[أهمية مدرسة الزهراء]

قبل أربع سنوات حينما وكّلني أستاذنا -بسبب مرضه- بمتابعة شؤون رسائل النور في المحاكم بأنقرة، قدّمنا إلى النواب الأفاضل الرسالةَ المرفقة أدناه، ونقدمها الآن لكم ولحضرات النواب الأفاضل مجدداً. والداعي لهذا هو استمرار المسألة نفسها ولاسيما المحاولات الجارية في الشهور الأخيرة لإنشاء الجامعة الجديدة في الولايات الشرقية.

إن الانتشار الواسع لرسائل النور في السنين الثلاثين الماضية، سواء في الداخل أو في الخارج وتأثيرها الجيد في الناس، والسعي المتواصل لإنشاء دار الفنون (الجامعة) في الولايات الشرقية قبل خمس وخمسين سنة، مسألتان مهمتان متعاقبتان متممتان إحداهما للأخرى، وهما موضع اهتمام العالم الإسلامي.

فهذه الأمة ولاسيما أهل الولايات الشرقية وأربعمائة مليون من الأمة الإسلامية وعالم النصرانية المحتاج إلى السلام العالمي تهتم بهاتين النتيجتين العظيمتين والحادثتين الجليلتين. حيث إنهما مصدران واسعان لإعلان الإسلام ونشر حقائق القرآن.

ولقد بذل أستاذنا المحترم منذ خمس وخمسين سنة جهوده وبهمة فائقة متوسلاً بوسائل شتى لإنشاء جامعة إسلامية باسم مدرسة الزهراء في شرقي الأناضول على غرار الجامع الأزهر، ودعا للحاجة الماسة إليها. مثلما ورد في تهنئته لرئيس الجمهورية ورئيس الوزراء بهذا الخصوص حيث قال:

إن جامعة الشرق ستحرز مقاماً مرموقاً بين المسلمين بفضل ما تتمتع به من موقع مركزيٍّ في العالم الإسلامي. إذ ستبعث وتتجسم فيها الخدمات الدينية الجليلة السامية السابقة والخصال المعنوية الخالدة لألوف العلماء والعارفين والشهداء والمحققين من أجدادنا الراقدين في تلك الولايات، فيؤدون وظائفهم الإيمانية في أوسع ميدان.

أما الدرس الأساس الجدير بأن يكون منهجاً وبرنامجاً لجامعة الشرق فهو رسائل النور التي تفسّر الحقائق الإيمانية للقرآن الكريم، والتي تقيم البراهين العقلية والدلائل المنطقية الإيمانية لإثبات مسائل القرآن العظيم. فقمين بهذه الرسائل أن تكون موضع دراسة في الجامعات والمدارس الحديثة.

إن رسائل النور ظهرت بوساطة طالب من طلاب أساتذة الشرق ومدارسها الدينية المنتشرة في أرجائه كافة والتي فجّرت الينابيع المعنوية الباعثة على الحياة.

فنحن نرجو ونتمنى من الرحمة الإلهية بكل أرواحنا وكياننا أن يتسنم أولئك الأساتذة الأفاضل وظائفهم السابقة مجدداً فيوسعوا من دائرة أعمالهم الفكرية وخدماتهم القرآنية بالثمار اليانعة المنورة الحالية لجهودهم، فتتهيأ الظروف الحياتية الزمانية والمكانية والسلام العام لتحقيق أمانينا هذه.

نعم، إن رسائل النور التي هي ثمرة واحدة ونتيجة عظيمة كلية لنشاط العلم والمعرفة في الشرق جديرة بأن تلقى اهتمام العاملين للإسلام وهذه الأمة والعالم الإسلامي.

هذا وإن الإقبال على رسائل النور وطلبها في كل من أمريكا وأوروبا وانتشارها هناك تبين أهمية دعوانا هذه

 

مصطفى صونغور

 

[وصية]

لقد كان منذ القدم دأب أستاذنا ألاّ يتذلل أمام أعظم الرؤساء، حفاظاً على عزة العلم، بل ما كان يقبل هدايا أحد من الناس دون مقابل. والآن وقد أصبح يرفض الهدايا -التي لا ضير من قبولها لدى أهل العلم- بحجة المرض الذي ضعّفه أشدّ الضعف، بل يرفض حتى ما نقدّمه له نحن الذين نقوم بخدمته ولو كان شيئا صغيراً، فنراه يتمرض إن تناوله. فاقتنعنا أنه أُخطر إلى قلبه مَنعه من إخلال قاعدته التي اتخذها طوال حياته، وهي ألاّ تكون رسائل النور أداة لأي شيء كان، حفاظا على الإخلاص التام. ونحن الآن في موسم عيد لرسائل النور حيث تنتشر في الأرجاء كافة. لكننا نجد أن أستاذنا يتضجر من المحاورة  ويمتعض من النظر إليه والمصافحة حتى من أخص طلابه وإخوانه.

وشاهدناه يقول في هذه الأيام المباركة للعيد السعيد: "اجعلوا قبري في مكان مخفي غاية الإخفاء، ويلزم ألاّ يعرف موضعه أحدٌ عدا واحد أو اثنين من طلابي فقط. هذه وصيتي إليكم؛ فالحقيقة التي منعتني عن المحاورة والمسامرة في الدنيا تمنعني بلاشك بعد وفاتي.

ونحن بدورنا سألنا أستاذنا: إن الذي يزور القبر يقرأ سورة الفاتحة ويُثاب عليها. فما الحكمة من منعكم زيارة قبركم؟ فأجاب: إن الغفلة الناشئة من الأنانية وحب الذات في هذا العصر العصيب تدفع الناس إلى أن يُولوا اهتمامهم إلى مقام الميت وشهرته الدنيوية في أثناء زيارتهم القبور، مثلما عمل الفراعنة في الزمن الغابر على تحنيط موتاهم ونصب التماثيل لهم ونشر صورهم رغبة في توجيه الأنظار إليهم، فتوجهت الأنظار إلى المعنى الاسمي -أي لذات الشخص- دون المعنى الحرفي -أي لغيره-.. وهكذا فإن قسماً من أهل الدنيا في الوقت الحاضر يولون توجههم إلى شخص الميت نفسه وإلى مقامه ومنـزلته الدنيوية بدلاً من الزيارة المشروعة لكسب رضاء الله ونيل الثواب الأخروي كما كانت في السابق.

لذا أُوصي بعدم إعلام موضع قبري حفاظا على سر الإخلاص ولئلا أجرح الإخلاص الذي في رسائل النور. فأينما كان الشخص سواء في الشرق أو الغرب وأيا كان فإن ما يقرأه من "الفاتحة" تبلغ إلى تلك الروح.

 

 [الحيلولة دون وصول حزب الشعب إلى السلطة]

سألنا أستاذنا:

لماذا تعمل على الحفاظ على الحزب الديمقراطي؟ فأجابنا بالآتي:

إذا سقطت حكومةُ الحزب الديمقراطي، فسيتولى السلطة حزب الشعب الجمهوري، أو حزب الأمة. والحال أن الجنايات التي ارتكبها الفاسدون من الاتحاد والترقي والقسم الأعظم من الإجراءات التي نفّذها رئيسُ الجمهورية الأول بموجب معاهدة سيفر، طوال خمس عشرة سنة تحت ضغوطٍ ومكايدَ سياسية كثيرة، كل هذه الأمور حُمّلت على حزب الشعب الجمهوري، لذا فإن هذه الأمة التركية العريقة لن تُمكِّن بإرادتها ليتولى حزبُ الشعب السلطة، ذلك لأن حزب الشعب إذا تولى السلطة فإن القوة الشيوعية ستحكم في البلاد تحت اسم الحزب نفسه، علما أن المسلم يستحيل عليه أن يكون شيوعيا، بل يُصبح إرهابيا فوضويا، ولا موضع لمقارنة المسلم بالأجنبي.

ولأجل الحيلولة دون وصول حزب الشعب إلى السلطة والذي يشكّل خطرا رهيبا على حياتنا الاجتماعية وعلى الوطن، أعمل على المحافظة على الحزب الديمقراطي باسم القرآن والوطن والسلام.

 

[لذة الجنة في الدنيا]

بِاسمِهِ سُبحَانَهُ

هذه الرسالة تخص مـا يحققه الإيمان

في حياتي من لذة الجنة حتى في الدنيا.

 

 

إنني لم أشاهد والدتي الرؤوفة منذ التاسعة من عمري، فلم أحظ بتبادل الحوار اللطيف معها في جلساتها، فبتّ محروماً من تلك المحبة الرفيعة.

ولم أتمكن من مشاهدة أخواتي الثلاث([1]) منذ الخامسة عشرة من عمري، حيث ذهبن مع والدتي إلى عالم البرزخ. فبتّ محروماً من كثير من ألطاف الرحمة والاحترام التي تشيع في أجواء الجلسات الأخوية الطيبة اللذيذة في الدنيا.

ولم أشاهد أيضاً أخويّ من ثلاثة إخوة([2]) منذ خمسين سنة -رحمهم اللّٰه- فبتّ محروماً من السرور المنبثق من الأخوّة الودود والشفقة العطوف في مجالسة أولئك الأعزاء المتقين العلماء.

وعندما كنت أتجول اليوم مع أبنائي المعنويين الأربعة الذين يعاونونني في شؤوني، أُخطر على قلبي بيقين جزءٌ من بذرة الجنة التي ينطوي عليها الإيمان، مثلما أظهرتها رسائل النور.

وحيث إنني قضيت حياتي عزباً فلم أنجب الأولاد. لذا بتّ محروماً من مَذاقات محبتهم البريئة ومن ابتهاجهم وانشراحهم.

ومع كل هذا ما كنت أشعر بهذا النقص قط، حيث أنعم سبحانه وتعالى عليّ في هذا اليوم معنىً في منتهى الذوق واللذة فضمد جراحاتي الأربعة المذكورة من جهات ثلاث:

الأولى: إنه عوضاً عن اللذة الآتية من العطف الخاص لوالدتي، أحسن الرحيم سبحانه وتعالى عليّ، بأُلوف من الوالدات اللائي يستفدن من رسائل النور استفادة تفوق المعتاد ويتذوقن منها أذواقاً روحية خالصة، بـمثل ما جاء في الحديث الشريف "عليكم بدين العجائز"([3]) المذكور في رسائل النور.

وعوضاً عن السرور والبهجة والعطف الأخوي الناشئ من مجالسة أخواتي الثلاث -رحمهن اللّٰه- أحسن المولى الكريم عليّ بالألوف من السيدات والشابات، وجعلهن سبحانه وتعالى في موضع أخوات لي، فأستفيد من دعواتهن وتعلقهن بـرسائل النور ألوفاً من الفوائد والثمرات المعنوية والمسرات الروحية، وهناك أمارات عديدة على صدق هذا القسم الثاني يعرفها إخوتي.

وعوضاً عن حرماني من العون المادي والمعنوي الذي كان يمدني به في الدنيا أخَوايَ المرحومان ومن عطفهما ورأفتهما، فقد أحسن سبحانه وتعالى برحـمته عليّ بمئات الألوف من إخوة حقيقيين مضحين في خدمة رسائل النور يحملون عطفاً خالصاً ويـمدّون إليّ يد العون بل يفدون رأسمال حياتهم الأخروية فضلاً عن حياتهم الدنيوية.

وعوضاً عن حرماني من أذواق العطف والحنان النابعة من الأولاد -حيث لا أولاد لي في الدنيا- أنعم سبحانه وتعالى عليّ بمئات الألوف من الأولاد الأبرياء، من حيث استفادتهم من رسائل النور مستقبلاً. فحوّل سبحانه وتعالى هذه العواطف الثلاث والشفقة الرؤوفة الجزئية إلى مئات الألوف منها.

وفيما يخص هذا القسم هناك أمارات كثيرة جدا. حتى يعلم من يعاونني في أموري من الإخوة أن الأطفال في "أميرداغ" و"بولفادين"([4]) يتعلقون بي ويُبدون من الاحترام والارتباط أكثر مما يبدونه لوالديهم.

 فأمثلة هذا كثيرة جدا بتحويله سبحانه وتعالى هذا الذوقَ واللذة والاحترام المتسم بالرأفة من هذا العطف الجزئي الشخصي إلى صور الألوف من العواطف الكلية والرأفة العمومية.

فلقد استشعرتْ أرواحُ هؤلاء الأطفال الأبرياء بحس مسبق -كما هو في بعض ذوي الأرواح المباركة- أن رسائل النور ستربيهم تربية الوالدين في الدنيا وستصونهم من البلايا.. لذا يظهرون احتراما وتوقيرا لخادم النور أكثر مما يظهرونه لوالديهم. حتى إن طفلة لا تتجاوز عمرها ثلاث سنوات أتتني مهرولة إليّ مخترقة الأشواك، علما أنني لا أعرفها. ولكثرة ما في "بولفادين" من الأطفال الأبرياء المحبوبين ما كنا نخلص منهم ونحن نقطعها بالسيارة. بل حتى في كل مكان رغم أنهم لم يسمعوا عني شيئا ولم يشاهدوني، فإن إظهارهم هذا العطف والحنان نحوي أكثر مما يبدونه لوالديهم جعلني أرى في الإيمان بذرة الجنة حقا -بالنسبة لي- حتى من حيث جسمي وهواي.

 

إشارة قصيرة إلى حقيقة مهمة

هناك إشارات لقسم من الأحاديث الشريفة: أن حقائق الإيمان تبدو بوضوح أكثر لدى النساء في آخر الزمان، حتى يتمكنّ من وقاية أنفسهن -إلى حد- من مهالك الضلالة في ذلك الوقت. كما أن هناك حثا على الاقتداء بالعجائز في آخر الزمان، كما هو في الحديث: "عليكم بدين العجائز".

وهذا يعنى أن النساء اللاتي هن بطلات الشفقة ورائدات الحنان والعطف، يحُول إخلاصهن النابع من تلك السجية دون مهالك الضلالة المتمرغة بالتصنع والرياء في ذلك الوقت، فيظللن محتفظات بإسلامهن.

وهناك حديث آخر فيه: أن "أبا البنات مرزوق"، بمعنى أن في آخر الزمان، يكثر الإناث من الأطفال، ويكنّ طيبات، يبارك الله في أرزاقهّن.

كنت أجهل في السابق سرّ هذا الحديث الشريف وأمثاله، ولكني ولله الحمد فهمت مؤخرا شيئا من أسراره، أشير إليه في غاية الاختصار:

أن أطفال الإنسان ليسوا كصغار الحيوانات، إذ بينما تَقدِر هذه الصغار على الاعتماد على أنفسها في غضون شهرين أو ثلاثة، يحتاج طفل الإنسان إلى حماية ورعاية مكللة بالرحمة والرأفة، تستغرق عشر سنوات أو أكثر.

وبناء على هذا، لزم دوام شفقة الوالدات على أطفالهن وحمايتهم حماية جادة، وهي سجية فطرية مغروزة في الإنسان خلافا للحيوان. أما في الرجال فقد أدرجت الحكمة الإلهية في فطرتهم سجية الشرف والغيرة، ليتمكنوا من القيام بمعاونة الوالدات الضعيفات والأطفال العاجزين.

وضمن هذه السجية (الشرف) أدرجت بطولة نادرة خالصة لا تقبل العوض والمقابل، ولكن -في الوقت الحاضر- دبّ فيها شيء من الفساد، فضعفت على أثرها تلك البطولة في معظم الناس. إلاَ أن السجية الفطرية لدى النساء -وهي الشفقة والحنان- لم تفسد.

فالنساء بهذه السجية الفطرية يؤدين خدمات جليلة بين المسلمين في آخر الزمان، فتلك الأحاديث الشريفة تشير رمزا إلى أهمية هذه السجية الفطرية ودورها في المجتمع، وكيف أنها تكون ركيزة ضمن دائرة الإسلام.

 

[موافقة السنة في الزواج]

بِاسمِهِ سُبحَانَهُ

﴿وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ﴾

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته أبدا دائما

جواب عن سؤال ورد في صحف نشرت في بلدان خارجية.([5])

 "لِمَ بقيت أعزبَ خلافا للسنة النبوية؟"

لقد قرأنا رسالتكم أستاذنا الذي يعاني أشد حالات المرض، فقال لنا:

لو لم أكن في حالة شديدة من المرض لكنت أكتب جوابا مفصلا لهؤلاء الإخوة الفاضلين الطيبين، إلاّ أن حالتي الصحية المتردّية لا تسمح لي بذلك. فاكتبوا في غاية الاختصار، في بضع نقاط، جوابا لأولئك الإخوة المخلصين البررة ولرفقائي في خدمة القرآن:

أولا: في الوقت الذي يلزم لصد هجوم زندقة رهيبة تُغير منذ أربعين سنة، فدائيون يضحّون بكل ما لديهم، قررتُ أن أضحي لحقيقة القرآن الكريم لا بسعادتي الدنيوية وحدها، بل -حتى إذا استدعى الأمر- بسعادتي الأخروية كذلك، فلأجل أن أتمكن من القيام بخدمة القرآن على وجهها الصحيح بإخلاص حقيقي ما كان لي بد من ترك زواج الدنيا الوقتي -مع علمي بأنه سنة نبوية- بل لو وُهب لي عشر من الحور العين في هذه الدنيا، لوجدت نفسي مضطراً إلى التخلي عنهن جميعاً، من أجل تلك الحقيقة، حقيقة القرآن. لأن هذه المنظمات الملحدة الرهيبة تشن هجمات عنيفة، وتدبر مكايد خبيثة، فلا بد لصدها من منتهى التضحية وغاية الفداء، وجَعْلِ جميع الأعمال في سبيل نشر الدين خالصة لوجه الله وحده، من دون أن تكون وسيلة لشيء مهما كان.

ولقد أفتى علماء منكوبون وأناس أتقياء لصالح البدع، أو ظهروا بمظهر الموالين لها، من جراء هموم عيش أولادهم وأهليهم، لذا يقتضي منتهى التضحية والفداء، ومنتهى الثبات والصلابة وغاية الاستغناء عن الناس، وعن كل شيء، تجاه الهجوم المرعب العنيف على الدين، ولا سيما بعد إلغاء دروس الدين في المدارس وتبديلِ الأذان الشرعي ومنع الحجاب بقوة القانون؛ لذا تركت عادة الزواج الذي أعلم أنها سنة نبوية لئلا ألج في محرمات كثيرة، ولكي أتمكن من القيام بكثير من الواجبات وأداء الفرائض. إذ لا يمكن أن تُقترف محرماتٌ كثيرة لأجل أداء سنة واحدة. فلقد وجَد علماء أدوا تلك السنة النبوية أنفسَهم مضطرين إلى الدخول في عشر كبائر ومحرمات وتركِ قسم من السنن والفرائض، في غضون هذه السنوات الأربعين.

ثانيا: إن الآية الكريمة: ﴿فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم..﴾(النساء:3) والحديث الشريف «تَناكحُوا تَكثُروا..»([6]) وأمثالهما من الأوامر، ليست أوامر وجوبية ودائمية، بل استحبابية مسنونة، فضلا عن أنها موقوفة بشروط لا بد من توافرها، وقد يتعذر توافرها للجميع وفي كل وقت. ثم إن الحديث الشريف «لا رهبَانِيَة في الإسلام»([7]) لا يعني أن الانزواء والعزوبة -كما هو لدى الرهبان- محرمتان مرفوضتان لا أصل لهما. بل هو حث على الانخراط في الحياة الاجتماعية كما هو مضمون الحديث الشريف «خَيرُ النَّاس أنفَعهُم للنَّاس».([8]) وإلاّ فإن ألوفاً من السلف الصالحين قد اعتزلوا الناس موقتاً، وآثروا الانزواء في المغارات لفترة من الزمن، واستغنوا عن زينة الحياة الدنيا الفانية وجردوا أنفسهم عنها، كي يقوموا ببناء حياتهم الأخروية على الوجه الصحيح. فما دام الكثيرون من السلف الصالحين تركوا الدنيا وزينتها بلوغاً إلى كمال باق وخاص بشخصهم، فلا بد أن من يعمل لأجل سعادة باقية لكثير جداً من المنكوبين، ويحول بينهم وبين السقوط في هاوية الضلالة، ويسعى لتقوية إيمانهم، خدمةً للقرآن والإيمان خدمة حقيقية، ويثبت تجاه هجمات الإلحاد المغير من الخارج والظاهر في الداخل، أقول لا بد أن الذي يقوم بهذا العمل العام الكلي -وليس عملا خاصاً لنفسه- تاركاً دنياه الآفلة، لا يخالف السنة النبوية بل يعمل طبقا لحقيقة السنة النبوية.

ثم إنني أتمنى أن أغنم ذرة واحدة من هذا الكلام الصادق الصادر من الصديق الأكبر رضي الله عنه: "ليكبر جسمي في جهنم حتى لا يبقى موضع لمؤمن".. ولأجله آثر هذا السعيد الضعيف العزوبةَ والاستغناء عن الناس طوال حياته كلها.

ثالثاً: لم نقل لطلاب النور: "تخلوا عن الزواج، دعوه للآخرين" ولا ينبغي أن يقال لهم هذا الكلام. ولكن الطلاب أنفسهم على مراتب وطبقات. فمنهم من يلزم عليه ألاّ يربط نفسه بحاجات الدنيا قدر المستطاع في هذا الوقت، وفي فترة من عمره، بلوغاً إلى التضحية العظمى والثبات الأعظم والإخلاص الأتم، وإذا ما وجد الزوجة التي تعينه على خدمة القرآن والإيمان، فبها ونعمت. إذ لا يضر هذا الزواج بخدمته وعمله للقرآن. ولله الحمد والمنة، ففي صفوف طلاب النور كثيرون من أمثال هؤلاء، وزوجاتهم لا يقصرن عنهم في خدمة القرآن والإيمان، بل قد يفقن أزواجهن ويسبقنهم لما فطرن عليه من الشفقة التي لا تطلب عوضاً، فيؤدين العمل بهذه البطولة الموهوبة لهن بإخلاص تام.

هذا وإن المتقدمين والسابقين من طلاب النور أغلبهم متزوجون، وقد أقاموا هذه السنّة الشريفة على وجهها، ورسائل النور تخاطبهم قائلة: اجعلوا بيوتكم مدرسة نورية مصغرة، وموضع تلقي العلم والعرفان، كي يتربى الأولاد الذين هم ثمارُ تطبيقِ هذه السنة، على الإيمان، فيكونوا لكم شفعاء يوم القيامة، وأبناء بررة في هذه الدنيا، وعندها تتقرر هذه السنة الشريفة فيكم حقاً. وبخلافه لو تربي الأولاد على التربية الأوروبية وحدها -كما حدث خلال ثلاثين سنة خلت- فإن أولئك الأولاد يكونون غير نافعين لكم في الدنيا -من جهة- ومدّعين عليكم يوم القيامة، إذ يقولون لكم: "لِمَ لم تنقذوا إيماننا؟" فتندمون وتحزنون من قولهم هذا، يوم لا ينفع الندم، وما هذا إلا مخالفة لحكمة السنة النبوية الشريفة.

 

[1]() وهن: درية: هي والدة "عُبيد" توفيت قبل الحرب العالمية الأولى. وخانم: وهي العالمة الفاضلة التي توفيت في الحج أثناء الطواف سنة 1945 "الشعاعات، الشعاع الحادي عشر، المسألة الحادية عشرة" ومرجان: وهي أصغرهن جميعاً.

[2]() وهم: عبد اللٰه: توفي عام 1914 وهو والد "عبد الرحمن" تلميذ الأستاذ النورسي وابنه المعنوي. ومحمد: توفي سنة1951. وعبد المجيد: توفي سنة 1967. فأبناء السيد ميرزا بالتسلسل هم: درية، خانم، عبد الله، سعيد، محمد، عبد المجيد، مرجان.

 

[3]() الغزالي، إحياء علوم الدين، 3/78؛ الآمدي، الإحكام، 4/230؛ العراقي، تخريج أحاديث الإحياء، 6/370؛ السخاوي، المقاصد الحسنة، ص 290؛ السيوطي، الدرر المنتثرة، ص 14؛ علي القاري، الأسرار المرفوعة، ص 124؛ العجلوني، كشف الخفاء، 2/92.

([4]) قصبة تابعة لولاية آفيون.

([5]) ننقل أدناه نص الرسالة التي بعثها أحدهم إلى الأستاذ النورسي في حينه:

"لقد قرأت عدداً من رسائل النور مع ترجمة حياتكم، فرأيت في الترجمة أن من شؤونكم الخاصة: العزوبة، وعدم إيجاد علاقة بشيء في الدنيا، الأمر الذي لوحظ سريانه إلى طلاب النور أيضا. وبما أن هذا مما لا يتفق مع قوله تعالى في سورة النساء: ﴿فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ﴾(النساء: 3)، وقوله r: (لا ترهّب في الإسلام) وقوله: (تناكحوا تكثروا فإني أباهي بكم الأمم يوم القيامة). فقد رأيت أن أستوضح الأمر.

وإني أعتقد أن الاعتراض الذي أوردتُه قد يندفع ببيان كون العزوبة مطلوبةً لطلاب النور، ذكورهم وإناثهم إلى سن معينة، من أجل التفرغ لخدمة القرآن والإيمان في سن الفتوة والشباب، ولكني لا أرى بداً من البحث في هذا، مع تعيين السن التي يتمكن أولئك الطلاب من الزواج بعد الوصول إليها.

وليس لي على كل حال إلاّ انتظار جوابكم المقارن للصواب إن شاء الله."

نقلا عن كراس صدر ببغداد سنة 1953

[6]() عبد الرزاق، المصنف، 6/173؛ العجلوني، كشف الخفاء، 1/380؛ المناوي، فيض القدير، 3/269؛ الهندي، كنـز العمال، 16/276.

[7]() أحمد بن حنبل، المسند، 6/226؛ كشف الخفاء، 2/،510، رقم: 3154؛ وانظر: أبو داود، المراسيل 287؛ ابن حبان، المجروحين 1/399؛ الذهبي، المهذب 5/2650؛ ابن حجر، فتح الباري 9/13؛ العجلوني، كشف الخفاء 3154؛ وعند البيهقي: إن الله أبدلنا بالرهبانية الحنيفية السمحة.

[8]() العجلوني، كشف الخفاء، 1/472؛ الطبراني، المعجم الأوسط، 6/58؛ البيهقي، شعب الإيمان، 6/117.

 

 

« Önceki Sayfa  | | Sonraki Sayfa »
Ekranı Genişlet