية القوية والمنتشرة بكثرة كان لا بد لها من الظهور في ظرف عشرين يوماً بشكل حوادث ووقائع.

إذن فإن "القانون رقم 163" ليس إلاّ غطاء كاذباً وزائفاً يشهر ضد حرية الضمير وحرية الوجدان والعقيدة، وقانوناً مطاطاً يراد منه أن يشمل كل المتدينين وكل

 

 الناصحين والدعاة، ولا يريد أهل الإلحاد والزندقة إلاّ القيام باستغفال بعض المسؤولين الحكوميين لضربنا وتحطيمنا.

وما دامت هذه هي الحقيقة فإننا نصرخ بكل قوتنا:

أيها البائسون الذين سقطوا في درك الكفر المطلق.. يا من بعتم دينكم بدنياكم!.. اعملوا كل ما تستطيعون عمله، ولتكن دنياكم وبالاً عليكم.. وستكون.. أما نحن فقد وضعنا رؤوسنا فداءً للحقيقة القدسية التي يفتديها مئات الملايين من الأبطال برؤوسهم.. فنحن متهيئون وجاهزون لاستقبال كل أنواع عقوباتكم.. بل حتى إعدامكم.

إن وضعنا وحالنا خارج السجن -تحت هذه الظروف- أسوأ مائة مرة من حالنا داخله، ولا يبقى بعد هذا الاستبداد المطلق الموجه إلينا أيُّ نوع من أنواع الحرية.. لا الحرية العلمية ولا الحرية الوجدانية ولا الحرية الدينية.. أي لا يبقى أمام أهل الشهامة وأهل الديانة وأمام مناصري الحرية ومحبيها من سبيل إلا الموت أو الدخول إلى السجن.

أما نحن فلا يسعنا إلا أن نقول: ﴿إِنَّا للّٰهِ وَإِنَّـا إِلَيْهِ رَاجِعونَ﴾ ونعتصم بربنا ونلوذ به.

الموقوف

سعيد النورسي

*  *  *

باسمه سبحانه

السيد علي رضا رئيس المحكمة المحترم!

كي أستطيع الدفاع عن حقوقي فإنني أتقدم بطلب وبرجاء مهم:

إنني لا أعرف الحروف الجديدة، كما إن خطي في الحروف القديمة غير جيد، ثم إنهم منعوني من لقاء الآخرين ومواجهتهم، أي إنني أكاد أكون في عزلة كاملة أو في سجن انفرادي.. إلى درجةِ أنهم سحبوا مني ورقة اتهام الادعاء العام بعد ربع ساعة

 

فقط من إعطائها لي. كما إنني لا أستطيع من الناحية المالية الاستعانة بمحام. وما قدمت لكم دفاعي إلا بعد مشقة كبيرة، ولم أستطع أن أحصل على نسخة من هذا الدفاع بالحروف الجديدة إلا بصورة سرية. وكنت قد أمليت كتابة "رسالة الثمرة" (التي هي بمثابة دفاع عن رسائل النور وبمثابة خلاصة مسلكها) لكي أقدمها إلى الادعاء العام وأرسل منها نسخة أو نسختين إلى الجهات الرسمية في "أنقرة". ولكنهم سحبوها منى ولم يعيدوها إليّ. بينما كانت الجهات العدلية في محكمة "أسكي شهر" قد قامت بإرسال آلة طابعة إليّ في السجن، فاستطعنا كتابة بضع نسخ من دفاعي بالحروف الجديدة، كما قامت المحكمة نفسها بالكتابة أيضاً.

وهكذا فإن طلبي الذي أعدّه مهماً، هو قيامكم بإرسال آلة طابعة، أو السماح لنا بجلب هذه الطابعة لكي يتسنى لنا القيام بطبع بضع نسخ بالحروف الجديدة من رسالة "الثمرة" التي تعد -كما قلت- بمثابة دفاع عني وعن "رسائل النور"، وذلك بغية إرسال نسخ منها إلى وزارة العدل وإلى مجلس الوزراء ومجلس النواب ومجلس الشورى للدولة، ذلك لأنَّ التهم التي وجهها إليّ الإدعاء العام تنحصر كلها حول "رسائل النور"، ولا شك أن أي دعوى حول "رسائل النور" وأي اعتراض عليها لا يُعدُّ شيئاً هيناً أو بسيطاً، ولا يُعدّ مسألة شخصية غير ذات أهمية، بل هي مسألة عامة وحادثة ذات شأن كبير تهمّ هذا البلد وهذه الأمة وهذه الحكومة مما تجذب إليها باهتمام أنظار العالم الإسلامي بأسره.

إن الأصابع التي تحارب رسائل النور من خلف الأستار هي الأصابع الأجنبية التي تحاول تحطيم وكسر الود والمحبة والأخوة التي يكنها العالم الإسلامي نحو هذه الأمة في هذا الوطن. هذه المحبة والأخوة التي تعد أكبر قوة لهذه الأمة. لذا فلكي يتم تحطيم هذه المحبة وهذه الأخوة وتبديلها وتغييرها إلى بغض ونفور فإن هناك أصابع تحاول استغلال السياسة وجعلها آلة ووسيلة لتشجيع الإلحاد والكفر المطلق، وهي بذلك إنما تقوم بعملية خداع للحكومة. وقامت مرتين بعملية تضليل للعدالة عندما تقول لها: "إن طلاب رسائل النور يستغلون الدين من أجل السياسة وأن هناك احتمالاً لأن يتضرر من ذلك أمن البلد"...

أيها البائسون!.. إن "رسائل النور" لا علاقة لها بالسياسة، بل تقوم بتحطيم الكفر المطلق -الذي أسفله الفوضى وأعلاه الاستبداد المطلق- وتفتيته وردّه على أعقابه. وأكبر برهان على ذلك هو رسالة "الثمرة" التي هي بمثابة دليل واحد من بين مائة حجة ودليل على أن "رسائل النور" تسعى لتأسيس الأمن والنظام والحرية والعدالة في هذا البلد، لذا أَطلب تكليف هيئة علمية واجتماعية عالية لتدقيق هذه الرسالة، فإن لم تقتنع هذه الهيئة بما أقول فإنني أرضى بكل عقاب وبأي نوع من أنواع الإعدام.

الموقوف

سعيد النورسي

*  *  *

باسمه سبحانه

 

السيد الرئيس!

لقد تم اتخاذ ثلاثة أسس في قرار المحكمة:

المادة الأولى: الجمعية.

إنني أُشهد جميع طلاب النور الموجودين هنا وجميع من تحدثوا وتقابلوا معي وجميع من قرءوا أو استنسخوا رسائل النور، وتستطيعون أن تسألوهم إن قلت لأيّ منهم: إننا سنشكل جمعية سياسية أو طريقة نقشبندية، بل كنت أقول دائماً: إننا نحاول إنقاذ إيماننا، ولم يجر بيننا حديث خارج عموم أهل الإيمان وخارج الجماعة الإسلامية المقدسة التي يربو عدد أفرادها على ثلاثمائة مليون مسلم، ولم نجد لأنفسنا مكاناً خارج ما أطلق القرآن الكريم عليه اسم "حزب اللّٰه" الذي يجمع تحت ظل أخوّة الإيمان جميع أهل الإيمان. ولأننا حصرنا جهدنا في خدمة القرآن فلا شك أننا من "حزب القرآن" ومن "حزب اللّٰه" فإن كان قرار الاتهام يشير إلى هذا فإننا نقر بذلك بكل خلجة من خلجات أرواحنا وبكل فخر واعتزاز. أما إن كان يشير إلى معانٍ أخرى فإننا لا نعلم عنها شيئاً.

المادة الثانية: إن قرار الاتهام يعترف -استناداً إلى تقرير وشهادة شرطة "قسطموني"- بأن "رسالة الحجاب" و "رسالة الهجمات الست وذيلها" وجدت داخل صناديق مغلقة ومسمّرة وتحت أكوام الحطب والفحم. أي لم تكن معدة للنشر أبداً. وقد مرت من تدقيق ونقد محكمة "أسكي شهر" وأدّت إلى إصدار عقوبة خفيفة لي. ولكن الادعاء العام الذي أخذ بعض الجمل من هذه الرسائل وأعطى لها مفهوماً ومعاني غير صحيحة، يريد أن يرجع بنا تسع سنوات إلى الوراء وأن يحمّلنا مسؤولية جديدة حول تهمة سبق وأن عوقبنا من أجلها.

المادة الثالثة: ورد في قرار الاتهام وفي مواضع عدة عبارات أمثال "يمكن أن يخل بأمن الدولة". أي تم وضع الاحتمالات والإمكانات محل الوقائع الثابتة. وأنا أقول: إن من الممكن ومن المحتمل أن يقوم كل شخص باقتراف جريمة القتل، فهل يمكن إدانة كل شخص وتجريمه على أساس الاحتمال؟

الموقوف

سعيد النورسي

*  *  *

باسمه سبحانه

 

السيد رئيس المحكمة!

ارفق لكم طياً صورة من دفاعي الذي قدمته كعريضة إلى المراجع الرسمية في "أنقرة" وإلى رئيس الجمهورية، وكذلك الرسالة الجوابية التي أرسلَتها رئاسة الوزارة، مما يظهر مدى قبولها واهتمامها بعريضتي. وقد أدرجت في دفاعي هذا الأجوبة القاطعة التي ردَّت على بيان الإدعاء العام المملوء بالتُهم التي لا أساس لها من الصحة وبالأوهام التي لا مبرر لها. كما يوجد في هذا الإدعاء كثير من الأقوال المبنية على

 

مضابط الشرطة المغرضة والسطحية والتي عارضها تقرير الخبراء، وقد سبق وأن قدمت اعتراضاتي عليها والتي يمكن تلخيصها بالآتي:

كما ذكرت لكم سابقاً فإنه عندما أرادت محكمة "أسكي شهر" تجريمي حسب المادة رقم 163 قلت لها:

"لقد وافق 163 نائباً من نواب البرلمان للحكومة الجمهورية البالغ عددهم مائتي نائب (أي بنفس عدد المادة 163) على تخصيص مائة وخمسين ألف ليرة لإنشاء "دار الفنون" -الجامعة- في مدينة "وان". وأن موافقتهم هذه والاهتمام الذي أبدته حكومة الجمهورية نحوي يعني إسقاط التهمة الموجهة إليّ حسب المادة 163".

عندما قلت هذا للمحكمة قامت اللجنة الاستشارية لتلك المحكمة بتحريف ما قلته وادّعت أن 163 نائباً أجروا تحقيقاً حول "سعيد" وطالبوا بمحاكمته!.

وهكذا، واستناداً إلى أمثال هذه التهم الباطلة لتلك اللجنة الاستشارية يحاول الادعاء العام جعلنا مسؤولين أمام هذه التهم، بينما جاء بالإجماع قرار الهيئة المختصة ذات المستوى الرفيع من العلم، التي تشكلت بقرار من المجلس النيابي وحول إليها تدقيق "رسائل النور" ما يأتي:

"لا توجد فيما كتبه "سعيد" أو طلاب النور أية دلائل أو أمارات صريحة حول استغلال الدين أو المقدسات وجعلها أداة ووسيلة للإخلال بأمن الدولة أو التحريض على ذلك ولا على محاولة القيام بتشكيل جمعية ولا أية نيات أو مقاصد سيئة، ولم نجد في وسائل تخاطب طلاب النور وخطاباتهم أية نيات سيئة ضد الحكومة ولا أية مقاصد لتشكيل جمعية أو طريقة صوفية. وقد تبين أنهم لا ينطلقون في حركتهم من هذا المنطلق".

كما قررت هذه الهيئة المختصة وبالإجماع كذلك على ما يأتي:

"إن تسعين بالمائة من "رسائل النور" لم تبتعد قيد أنملة عن مبادئ الدين وأسسه ولا عن مبادئ العلم والحقيقة، وقد كُتبت بإخلاص وبتجرد. ومن الواضح تماما إن هذه الرسائل لا تنوي استغلال الدين ولا القيام بتشكيل جمعية ولا محاولة الإخلال بأمن الدولة، كما إن الرسائل المتبادلة بين طلاب النور، أو بين طلاب النور وبين سعيد النورسي تحمل هذا الطابع أيضاً. وباستثناء بعض الرسائل السرية (لا يتجاوز عددها عشر رسائل) التي لم تتطرق إلى مواضيع علمية. بل تحمل طابع الشكوى والألم، فقد كُتبت جميع "رسائل النور" إما لشرح آية أو لتوضيح معنى حديث شريف وبيانه. كما إن معظم "رسائل النور" كتبت لتوضيح الحقائق الدينية والإيمانية، وحول عقائد الإيمان باللّٰه وبرسوله واليوم الآخر. ولكي تتوضح هذه الحقائق بشكل أفضل انتهجت "رسائل النور" أسلوب ضرب الأمثال وإيراد القصص، وقدمت رأيها العلمي وإرشاداتها ونصائحها الأخلاقية ضمن مناقب حميدة وتجارب في الحياة وقصص ذات عبر، ولا تحتوي هذه الرسائل على أي شيء يمكن أن يمس الحكومة أو المراجع الرسمية".

لذا فإننا في الحقيقة متأثرون جداً من قيام الإدعاء العام بإهمال تقرير هذه الهيئة العلمية المتخصصة ذات المستوى المرموق وتركه جانباً، والتوجه إلى التقرير القديم الناقص والمشوش والمضطرب، ثم بناء اتهاماته الغريبة استناداً إليه. لذا فإن من الطبيعي أن نرى هذا غير لائق بعدالة هذه المحكمة التي نسلم بعدالتها وإنصافها. وهذا يشبه -ولا مشاحة في الأمثال- ما جرى مع "البكطاشي"([2]) الذي قيل له: "لماذا لا تصلي؟" فأجاب: «لأنه ورد في القرآن: ﴿لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلاَةَ﴾ (النساء:43)" فقيل له: "ولكن لماذا لا تكمل قراءة الآية وهي تقول: ﴿وَأَنتُمْ سُكَارَى﴾" فأجاب : "إنني لستُ حافظاً للقرآن". وعلى هذا المثال تؤخذ جملة معينة من "رسائل النور" وتُبنى عليها الاتهامات ضدنا دون أن تُقرأ وتدقق الجمل التالية والموضحة لها، وسترون أمثلة عديدة - حوالي أربعين مثالاً - على هذا في مذكرة دفاعي التي سأقدمها لكم. وكأنموذج لهذا أقدم هذه الحادثة الطريفة:

وردت سهواً عبارة "إن رسائل النور تفسد الشعب" في مذكرة الإدعاء العام في محكمة "أسكي شهر" عندما كان يشرح أثر الدروس الإيمانية لرسائل النور، ومع أن المحكمة شطبت فيما بعد هذه الجملة ، إلاّ أن أحد طلاب النور (واسمه عبد الرزاق) قال بعد مضي سنة على تلك المحكمة:

 

 

أيها الشقي! كيف يستطيع أحد أن يقول عن "إرشاد" رسائل النور "إفساداً"؟ أيقال بحق "رسائل النور" التي ظهرت وتأكدت قيمتُها الدينية ولم تبدر منها خلال عشرين سنة أية إساءة أو ضرر نحو الإدارة الحكومية ولا نحو أي شخص، بل قامت بإرشاد الآلاف من الشباب وتقوية إيمانهم وتقويم أخلاقهم ؟ إذن فكيف تستطيع أن تصف "إرشاد" رسائل النور بأنه "إفساد"؟ ألا تخشى اللّٰه؟.. قطع اللّٰه لسانك!.

إننا نحيل ما قاله مقام الإدعاء العام -الذي اطلع على الأقوال المحقة لطالب النور هذا- من أن "سعيداً ينشر الفساد من حواليه".. نحيله إلى ضمائركم وإلى شعور الإنصاف في وجدانكم .

ولكي يجد مقام الادعاء فرصة لغمز الدروس الاجتماعية لرسائل النور قال: "إن الوجدان هو مقامُ الدين ومكانه، فالدين لا يرتبط بالحكم ولا بالقانون، إذ عندما ارتبط بهما في السابق ظهرت الفوضى الاجتماعية".

وأنا أقول: إن الدين ليس عبارة عن الإيمان فقط، بل العمل الصالح أيضاً هو الجزء الثاني من الدين، فهل يكفي الخوف من السجن أو من شرطة الحكومة لكي يبتعد مقترفو الكبائر عن الجرائم التي تسمم الحياة الاجتماعية كالقتل والزنا والسرقة والقمار ويمتنعوا عنها؟ إذن يستلزم أن نخصص لكل شخص شرطياً مراقباً لكي ترتدع النفوس اللاهية عن غيها وتبتعد عن هذه القذارات. ورسائل النور تضع مع كل شخص في كل وقت رقيباً معنوياً من جهة العمل الصالح ومن جهة الإيمان، وعندما يتذكر الإنسان سجن جهنم والغضب الإلهي فإنه يستطيع تجنب السوء والمعصية بسهول..

وقد بيّن الإدعاء العام أمارة لا معنى لها عندما أَبرز أسماء الموقعين على التوافقات الظاهرة في إحدى الرسائل، وقال: إنهم أفراد جمعية! فيا ترى هل يمكن إعطاء إسم الجمعية على أصحاب التواقيع الموجودة في سجلات أصحاب المحلات والدكاكين؟. ولقد حدث وهمٌ شبيه بهذا في محكمة "أسكي شهر" وأجبت عنه أيضاً.. فلو كانت هناك جمعية دنيوية فيما بيننا، لكان المتضررون بسببي ينفرون مني نفوراً شديداً ويهربون. ولكن مثلما لي ولنا ارتباط لا ينفصم مع "الإمام الغزالي"، حيث إنها

 

 رابطة أخروية لا دنيوية، كذلك هؤلاء الأبرياء المتدينون لهم رابطة قوية بهذا الضعيف لأجل ما تلقوا من دروس إيمانية. ومن هنا نشأ ذلك الوهم "جمعية سياسية".

كلمتي الأخيرة: ﴿حَسْبُنَا اللّٰهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ﴾

 الموقوف       

في السجن الانفرادي

سعيد النورسى 

*  *  *

 

هذا الجزء له أهمية بالغة

باسمه سبحانه

 

أيها السادة !..

السيد رئيس المحكمة !

أرجو أن تنتبهوا وتعوا جيداً بأن إصدار أي حكم بمعاقبة طلاب النور ليس إلاّ خدمة مباشرة للكفر والإلحاد، وليس إلاّ اتهاماً للحقائق القرآنية وللحقائق الإيمانية التي سار على هداها كلَّ عام ثلاثمائة مليون مسلم منذ ألف وثلاثمائة سنة، أي هو محاولة لسد الجادة الكبرى وإغلاق الطريق القويم المؤدي إلى الحقيقة وإلى سعادة الدارين لما يقرب من ثلاثمائة مليار مسلم،([3]) مما سيجلب نفور هؤلاء واعتراضهم، ذلك لأن سالكي هذه الجادة وهذا الطريق يدعو فيه الخلف للسلف ويعينه بحسناته وبدعواته.

ثم إن هؤلاء -الواقفين موقف العداء للإيمان- سيكونون سبباً في إثارة مشكلة كبيرة في هذا الوطن، فإذا وقف أمامكم يوم القيامة ويوم المحكمة الكبرى ثلاثمائة مليار خصم وسألوكم:

 

 "لماذا سمحتم لكتب إلحادية ولكتب تهاجم الإسلام بصراحة أمثال كتاب "تاريخ الإسلام" للدكتور دوزي(*) وامتلأت بها مكتباتكم وسمحتم بقراءتها بكل حرية ولطلابها بتشكيل الجمعيات حسب قوانينكم؟ ولماذا لا تتعرضون أبداً للإلحاد ولا للشيوعية ولا للفوضى ولا للمنظمات المفسدة العريقة ولا للطورانية العنصرية مع أنها تتعارض مع سياستكم؟ وتتعرضون لأشخاص لا علاقة لهم قطعاً بالسياسة، بل همهم الوحيد سلوك طريق الإيمان والطريق القويم للقرآن الكريم، يقرؤون رسائل النور التي تبحث عن الحق والحقيقة لأنها التفسير الحقيقي للقرآن، لكي يخلصوا وينقذوا أنفسهم ومواطنيهم من الإعدام الأبدي ومن السجن الانفرادي. هذا في الوقت الذي لا توجد لهم أية علاقة أو ارتباط بأية جمعية سياسية؟ ولكنكم تتعرضون لهم لأنكم تتوهمون أن الصداقة والأخوة في اللّٰه التي تربط ما بين قلوبهم كأنها ناشئة بسبب ارتباطهم بجمعية معينة، لذا قمتم ومازلتم تقومون باتهامهم وبالحكم عليهم بقانون عجيب.. فلماذا؟"

إن قالوا لكم هذا فماذا ستجيبون؟ ونحن أيضاً نستفسر عن هذا ونسألكم عنه.

إن الذين استغفلوكم وضللوا المراجع العدلية وشغلوا الحكومة بنا بما يجلب الضرر للامة وللوطن هم المعارضون لنا من الملحدين والزنادقة والمنافقين، فهؤلاء خدعوكم وشغلوا الحكومة عندما أطلقوا اسم "الجمهورية" على الاستبداد المطلق واسم "النظام" على الارتداد المطلق واسم "المدنية" على السفاهة الصرفة واسم القانون على ما وضعوه من أمور قسرية واعتباطية وكفرية، فآذونا وضيقوا علينا ووجهوا ضرباتهم نحو حكم الإسلام وحكم الأمة خدمةً للأجنبي.

أيها السادة !

إنَّ وقوعَ أربع زلازل رهيبة في ظرف أربع سنوات، وتوافق وقوعها دائماً مع تواريخ إلقاء القبض على طلاب رسائل النور وظلمهم والتضييق الشديد عليهم،

 

 وتوافق انتهائها مع انتهاء التعرض لهم، يشير إلى أنكم أنتم مسؤولون عن المصائب والبلايا السماوية والأرضية الواقعة في محاكمتنا الحالية.([4])

سعيد النورسي

السجين سجناً انفرادياً في سجن «دنيزلي»

*  *  *

باسمه سبحانه

 

(قسم من الكلمة الأخيرة)

أيها السادة !

لكوني لا أستطيع أن أعرف شيئاً عن الحياة الاجتماعية الحالية، ونظراً للاتجاه الذي يسير فيه مقام الادعاء العام، وإصراركم على إصدار قرار بالحكم عليّ تحت ذريعة اتهامي بتشكيل جمعية، مع أنني قد أجبت على هذه التهمة ونفيتها بإجابات قاطعة وببراهين دامغة، كما إن اللجنة الاستشارية التي تشكلت في أنقرة من أهل العلم والاختصاص نفت ذلك أيضاً بالإجماع، وإذ أنا في حيرة حول إصراركم على هذه المسألة خطر إلى قلبي هذا المعنى:

مادامت الصداقة والميل إلى التجمع الأخوي، والجمعية الأخروية هي من أسس الحياة الاجتماعية وضرورة من ضرورات الفطرة الإنسانية، ومن أهم الروابط وأكثرها ضرورة بدءً من حياة العائلة والقبيلة ووصولاً إلى حياة الأمة وإلى الحياة الإسلامية والإنسانية، ونقطة استناد وأنس لكل إنسان تجاه ما يلاقيه في الكون من مصاعب لا يستطيع مواجهتها وحده، وللتغلب على جميع العوائق والموانع المادية والمعنوية التي تحاول إعاقته عن القيام بإيفاء واجباته الإسلامية والإنسانية، ومع أن الصداقة والأخوة التي يجتمع عليها طلاب النور تخلو من أي جانب سياسي، بل هي أخوة صادقة وخالصة ووسيلة إلى خير الدنيا والسعادة في الآخرة، لأنهم يجتمعون في دروس الإيمان والقرآن في ظل صداقة خالصة وزمالة مخلصة في طريق الحق، وهم

 

متساندون ضد ما يضر بالأمة وبالوطن، لذا فقد كان من الواجب أن يكونوا محط تقدير وإعجاب وهم يجتمعون هذه الاجتماعات الإيمانية. وأما من يعطي انطباعاً ومعنَى جمعيةٍ سياسية لهذه الاجتماعات فهو إما مخدوع خداعاً كبيراً، أو هو فوضوي غدّار يخاصم الإنسانية خصاماً وحشياً ويعادي الإسلام معاداة نمرودية، ويخاصم الحياة الاجتماعية بأسوأ أسلوب من الأساليب الفوضوية، أي يحارب الوطن والأمة والنفوذ الإسلامي والمقدسات الدينية محاربة المرتدين والمتمردين اللدودين. أو هو زنديق خناس يعمل لحساب الأجنبي ويحاول قص شريان حياة هذه الأمة أو إفسادها فيستغفل الحكومة ويضلل المراجع العدلية، لكي ينجح في تحويل أسلحتنا المعنوية "التي استعملناها حتى الآن ضد الفراعنة وضد الفوضويين" نحو وطننا، أو إلى كسر وتحطيم هذه الأسلحة.

الموقوف     

سعيد النورسي

*  *  *

أيها السادة !

هناك منظمة سرية تعمل منذ حوالي أربعين سنة لحساب الأجنبي لإفساد هذه الأمة باسم الكفر والإلحاد، وتحاول تمزيق هذا الوطن، وذلك بالهجوم على حقائق القرآن وحقائق الإيمان بكل الوسائل وبكل الطرق. وهذه الفئة السرية المفسدة تتشكل في أشكال مختلفة.

(ولكن صدور قرار البراءة في اليوم التالي أجّل ذلك الخطاب العنيف).

 

الموقوف في السجن الانفرادي 

والمعزول عزلاً كلياً         

 سعيد النورسي           

*  *  *

جواب حقيقي لسؤال مهم

سألني بعض الموظفين المرموقين:

"لماذا لم تقبل ما عرضه عليك مصطفى كمال حول جعلك واعظاً عاماً ومسؤولاً عن عموم "كردستان" والولايات الشرقية بدلاً عن الشيخ السنوسي(*) براتب قدره ثلاثمائة ليرة؟([5]) ذلك لأنك لو كنتَ قبلت هذا العرض منه لكنتَ سبباً في إنقاذ أرواح مئات الآلاف من الرجال الذين ذهبوا ضحية الثورة".([6])

فقلت لهم جواباً على سؤالهم هذا:

بدلاً من قيامي بإنقاذ عشرين أو ثلاثين سنة من الحياة الدنيوية لهؤلاء الرجال، فإن رسائل النور كانت وسيلة وسبباً لإنقاذ ملايينِ السنين للحياة الأخروية لمئات الآلاف من المواطنين، أي إنها قامت بعمل يكافئ أضعاف تلك الخسارة بآلاف المرات، فلو أنني قبلت ذلك العرض لما ظهرت رسائل النور التي تحمل في طياتها سر الإخلاص والتي لا تكون تابعاً لأي أحد ولا وسيلة استغلال لأي شيء كان. حتى إنني قلت لأصدقائي المحترمين في السجن: لو أن الحكام الموجودين في أنقرة الذين آلمتْهم صفعات رسائل النور الشديدة فحكموا عليّ بالشنق، ثم استطاعت رسائل النور أن تنقذ إيمانهم وأن تنقذهم من الإعدام الأبدي، فاشهدوا بأنني أصفح عنهم من كل قلبي ".

وقد قلت لمدير الشرطة وللمفتشين الذين أزعجوني غاية الإزعاج بترصداتهم ومراقباتهم لي بعد صدور قرار التبرئة من محكمة "دنيزلي":

"لا شك أن من كرامة رسائل النور التي لا يمكن إنكارها أنه بعد بحث وتدقيق دام تسعة أشهر، لم يستطع أحد من أن يعثر على أية وثيقة أو أية علاقة مع أي تيار أو مع أية جمعية أو جماعة داخلية أو خارجية لا في مئات الرسائل والخطابات التي كتبتها

 

خلال عشرين سنة من حياتي المليئة بالآلام وبأنواع الظلم، ولا مع طلاب النور الذين يُعدون بالآلاف. فهل يستطيع أي فكر أو أي تدبير أن يعطينا مثل هذا الوضع الباهر. إذ لو انكشفت أسرار شخص واحد لبضع سنين من عمره، لظهرت عشرون مادة تدينه وتفضحه. إذن فهذه هي الحقيقة.

ولكن لو قلتم: إن هناك ذكاء وعبقرية لا تبارى تنسّق هذا العمل وتسيّره.

أو لو قلتم: هناك عناية ربانية فائقة وحفظ إلهي..

عند ذلك أقول لكم: إذن فإن من الخطأ محاربة هذه العبقرية، لأن فيها ضرراً كبيراً  للأمة وللوطن، كما إن مجابهة ومعارضة العناية الربانية والحفظ الإلهي ليست إلاّ تمرداً فرعونياً.

ولو قلتم: إننا إن لم نقم بمراقبتك ورصد حركاتك، تستطيع أن تعكر حياتنا الاجتماعية بدروسك وبأسرارك الخفية.

لقلت لكم: لقد حصلت الحكومة على جميع دروسي بلا  استثناء، فلم تجد فيها أي شيء يوجب العقاب، ومع أن ما يقرب من خمسين ألف نسخة من الرسائل من هذه الدروس متداولة بين أفراد الشعب وهم يقرأونها بكل اهتمام وبكل لهفة، فما من ضرر لحق بأي شخص كان، بل على العكس رأينا منافعها. وقد أقرت المحكمة السابقة والمحكمة الحالية: أنه لم يتم العثور فيها على أي شيء يوجب التهمة أو المؤاخذة، فأصدرت المحكمة الحالية قرارها بالبراءة بالإجماع. أما المحكمة السابقة فإنها احتجّت ببضع كلمات وردت ضمن مائة وثلاثين رسالة لكي تكون عذراً لها في إصدار حكم بالحبس لمدة ستة أشهر على خمسة عشر طالباً من طلاب النور من بين مائة وعشرين من الموقوفين منهم، وذلك من أجل شخص مشهور في العالم.([7]) إذن فهذا برهان قوي وحجة قاطعة على أن تعرضكم لي ولرسائل النور ليس إلاّ نتيجة توهّم لا معنى له وليس إلاّ ظلماً قبيحاً. ثم إنه لا توجد عندي دروس جديدة وليس لي سرّ مطوي وخفي لكي تقوموا بمثل هذه المراقبة والترصد.

 

 

إنني الآن في حاجة ملحّة إلى حريتي. ألا يكفي هذا الترصد غير المجدي والمراقبة العقيمة والملاحقة الظالمة المستمرة منذ عشرين سنة؟ لقد نفد صبري.. وربما أدعو عليكم بسبب ضعفي وشيخوختي دعاءً لم أدعه من قبل، وإن "دعوة المظلوم ليس بينها وبين العرش حجاب"([8]) حقيقة راسخة.

ولكن ذلك الظالم وهؤلاء التعساء المتبوئين وظائف دنيوية عالية قالوا لنا:

"إنك ومنذ عشرين عاماً لم تضع قبعتنا على رأسك حتى ولا مرة واحدة. ولم تحسر عن رأسك أمام المحاكم -السابقة منها واللاحقة- بل بقيت في قيافتك القديمة مع أن سبعة عشر مليوناً لبسوا القيافة الجديدة".

قلت لهم: ليس هناك سبعة عشر مليوناً، ولا سبعة ملايين، بل ولا يوجد من يلبسها بمحض اختياره سوى سبعة آلاف من السُكارى عَبَدة الغرب ومقلديه. لذا فبدلاً من أن ألبس قيافة تجبرني عليها قوة القانون وتسمح لي بذلك الرخصة الشرعية([9]) فإني أُفضل أن ألبس قيافة سبعة مليار من الذوات المحترمين وسلوك طريق العزيمة والتقوى. ولا يمكن أن يقال لشخص مثلي ترك الحياة الاجتماعية وهجرها أنه "يعاند وهو معارض ومخالف لنا". ولنفرض أنه عناد، فمادام مصطفى كمال نفسه لم يستطع أن يكسر هذا العناد، ومادامت محكمتان ومحافظ ثلاث ولايات لم يكسروه فمن أنتم حتى تحاولوا مثل هذه المحاولة العقيمة، ولماذا تحاولون هذا عبثاً مع أنها لا تأتي بخير للأمة ولا لهذه الحكومة؟ حتى لو افترضنا أنني معارض سياسي فمادمتم تقرون وتعترفون بأنني شخص قد قطع علاقته مع الدنيا منذ عشرين عاماً وبأنني أعد بذلك شخصاً ميتاً من الناحية المعنوية منذ عشرين عاماً، لذا فليست هناك من فائدة من أن يبعث هذا الشخص من جديد في معترك الحياة السياسية بمواجهتكم، بل يُشَكل هذا ضرراً بالغاً له، لذا فإن توقع المعارضة السياسية من مثل هذا الشخص ليس إلاّ جنوناً مطبقاً. ولما

 

 كان الحديث الجاد مع المجانين يعدّ جنوناً فإنني سأترك التحدث مع أمثالكم.. إفعلوا ما شئتم..".

فأدى قولي هذا إلى إسكاتهم وإغضابهم في الوقت نفسه.

كلمتي الأخيرة:

﴿حَسْبُنَا اللّٰهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ﴾

﴿حَسْبِيَ اللّٰهُ لا إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ﴾

*  *  *

قلت لهم في دفاعي الموجز هذه المرة:

إنَّ ما تحتويها "رسائل النور" من الحقيقة والرحمة والحق قد منعتنا من الخوض في السياسة. ذلك لأن الخوض فيها يؤدي إلى وقوع الأبرياء في بلايا ومصائب عديدة فأكون ظالماً لهم. وقد طلب بعضهم إيضاح هذا الأمر فقلت لهم:

إنه بسبب التعصب العنصري والأنانية التي نشأت في هذا العصر العاصف من المدنية الغادرة، والدكتاتورية العسكرية التي أعقبت الحرب العالمية، وما أفرزته الضلالة من القسوة وعدم الرحمة، ساد أشد أنواع الظلم وأشد أنواع الاستبداد، بحيث لو قام أهلُ الحق بالدفاع عن حقوقهم بالقوة لأصاب الكثير من الأبرياء والضعفاء أشد الظلم نتيجة الحيدة عن العدل، فيبقى هؤلاء مغلوبين على أمرهم يقاسون أشد أنواع الظلم. ذلك لأن الظالمين الذين تدفعهم النوازع المذكورة آنفاً لا يترددون أبداً في مدّ يد الأذى والبطش والظلم بعشرين أو ثلاثين من الأبرياء ويؤاخذونهم بجريرة أو خطأ شخص أو شخصين بأسباب واهية ومعاذير شتى. فلو قام أهل الحق بضرب ذلك الموضع في سبيل الحق والعدل لأعطوا خسارة بمعدل ثلاثين إلى واحد. ولو قاموا باتباع القاعدة الظالمة المتمثلة بالمقابلة بالمثل وبطشوا بعشرين أو ثلاثين شخصاً مأخوذين بجريرة واحد أو إثنين من الظالمين لاقترفوا -باسم الحق وتحت شعاره- ظلماً عظيماً وشنيعاً.

 

 

هذا هو السبب والحكمة من تهرّبنا الشديد ونفورنا من التعرض للسياسة وللحكم وذلك بأمر القرآن، وإلاّ فإن عندنا من قوة الحق ما يمكننا من الدفاع عن حقنا بكل جدارة. ثم مادام كل شيء زائلاً وفانياً ومادام الموت موجوداً والقبر لا يزال فاغراً فاه، ومادام الأذى ينقلب إلى رحمة، فإننا نفضل أن نصبر ونتوكل على اللّٰه ونشكره ونسكت. أما محاولة الإخلال بسكوتنا وهدوئنا بالإكراه بإيقاع الأذى بنا فإنها تناقض كل مفاهيم العدالة والغيرة الوطنية والحمية الملية.

وخلاصة الكلام: إنه لا يوجد هناك لأهل السياسة ولا لأرباب الحكم ولا لأصحاب الإدارة ولا للشرطة ولا لدوائر العدل شيء يستدعي منهم التعرض لنا. كل ما هنالك أن بعض الزنادقة المتسترين استطاعوا بشيطنتهم وبالتعصب الزنديقي الناجم عن الكفر المطلق (الذي يعد طاعوناً بشرياً ونتاج الفلسفة المادية والذي لا توجد هناك في الدنيا أية حكومة تدافع عنه ولا أي شخص عاقل يأنس به).. استطاعوا بهذه الشيطنة أن يخدعوا بعض موظفي الدولة ويُلقوا إليهم بأوهام وبمخاوف لكي يوجسوا منا خيفة وبذلك دفعوهم ضدنا.

ونحن نقول:إننا بعون اللّٰه تعالى وبالقوة التي نستمدها من القرآن الكريم لن نترك الميدان ولن نهرب ولو أقاموا الدنيا بأجمعها ضدنا وليس فقط بعض هؤلاء الأشخاص المصابين بالأوهام. ولن نسلم السلاح تجاه هؤلاء المرتدين الزنادقة من الكفار.

 سعيد النورسى

*  *  *

 

 

 

 

 

 

 

[1]() لقد أجرى أستاذنا بديع الزمان سعيد النورسى في دفاعه أمام محكمة «دنيزلى» بعضَ ما يلزم من الإضافة والحذف ورفعَهُ دفاعاً في محكمة «آفيون» وذلك لوحدة القضية. وقد ادمج أيضاً القسم الأعظم من هذا الدفاع مع دفاعه في محكمة «آفيون» وأطلق عليه إسم «الشعاع الرابع عشر» - طلاب النور.

 

[2]() البكطاشي: أي من اتباع الطريقة «البكطاشية» التي بدأت على أسس سليمة ثم انحرفت حتى أصبح أفرادها يضرب بهم المثل في ترك الصلاة والصوم وفي شرب الخمور.  

 

[3]() المقصود عدد المسلمين عبر العصور.

 

[4]() يعلل الأستاذ النورسى هذه بأن «رسائل النور» كلمات طيبة من نوع الصدقة المقبولة التي هي وسيلة لدفع البلاء، لذا فان منع انتشارها وحجبها عن الناس يفتح الطريق لنـزول البلاء.  

 

[5]() هذا الراتب كان راتباً ضخماً جداً آنذاك ولا يأخذه إلا الوزراء.   

 

[6]() حدثت في الولايات الشرقية (كردستان) عدة ثورات، كان أهمها الثورة التي قادها أحد رؤساء العشائر الكردية «الشيخ سعيد بيران» ضد سياسة مصطفى كمال المعادية للإسلام. واستطاع مصطفى كمال القضاء عليها وإعدام قائد الثورة وسبعاً وأربعين ممن معه في 15 /4/1925 . 

 

[7]() المقصود مصطفى كمال.    

 

[8]() أصل الحديث: «واتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين اللّٰه حجاب». مسلم، الإيمان 29؛ البخاري،  الجهاد 180، الزكاة 63، المظالم 9، المغازي 60.   

 

[9]() حيث إنه إكراه.    

 

Ekranı Genişlet