إفادة المرام
أقول: لما كان القرآنُ جامعاً لأشتاتِ العلوم وخطبةً لعامة الطبقات في كل الأعصار، لا يتحصّل له تفسيرٌ لائقٌ من فهم الفرد الذي قلّما يخلُص من التعصب لمسلكه ومَشربه؛ إذ فهمُه يخصُّه ليس له دعوة الغير إليه إلاّ أن يُعدّيَه([1]) قبولُ الجمهور. واستنباطُه -لا بالتشهي- له العملُ لنفسه فقط، ولا يكون حُجةً على الغير إلاّ أن يُصدّقه نوعُ إجماع.
فكما لابد لتنظيم الأحكام واطّرادها ورفعِ الفوضى -الناشئة من حرية الفكر مع إهمال الإجماع- من وجود هيئة عالية من العلماء المحققين الذين -بمظهريتهم لأمنية العموم واعتمادِ الجمهور- يتقلّدون كفالةً ضمنية للأُمة، فيصيرون مظهرَ سرِّ حجِّيةِ الإجماع الذي لا تصير نتيجةُ الاجتهاد شرعاً ودستوراً إلاّ بتصديقه وسِكّته؛([2]) كذلك لابد لكشف معاني القرآن وجمعِ المحاسن المتفرقة في التفاسير وتثبيت حقائقه -المتجلية بكشف الفن([3]) وتمخيض الزمان- من انتهاض هيئة عالية من العلماء المتخصصين، المختلفين في وجوه الاختصاص، ولهم مع دقةِ نظرٍ وُسْعةُ([4]) فكرٍ لتفسيره.
نتيجة المرام
إنه لابد أن يكون مفسرُ القرآن ذا دهاءٍ عال واجتهاد نافذ وولاية كاملة. وما هو الآن إلاّ "الشخص المعنوي" المتولدُ من امتزاج الأرواح وتساندِها، وتلاحقِ الأفكار وتعاونها، وتظافرِ القلوب وإخلاصها وصَمِيمِيَّتِها، من بين تلك الهيئة. فبسرّ "للكل حُكمٌ ليس لكلٍ"([5]) كثيراً ما يُرى آثارُ الاجتهاد وخاصةُ الولاية، ونورُه وضياؤها([6]) من جماعةٍ خَلَتْ منها أفرادُها.
19
_______________________
ثم إني بينما كنت منتظراً ومتوجهاً لهذا المقصد بتظاهر هيئة كذلك -وقد كان هذا غايةَ خيالي من زمان مديد- إذ سنح لقلبي من قبيل "الحس قبل الوقوع" تقرّبُ زلزلة عظيمة،([7]) فشرعتُ -مع عجزي وقصوري والإغلاق في كلامي- في تقييد ما سنَح لي من إشارات إعجاز القرآن في نظمه وبيان بعض حقائقه، ولم يتيسر لي مراجعة التفاسير. فإن وافقها فبِها ونِعْمَتْ، وإلّا فالعُهدةُ عليّ.
فوقعتْ هذه الطامةُ الكبرى.. ففي أثناء أداء فريضة الجهاد كلما انتهزتُ فرصةً في خط الحرب قيَّدتُ ما لاحَ لي في الأودية والجبال بعبارات متفاوتة باختلاف الحالات. فمع احتياجها إلى التصحيح والإصلاح لا يرضى قلبي بتغييرها وتبديلها؛ إذ ظهرتْ في حالةٍ من خلوص النية لا توجد الآن، فأعرِضُها لأنظار أهل الكمال لا لأنه تفسير للتنـزيل، بل ليصير -لو ظفر بالقبول- نوعَ مأخذٍ([8]) لبعض وجوه التفسير. وقد ساقني شوقي إلى ما هو فوق طوقي، فإن استحسنوه شجعوني على الدوام.
ومن اللّٰه التوفيق
سعيد النورسي
20
_______________________
----------------------
[1]() عدّى الشيء: أجازه وأنفذه.
[2]() سكة: شارة الدولة الموضوعة على مسكوكاتها.
[3]() العلم الحديث.
[4]() وُسْعة واتساع وسعة بمعنى الطاقة والقدرة.
[5]() انظر: كليات أبي البقاء ص 296.
[6]() نور الاجتهاد وضياء الولاية.
[7]() لقد أخبرنا مراراً في أثناء الدرس وقوع زلزلة عظيمة (بمعنى الحرب العمومية فوقعت كما أخبرنا).
حمزة. محمد شفيق. محمد مهري. (هؤلاء من تلاميذ المؤلف).
[8]() المصدر والمرجع.
