الشعاع الرابع عشر
«الدفاعات»
تتمة قصيرة جداً لإفادتي
أُبيّن لمحكمة آفيون:
إنَّ إفادتي التي قدمتُها لأنظاركم ولعدالة القانون، والتي تتضمن تحرّي منـزلي تحرّياً غيرَ قانوني بثلاث وجوه، وسَوقي للاستجواب ومن ثم توقيفي واعتقالي. كل ذلك تعرّضٌ لكرامة ثلاث محاكم ومسٌّ لعدالتها واحترامها، بل استخفافٌ بها. لأن تلك المحاكم الثلاث وهيئات الخبراء الثلاث، قد أتمّت تدقيق ما ألّفتُه خلال عشرين سنة من مؤلفات، وما كتبتُه من مكاتيب، وأجمَعوا قرارهم على براءتنا. فأُعيدت إلينا كتبُنا ومكاتيبُنا.
وبعد البراءة، ومنذ سنوات ثلاث وأنا أعيش في انـزواء عن الناس، وتحت ترصّد شديد بحيث لا أكتب لبعض أصدقائي غير رسالة واحدة لا ضرر فيها. فعلاقتي بالدنيا شبه مقطوعة، بل لم أذهب إلى موطني رغم السماح.
والآن فإن تجديدَ المسألةِ نفسها بما ينمّ عن عدم الاكتراث بالقرار العادل للمحاكم الثلاث إنما هو استهانةٌ بكرامة تلك المحاكم وحطٌّ من شرفها.
لذا لأجل الحفاظ على كرامة تلك المحاكم التي عدلت في حقي، أرجو من محكمتكم أن تبحث عن سبب آخر ومسألةٍ أخرى لتتهموني بها غير المسائل التي هي: "رسائل النور، تشكيل جمعية، تأسيس طريقة صوفية، احتمال الإخلال بالأمن والنظام".
إنَّ ذنوبي وتقصيراتي كثيرة، لذا قررت أن أُعينَكم بقدر ما يتعلق الأمر بمسؤوليتي، فلقد تعذبتُ خارج السجن عذاباً يفوق كثيراً عمّا في داخله. حتى غدا القبر أو السجن موضعَ راحتي الآن. ولقد سئمت الحياةَ حقاً. كفى الإهانات والتعذيب والترصد المؤلم فيما يشبه السجن الانفرادي طوال عشرين سنة فلقد بلغ السيلُ الزبى، وأوشك أن يمسّ غيرةَ اللّٰه، وعندها يا لخسارة هذه البلاد. إني أذكّركم بهذا.
إنَّ أعظم ملجأ لنا وأقواه:
﴿حَسْبُنَا اللّٰهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ﴾
﴿حَسْبِيَ اللّٰهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ﴾
* * *
«ردّ على لائِحة الإدعاء»
بسم اللّٰه الرحمن الرحيم
وبه نستعين
«بعد صمت دام ثمانية عشر عاماً، اضطررت إلى إعادة تقديم هذه الدعوى رداً على لائحة الادعاء، رغم تقديمها إلى المحكمة وتقديم صورة منها إلى المراجع العليا في أنقرة».
«أدناه خلاصة لدفاع قصير -هو الحقيقة عينها- قد قلته للمدعين العامين وضابطي الشرطة الذين أتوا لتحري منـزلي في "قسطموني" ثلاث مرات، وقلته أيضاً لمدير الشرطة ولثلة من أفراد الشرطة -في المرة الثالثة- ولمحكمة دنيزلي وأفيون. فليكن معلوماً لديكم أن ما قلته لهم هو: أنني أعيش معتكفاً ومنـزوياَ منذ عشرين سنة. فطوال ثماني سنوات في "قسطموني" بقيت مقابل مخفر الشرطة وكذا الحال في بقية الأماكن؛ كنت طوال هذه الفترة تحت المراقبة والترصد الدائم. وقد تحرّوا منـزلي عدة مرات، ومع ذلك لم يعثروا على أية أمارة لها علاقة بالدنيا أو بالسياسة. فلو كان لي شيء من التدخل بها لكانت الشرطة والعدلية تعلم به، أو علمتْ به ولكن لم تعر له بالاً، بمعنى أنهم مسؤولون أكثر مني.
فما دام الأمر هكذا فلِمَ تتعرضون لي إلى هذا الحد دون داع إليه وبما يلحق الضرر بالبلاد والعباد. علماً أنه لا يُتعرض في الدنيا كلها للمنـزوين المعتكفين المنشغلين بآخرتهم.
نحن طلاب النور آلينا على أنفسنا ألاّ نجعل من رسائل النور أداة طيعة للتيارات السياسية، بل للكون كله. فضلاً عن أن القرآن الكريم قد منعنا بشدة من الاشتغال بالسياسة.
نعم، إن مهمة رسائل النور الأساس هي خدمة القرآن الكريم، والوقوف بصرامة وحزم في وجه الكفر المطلق الذي يُودِي بالحياة الأبدية ويجعل من الحياة الدنيا نفسها سماً زعافاً وجحيماً لا يطاق.
ومنهجها في ذلك هو إظهار الحقائق الإيمانية الناصعة المدعمة بالأدلة والبراهين القاطعة التي تلزم أشد الفلاسفة والمتزندقة تمرداً على التسليم بالإيمان. لذا فليس من حقنا أن نجعل رسائل النور أداة لأي شيء كان، وذلك لأسباب:
أولاً: كي لا تحول الحقائق القرآنية التي تفوق الألماس نفاسة إلى قطع زجاج متكسر في نظر أهل الغفلة، حيث يتوهمونها كأنها دعاية سياسية تخدم أغراضاً معينة، وكي لا نمتهن تلك المعاني القرآنية القيمة.
ثانياً: إن منهج رسائل النور الذي هو عبارة عن الشفقة والعدل والحق والحقيقة والضمير ليمنعنا بشدة عن التدخل بالأمور السياسية أو بشؤون السلطة الحاكمة. لأنه إذا كان هناك بعض ممن ابتلوا بالإلحاد واستحقوا بذلك العقاب فإن وراء كل واحد منهم عدداً من الأطفال والمرضى والشيوخ الأبرياء. فإذا نزل بأحد أولئك المبتلَيْنَ المستحقين للعقاب كارثة أو مصيبة، فإن أولئك الأبرياء أيضاً سيحترقون بنارهم دون ذنب جنوه. وكذا لأن حصول النتيجة المرجوة أمر مشكوك فيه، لذا فقد مُنعنا بشدة من التدخل في الشؤون الإدارية بما يخل بأمن البلاد ونظامها عن طريق وسائل سياسية.
ثالثاً: في زمن عجيب كزماننا هذا، لا بد من تطبيق خمسة أسس ثابتة، حتى يمكن إنقاذ البلاد وإنقاذ الحياة الاجتماعية بأبنائها من الفوضى والانقسام. وهذه المبادئ هي:
1- الاحترام المتبادل
2- الشفقة والرحمة
3- الابتعاد عن الحرام
4- الحفاظ على الأمن
5- نبذ الفوضى والغوغائية، والدخول في الطاعة.
والدليل على أن رسائل النور في نظرتها إلى الحياة الاجتماعية قد ظلت تثبت وتحكم هذه الأسس الخمسة وتحترمها احتراماً جاداً محافظة بذلك على الحجر الأساس لأمن البلاد، هو أن رسائل النور قد استطاعت في مدى عشرين عاماً أن تجعل أكثر من مائة ألف رجل أعضاء نافعين للبلاد والعباد دون أن يتأذى أو يتضرر بهم أحد من الناس. ولعل محافظتي إسبارطة وقسطموني خير شاهد وأبرز دليل على صدق ما نقول.
فإذا كانت هذه هي الحقيقة، فلا شك أن أكثر أولئك الذين يتعرضون لأجزاء رسائل النور إنما يخونون الوطن والأمة والسيادة الإسلامية. ويعملون -سواءً بعلم أو بدون علم- لحساب الفوضوية والتطرف.
إن مائة وثلاثين رسالة من أجزاء رسائل النور التي منحت مائة وثلاثين حسنةً وفائدة لهذه البلاد، لا تزيلها الأضرار الموهومة التي يتوهمها أهلُ الغفلة القاصرو النظر الشكاكون، من نقص وقصور في رسالتين أو ثلاث. فالذي يهوّن من شأن تلك الرسائل بهذه الأوهام والشبهات ظلومٌ مبين.
أما تقصيراتي وذنوبي التي تمس شخصي الذي لا أهمية له، فإني أضطر دون رغبة مني إلى القول بأن الذي قضى حياة الاغتراب التي هي أشبه ما تكون بالسجن الانفرادي طوال اثنتين وعشرين سنة، معتكفاً ومنـزوياً عن أحوال الناس. والذي لم يخرج باختياره طوال هذه الفترة إلى مجمع الناس في السوق وفي الجوامع الكبيرة. والذي أجري عليه أشد أنواع الضيق والعنت وخالف أمثاله من المنفيين فلم يراجع الحكومة ولو لمرة واحدة. ولم يقرأ جريدة ولم يستمع إليها، بل لم يكترث بها طوال هذه الفترة.
وخير شاهد على هذا القريبون من أصدقائه وأحبّائه خلال سنتين في قسطموني وخلال سبع سنوات في أماكن أخرى. بل لم يعرف أحداث الحرب العالمية ولا المنتصر من المغلوب، ولم يهتم بالمعاهدة والصلح، بل لم يعرف حتى من هم أطراف الحرب، ولم يتحرك فضوله لمعرفتهم، ولم يسأل عنهم ولم يستمع إلى الراديو القريب منه خلال ثلاث سنوات سوى ثلاث مرات. والذي يواجه الكفر المطلق برسائل النور، ذلك الكفر الذي يفني الحياة الأبدية ويزيد آلام الحياة الدنيا ويجعلها عذاباً في
عذاب. والشاهد الصادق لذلك مائة ألف ممن أنقذوا إيمانهم برسائل النور المترشحة من فيض نور القرآن العظيم والتي تجعل الموت بحق مائة ألف شخص تذكرة تسريح بدلاً من الإعدام الأبدي.
تُرى أي قانون يسمح بالتعرض لهذا الرجل -يقصد نفسه- وجعله في يأس من الحياة، ودفعه إلى البكاء والحزن، مما يدفع مائة ألف من إخوانه إلى البكاء؟ بل أية مصلحة في ذلك؟ ألا يرتكبون باسم العدالة غدراً لا مثيل له ولا نظير؟ أفلا يكون باسم القانون خروجاً عن القانون؟
أما إذا قلتم واحتججتم بتصرفكم هذا بما يحتج به فريق من الموظفين في هذه التحريات وادعيتم كما يدعون، بأنك وطائفة من رسائلك تخالفان نُظمنا ومبادءنا.
فالجواب:
أولاً: ليس من حق نظمكم ومبادئكم المبتدعة هذه أن تدخل معتكفات المنـزوين إطلاقاً.
ثانياً: إن ردّ أمر ما شيء وعدم قبوله قلبياً شيء آخر. وعدم العمل به شيء آخر تماماً. وإن ولاة الأمور إنما ينظرون إلى اليد لا إلى القلب. وهناك في كل قطر وفي كل مكان معارضون شديدون للحكومة لا يتدخلون في شؤون الإدارة والأمن. حتى إنه في عهد سيدنا عمر رضي اللّٰه عنه لم يمُسّ النصارى بشيء مع أنهم كانوا ينكرون الإسلام وقوانين الشريعة.
وعلى هذا واستناداً إلى مبدأ حرية الفكر والوجدان، إذا كان بعض طلاب النور يرفضون نظمكم ومبادئكم، وينتقدونها على أساس علمي نقداً بناءاً، أو إن صدرت منهم أعمال وتصرفات لا تتفق وتلك المبادئ، بما في ذلك إضمار العداء لأولى الأمر، فليس من حق القانون أن يحاسبهم على ذلك بشرط واحد وهو أن لا يتدخلوا في الشؤؤن الإدارية، وألاّ يخلّو بالأمن والنظام.
أما بالنسبة للرسائل، فقد أطلقنا على تلك الرسائل أنها سرية وخاصة، وحظرنا نشرها. حتى إن أحدهم قد أتى لي بنسخة واحدة من الرسالة التي سببت هذه الحادثة لمرة أو مرتين طوال ثماني سنوات في قسطموني، وضيعناها في اليوم نفسه. وأنتم الآن تشهرونها بالقوة والإكراه، وقد اشتهرت حقاً.
ومن المعلوم أنه إذا وجد نقص يوجب الذنب في رسالة ما، فإن تلك الكلمات وحدها تُحذف ويُسمح بالبقية، ولقد وجدوا خمس عشرة كلمة فقط هي مدار النقد من بين مائة رسالة من رسائل النور بعد إجراء تدقيقات عليها دامت أربعة أشهر في محكمة "أسكي شهر". ووجدوا في صفحتين فقط من بين أربعمائة صفحة من مجموعة "ذوالفقار"([1]) موضع نقد بعدم تلاؤمها مع القانون المدني حيث فيهما تفسير الآيات الكريمة الخاصة بميراث المرأة وحجابها، ذلك التفسير الذي كتب قبل ثلاثين سنة.. كل ذلك يثبت أن هدف رسائل النور ليست الدنيا، بل الناس كافة بحاجة إليها. فلا تصادر تلك المجموعة (ذوالفقار) لأجل تلكما الصفحتين. ولترفعْ إذن الصفحتان وتُعَدْ لنا مجموعتنا. نعم من حقنا أن نطالب بإعادتها لنا.
أما إذا خلتم الإلحاد ضرباً من متطلبات السياسة وقلتم بزعمكم كما يزعم البعض: "إنك برسائلك هذه تفسد علينا مدنيتنا وتحول دون تمتعنا بمباهج الحياة وملذاتها"...فأنا أقول: "إنه لا يمكن لأي شعب أن يعيش بلا دين. وهذا دستور عام، معترف به في الدنيا كلها. ولا سيما إن كان هناك كفر مطلق فإنه يسبب لصاحبه عذاباً أشد إيلاماً من عذاب جهنم في الدنيا نفسها. كما أثبت ذلك بأدلة وبراهين لا تقبل المناقشة في رسالة "مرشد الشباب"، تلك الرسالة المطبوعة رسمياً، إذ لو ارتد مسلم -والعياذ باللّٰه- فإنه يقع في الكفر المطلق، ولن يبقى في الكفر المشكوك فيه الذي يمهل الحياة لصاحبه إلى حدٍ ما. ولا يكون كملاحدة الأجانب أيضاً. بل من حيث التمتع بملذات الحياة التي قد يتصورها، لا يكون حظه من ذلك سوى الهبوط إلى مرتبة أدنى من مرتبة الحيوانات بمائة مرة التي لا معنى للماضي والمستقبل لديها. وذلك لأن موت الموجودات السابقة واللاحقة وفراقها الأبدي، يترك في نفسه آلاماً مستمرة متعاقبة بسبب ضلاله.
أما إذا جاء الإيمان ولامس بشاشة القلب وتمكّن فيه، فإن أولئك الأصدقاء الذين لا يحصيهم العد سيحيون فجأةً ويقولون بلسان حالهم: نحن لم نمت.. ولم نفنَ..! وحينئذٍ تنقلب تلك الحالة الجهنمية إلى لذائذ فيحاء وروضة غناء.
فما دامت الحقيقية هي هذه، فإنني أذكّركم بالآتي: لا تبارزوا رسائل النور المستندة إلى القرآن الكريم فإنها لا تُغلب، وإلاّ فسيكون أمر هذه البلاد مؤسفاً إذا ما حاول أحد طمس نورها وسوف تذهب إلى مكان آخر، وتنور أيضاً.
ألا فلتعلموا جيداً بأنه لو كان لي من الرؤوس بعدد ما في رأسي من الشعر، وفُصل كل يوم واحد منها عن جسدي، فلن أحني هذا الرأس الذي نذرته للحقائق القرآنية أمام الزندقة والكفر المطلق، ولن أتخلى بحال من الأحوال عن هذه الخدمة الإيمانية النورية، ولا يسعني التخلي عنها.
لا شك أنه لا يُنظَر إلى نقائص تقع في إفادة معتكف منذ عشرين سنة، ولا يقال إنه خرج عن الصدد، ذلك لأنه يدافع عن رسائل النور، إذ ما دامت محكمة "أسكي شهر" لم تجد غير مادة أو مادتين لرسالة أو رسالتين من بين مائة من الرسائل السرية الخاصة والعلنية العامة، أثناء إجراء التدقيق عليها خلال أربعة أشهر، علماً أن المادتين توجبان عقاباً خفيفاً، حتى إن المحكمة حكمت بالسجن لمدة ستة أشهر على خمسة عشر من المتهمين البالغ عددهم مائة وعشرين شخصاً، ونحن بدورنا قضينا هذا العقاب..
وما دامت جميع أجزاء رسائل النور قد أصبحت في متناول المسؤولين -قبل سنوات- وأعيدت إلى أصحابها بعد إجراء التدقيق عليها خلال شهور عدة..
وما دامت لم تظهر أية أمارة تمس العدلية والأمن طوال ثماني سنوات في "قسطموني" رغم التحريات الدقيقة..
وما دام قد تحقق لدى هيئة التحريات الأخيرة في "قسطموني" -قبل سنوات- أن بعض الرسائل وجدت تحت أكوام الحطب، مما يومئ إلى عدم نشرها بل فقدانها..
وما دام مدير الشرطة في قسطموني ومسؤول العدلية قد وعداني وعداً قاطعاً بإعادة الكتب المخفية لي وقبل استلامي لها ساقوني في اليوم التالي بمجرد مجيء أمر التوقيف من إسبارطة..
ومادامت محكمتا "دنيزلي" و"أنقرة" قد برأتا ساحتنا أعادتا إلينا جميع الرسائل..
فلا بد وبناء على هذه الحقائق الست بمقتضى واجب محكمة "دنيزلي" ومدعيها العام كما هو من واجب عدلية "أفيون" ومدعيها العام أخذُ جميع حقوقي المهمة بنظر الاعتبار. فأنا على أمل أن المدعي العام الذي يدافع عن الحقوق العامة سيدافع عن حقوقي الشخصية التي أصبحت بمثابة الحقوق العامة لمناسبة رسائل النور. بل أنتظر ذلك منه.
إن سعيداً الجديد الذي انسحب من ميدان الحياة الاجتماعية منذ اثنتين وعشرين سنة، ويجهل القوانين الحاضرة وأصول الدفاع الحالية، والتي قدم مائة صحيفة من الدفاع المبرهن ببراهين لا تجرح والذي قدّمها سابقاً إلى محكمتي "أسكي شهر ودنيزلي" وقاسى جزاء تقصيراته إلى ذلك الوقت. ومن بعده في قسطموني وفي أميرداغ حيث قضى حياته فيما يشبه السجن المنفرد وتحت الرقابة الدائمة.. أقول: إن هذا السعيد الجديد وأمره هذا، يؤثر جانب الصمت ويدع الكلام لسعيد القديم.
يقول سعيد القديم: لما كان سعيد الجديد قد أعرض عن الدنيا ولا يتكلم مع أهلها ولا يجد مبرراً للدفاع إلاّ إذا اضطر إلى ذلك. إلاّ أن المسألة تمس الكثيرين من الأبرياء من الفلاحين و أصحاب الأعمال حيث يعتقلون بمناسبة علاقتهم الواهية معنا، ويصيب أعمالهم الكساد لعجزهم عن تدارك حاجات أهليهم وأطفالهم في موسم العمل هذا.. إن هذا الأمر قد مسّ وجداني مساً قوياً وأبكاني من الأعماق.
لذا أقسم باللّٰه العظيم أنه لو كان باستطاعتي أن آخذ على عاتقي جميع مشاق أولئك لأخذتها، فالذنب كله يعود لي -إن كان هناك ذنب- وهم أبرياء أصلاً. فلأجل هذه الحالة المؤلمة، على الرغم من سكوت "سعيد الجديد" أقول:
لما كان "سعيد الجديد" يجيب عن مائة من الأسئلة التافهة للمدَّعين العامين -لولايات "إسبارطة" و "دنيزلي" و "آفيون"- فأنا كذلك من حقي أن أسأل ثلاثة أسئلة من وزير الداخلية التي يرأُسها "شكري قايا"، وأسأل من وزارة العدل الحاضرة. والأسئلة هي:
السؤال الأول:
بأي قانون يجري توقيفي وتوقيف مائة وعشرين شخصاً معي، جراء مشادّة كلامية لم تفض إلى حادثة، جرت بين شخص اعتيادي من "أكريدر" وهو ليس من طلاب النور وبين عريف شرطة (جاويش) لمجرد أن وجد بحوزته أحد مكاتيبي الاعتيادية، ومن ثم إجراء التحقيق عليه من قبل المحكمة في أربعة أشهر، ومن بعد ذلك إبراء ساحةَ الجميع سوى خمسة عشر شخصاً من الضعفاء المساكين، مع إلحاق ضرر مالي لأكثر من مائة شخص بأكثر من ألف ليرة؟.
تُرى بأي أصل من أصول القانون يمكن جعل الإمكانات والاحتمالات بدلاً عن الوقوعات؟ وعلى وفق أيّ دستور يتم إضرار سبعين شخصاً من "دنيزلي" ضرراً مالياً يقدّر بألوف الليرات بعد أن كسبوا البراءة؟
السؤال الثاني:
الدستور الإلهي هو: ﴿وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى﴾ (الأنعام :164) وإن وجود رسالة صغيرة قد حظرنا نشرَها، ولم أحصل عليها خلال ثماني سنوات سوى مرةً أو مرتين، وقد كُتب أصلُها قبل خمس وعشرين سنة وهي التي تنقذ الإيمان من الشبهات في نقاط مهمة فيها، وتُنجي المرءَ من الوقوع في إنكار الأحاديث المتشابهة.. أقول: إنَّ حصول هذه الرسالة الصغيرة لدى رجل لا نعرفه وفي مكان بعيد عنا، ومنحها معنىً مغايراً لها، ووجدان مكتوب في "كوتاهية" و "باليكسير" ينمّ عن تعرض طفيف، ثم توقيفنا جراء ذلك في شهر رمضان المبارك حينها وفي هذا الجو القارس حالياً، مع كثير من الفلاحين والكسبة الأبرياء، وتوقيف شخص لمجرد وجود مكتوب اعتيادي قديم لنا بحوزته، أو أخذني في جولة بسيارته، أو أبدى علاقةً صداقة معنا، أو لقراءته أحد كتبي، وإلحاق ضرر مادي ومعنوي بهم وبالوطن وبالأمة بقدر أُلوف الليرات استناداً إلى شبهات تافهة.. أتساءل: أيُّ قانون من قوانين العدالة يُجري كلَّ هذا؟ وحسب أية مادة قانونية تنفذ الأمور؟ إننا نطالب بمعرفة تلك القوانين لئلا نخطئ في المسير!
نعم، إنَّ حقيقةَ أحد الأسباب التي أدت إلى اعتقالنا في كل من "دنيزلي" و "آفيون" هي "الشعاعُ الخامس". علماً أن هذه الرسالة كُتب أصلُها قبل فترة "دار الحكمة الإسلامية" بكثير، بنيّة إنقاذ إيمان العوام تجاه المنكرين لطائفة من أحاديث نبوية شريفة لجهلهم بمراميها وتأويلاتها، حتى قالوا: لا يطيب لها العقلُ. ولنفرض فرضاً محالاً أن هذه الرسالة متوجهةٌ إلى الدنيا والسياسة، وكُتبت في الوقت الحاضر. ولكن لأنها رسالة سرية، ولم يُعثر عليها عندنا لدى إجراء التحريات، وإن ما أخبرت به من أمور مستقبلية هي صحيحةٌ، وأنها تزيل الشبهات الواردة على الإيمان، ولا تمسّ الأمن والنظام ولا تتعرض لأشخاص معينين، بل تبيّن حقيقة علمية بياناً كلياً.. أقول: لو فرضنا هذا فرضاً محالاً، فلا يشكّل أيضاً ذنباً. وذلك لأنها أخذت بالسرية التامة للحيلولة دون حدوث مناقشة حولها. قبل أن تنشرها وتُعلن عنها المحاكم.
ثم إن ردَّ شيء ما ورفضَه يخالف تماماً عدم قبوله قبولاً علمياً ويباين كلياً عدم العمل به. فتلك الرسالة لا تقبل علمياً النظامَ الذي سيأتي في المستقبل القريب، بل ترفضه، وهذا لا يشكّل ذنباً. ولا نجد احتمال وجود ذنب بمثل هذا في قوانين العدالة في العالم كله.
حاصل الكلام: إنَّ الكفر المطلق يبيد الحياةَ الأبدية ويحوّل الحياة الدنيوية إلى سمّ زعاف ويمحي لذتَها ومتعَها.. فـ"رسائل النور" منذ ثلاثين سنة تقطع دابرَ هذا الكفر. وقد حازت التوفيقَ في دحرها المفهومَ الكفري الرهيب الذي يحمله الماديون الطبيعيون، وتثبت ببراهين ساطعة دساتيرَ سعادة هذه الأمة في حياتَيها، وتستند إلى حقيقة القرآن السامية. فرسائل هذا شأنُها لو كانت لها ألف نقص ونقص -وليست مسألة أو مسألتين- تترجح حسناتُها التي تفوق الأُلوف على نقائصها بل تُذهبها. نحن ندّعي هذا ومستعدون للإثبات.
السؤال الثالث:
من المعلوم أنه لو شوهدت خمسُ كلمات غير مستساغة قانوناً في مكتوب يحمل عشرين كلمة فإن تلك الكلمات الخمس تُحذف ويُسمح للأُخريات. ولقد تُوهّم في خمس عشرة كلمة وهماً ظاهرياً على أنها تحمل ذنباً، وذلك في محكمة
"أسكي شهر" بعد إجراء التدقيق عليها لمدة أربعة أشهر. ولم تجد هيئةُ الوكلاء في مجموعة "ذوالفقار" البالغة أربعمائة صفحة ما يخالف القانون الحالي سوى صفحتين فقط، لا تلائمان القوانين الحاضرة. علماً أن الصفحتين لم تتعرضا إلاّ لتفسير آيتين كريمتين([2]) كُتب قبل ثلاثين سنة، وأن خبراء "دنيزلي" و "أنقرة" لم يجدوا إلاّ خمسة عشر سهواً في "رسائل النور"، التي أصبحت وسيلةً لإصلاح مئات الألوف من الناس إلى الآن، وحققت للبلاد والأمة ألفاً من المنافع..
ثم إنَّ أخذ عائلة "جالشقان" إلى التوقيف في موسم العمل هذا وفي عزّ الشتاء القارس مع أي مبدأ يتلاءم من مبادئ الجمهورية؟ وأيّ قانون من قوانينها يجيزه؟ علماً بأن كل ما قامت به هذه العائلةُ هي أنها قدمت خدمات بسيطة للرسائل واستنسخوها لإنقاذ إيمانهم وعاونوني في غربتي في "أميرداغ" إشفاقاً على شيخوختي وابتغاءً لوجه اللّٰه.
وما دامت مبادئ الجمهورية لا تتعرض للملاحدة، وفقاً لمبدأ حرية الضمير والوجدان، فمن الأَولى والأحق أن لا تتعرض لأولئك الذين لا علاقة لهم بالدنيا، ولا يجادلون مع أهلها، ويعملون لآخرتهم وإيمانهم ووطنهم بشكل نافع. كما لا ينبغي ولا يحقّ لأرباب السياسة الذين بيدهم السلطة في آسيا التي تشرفت بالأنبياء أن يحملوا الشعب على التخلي عن الصلاح والتقوى اللذين هما بمثابة الغذاء والعلاج من الحاجات الضرورية لهذه الأمة منذ ألف عام.
إنه من مقتضى الإنسانية الصفحُ عن تقصيرات ترد ضمن أسئلة مَن قضى عشرين سنة من عمره معتكفاً منـزوياً عن الناس تلك التي يسألها بعقل "سعيد القديم" قبل عشرين سنة.
إنني أذكّركم بالآتي لمنفعة الأمة والأمن وكواجب من واجباتي الوطنية:
إنَّ اعتقال أو محاولة الإساءة إلى أولئك الذين لهم علاقة واهية بنا و بـ"رسائل النور"، قد يدفع بالكثيرين ممّن لهم منافع إيجابية للوطن والنظام أن يتحولوا إلى أناس معادين للإدارة، ويفسح المجالَ للفوضى والإرهاب.
نعم، إنَّ عدد الذين أنقذوا إيمانَهم بـ"رسائل النور"، واندفع بها خطرَهم عن المجتمع، بل أصبحوا أعضاء نافعين إيجابيين يزيد كثيراً على مائة ألف شخص. وهم يشغلون مناصب رفيعة في كل دائرة من دوائر الحكومة الجمهورية، ويمثلون مختلف طبقات الناس، وهم يعملون بتفانٍ وإخلاص كاملين وعلى أتمّ وجه من الصدق والنفع والاستقامة.. فالإنصاف يقتضي إذن حمايةَ هؤلاء ومساندتهم لا محاولةَ الإساءة إليهم.
إنَّ فريقاً من الموظفين الرسميين الذين ضربوا صفحاً عن الإنصات إلى شكوانا ولم يسمحوا لنا بالكلام ويتذرعون بمختلف الحجج والادعاءات الزائفة في مضايقتنا لَيحملوننا على الاعتقاد، اعتقاداً قوياً، بأنهم بتصرفهم هذا إنما يفسحون المجال للفوضى في البلاد.
ثم إني أقول باسم مصلحة الحكومة:
ما دامت محكمَتا "دنيزلي وأنقرة" لم يتعرضا "للشعاع الخامس" بعد إجراء التدقيق عليه وأُعيد إلينا. فمن الضروري للإدارة ألاّ تُقحمه في أمور رسمية ثانية فتجعل منه موضع نقاش.
فكما أننا قد أخفينا تلك الرسالة قبل أن تحصل عليها المحكمةُ وتُعلن عنها. فعلى محكمة "آفيون" ألاّ تجعل منها مدار سؤال وجواب. لأن تلك الرسالة قويّة، لا تردّ. وقد أخبرت عن حوادثَ قبل وقوعها، ووقعت كما أخبرتْ. فضلاً عن أنها لا تستهدف أمور الدنيا. وكل ما في الأمر أن أحدَ معانيها الكثيرة توافق رجلاً مات وانتهى أمره.([3]) فلقد حملني وجداني أن أذكّركم لمصلحة البلاد والأمة ولأجل صيانة الأمن والنظام والإدارة بالآتي:
لا يدفعنّكم التعصب لذلك الرجل الميت إلى إقحام ذلك الخبر الغيبي والمعنى الوارد في تلك الرسالة في أمور رسمية فإنها تفسح المجالَ لزيادة الإعلان عنها.
* * *
إلى السادة رئيس محكمة آفيون والمدعي العام والأعضاء.
أُقدّم لكم هنا نصَّ الدفاع الذي كنت قد قدمتُه إلى المراجع العدلية في "دنيزلي" والذي اشتمل على تسعة أُسس.
إنني -كما تعلمون- شخص قد ترك الحياة الاجتماعية ولاسيما الحياة الرسمية والسياسية التي لها نواحٍ دقيقة. لذا فإنني لا أعلم ما يجب عليّ عملَه حيالها، ولا أفكّر في ذلك، إذ إن التفكير فيه يؤلمني ألماً شديداً، ولكني مضطر إلى أن أَدرج دفاعي هذا لأنني تعرضت في محكمة سابقة إلى أسئلة متكررة عديدة لا داعي لها من شخص لا يتصف بالإنصاف، وهذا الدفاع (الذي يعدّ بمثابة خاتمة للأجوبة التي قدمتها آنذاك) قد يخرج أحياناً عن الصدد، وقد يكون فيه تكرارٌ لا لزوم له، وقد يخلو من النظام والاتساق، وقد يحوي على عبارات عنيفة يمكن أن تُستغل ضدي، أو جملاً تخالف بعض القوانين الجديدة التي لا أعرفها، ولكن مادام هذا الدفاع يتوجّه نحو الحقيقة ويستهدفها لذا يمكن التجاوز عن جوانب القصور هذه من أجل الحقيقة. إن دفاعي كان يستند إلى تسعة أسس:
الأول:
مادامت حكومة الجمهورية لا تتعرض لأهل الإلحاد ولأهل السفاهة وذلك تحت شعار حرية الوجدان السارية في الجمهورية، لذا فإن عليها -من باب أَولى- ألاّ تتعرض لأهل الدين ولأهل التقوى.. ومادامت أيةُ أمة لا تستطيع العيشَ دون دين، خاصة إذا أخذنا بنظر الاعتبار أن أمم قارة آسيا لا تشبه أمم أوروبا من ناحية الدين، وأن الإسلام لا يشبه النصرانية من زاوية الحياة الشخصية والحياة الأخروية. فالمسلم الملحد لا يشبه الملاحدة الآخرين. لذا أصبح هذا الدين حاجةً فطرية في أعماق هذه الأمة التي نوّرت أرجاء الدنيا منذ ألف عام بدينها وبدفاعها البطولي عن تمسكها بهذا الدين تجاه جميع غارات العالم وهجومه عليه. وليس هناك أي تقدم وأية مدنية تستطيع الحلول محلَّ تعلّم الصلاح والدين وحقائق الإيمان في نفس هذه الأمة.. لا تستطيع أن تحل محله ولا أن تنسيها إياه: إذن فإن على أية حكومة تحكم أمة هذا
الوطن وتأخذ العدالة والأمن بنظر الاعتبار ألاّ تتعرض لـ"رسائل النور"، ويجب ألاّ يسوقها أحد إلى ذلك.
الأساس الثاني:
هناك فرق كبير بين أن ترفض وتردَّ شيئاً ما وبين أن لا تعمل بذلك الشيء. ففي كل حكومة هناك جماعةٌ معارضة لها بشدة، فقد يكون هناك جماعة مسلمون تحت حكم مجوسي، وقد يكون هناك يهود أو نصارى تحت حكم إسلامي كما في عهد عمر بن الخطاب رضي اللّٰه عنه، ومع ذلك تصان الحرية الشخصية لمن لا يخلّ بالأمن ولا يتعرض لإدارة الحكومة، فالحكومات يهمها الظاهر ولا تنقّب ما في داخل القلوب. علماً بأن أي شخص يروم التعرض للأمن وللسياسة ولإدارة الدولة لابد أن يطالع الجرائد ويتتبع ما يجري في الدنيا من أحداث لكي يحيط علماً بالتيارات وبالأوضاع المساعدة لها، لكي لا يخطأ في تصرفه ولا تزلّ قدمُه. أما "رسائل النور" فقد منعت طلابَها عن هذا منعاً باتاً، حتى إن أصدقائي المقربين يعلمون بأنني ومنذ خمس وعشرين سنة تركت الجرائد ولم أسأل ولم أستفسر عن أية جريدة ولم يكن لدي فضول أو رغبة فيها فضلا عن قراءتها. وأما الآن فلا أعرف (ومنذ عشر سنوات) أي شيء عن أخبار العالم وأوضاعها سوى عن هزيمة الألمان وانتصار البلاشفة.. إلى هذه الدرجة منعتني "رسائل النور" وأبعدتني عن الحياة الاجتماعية. إذن فمن المفروض ومن الواجب أن تمنع حكمةُ الحكومة وقانونُ السياسة ودستورُ العدالة التعرضَ لي أو لإخواني من أمثالي، وكل من يتعرض لا يفعل ذلك إلاّ تحت تأثير أوهامه أو أحقاده أو عناده.
الأساس الثالث:
لقد اضطُررت إلى تقديم الشرح الطويل التالي جواباً على اعتراضات خاطئة لا معنى لها ولا ضرورة لها، التي قدّمها المدعي العام في المحكمة السابقة حول ما جاء في "الشعاع الخامس". ولم يكن هذا المدّعي يستند إلى مادة في القانون، بل إلى حُبّ وتعصب لشخص ميت.
أولاً: لقد كنا نحتفظ بـ"الشعاع الخامس" بشكل سري قبل أن تقع هذه الرسالة في يد الحكومة، ورغم التحريات التي أُجريت لم تعثر الحكومةُ عندي على نسخة
منها. ولم تكن غاية هذه الرسالة إلاّ إنقاذ إيمان العوام وإزالة شبههم وإنقاذهم من ردِّ وإنكار بعض الأحاديث المتشابهة. ولم تلتفت هذه الرسالة إلى شؤون الدنيا إلاّ بالدرجة الثالثة أو الرابعة وكشيء عرضي. علماً بأن ما أخبرَته كان صحيحاً ولم تتعرض لأهل السياسة ولأهل الدنيا ولم تخاصمهم أو تبارزهم، بل اكتفت بسَوق الأخبار دون أن تعيّن الأشخاص أو أن تسمي المسميات، بل تبين حقيقةَ حديث نبوي بشكل كلي وعام. ولكنهم قاموا بتطبيق هذه الحقيقة على شخص مدهش عاش في هذا العصر فانطبقت عليه تماماً، لذا فقد أظهروا اعتراضهم لأنهم حسبوا أن هذه الرسالة أُلّفت في هذه السنوات، علماً بأن تاريخ هذه الرسالة أقدم من تاريخ انتسابي إلى "دار الحكمة الإسلامية" ولكنها نسّقت فيما بعد ودخلت ضمن "رسائل النور"، وإليكم التفاصيل:
قدمتُ إلى إسطنبول قبل أربعين سنة، أي قبل عام واحد فقط من إعلان الحرية،([4]) وكان القائد الياباني العام آنذاك قد وجّه إلى علماء الإسلام بعض الأسئلة الدينية، فوجه علماء إسطنبول هذه الأسئلة إليّ كما طرحوا عليّ أسئلة أخرى عديدة بهذه المناسبة، ومن ضمن هذه الأسئلة ما ورد في أحد الأحاديث الشريفة أنه "يصبح شخص رهيب في آخر الزمان وقد كتب على جبينه: هذا كافر" فقلت: "سيتولى أمر هذه الأمة شخص عجيب، ويصبح وقد لبس قبعة على رأسه، ويُكره الناس على لبسها".
فسألوني بعد هذا الجواب: "ألا يكون من يلبسها آنذاك كافراً؟"
قلت: "عندما تستقر القبعة على الرأس ستقول: لا تسجد، ولكن الإيمان الموجود في الرأس سيرغم تلك القبعة على السجود إن شاء اللّٰه، وسيدخلها الإسلام.
ثم قالوا: "وسيشرب هذا الشخص ماءً وستنثقب يدُه، وعند ذلك سيعلم الجميع أنه "السفياني".
فأجبتهم: "هناك مَثل يُضرب للمسرف فيُقال عنه: أن يدَه مثقوبة وكفَّه منخرقةٌ، أي أن المال لا يبقى في يده، بل يسيل ويضيع".
وهكذا فإن ذلك الشخص المدهش والعجيب سيُبتلى بالإدمان على الخمر (وهو سائل) وسيمرض جراء هذا الإدمان مما سيقوده إلى اسرافات لا حدود لها، وسيعوّد غيرَه أيضاً على الإسراف.
فسأل أحدهم: عندما يموت هذا الشخص سيهتف الشيطان في منطقة "ديكيلي طاش" في إستانبول للدنيا أن فلاناً قد مات.
فقلت له آنذاك: سيُعلَن هذا النبأ عن طريق البرقيات.
ولكني عندما سمعت فيما بعد باختراع الراديو علمتُ أن جوابي القديم لم يكن تاماً.. وقلت بعد ثماني سنوات عندما كنت في دار الحكمة:
سيتم إعلان النبأ إلى العالم أجمع بوساطة الراديو.
ثم سألوا أسئلة عديدة حول سد ذي القرنين ويأجوج ومأجوج وحول دابة الأرض والدجال وعن نزول عيسى عليه السلام، فأجبت عنها، حتى إن قسماً من هذه الأجوبة أدرج في بعض مؤلفاتي القديمة.
بعد مدة أرسل "مصطفى كمال" رسالتين بالشفرة إلى صديقي "تحسين بك" الذي كان آنذاك والياً على مدينة "وان" يستدعيني إلى "أنقرة" لكي يكافئني على قيامي بنشر رسالة "الخطوات الست"([5]) فذهبتُ إليها. فعرض عليّ -مصطفى كمال- تعييني في وظيفة الواعظ العام في الولايات الشرقية براتب قدره ثلاثمائة ليرة في محل الشيخ السنوسي(*) وذلك لعدم معرفة الشيخ اللغة الكردية. وكذلك تعييني نائباً في مجلس المبعوثان
"المجلس النيابي" وفي رئاسة الشؤون الدينية مع عضوية في "دار الحكمة الإسلامية"، وكان يريد بذلك إرضائي وتعويضي عن وظيفتي السابقة. وكان السلطان رشاد قد خصص تسعة آلاف ليرة ذهبية لإنشاء مدرسة الزهراء - التي كنت قد وضعت أسسها - ودار الفنون في مدينة «وان» فقرر مجلس المبعوثان زيادة هذا المبلغ إلى مائة وخمسين ألف ليرة ورقية حيث وقّع ثلاث وستون ومائة نائباً من بين أعضاء المجلس البالغ عددهم مائتي نائب بالموافقة على ذلك.
ولكني عندما لاحظت أن قسماً مما جاء من الأخبار في المتن الأصلي لرسالة "الشعاع الخامس" ينطبق على شخص شاهدته هناك، فقد اضطررت إلى ترك تلك الوظائف المهمة، إذ اقتنعت بأن من المستحيل التفاهم مع هذا الشخص أو التعامل معه أو الوقوف أمامه، فنبذتُ أمور الدنيا وأمور السياسة والحياة الاجتماعية، وحصرت وقتي في سبيل إنقاذ الإيمان فقط. ولكن بعض الموظفين الطاغين والبعيدين عن الإنصاف استكتبوني رسالتين أو ثلاثاً من الرسائل المتوجهة إلى الدنيا ثم قمت -نـزولاً عند رغبة بعض الذوات- بجمع وتنظيم أصول تلك الرسائل القديمة بمناسبة الأسئلة المتعلقة بالأحاديث النبوية المتشابهة حول علامات يوم القيامة، حيث أخذت هذه الرسالة اسم "الشعاع الخامس" من "رسائل النور". وإن أرقام "رسائل النور" ليست مطّردة مع ترتيب أو تسلسل تأليفها، فـ"المكتوب الثالث والثلاثون" مثلاً أُلّف قبل "المكتوب الأول"، كما إنَّ أصل "الشعاع الخامس" هذا مع بعض أجزاء "رسائل النور" تم تأليفُها قبل "رسائل النور". على أية حال فإن تعصب المدعي العام لمصطفى كمال وصداقته له -وهو يشغل مثل هذا المقام- أدّى إلى أسئلة واعتراضات غير قانونية وغير ضرورية وخاطئة مما ساقني إلى تقديم هذه الإيضاحات الخارجة عن الصدد، وأنا أبين هنا أحد أقواله كمثال على كلامه المشوب بالمزاج الشخصي الخارج عن القانون.
قال: ألم تندم من قلبك على ما أوردتَه في "الشعاع الخامس"؟ ذلك لأنك قمت بإهانته وتحقيره عندما قلت عنه: إنه أصبح مثل قربة الماء من كثرة شربه الخمرَ والشراب؟
وأنا أقول جواباً على تعصبه الذميم والخاطئ تماماً الناشئ من صداقته له:
لا يمكن إسناد شرف انتصار الجيش البطل إليه وحده، ولكن تكون له حصة معينة فقط من هذا الانتصار. فمِن الظلم ومن الخروج على العدالة بشكل صارخ إعطاء غنائم الجيش وأمواله وأرزاقه إلى قائد واحد.
وكما قام ذلك المدعي العام البعيد عن الإنصاف باتهامي لكوني لا أحب ذلك الشخص ذا العيوب الكثيرة، إلى درجة أنه وضعني موضع الخائن للوطن، فإنني أتهمه أيضاً بعدم حبه للجيش، ذلك لأنه عندما يعطي إلى صديقه ذاك كل الشرف وكل المغانم المعنوية فإنه يكون بذلك قد جرد الجيشَ من الشرف، بينما الحقيقة هي وجوب توزيع الأمور الإيجابية والحسنات والأفضال على الجماعة وعلى الجيش، أما الأمور السلبية والتقصيرات والتخريبات فيجب توجيهها إلى القيادة وإلى الرأس المدبر وإلى الممسك بزمام الأمور. ذلك لأن وجود أي شئ لا يتحقق إلا بتحقق جميع شرائطه وأركان وجوده، والقائد هنا شرط واحد فقط من هذه الشروط. أما انتفاء أي شيء وفساده فيكفي له عدم وجود شرط واحد أو فساد ركن واحد فقط. لذا يمكن عزو ذلك الفساد إلى الرأس المدبر وإلى الرئيس لأن الحسنات والأمور الجيدة تكون عادة إيجابية ووجودية. فلا يمكن حصرها على من هم في رأس الدولة. بينما السيئات والتقصيرات عدمية وتخريبية ويكون الرؤساء هم المسؤولين عنها. ومادام هذا هو الحق وهو الحقيقة، فكيف يمكن أن يقال لرئيس عشيرة قامت بفتوحات: "أحسنت يا حسن آغا"؟ وإذا غُلبت تلك العشيرة، وجّهت إلى أفرادها الإهانة والتحقير؟.. إن مثل هذا التصرف يكون مجانباً للحق تماماً ومعاكساً له.
وهكذا فإن ذلك المدعي العام الذي قام باتهامي قد جانب الحق والحقيقة وجانب الصواب، ومع ذلك فهو بزعمه قد حكم باسم العدالة.
وعلى مثال خطأ هذا الشخص فقد جاءني قبيل الحرب العالمية السابقة في مدينة "وان" بعضُ الأشخاص المتدينين والمتقين وقالوا لي:
"هناك بعض القواد تصدر منهم أعمالٌ ضد الدين. فاشترك معنا لأننا سنعلن العصيان عليهم".
قلت لهم: "إن تلك الأعمال اللادينية وتلك السيئات تعود إلى أمثال أولئك القواد. ولا يمكن أن نحمّل الجيش مسؤوليتها، ففي هذا الجيش العثماني قد يوجد مائة ألفٍ من أولياء اللّٰه. وأنا لا أستطيع أن أَمتشق سيفي ضد هذا الجيش، لذا لا أستطيع أن أشترك معكم". فتركني هؤلاء، وشهروا أسلحتهم، وكانت النتيجة حدوث واقعة "بتليس"([6]) التي لم تحقق أي هدف. وبعد قليل اندلعت الحرب العالمية، واشترك ذلك الجيش في تلك الحرب تحت راية الدين ودخل حومة الجهاد، فارتقت منه مئات الآلاف من الشهداء إلى مرتبة الأولياء، فقد وقّعوا بدمائهم على شهادات الولاية. وكان هذا برهاناً وتصديقاً على صحة سلوكي وصواب تصرفي في تلك الدعوى.
على أية حال.. لقد اضطررت إلى الإطالة قليلاً، وقد ساقتني إليها تصرفاتُ المدعي العام العجيبة والمتسمة بالإهانة تجاهي وتجاه "رسائل النور"، مع أن من الواجب عند مَنْ يتكلم باسم العدالة ألاّ يسمح لأية عواطف شخصية ولا لأية مؤثرات خارجية بالتأثير عليه وجرّه إلى الخطأ وإن كان جزئياً أو إلى عدم الحياد وإلى الحكم بانفعالات شخصية ونفسية.
الأساس الرابع:
بعد أن قامت محكمة "أسكي شهر" بتدقيق مئات الرسائل والخطابات طوال أربعة أشهر، أعطت حكماً بالسجن ستة أشهر لخمسة عشر شخصاً فقط من بين مائة وعشرين متهماً. أما بالنسبة لي فقد حكم عليّ بالسجن سنة واحدة. فمع أنهم دققوا مائة رسالةٍ (من رسائلي) فلم يجدوا فيها شيئاً سوى خمسَ عشرة كلمة في رسالة أو في رسالتين. وصدر القرار ببراءتي في مسائل تشكيل الطرق الصوفية والجمعيات السياسية وفي موضوع القبعة، وقد قضينا مدة الحكم في السجن. وبعد ذلك وفي "قسطموني" لم يجدوا شيئاً لإدانتي مع أنهم تحروا وبحثوا وفتشوا كثيراً ولعدة مرات. وقبل سنوات وضعت الحكومة يدَها في "إسبارطة" على جميع أجزاء "رسائل
النور" بلا استثناء، العلنية منها والسرية الخاصة، وبعد تدقيق هذه الرسائل لمدة ثلاثة أشهر أعادَتها إلى أصحابها. وبعد عدة سنوات بقيت جميعُ الرسائل تحت تدقيق محكمة "دنيزلي" ومحكمة "أنقرة" لمدة سنتين، ثم أُعيدت جميعها إلينا. إذن فما دامت هذه هي الحقيقة فإن القيام باتهامي واتهام "رسائل النور" و "طلبة رسائل النور" من قِبل أناس يتكلمون باسم القانون ولكنهم يتصرفون بحقد ويلوموننا تحت تأثير أهواء ومشاعر شخصية وبشكل غير قانوني، لا يعني اتهامنا فقط بل يعني قبل ذلك اتهام محكمة "أسكي شهر" وكذلك اتهام محكمة "قسطموني" واتهام موظفي الأمن في تلك الولاية، ويعني أيضاً اتهام جهاز العدالة في "إسبارطة" وكذلك محكمة "دنيزلي" ومحكمة الجنايات الكبرى في "أنقرة"، أي أنهم يقومون بإشراك كل هذه المؤسسات معنا في الذنب (إن كان لنا أي ذنب). لأنه لو كان لنا أي ذنب فمعنى ذلك أن الجهات الأمنية في تلك الولايات الثلاثة أو الأربعة لم تستطع أن ترى شيئاً رغم مراقبتها الدقيقة، أو أنها رأت ولكنها أغمضت عيونها، كما إن تلك المحكمتين لم تستطيعا معرفة ذلك مع قيامهما بالفحص الدقيق طوال سنتين أو أنهما لم يُقرأآ باهتمام. إذن فإن هذه الجهات تكون هي المتهَمة أكثر مما نكون نحن. هذا علماً بأنه لو كانت لدينا رغبةٌ في التوجه إلى الأمور الدنيوية، لما كان الصوت الصادر منا مثل طنين الذباب، بل لكان صوتاً هادراً كدويّ المدافع.
أجل، إن رجلاً دافع بكل شدة وصلابة دفاعاً مؤثراً ودون خوف أو وجل أمام المحكمة العرفية العسكرية التي انعقدت بسبب أحداث 31 مارت،([7]) وفي مجلس المبعوثان دون أن يبالي بغضب مصطفى كمال وحدّته.. كيف يتهم هذا الشخص بأنه يدير سراً خلال ثماني عشرة سنة ودون أن يشعر به أحد مؤامرات سياسية؟ إن من يقوم بمثل هذا الاتهام لا شك أنه شخص مغرض. وكما أمّلنا من المدعي العام لمحكمة "دنيزلي" فإننا نأمل من المدعي العام لمحكمة "آفيون" أن ينقذنا من اعتراضات هؤلاء المغرضين ومن أحقادهم، وأن يُظهر وجهَ العدالة وحقيقتَها.
الأساس الخامس:
إن من الدساتير الأساسية لطلبة النور هو عدمُ التعرض قدر الإمكان للسياسة ولأمور الحكومة وشؤونها وإجراءاتها، ذلك لأن القيام بخدمة القرآن بإخلاص يكفيهم ويُغنيهم عن أي شيء آخر. ثم إن الداخلين الآن ساحةَ السياسة مع وجود تيارات قوية سائدة لا يستطيع أحد منهم أن يحافظ على استقلاليته وعلى إخلاصه، لأنَّ تياراً من هذه التيارات سيجرّه إليه ويجعله يعمل لحسابه ويستغله في مقاصده الدنيوية، مما يؤدي إلى الإخلال بقدسية عمله وخدمته. ثم إن أشد أنواع الظلم مع أشد أنواع الاستبداد قد أصبحا دستوراً وقانوناً من قوانين الصراع والنـزاع المادي في هذا العصر، وهذا يعني أن كثيراً من الأبرياء يذهبون ضحيةَ خطأِ فرد واحد، أو يقع هذا الفردُ مغلوباً على أمره. عند ذلك يتوهم من هَجر دينه من أجل دنياه أو جعل دينَه وسيلةً لدنياه أن حقائق القرآن المقدسة -التي لا ينبغي أن تُستغل لأي شيء- قد تم استغلالُها في ساحة الدعاية السياسية. ثم إن أفرادَ الأمة بجميع طبقاتها.. المعارضين منهم أو المؤيدين، الموظفين منهم أو العامة.. جميعَهم لهم حصة في تلك الحقائق القرآنية وهم بحاجة إليها، لذا كان على طلبة النور أن يبقوا محايدين تماماً، وكان من الضروري لهم عدم الخوض في السياسة وفي الصراع المادي وعدم الاشتراك فيه.
الأساس السادس:
لا يجوز التهجم على رسائل النور بحجة وجود قصور في شخصي أو في بعض إخواني، ذلك لأن رسائل النور مرتبطة بالقرآن مباشرة، والقران مرتبط بالعرش الأعظم. إذن فمن ذا يجرُؤ أن يمد يده إلى هناك، وأن يحل تلك الحبال القوية؟ ثم إن رسائل النور لا يمكن أن تكون مسؤولة عن عيوبنا وعن قصورنا الشخصي، لا يمكن هذا ولا يجوز أن يكون أبداً، حيث إن بركتها المادية والمعنوية وخدماتها الجليلة لهذه البلاد قد تحققت بإشارات ثلاث وثلاثين آية قرآنية وبثلاث كرامات غيبية للإمام علي رضى اللّٰه عنه وبالإخبار الغيبي للشيخ الكيلاني قدس سره. وإلا فإن هذا البلد سيواجه خسائر وأضراراً مادية ومعنوية لا يمكن تلافيها.
وسيرتد كيدُ الأعداء الخفيين لرسائل النور من الملاحدة إلى نحورهم وستفشل بإذن اللّٰه الخططُ الشيطانية التي يحوكونها والحملات التي يشنونها عليها. ذلك لأن طلبة النور ليسوا مثل الآخرين، فبعون اللّٰه تعالى وعنايته لا يمكن تشتيتُهم ولا حملُهم
على ترك دعوتهم ولا التغلب عليهم. ولو لم يكن القرآن مانعاً عن الدفاع المادي فإن طلبة النور -الذين كسبوا محبةَ جماهير هذه الأمة وتقديرها، هذا التقدير الذي يُعد شيئاً حيوياً جداً في الأمة- والذين هم موجودون في كل مكان، لن يشتركوا في حادثة جزئية كحادثة الشيخ سعيد أو حادثة "مَنَمَن" إذ لو وقع عليهم -لا سمح اللّٰه- ظلم شديد إلى درجة الضرورة القصوى وهوجمت رسائل النور فإن الملاحدة والمنافقين الذين خدعوا الحكومة سيندمون لا محالة ندماً شديداً..
والخلاصة أنه مادمنا لا نتعرض لدنيا أهل الدنيا، فيجب عليهم ألاّ يتعرضوا لآخرتنا ولا لخدماتنا الإيمانية.
* * *
[أدرج فيما يلي خاطرةً قديمة وقصةَ دفاع لطيفة حول محكمة "أسكي شهر" بقيت مخفيةً حتى الآن ولم تُدرج في المضابط الرسمية للمحكمة كما لم ترد في دفاعي أمام تلك المحكمة].
سألوني هناك:
- ما رأيك حول النظام الجمهوري؟. فقلت لهم:
- تستطيعون أن تتأكدوا من كتاب "تاريخ حياتي" الموجود لديكم بأنني كنت شخصاً متديناً ومن أنصار النظام الجمهوري. وذلك قبل أن تأتوا أنتم إلى الدنيا.. هذا باستثناء رئيس المحكمة المتقدم في العمر. وخلاصة ذلك أنني كنت آنذاك منـزوياً -كحالي الآن- تحت قبة خالية، فكانوا يأتون لي بالحساء، وكنت أقوم بإعطاء النمل حبات الحساء واكتفي بغمس الخبز في سائل الحسـاء. سألوني في محكمة "أسكي شهر" عن السبب فقلت: "إن أمة النمل وكذلك النحل تعيـش في نظام جمهوري، وأعطي النمل الحبات احتراماً لنظامها الجمهوري".
ثم قالوا: "أنت تخالف بذلك السلف الصالح".
فأجبتهم: "لقد كان الخلفاء الراشدون خلفاء ورؤساء جمهورية في الوقت نفسه. فالصديق الأكبر رضي اللّٰه عنه كان دون شك بمثابة رئيس جمهورية للعشرة المبشرة
وللصحابة الكرام. ولكن ليس تحت عنوان أو شكل فارغ، بل كل منهم رئيس جمهورية متدين يحمل معنى العدالة الحقيقية والحرية الشرعية.
إذن فيا أيها المدّعي العام ويا أعضاء المحكمة! أنتم تتهمونني الآن بمعاداة فكرٍ كنت أحمله منذ خمسين سنة.
أما إنْ كان سؤالُكم حول الجمهورية العلمانية فإن ما أعلمه هو أن معنى العلمانية هو البقاء على الحياد، فكما لا تتعرض مثلُ هذه الحكومة للملحدين ولأهل السفاهة بحجة حرية الضمير فيجب ألاّ تتعرضَ لأهل الدين ولأهل التقوى. وإنني الآن لا أعلم الأوضاع السياسية والأحوال التي تعيش فيها الحكومةُ الجمهورية، لأنني قد اعتزلت الحياة الاجتماعية منذ خمس وعشرين سنة، فإن كانت قد دخلت في مرحلة مرعبة ومذهلة من العمل لحساب الملاحدة وبدأت بسنّ القوانين التي تدين من يعمل لآخرته ولإيمانه -والعياذ باللّٰه- فإني أقول لكم دون خوف أو خشية أنه لو كان لي ألف نفس لما ترددت في التضحية بها في سبيل إيماني وفي سبيل آخرتي واعملوا أنتم ما بدا لكم، وسيكون آخر كلامي: ﴿حَسْبُنَا اللّٰهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ﴾.
ولو قمتم بإعدامي ظلماً أو بسجني مع الأشغال الشاقة فإنني سأردُّ عليكم بقولي:
إنني وبفضل ما كشفَته "رسائلُ النور" بصورة قاطعة لن أُعدَم، بل أُسرّح وأَذهب إلى عالم النور والسعادة. أما إنتم يا أعداءنا المتسترين والمتخفين الذين تسحقوننا لأجل الضلالة فأقول لكم بأنني متهيئٌ لكي أُسلّم الروح باطمئنان وبراحة قلب. لأنني أعلم وأرى أنه سيُحكم عليكم بالإعدام الأبدي وبالحبس الانفرادي المؤبَّد، لذا فإن انتقامي منكم سيكون تاماً وكاملاً. هذا ما قلتُه لهم.
الأساس السابع:
استناداً إلى بعض التحقيقات السطحية -التي جرت في أماكن أخرى- فقد اتهمتنا محكمةُ "آفيون" بالسعي لإنشاء جمعية سياسية.
وأنا أقول جواباً على هذا:
أولاً: إنَّ جميع مَن صادقني يشهد بأنني لم أقرأ جريدةً واحدة منذ تسعة عشر عاماً ولم استمع إليها ولم أسأل عنها وفي ظرف عشرة أعوام وخمسة أشهر لم أعرف من الأخبار سوى هزيمة ألمانيا والخطر الشيوعي، لم أعرف أيّ خبر آخر ولم يكن عندي فضول أو رغبة للمعرفة.. إذن فمثل هذا الشخص لا يمكن أن تكون له أدنى علاقة بالسياسة ولا الجمعيات السياسية.
ثانياً: إنَّ "رسائل النور" البالغ عددها مائة وثلاثين رسالة، موجودة كلّها في متناول اليد وأمام الأنظار، وقد اقتنعتْ محكمةُ "أسكي شهر" بأنه لا يوجد في "رسائل النور" أي هدف آخر وأية غاية دنيوية عدا حقائق الإيمان، لذا لم تتعرض إلاّ لرسالة واحدة أو لرسالتين. أما محكمة "دنيزلي" فلم تتعرض لأية رسالة، كما إن جهاز الأمن الضخم في "قسطموني" بالرغم من قيامه بالترصّد والمراقبة الدائمة طوال ثمانية أعوام لم تجد من يتهمه سوى شخصين كانا يعاونانني في شؤوني وثلاثة أشخاص آخرين بأسباب واهية، وهذا حجةٌ قاطعة بأن طلاب النور لا يشكّلون بأي حال من الأحوال جمعيةً سياسية. أما إن كان مفهومُ الجمعية عند الإدعاء العام هو جماعة إيمانية تعمل لآخرتها. فإننا نقول جواباً له: لو قمتم بإطلاق تسمية الجمعية على طلاب دار الفنون -الجامعة- وعلى أصحاب كل مهنة من المهن عند ذاك يمكن إطلاق اسم الجمعية -بهذا المفهوم- علينا. أما إن كان المقصود هو جماعة تقوم بالإخلال بالأمن الداخلي ببواعث دينية فإننا نردّ على ذلك بأن عدم تورط طلاب النور طوال عشرين سنة بأية حادثة مخلّة بالأمن الداخلي في أي مكان، وعدم تسجيل أي شيء ضدهم في هذا الخصوص لا من قبل الحكومة ولا من قبل المحاكم، لَدليلٌ ساطع على بطلان هذه التهمة. أما إن كنتم تتوهمون أن تقوية المشاعر الدينية ستؤدي في المستقبل إلى الإخلال بالأمن الداخلي وأن هذا هو ما تقصدونه من توجيه تهمة الجمعية إلينا فإننا نقول:
أولاً: إن جميع الوعاظ (وعلى رأسهم رئاسة الشؤون الدينية) يؤدون الخدمات نفسها.
ثانياً: إنَّ طلبة النور ليسوا بعيدين فقط عن الإضرار بالأمن والإخلال بالاستقرار بل إنهم يعملون بكل قواهم وبكل قناعاتهم لحفظ الأمة من الفوضى والفتن ويحاولون بكل جهدهم تأمين الاستقرار والأمن، والدليل على هذا هو ما جاء في الأساس الأول أعلاه.
أجل، نحن جماعة هدفُنا وبرنامجُنا إنقاذ أنفسنا أولاً ثم إنقاذ أُمتنا من الإعدام الأبدي ومن السجن البرزخي الانفرادي المؤبّد ووقاية مواطنينا من حياة الفوضى والسفاهة ومحافظة أنفسنا (بالحقائق القوية الفولاذية الواردة في رسائل النور) من الإلحاد الذي يروم القضاء على حياتنا في الدنيا وفي الآخرة.
الأساس الثامن:
إنهم يقومون بتوجيه التُهم إلينا استناداً إلى بعض الجمل المؤثرة الواردة في "رسائل النور" واستناداً إلى بعض التحقيقات السطحية التي جرت في بعض الأماكن، ونقول نحن جواباً على هذا:
مادامت غايتُنا محصورةً في الإيمان وفي الآخرة وليست في الصراع والنـزاع والمبارزة مع أهل الدنيا، ومادام التعرض الجزئي القليل جداً الوارد في رسالة أو رسالتين لم يكن مقصوداً من قبلنا. بل ربما ارتطمنا بهم عرضاً ونحن نسير نحو هدفنا، لذا لا يمكن عدّه غرضاً سياسياً. ومادامت الاحتمالاتُ والإمكانات تعدّ شيئاً والوقائع شيئاً آخر. ذلك لأن الاتهام الموجه ليس في أننا قمنا بالإخلال بالأمن بل هو "يُحتمل" أو من الممكن أن نخلّ بالأمن، وهو اتهام باطل ولا معنى له، ويشبه اتهام أي شخص باقتراف جريمة قتل لأن من الممكن أن يقوم بذلك. علماً أن المحاكم في "أسكي شهر" وفي "قسطموني" وفي "إسبارطة" وفي "دنيزلي" لم تستطع العثور (بالرغم من تدقيقها الشديد) على أي دليل اتهام في آلاف النسخ من الرسائل والمكاتيب المتبادلة بين عشرات الآلاف من الأشخاص طوال عشرين عاماً. ومع أن محكمة "أسكي شهر" لم تعثر على شيء سوى رسالةً صغيرة، فاضطرت باستعمال مادة قانونية مطاطة إلى إلقاء المسؤولية علينا، ومع أنها تصرفتْ بشكل يدين كل من ألقى درساً دينياً إلاّ أنها مع ذلك لم تستطع إلا إصدار الحكم بإدانة خمسة عشر شخصاً فقط من بين مائة شخص ولمدة ستة أشهر، ولو افترضنا أنَّ شخصاً مثلنا كان بينكم وتم القيام
بتدقيق عشرين رسالة من رسائله الخاصة التي كتبها في ظرف سنة واحدة.. لو تم هذا ألا يمكن العثور في هذه الرسائل على عشرين جملة تضعه في موقف حرج وفي موقف المسؤولية؟ لذا فإن العجز عن العثور على عشرين جملة حقيقية تدين صاحبها من بين عشرين ألف نسخة من الرسائل والمكاتيب لعشرين ألف شخص طوال عشرين سنة برهان قاطع على أن الهدف المباشر لـ"رسائل النور" هو الآخرة، ولا علاقة لها بالدنيا.
الأساس التاسع:
لقد سُجل في قرار الادعاء لمحكمة "آفيون" المواد التي أوردها المدعى العام المنصف لمحكمة "دنيزلى"، وحكام التحقيق غير المنصفين والسطحيين في أماكن أخرى، وبدلالة ما عوملنا من معاملات أثناء التحقيق، والمواد هي نفسها وأبرزت المكاتيب من دون تاريخ يُذكر، والمراسلات التي تمت خلال عشرين أو خمس عشرة سنة أو عشر سنوات، فتلك المواد أُجيب عنها في الأساس الثالث والسؤال الثاني في ادعائي، والتي تدور حول الشعاع الخامس والرسائل البالغة مائة وثلاثين رسالة ومكاتيب مرت بالتدقيق في محكمة "أسكي شهر" وقضينا عقابه وشملَتها قوانينُ العفو، وبرأت ساحتها محكمة "دنيزلى" فالآن يحاولون أن يجدوا معاذير واهية من تلك الرسائل كي تكون موادَ اتهام لنا.
فيا تُرى إنَّ الذي أخضع بخطاب منه ثماني كتائب من الجيش في حادثة 31 مارت مع أنهم لم يعيروا سمعاً لشيخ الإسلام ولا لكلام العلماء. هل يمكن أن يُقنع ويستغفل طوال ثماني سنوات أمثالَ هؤلاء الرجال فقط؟ فهل يمكن أن يُقال أنه تمكّن فحسب من استغفال خمس رجال في ولاية عظيمة، ولاية قسطمونى؟
فلقد أخرجتم جميعَ كتبي والرسائل الخاصة والسرية منها والعلنية في "قسطمونى" وحوادث "دنيزلى". وبعد إجراء التدقيق عليها -لمدة ثلاثة أشهر- لم يعثروا في تلك الولاية العظيمة على غير فيضى وأمين وحلمي وتوفيق وصادق.
فهؤلاء الخمسة كانوا يعاونونني في أعمالي الشخصية، ابتغاء وجه اللّٰه. وعثروا في ظرف ثلاث سنوات ونصف السنة في "أميرداغ" على ثلاثة أصدقاء، وبعثوهم إليّ.
فلو كنت أعمل كما ورد في تلك التحقيقات السطحية، لكنتُ أستطيع استغفال خمسمائة شخص لا خمسة أشخاص أو عشرة، بل لكنت أستطيع استغفال خمسة آلاف شخص بل خمسمائة ألف.
أُبيّن ما قلتُه في محكمة "دنيزلى" للحقيقة ولإظهار مدى خطئهم. وأدناه أورد نموذجاً أو نموذجين منها:
إنهم يؤاخذوننا لقيامنا بجمع آيات كريمة من القرآن الكريم تُعين على التفكر في آيات اللّٰه -في الكون- تلك التي هي منبع "رسائل النور"، وذلك اتباعاً لعادة إسلامية جرت منذ عصر النبوة. وسمّينا مجموعة تلك الآيات: "حزب القرآن" أيمكن أن يقال لمن يقوم بمثل هذا العمل: إنهم يحرفون الدين..
ثم إني رغم مقاساتي سنةً واحدة من العقاب النازل بي حول "رسالة الحجاب" التي عثروا عليها تحت أكوام الحطب والوقود، وقد استنسخت هذه السنة ونشرت.. نراهم يريدون إدانتنا بها.
ثم إنني لما اعترضتُ بكلمات قاسية على ذلك الشخص المعروف الذي تولى رئاسة الحكومة بأنقرة، لم يقابلني بشيء، بل آثر الصمت. إلاّ أن بعد موته أظهرت حقيقةُ حديث شريف خطأه -كنت قد كتبتُه قبل أربعين سنة- فتلك الحقيقة والانتقادات التي كانت فطرية وضرورية واتخذناها سرية، وعامة غير خاصة على ذلك الشخص قد طبقها المدعى العام بحذلقة على ذلك الشخص، وجعلها مدار مسؤولية علينا. فأين عدالة القوانين التي هي رمز الأمة وتذكارها وتجل من تجليات اللّٰه سبحانه من محاباة شخص مات وانقطعت علاقته بالحكومة.
ثم إننا جعلنا حريةَ الوجدان والعقيدة التي اتخذتها حكومة الجمهورية أساساً لها، مدار استناد لنا. ودافعنا عن حقوقنا بهذه المادة، ولكن اتخذتها المحكمة مدار مسؤولية وكأننا نعارض حرية الوجدان والعقيدة.
وفى رسالة أخرى انتقدتُ سيئات المدنية الحاضرة وبينت نواقصها، فأُسند إليّ في أوراق التحقيق شيء لم يخطر ببالي قط، وهو إظهاري بمظهر من يرفض استعمال الراديو([8]) وركوب القطار والطائرة. فأكون مسؤولا عن كوني معارضاً للرقي الحضاري الحاضر.!..
فقياساً على هذه النماذج، يمكن تقدير مدى بُعد المعاملة عن العدالة. نأمل ألاّ تهتم محكمة «آفيون» لما ورد في أوراق التحقيق من أوهام وشبهات كما لم تهتم بها محكمة «دنيزلى» العامة ومدعيها العام المنصف.
وأغرب من جميع ما ذكر هو أن الطائرة والقطار والراديو التي تعتبر من نعم اللّٰه العظيمة وينبغي أن تقابَل بالشكر للّٰه، لم تقابلها البشرية بالشكر فنـزلت على رؤوسهم قنابل الطائرات.
والراديو نعمةٌ إلهية عظيمة بحيث ينبغي أن يكون الشكر المقدم لأجله في استخدامه جهازاً حافظاً للقرآن الكريم يُسمع البشريةَ جمعاء. ولقد قلنا في "الكلمة العشرين": إن القرآن الكريم يخبر عن خوارق المدنية الحاضرة، وبيّنّا فيها عند حديثنا عن إشارة من إشارات آية كريمة، بأن الكفار سيَغلبون العالم الإسلامي بوساطة القطار. ففي الوقت الذي أَحثُّ المسلمين إلى مثل هذه البدائع الحضارية فقد جعلها بعض المدعين العامين لمحاكم سابقة مدار اتهام لنا وكأنني أعارض هذه الاختراعات.
ثم إن أحدهم قال: إن رسالة النور نابعة من نور القرآن الكريم، أي إلهام منه، وهى وارثة، تؤدى وظيفةَ الرسالة والشريعة. فأورد المدعى العام معنى خطأ فاضحاً ببيانه ما لا علاقة له أصلاً وكأن "رسالة النور رسول" وجعلوا ذلك مادةَ اتهام لي.
ولقد أثبتنا في عشرين موضعاً في الدفاع وبحجج قاطعة أننا لا نجعل الدين والقرآن ورسائل النور أداة ووسيلة لكسب العالم أجمع، ولا ينبغي أن تكون وسائل قطعاً. ولا نستبدل بحقيقة منها سلطنة الدنيا كلها. ونحن في الواقع هكذا. وهناك ألوف من الأمارات على هذه الدعوى.
ولكن يبدو من سير الادعاء لمحكمة «آفيون» وفى قرارها المبني على تحقيقات أخرى: أننا نبتغي الدنيا ولا نسعى إلاّ لحبك المؤامرات وكسب حطام الدنيا ونجعل الدين أداة لمواد خسيسة تافهة ونعمل على الحط من قيمته.. فيتهموننا على هذا الأساس.
فما دام الأمر هكذا فنحن نقول بكل ما نملك: ﴿حسبنا اللّٰه ونعم الوكيل﴾.
سعيد النورسى
* * *
بِاسمِهِ سُبحَانَهُ
تتمة الاعتراض المقدم إلى محكمة "آفيون"
إنَّ مخاطبي في هذا الاعتراض ليس محكمة "آفيون" ولا مدّعيها العام، بل أولئك الموظفين العاملين هنا وفى دائرة التحقيقات ممن تساورهم الشكوكُ والأوهامُ والأغراض الشخصية فيتخذون مواضعَ ضدّنا مستندين إلى تحقيقات ناقصة وإخباريات مختلقة استند إليها مدّعون عامون ومخبرون ومتحرون في أماكن أخرى.
أولاً: إنَّ إطلاق اسم الجمعية -التي لا تخطر على البال- ولا أصل لها أساساً، على طلاب "رسائل النور" الأبرياء الذين ليس لهم أيةُ علاقة بالسياسة. ومن ثم عَدُّ أولئك المساكين الداخلين في تلك الدائرة ممن ليس لهم غايةٌ غيرُ الإيمان والآخرة، أنهم ناشرو تلك الجمعية وأعضاؤها الفعالون ومن منتسبيها، أو جعلُ الذين قرأوا "رسائل النور" أو استقرأوها أو استنسخوها مذنبين ودفعهم إلى المحكمة.. كل هذه الأمور بعيدةٌ بُعداً واضحاً عن العدالة.
والحجة القاطعة عليها هي:
أنَّ الذين يقرءون مؤلفات ضارة كالسم الزعاف والتي تهاجم القرآن، كمؤلفات "الدكتور دوزي" وأمثاله من الزنادقة، لا يُعدّون مذنبين حسب دستور حرية الفكر والحرية العلمية، بينما تُعدّ ذنباً قراءةُ وكتابةُ "رسائل النور" التي تبين الحقائق القرآنية والإيمانية وتعلّمها المحتاجين إليها حاجة ماسة والمشتاقين إليها وتوضّحها لهم وضوحَ الشمس الساطعة!
ثم إنهم اتهمونا على بضع جُمل فحسب وردت في رسائل اتخذناها رسائل سرية -لئلا تُفسّر تفسيراً خاطئاً وذلك قبل الإعلان عنها في المحاكم- علماً أن تلك الرسائل قد دققتها محكمة "أسكي شهر" -سوى واحدةٍ منها- واتخذت
ما يستوجب الأمر لها، ولم تعترض إلاّ على مسألة أو مسألتين من رسالة "الحجاب" وقد أجبت عنها في عريضتي وفى اعتراضي بأجوبة قاطعة. وقلنا: "إنَّ ما في أيدينا نورٌ ولا نملك صولجان السياسة". وأثبتنا ذلك في محكمة "أسكي شهر" بعشرين وجهاً.
وإن محكمة "دنيزلي" قد دققت جميعَ الرسائل دون استثناء، ولم تعترض على أية رسالة منها.. ولكن أولئك المدَّعين غير المنصفين قد عمموا حكمَ تلك الجمَل المعترَض عليها التي لا تتجاوز جملتين أو ثلاثاً على جميع الرسائل حتى صادروا مجموعة "ذو الفقار" البالغة أربعمائة صفحة لأجل صفحات منها فقط. وجعلوا قارئي الرسائل ومستنسخيها مذنبين، واتهموني بأنني أُعارض الحكومة وأتحدّاها. إنني أُشهد أصدقائي القريبين منى والذين يقابلونني أُشهدهم مُقسِماً باللّٰه: إنني منذ أكثر من عشر سنوات لا أعرف سوى رئيسين للجمهورية ونائباً واحداً في البرلمان ووالي "قسطموني". فلا أعرف معرفة حقيقية أحداً غيرهم من أركان الحكومة ووزرائها وقوادها وموظفيها ونوابها، وليس لي الفضول لمعرفتهم. إلاّ أن شخصاً أو شخصين أظهرا قبل سنة علاقة نحوي فعرفت عن طريقهما خمسة أو ستة من أركان الحكومة.
فهل من الممكن لمن يريد مبارزة الحكومة ألاّ يعرف من يبارز. ولا يتحرك فيه الفضول لمعرفتهم، ولا يهتم بمن يواجههم، أ هُم أعداءٌ أم أصدقاء؟
يُفهم من هذه الأحوال أنهم يختلقون معاذيرَ لا أصل لها قطعاً. فمادام الأمر هكذا: فإنني أقول لأولئك الظلمة غير المنصفين ولا أخاطب هذه المحكمة:
إنني لا أعير أقلَّ اهتمام بما تعتزمون إنزالَه بي من عقاب، مهما بلغت درجتُه من الشدة والقسوة. لأنني على عتبة باب القبر، وفى السن الخامسة والسبعين من عمري، فهل هناك سعادةٌ أعظمَ من استبدال مرتبة الشهادة بسنة أو سنتين من حياة بريئة ومظلومة كهذه؟
ثم إنني موقنٌ كلَّ اليقين ولا يخالجني أدنى شك في أن الموت بالنسبة لنا تسريح وتأشيرةُ دخول إلى عالم الطمأنينة والسعادة. ولنا آلاف البراهين من "رسائل النور" على ذلك، وحتى إنْ كان الموتُ إعداماً ظاهرياً لنا فإن مشقةَ ساعة من الزمان تتحول بالنسبة لنا إلى سعادة ومفتاح للرحمة وفرصة عظيمة للانتقال إلى عالم البقاء والخلود.
أما أنتم يا أعداءنا المتسترين ويا أولئك الذين يضللون العدالة في سبيل إرضاء الزندقة ويتسببون في خلق الأوهام الزائفة في أذهان المسؤولين في الدولة لينشغلوا بنا دون داعٍ أو سببٍ.. اعلموا قطعاً، ولترتَعد فرائصُكم، إنكم تحكمون على أنفسكم بالإعدام الأبدي وبالسجن الانفرادي الدائم. وأن الانتقام لنا يؤخذ منكم أضعافاً مضاعفة، فها نحن أولاء نرى ذلك ونشفق عليكم. ولا شك أنَّ حقيقة الموت التي ظلّت تُفرغ هذه المدنية مائة مرة إلى المقابر، لابد أن تكون لها غايةٌ ومطلبٌ فوق غاية العيش والحياة. وإن محاولة الخلاص من براثن ذلك الإعدام الأبدي هي قضية في مقدمة القضايا الإنسانية، بل هي من أهم الضروريات البشرية وأشدها إلحاحاً.
فما دامت هذه هي الحقيقة، أ فَليس من دواعي العجَب والغرابة أن يتهم نفرٌ من الناس طلابَ "رسائل النور" -الذين اهتدوا إلى ذلك السر وعثروا على تلك الحقيقة- ويلصقوا اتهامات باطلة بـ"رسائل النور" التي أثبتت تلك الحقيقة نفسها بآلاف الحجج والبراهين؟ إن كل مَن له مِسكة من عقل -بل حتى لو كان مجنوناً- يدرك تمام الإدراك بأن أولئك النفر باتهاماتهم تلك إنما يضعون أنفسهم موضع الاتهام أمام الحقيقة والعدالة.
إنَّ هناك ثلاث مواد توهم بوجود جمعية سياسية لا علاقة لنا بها أصلاً، هي التي خدعت هؤلاء الظلمة.
أولاها: العلاقة الوطيدة التي تربط طلابي منذ السابق، قد أوحت لهم وجودَ جمعية.
الثانية: أنَّ بعضاً من طلاب "رسائل النور" يعملون بأسلوب جماعي كما هو لدى الجماعات الإسلامية الموجودة في كل مكان والتي تسمح بها قوانين الجمهورية ولا تتعرض لها؛ لذا ظنَّ البعضُ فيهم أنهم جمعية، والحال أنَّ نيَّة أولئك الأفراد القليلين ليس تشكيل جمعية أو ما شابهها، بل هي أخوة خالصة وترابط وثيق أخروي بحت.
الثالثة: أنَّ أولئك الظلمة يعرفون أنفسهم أنهم قد غرقوا في عبادة الدنيا وضلوا ضلالاً بعيداً ووجدوا بعض قوانين الحكومة منسجمة معهم، لذا يقولون ما يدور في ذهنهم: إنَّ سعيداً ورفقاءه معارضون لنا ولقوانين الحكومة التي تساير أهواءنا، فهم إذن جمعية سياسية.
وأنا أقول: أيها الشقاة!
لو كانت الدنيا أبديةً خالدة، ولو كان الإنسان يظل فيها خالداً، ولو كانت وظائفُه منحصرةً في السياسة وحدها، ربما يكون لفريتكم هذه معنى. ولكن اعلموا أنني لو دخلت العمل من باب السياسة لكنتم ترون ألفَ جملةٍ وجملة صيغت بأسلوب التحدي السياسي، لا عشرَ جمل في رسالة. ولنفرض فرضاً محالاً أننا نعمل -كما تقولون- ما وسعنا لمقاصد دنيوية وكسب متَعها الرخيصة والحصول على سياستها -ذلك الفرض الذي لم يحاول الشيطان أن يقنع به أحداً- فما دامت جميعُ وقائعنا طوال عشرين سنة لا تُبرز شيئاً لملاحقتنا، إذ الحكومة تنظر إلى كسب الشخص لا إلى قلبه، والمعارضون موجودون في كل حكومة بشكل قوي. فلا شك أنكم لا تستطيعون أن تجعلونا في موضع التهمة بقوانين العدالة.
كلمتي الأخيرة: ﴿حَسْبِيَ اللّٰهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ﴾
سعيد النورسي
* * *
«حادثة غير قانونية»
بعد براءتنا من محكمة "دنيزلي" ورغم اعتزالي الناسَ وانسحابي إلى الاعتكاف طوال ثلاث سنوات تاركاً السياسة كلياً، فإن هذه الحادثة الجديدة التي أفضت بنا إلى سجن "آفيون" لا تمتّ إلى القانون بشيء بل غير قانونية بعشرة وجوه:
الأول:
إنَّ "رسائل النور" قد مرّت بثلاث محاكم وثلاث هيئات للخبراء ومن سبع مراجع مسؤولة في "أنقرة" وعند كثير من مدققي العدلية في ظرف سنتين.. فاتفقوا كلّهم من دون استثناء على براءة جميع الرسائل وبراءة "سعيد" ومن معه من أصدقائه البالغ عددهم خمسة وسبعين شخصاً. ولم يعاقَبوا حتى بجزاء يوم واحد. وعلى الرغم من هذا فإن تجاوزهم على تلك الرسائل وكأنها أوراق مخلّة بأمن البلد، يجعل كل من يملك مسكة من الإنصاف أن يدركَ مدى خروج الأمر عن القانون.
الثاني:
إنَّ الذي ظَلَّ في الانـزواء والاعتكاف في "أميرداغ" طوال ثلاث سنوات بعد البراءة، وعاش غريباً. حتى إن بابَه كان يغلق من الداخل والخارج معاً ولا يقبل أحداً من الناس لمقابلته إلاّ للضرورة القصوى، والذي تخلَّى حتى عن التأليف الذي كان مستمراً عليه طوال عشرين سنة، يأتي المتحرّون ويكسرون قفلَ الباب ويداهمون غرفته إجراءاً لسياسة دنيوية!.
الثالث:
إنه كما قال في المحكمة: أنَّ من لم يهتم بأخبار الحرب العالمية -بشهادة سبعين شاهداً- ولم يستفسر عنها، ومازال مستمراً على حاله ولم يقرأ أية صحيفة كانت منذ خمس وعشرين سنة ولم يستمع إليها والذي قال: "أعوذ باللّٰه من الشيطان والسياسة" منذ ثلاثين سنة، ونفَرَ من السياسة بكل ما لديه من قوة، وقاسى ما قاسى من العذاب طوال اثنين وعشرين عاماً.. ولم يراجِع ولو لمرة واحدة الدوائر الحكومية -لضمان راحته- دفعاً لجلب الأنظار إليه حيث إنه لا يتدخل بالأمور السياسية.. فعلى الرغم من كل هذا أيوافقُ القانونَ مداهمةُ منـزله ومعتكفه وكأنه يدير المؤامرات السياسية وشدّ الخناق عليه بما لم يرَ مثله؟.. إنَّ مَنْ يملك وجداناً ولو بمثقال ذرة يتألم على هذا الوضع.
الرابع:
بعد تدقيق دام ستة أشهر في محكمة "أسكي شهر" تمت تبرئة "رسائل النور" من تُهم محاولة تشكيل جمعية سياسية أو تأسيس طريقة صوفية. ومع أن الرئيس الكبير حرض بعض أفراد وزارة العدل وموظفيها مدفوعاً إلى ذلك بأوهامه وبحقده الشخصي، إلا أن رسائل النور بُرئت من تهمة تشكيل أية جمعية وأية طريقة صوفية، هذا ماعدا رسالة "الحجاب" (التي تُعدّ جزءاً صغيراً فقط من رسائل النور) حيث جعلوها تكأة وحُجة -ليست قانونية بل بقناعة شخصية ووجدانية- مما أدّى هذا الأمر إلى الحكم بالسجن لمدة ستة أشهر لعدد من طلاب النور لا يتجاوز عددُهم عشرةَ طلاب من بين مائة منهم. ولما كان هؤلاء موقوفين منذ أربعة أشهر ونصف حتى موعد فحص الرسائل وتدقيقها فإنهم لم يُسجَنوا سوى شهر ونصف الشهر.
وبعد عشر سنوات قامت محكمة "دنيزلي" أيضاً بتدقيق وتمحيص جميع ما كتب من مكاتيب ورسائل ومؤلفات في عشرين سنة تدقيقاً جيداً دام تسعة أشهر - على إثر اتهام هذه المؤلّفات بالتحريض على تأسيس جمعية أو طريقة صوفية، وأُرسلت إلى
محكمة الجزاء الكبرى في "أنقرة" خمسة صناديق من هذه الكتب حيث دققت تلك الرسائل والكتب سنتين اثنتين من قبل محكمة الجزاء الكبرى في "أنقرة" ومحكمة "دنيزلي". واتفقت المحكمتان بالإجماع على تبرئة هذه الرسائل والكتب من التُهم الموجهة إليها كتشكيل جمعية أو طريقة صوفية وما شابهها من التُهم([9]) وإعادَتها إلى أصحابها كما برّأت سعيداً وأصدقاءه. إذن كم يكون خروجاً على القانون اتهام "سعيد" باعتباره "رجلاً سياسياً يسعى لتشكيل جمعية" أو "رجل مؤامرات" أو ما شابه ذلك، وتحريض موظفي العدالة ضدَّه باعتباره "رجل طريقة". يعلم ذلك كلُّ من لم يمُت شعورُه.
الخامس:
لما كانت "الشفقة" دستورَ حياتي منذ ثلاثين سنة، وأساسَ مسلكي ومسلك "رسائل النور"، فإنني لا أتجنّب التعرض للمجرمين الذين ظلموني وحدَهم بل لا أستطيع حتى مقابلتَهم بالدعاء عليهم، وذلك لكي لا أتسبب في إلحاق الضرر بأي شخص بريء. بل إنَّ هذه الشفقة هي التي منَعتني من أن أتعرض، أو حتى أن أدعُو على بعض الفساق بل الظالمين اللادينيين الذين اندفعوا بحقد شديد في ظلمي، ذلك لكي لا أتسبّبَ في ضرر مادي يلحق بالشيوخ والعجائز المساكين من أمثال والد ذلك الظالم أو والدته، أو في الإضرار بأنفس بريئة مثل أولاده. لذا فمن أجل أربع أو خمس من الأنفس البريئة لا أستطيع التعرّض لذلك الظالم الغدّار، بل أعفو عنهم أحياناً.
وهكذا فبسرّ هذه الشفقة لا أكتفي قطعاً بعدم التعرض للحكومة وللأمن فقط، بل أوصي جميع أصدقائي بذلك إلى درجة أن بعض رجال الأمن المنصفين في ولايات ثلاث قد اعترفوا أن "طلاب رسائل النور" هم رجال أمن معنويون، لأنهم يحافظون
على الأمن وعلى النظام. وهذه حقيقة يشهد عليها آلافُ الشهود، ويصدّقها فترة حياة تمتد عشرين سنة ومع طلاب يبلغ عددُهم الآلاف، لم يسجّل رجالُ الأمن أية حادثة منهم تمس الأمن. ومع وجود كل هذه البراهين فقد اقتحموا بيت هذا الضعيف وكأنه رجل ثورة ورجل مؤامرة وعاملوه دون إنصاف من قبل هؤلاء الأشخاص الغلاظ وكأنه سفّاح ارتكب مائة جريمة (مع أنهم لم يجدوا شيئاً في منـزله) وقاموا بمصادرة نسخة نادرة من القرآن المعجز([10]) واللوحات الموجودة فوق رأسه وكأنها أوراق ضارة.
تُرى أي قانون يجيز مثل هذه التصرفات ضد آلاف الأشخاص المتدينين الذين حافظوا على الأمن بحُسن خُلقهم؟ وأية مصلحة في تحريض هؤلاء ودفعهم بالقوة للوقوف ضد الأمن والنظام؟
السادس:
بفضل من اللّٰه تعالى أنني رجل عَرف من فيض القرآن منذ ثلاثين سنة كيف أن الشهرة الموقتة والفانية للدنيا وجاهها المتسم بالأنانية والأثرة، وعبادة الشهرة والصيت فيها، أمرٌ لا فائدة ولا خير منه ولا معنى له، فألفَ حمد وشكر للّٰه. لذا فقد حاول منذ ذلك الحين وبكل جهده الصراع مع نفسه الأمّارة. ومع أن أصدقاءه والذين خدموه يعلمون علم اليقين ويشهدون بأنه قام بكل ما في وسعه لكسر شوكةِ نفسه والتخلّص من أنانيته وتجنب النفاق والتصنع، وقد حاول منذ عشرين سنة معارضة كل الذين أثنَوا عليه ومدحوه وتوجهوا نحو شخصه مدفوعين بحُسن الظن الذي تهشّ له نفسُ كل إنسان، وخالف كل الذين رأوه أهلاً لمقامات معنوية، بل فرّ منهم بكل ما يملك من قوة، وردّ حُسن الظن المفرط الذي يحمله أصدقاؤه القريبون إليه وخلاّنه الخاصون إلى درجة أنه آلمهم وجرح شعورَهم، وفي رسائله الجوابية لم يقبل أبداً مديحَهم وحُسن ظنهم الزائد عن الحد في حقه، إذ نسب كل الفضيلة إلى "رسائل النور" التي هي عبارة عن تفسير للقرآن الكريم ولم ينسبها لنفسه بل حرّمها من الفضائل ووجّه "طلاب رسائل النور" للتعلق بالشخصية المعنوية لـ"رسائل النور" وَعدّ نفسَه مجرد خادم عادي للقرآن الكريم، وهذا يثبت إثباتاً قاطعاً بأنه لم يسع أبداً لإبراز شخصه وتحبيب نفسه بل ردَّ ذلك.
ومع ذلك فهل هناك قانون يسمح بتحميل أية مسؤولية عليه ويسمح بالهجوم على دار هذا الشخص الغريب والمريض والمنـزوي في غرفته والمتقدم جداً بالعمر والذي لا حول له ولا قوة، والقيام بكسر قفل داره ودخول موظفي التفتيش إلى غرفته وكأنه مجرم عتيد، وذلك لمجرد أن بعض أصدقائه البعيدين عنه مدحوه خلافاً لرغبته وأَثنَوا عليه ثناءً يزيد عن حقه ورأوه أهلاً لمقام معنوي لما يحملونه من حُسن ظنٍّ مفرط، ثم لقيام واعظ لا يعرفه في مدينة "كوتاهية" بالتفوه ببعض الكلمات في حقه؟!.
ومع أنني لم أُرسل أية رسالة إلى تلك المدينة، إلاّ أنه تمت كتابةُ رسالة وضع عليها توقيع مزوّر لي، مما دعا إلى توهّم مسؤوليتي عنها، وكذلك وجود كتاب مؤثر لا يُعرف كاتبه في مدينة "باليكسر".. أ هذه الأمور تسمح لهم باقتحام الدار والتفتيش فيها؟.. مع أنهم لم يجدوا في الدار سوى الأوراد وسوى اللوحات.. أيُّ قانون في الدنيا وأية سياسة فيها تسمح بمثل هذا الهجوم؟
السابع:
في مثل هذا الوقت الذي توجد فيه كل هذه التيارات الحزبية الفوارة في الداخل وفي الخارج. أي في الوقت الذي تهيأت له فرصةُ الاستفادة، أي فرَص كسب سياسيين عديدين إلى جانبه بدلاً من أفراد معدودين من أصدقائه، فإنه كتب إلى جميع أصدقائه قائلاً لهم: "إياكم والانجراف في التيارات أو الدخول إلى معترك السياسة وإياكم والإخلال بالأمن" وذلك لتجنب التدخل كلياً في السياسة والإضرار بإخلاصه وتجنّب جلب أنظار الحكومة عليه والابتعاد عن الانشغال بالدنيا.
وقد قام التيار السابق نتيجة لأوهامه بمدّ يد السوء والضرر إليه جراء تجنّبه هذا. أما التيار الجديد فلإدعائه: "أنه لا يساعدنا ولا يتعاون معنا». وقد سببا له ضيقاً وكرباً شديدين ولكنه مع هذا لم يتدخل أبداً في دنيا أهل الدنيا، بل انشغل بأمور آخرته إلى درجة أنه لم يرسل إلى أخيه الموجود في قرية "نُورْس" رسالة واحدة طوال اثنتين وعشرين سنة ولم يرسل لأصدقائه في تلك المحافظات عشر رسائل طوال عشرين عاماً.. فأي قانون يسمح إذن بالتعرض لهذا الشخص الضعيف المنشغل بآخرته مثل هذا التعرض؟
وفي الوقت الذي لا يتعرض أحد ضد انتشار كتب الملاحدة، وهي كتب ضارة جداً للبلاد وللأمة وللأخلاق، ولا لمطبوعات الشيوعيين، وذلك باسم قانون الحرية. فإنه تتم مصادرة أجزاء "رسائل النور" وكأنها أوراق ضارة وتُقدّم إلى المحكمة. هذا مع أن ثلاث محاكم لم تجد في هذه الرسائل أي أمر مضر، فهي تدعو منذ عشرين سنة إلى خير الحياة الاجتماعية لهذه البلاد ولهذه الأمة وتقوية أخلاقها وترسيخ أمنها، وإلى تقوية الأخوة الإسلامية مع العالم الإسلامي، هذه الأخوة التي تعدّ ركن استناد وقوة حقيقية، وإلى إعادة صداقة هذا العالم الإسلامي لهذه الأمة وتقويتها بصورة مؤثرة. وقد أمر وزير الداخلية علماء رئاسة الشؤون الدينية بتدقيق "رسائل النور" بغية نقدها، وبعد ثلاثة أشهر من التدقيق لم تقم بنقدها، بل أدركت قيمتَها حق الإدراك وذكرت بأنها "مؤلَّف ذو قيمة كبيرة" ووضعت رسائل أمثال "ذو الفقار" و"عصا موسى" في مكتبتها. كما شاهد الحجاج مجموعة رسائل "عصا موسى" في الروضة الشريفة للرسول الكريم صلى الله عليه وسلم.
فهل هناك قانون أو ضمير أو إنصاف يسمح بمصادرة "رسائل النور" وجمعها وتقديمها إلى المحكمة؟.
الثامن:
بعد اثنتين وعشرين سنة من النفي غير المبرر والمتسم بالضنك، وبعد أن أُعيدت له الحرية فإنه لم يشأ الذهاب إلى بلده الذي ولد فيه حيث يوجد الآلاف من أهله وأحبائه، بل اختار حياة الغربة والعزلة لكي لا يقرب من الدنيا ومن معترك الحياة الاجتماعية والسياسية، وترك الصلاة في الجامع -مع وجود ثواب كبير في صلاة الجماعة- واختار الصلاة المنفردة في غرفته.. أي أنه شخص يميل إلى تجنّب ما يبديه الناس نحوه من احترام. كما إن عشرين سنة من عمره تشهد ويشهد معها آلافٌ من الشخصيات التركية الموقرة بأنه يفضّل تركيّاً واحداً ذا دين وتقوى على العديد من الأكراد غير الملتزمين، كما أثبت في المحكمة أنَّ أخاً تركيّاً واحداً قويَّ الإيمان مثل "الحافظ علي" يُرجَّح على مائة كردي.
أي أن شخصاً يتجنب لقاء الناس إلاّ لضرورة ماسة لكي يتجنب مظاهر توقيرهم واحترامهم له، ولا يذهب حتى إلى الجامع، وعملَ بكل جهده وعبر جميع مؤلفاته
-منذ أربعين سنة- على ترسيخ الأخوة الإسلامية وعلى تنمية روح المحبة بين المسلمين، وعدَّ الأمة التركية حاملةً لراية القرآن ونائلة لثناء القرآن، وأحبَّ هذه الأمة حبَّاً جماً لهذا السبب، وصرف حياته من أجلها.. أ يجوز أن يقول والٍ سابق في كتاب رسمي غادر حاول منه نشر دعاية معينة قصَد منها إخافة أصدقائه: "إنه كردي وأنتم أتراك، وهو شافعي وأنتم حنفيون"؟ بغية محاولة إلقاء الرعب في قلوب الجميع وجعلهم يحذرون منه ويتجنبونه.
ثم إنني أتسائل : أ هناك قانون أو مصلحة في محاولة إجبار شخص منـزوٍ وإكراهه على لبس القبعة مع أنه لم يجبره أحد على تغيير قيافته طوال عشرين عاماً وخلال محكمتين اثنتين؟ هذا علماً بأن القبعة رفعت عن رؤوس نصف العساكر.
التاسع:
وهنا نقطة مهمة جداً وقوية([11]) ولكني أسكت عنها لأنها تتعلق بالسياسة.
العاشر:
وهذا أيضاً لا يسمح به أي قانون، ولا توجد فيه أية مصلحة، وإنما هو عبارة عن أوهام لا معنى لها وعن مبالغات تجعل من الحَبَّة قُبَّة، وهو تعرّض وتهجّم لا يقرّه أي قانون، وهنا أيضاً نسكت لئلا نمسّ السياسة التي يحظر النظر إليها حسب مسلكنا..
وهكذا فإننا نقول ونحن أمام أوجه عشرة من أوجه المعاملات غير القانونية:
﴿حَسْبُنَا اللّٰهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ﴾
سعيد النورسي
* * *
نقاط أخرى أودّ أن أعرضها
على إدارة مدينة "آفيون" ومحكمتها وشرطتها:
الأولى: أن ظهور أكثر الأنبياء في الشرق وفي آسيا وظهور أغلب الحكماء في الغرب وفي أوروبا إشارة قدرية منذ الأزل على أن الدين هو السائد وهو الحاكم في آسيا، وتأتي الفلسفة في الدرجة الثانية. وبناءً على هذا الرمز القدري، فإن الحاكم في آسيا إن لم يكن متديناً فعليه -في الأقل- ألاّ يتعرض للعاملين في سبيل الدين، بل عليه أن يشجعهم.
الثانية: أن القرآن الحكيم بمثابة عقل الأرض وفكرها الثاقب، فلو خرج القرآن -والعياذ باللّٰه- من هذه الأرض لجنت الأرض، وليس ببعيد أن تنطح رأسها الذي أصبح خالياً من العقل بإحدى السيارات وتتسبب في حدوث قيامة.
أجل، إن القرآن هو العروة الوثقى وحبل اللّٰه المتين يربط ما بين العرش والفرش، وهو يقوم بحفظ الأرض أكثر مما تقوم به قوة الجاذبية، ورسائل النور هي التفسير الحقيقي والتفسير القوي لهذا القرآن العظيم، وهذه الرسائل التي أظهرت تأثيرها منذ عشرين سنة في هذا العصر وفي هذا الوطن لهذه الأمة تعد نعمةً إلهية كبرى ومعجزةً قرآنية لا تنطفئ، لذا فليس على الحكومة التعرض لها وترويعُ طلابها منها ليبتعدوا عنها، بل عليها حماية هذه الرسائل والتشجيع على قراءتها.
الثالثة: بناءً على قيام أهل الإيمان الآتين بتقديم حسناتهم إلى أرواح الذين سبقوهم مع دعواتهم بالمغفرة لهم فقد قلت في محكمة "دنيزلي":
لو سألكم أهلُ الإيمان -الذين يعدون بالمليارات- في يوم المحكمة الكبرى وسألوا الذين يضيقون على طلاب رسائل النور الذين يعملون في سبيل إظهار حقائق القرآن ويحكمون عليهم بالسجن، وقالوا: "إنكم كنتم في غاية التسامح مع كتب الملاحدة والشيوعيين ومنشوراتهم باسم قانون الحرية وتسامحتم مع الجمعيات التي ربّت وغذّت الفوضى، ولم تتعرضوا لهم أبداً، ولكنكم أردتم أن تقضوا على رسائل النور وعلى طلابها بالسجن وبشتى وسائل التضييق، مع أنهم كانوا يحاولون إنقاذ الوطن والأمة من الإلحاد ومن الفساد وإنقاذ مواطنيهم من الإعدام الأبدي".. لو سألوكم هذا فماذا سيكون جوابكم؟ ونحن أيضاً نوجه هذا السؤال إليكم..
لقد قلت هذا لهم، وعند ذلك قام أولئك الذوات المحترمون الذين كانوا من أهل الإنصاف والعدالة بإصدار قرار بتبرئتنا وأظهروا عدالة جهاز العدالة.
الرابعة: كنت أنتظر أن تستدعيني "أنقرة" أو "أفيون" إلى لجنة الشورى وتعاطي الأسئلة والأجوبة حول المسائل الكبيرة التي أخذت رسائل النور على عاتقها القيام بها.
أجل، إن رسائل النور هي أقوى وسيلة وأنجع دواء لهذه الأمة في هذا البلد في سبيل إعادة الأخوّة الإسلامية السابقة والمحبة السابقة وحسن الظن والتعاون المعنوي بين ثلاثمائة وخمسين مليون مسلم، وفي سبيل البحث عن وسائل هذا التعاون.
ونذكر أدناه أمارة واضحة على ذلك:
لقد قام في هذه السنة في مكة المكرمة عالم كبير بترجمة أجزاء كبيرة من رسائل النور إلى اللغة الهندية والى اللغة العربية وأرسل هذه التراجم إلى الهند والى الحجاز قائلاً:
«إن رسائل النور تحاول تحقيق وحدتنا واخوتنا الإسلامية التي هي أقوى سند نستند إليها، وهي بذلك ترينا أن الأمة التركية هي دائماً في المقدمة من ناحية الدين والإيمان».
كما كنت أتوقع أن تثار أسئلة في مسائل كبيرة كالجبال الشوامخ أمثال: «ما درجة خدمة رسائل النور وطلابها ضد الشيوعية التي تحولت إلى حركة فوضوية في وطننا؟ وكيف يمكن صيانة هذا الوطن المبارك وحفظه من هذا السيل الجارف المخيف؟»... كنت انتظر أتوقع هذا، فإذا بي أفاجأ بمسائل تافهة لا تزن جناح ذبابة، ولا تتجاوز مسائل جزئية لا تستلزم مسؤولية، نابعة من أحقاد شخصية وافتراءات مقصودة تجعل من الحبة قبة... وهكذا قاسيت من هذه الشروط والظروف القاسية آلاما لم أتجرعها حتى الآن. وقد وجهت إلينا الأسئلة نفسها حول المسائل التي وجهت إلينا في ثلاث محاكم سابقة والتي برأتنا منها هذه المحاكم مع إضافة مسألة أو مسألتين شخصيتين تافهتين وأسئلة لا معنى لها.
الخامسة: لا يمكن الوقوف أمام رسائل النور ومبارزتها، لأنها لا تُغلب؛ فهي قد أسكتت منذ عشرين سنة أكثر الفلاسفة عناداً وتعلن حقائق الإيمان كالشمس في رابعة النهار. لذا فعلى الذين يحكمون هذا البلد الاستفادة من قوتها.
السادسة: إن التهوين من شأني بأخطائي الشخصية التي لا أهمية لها وإسقاطي في نظر عامة الناس بإنزال الإهانات بي، لا يضرّ رسائل النور، بل يمدّها -من جهة- إذ لو سكت لساني الفاني فإن ألسنة مئات الآلاف من نسخ رسائل النور لن تكفّ عن النطق، ولن تسكت عن الكلام والتبليغ، كما إن الألوف من طلبتها الأوفياء الذين مُنحوا قوةَ النطق ووضوح الحجة سيديمون تلك الوظيفة النورية القدسية الكلية إن شاء اللّٰه إلى يوم القيامة، كما كان شأنهم إلى الآن.
السابعة: كما ذكرنا في دفاعاتنا أمام المحاكم السابقة والتي سردنا فيها حججنا، فإن أعداءنا السريين ومعارضينا الرسميين وغير الرسميين الذين خدعوا الحكومة واستغفلوها واستغلوا الأوهام والمخاوف المتسلطة على بعض أركانها ووجهوا جهاز العدالة ضدنا، إما إنهم من المخدوعين بشكل سيئ جداً أو من المنخدعين أو هم يعملون لصالح
الفوضويين من الذين يحاولون قلب نظام الحكم بشكل غادر، أو هم من أعداء الإسلام ومن المرتدين الذين يحاربون الحقيقة القرآنية ومن الملاحدة الزنادقة.. فهؤلاء لم يترددوا أبداً عندما حاربونا من إطلاق صفة النظام على الردة التامة، ومن إطلاق صفة "المدنية" على السفاهة والتسيب الأخلاقي الرهيب، ومن إطلاق صفة "القانون" على نظام الكفر القهري المنفلت والمرتبط بالأهواء. وهكذا استطاعوا أن يضيقوا علينا تضييقاً شديداً، واستغفلوا الحكومة وخدعوها ووجهوا جهاز العدالة للانشغال بنا دون أي داعٍ، لذا فإننا نحيل هؤلاء إلى قهر القهار ذي الجلال ونلتجئ إلى حصن ﴿حَسْبُنَا اللّٰه وَنِعْمَ الْوَكِيلُ﴾ ليحفظنا من شرور هؤلاء.
الثامنة: قامت روسيا في السنة الماضية بإرسال العديد من الحجاج إلى حج بيت اللّٰه الحرام من أجل الدعاية وإظهار الروس بمظهر من يحترمون القرآن أكثر من الأمم الأخرى، ولتأليب العالم الإسلامي من الناحية الدينية ضد هذه الأمة المتدينة في هذا الوطن. ثم إنه نظراً للانتشار الجزئي لأجزاء كبيرة من "رسائل النور" في مكة المكرمة وفي المدينة المنورة وفي دمشق وحلب وفي مصر، وحيازتها على تقدير العلماء وقيامها بكسر الدعاية الشيوعية، فإنها أظهرت للعالم الإسلامي بان الأمة التركية وإخوتهم لا يزالون متمسكين بدينهم وبقرآنهم، وإنها بمثابة الأخ الكبير للعالم الإسلامي وبمثابة قائد مقدام في سبيل خدمة القرآن. أي أن "رسائل النور" بينت هذه الحقيقة في تلك المراكز والمدن الإسلامية وأظهرتها. فإذا كانت الخدمات الجليلة لـ"رسائل النور" تقابل بهذه الأنواع من التضييق والآلام ألا ترون من الممكن أن تحتد الكرة الأرضية وتغضب؟.
التاسعة: أورد هنا تلخيصاً لإثبات مسألة معينة أوردتها في مرافعتي أمام محكمة "دنيزلي":
ولو فرضنا أن قائداً رهيباً وعبقرياً استطاع بذكائه أن ينسب لنفسه جميع حسنات الجيش، وأن ينسب سيئاته وسلبياته الشخصية للجيش، فإنه يكون بذلك قد قلل عدد الحسنات التي هي بعدد أفراد الجيش إلى حسنة شخص واحد، وعندما نسب
سيئاته وأخطاءه إلى الجيش يكون قد كثّر هذه السيئات بعدد أفراد الجيش، وهذا ظلم مخيف ومجانب للحقيقة، لذا فقد قلت للمدعي العام في إحدى محاكماتي السابقة عندما هاجمني لكوني وجهت صفعة تأديب لذلك الشخص عندما قمت قبل أربعين سنة بشرح حديث نبوي، قلت للمدعى العام: حقاً إنني أقلل من شأنه بإيراد أخبار من الأحاديث النبوية، إلاّ أنني أقوم في الوقت نفسه بصيانة شرف الجيش وحفظه من الأخطاء الكبيرة، وأما إنت فتقوم بتلويث شرف الجيش الذي يعد حامل لواء القرآن، وقائداً مقداماً للعالم الإسلامي، وتلغي حسناته لأجل صديق واحد لك. فخضع ذلك المدعى العام للإنصاف، بإذن اللّٰه، ونجا من الخطأ.
العاشرة: لما كان من المفروض أن يقوم جهاز العدالة بحفظ حقيقة العدالة وحفظ حقوق جميع المراجعين له دون أي تمييز، والعمل في سبيل الحق وباسمه وحده، فإننا نرى أن الإمام علياً رضي اللّٰه عنه في أيام خلافته يمثل أمام المحكمة مع يهودي ليتحاكما.([12]) وقد شاهد أحد مسؤولي العدل أن أحد الموظفين احتد وغضب على سارق ظالم وهو يقطع يده فأصدر أمره بعزل ذلك الموظف في الحال، وقال آسفاً: "من خلط مشاعره الذاتية بإجراء العدالة فقد اقترف ظلماً كبيراً".
أجل، إن الموظف عندما يقوم بتنفيذ حكم القانون إن لم يشفق على المحكوم فليس له أن يحتدّ عليه، فإن فعَلَ ذلك كان ظالماً. حتى إن أحد الحاكمين العادلين قال: "إن الشخص الذي يقوم بتنفيذ قصاص القتل إن احتد وغضب أثناء ذلك التنفيذ يُعدّ قاتلاً".
إذن فما دامت الحقيقة الخالصة والبعيدة عن الأغراض هي التي لا بد أن تسود في المحكمة، فإن من الغريب أن يتعرض طلاب النور -البريئون والمحتاجون إلى من يسرّي عنهم وإلى تجلي العدالة في حقهم- إلى إهانات ومعاملات قاسية هنا، رغم صدور قرارٌ بتبرئتنا من ثلاث محاكم، ورغم وجود أمارات عديدة لاستعداد تسعين في المائة من هذه الأمة للشهادة، وهذا يدل على أنه لا يمكن صدور أي ضرر من طلاب النور،
بل على العكس من ذلك فإنهم يقدمون فوائد جمة لهذه الأمة ولهذا الوطن، ولأننا قررنا أن نتحمل كلَّ مصيبة وكلَّ إهانة بكل صبر، فإننا نسكت ونحيل الأمر إلى اللّٰه تعالى ونقول: "لعل في هذا الأمر خيراً". ولكنني خشيت أن تؤدي هذه المعاملات الموجهة إلى هؤلاء الأبرياء نتيجة لتبليغات مُغرضة إلى قدوم البلايا، لذا اضطررتُ إلى كتابة هذا الأمر. وإذا كان هناك أي تقصير أو ذنب في هذه المسألة فإنه يعود إليّ. ولم يمد لي هؤلاء المساكين يدَ المساعدة إلاّ بدافع من إيمانهم ومن أجل آخرتهم ضمن مرضاة اللّٰه تعالى، ومع أنهم كانوا يستحقون التقدير فإن القيام بمثل هذه المعاملات القاسية تجاههم قد أغضب حتى الشتاء. ومن الغريب أيضاً والمحيّر أنهم ساقوا أوهام تشكيل جمعية مرة أخرى، مع أن ثلاث محاكم دققت هذه الناحية وأصدرت قرارها بالبراءة. ثم إنه لا يوجد فيما بيننا أي أمر يستدعي اتهامنا بتشكيل أية جمعية، ولم تجد المحاكم ولا رجال الأمن ولا أهل الاختصاص أيةَ أمارة حول ذلك، إذ لا توجد بيننا سوى رابطة الأخوة الأخروية مثلما يوجد ما بين المعلم وتلاميذه وما بين أستاذ جامعي وبين طلابه وما بين حافظ القرآن وتلاميذه الذين يسعون لحفظ القرآن. فالذين يتهمون طلاب النور بتشكيل جمعية عليهم أن ينظروا بنفس المنظار إلى جميع أهل المهن وإلى جميع الطلاب وإلى جميع الوعاظ أيضاً، لذا فقد وجدت لزاماً عليَّ أن أدافع عن هؤلاء الذين جيىءَ بهم إلى السجن هنا نتيجة اتهامات تافهة لا أساس لها أبداً.
ولما قمتُ بالدفاع ثلاث مرات عن "رسائل النور" التي يهتم بها هذا البلد والعالم الإسلامي والتي صدرت منها فوائد مادية ومعنوية كبيرة لهذه الأمة، فسأقوم بالدفاع عنها مرة أخرى منطلقا من الحقيقة نفسها، وليس هناك أي سبب يمنع دفاعي هذا ولا يوجد أي قانون أو أية سياسة تستطيع أن تحول بيني وتمنعني عن هذا.
أجل، نحن جمعية.. جمعية لها منتسبون يبلغ عددهم في كل عصر ثلاثمائة وخمسين مليوناً، وفي كل يوم يُظهر كل منتسب حرمته وتوقيره الكامل لمبادئ هذه الجمعية المقدسة بأدائه الصلاة خمس مرات ويظهر استعداده لخدمة هذه المبادئ، ويهبّون لمساعدة بعضهم بعضاً بأدعيتهم وبمكاسبهم المعنوية حسب دستورهم المقدس: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ﴾ (الحجرات:10). ها نحن أولاء أفراد هذه الجمعية
العظيمة المقدسة، وظيفتنا الخاصة إيصال حقائق الإيمان القرآنية بشكلها اليقيني إلى أهل الإيمان، وإنقاذهم وإنقاذ أنفسنا من الإعدام الأبدي ومن السجن البرزخي الانفرادي، ولكن لا توجد لنا أية علاقة بالجمعيات الدنيوية والسياسية المتّسمة بالألاعيب وبالأساليب الملتوية، ولا توجد لنا أية علاقة بلعبة الجمعيات أو بأية جمعية سرية مع أن هذه هي التهمة الموجهة إلينا على الدوام ونحن أصلاً لا نتدنى أبداً إليها.
وبعد أن قامت أربعُ محاكم بتدقيق هذا الأمر وتمحيصه جيداً قررت إصدار قراراتها بالبراءة.
سعيد النورسي
* * *
تتمة ومرفق للدفاع
المقدم إلى ستة مراجع في "أنقرة" وإلى محكمة "آفيون" للجنايات الكبرى
أقول وأصرح لمحكمة "آفيون" بأن تحمّلي وصبري قد نفدا وأنه يجب وضع حد لهذا الأمر. فنحن منفيون منذ اثنتين وعشرين سنة دون أي سبب، وتحت الترصد الدائم وكأن حبسي المنفرد وعزلي المطلق عن العالم لا يكفي، فقد قدموني للمحاكم ست مرات وأدخلوني السجن ثلاث مرات دون أي مبرر قانوني (سوى مسألتين أو ثلاث) بل جراء أوهام وتوقع احتمالات، لأنهم لم يجدوا في مائة رسالة من "رسائل النور" أي مأخذ قانوني ضدنا وعاقبوا طلاب النور بغرامات مالية بلغت مئات الآلاف من الليرات، وهذا ظلم وغدر لا مثيل له، وستلعن الأجيالُ القادمة بكل شدة مسببي هذا الظلم والقائمين به، أما يوم المحكمة الكبرى فإننا نؤمن الإيمان كله بأن هؤلاء الظالمين سيرمون إلى جهنم وفي أسفل سافلين، وهذا ما جعلنا نجد بعض التسرية، وإلاّ فإنه كان في مقدورنا أن ندافع بكل قوة عن حقوقنا.
وهكذا ففي خمس عشرة سنة دخلنا ست محاكم، وتم تدقيق "رسائل النور" ومكاتيبنا مدة عشرين سنة، وكانت النتيجة أننا بُرٍّئنا من قبل خمس محاكم تبرئة كاملة، أما محكمة "أسكي شهر" فلم تجد ما يوجب الإدانة إلاّ بضع جمل في رسالة صغيرة هي رسالة "الحجاب" واتخذتها عذراً، واستندت إلى مادة قانونية مطاطة، وأصدرت حكماً بعقوبة بسيطة ضدنا، ولكننا كتبنا في "اللائحة التصحيحية" التي قدمناها رسميا إلى "أنقرة" بعد محكمة التمييز وأشرنا إلى أمر واحد فقط كأنموذج على عدم قانونية الحكم، وقلنا:
"إن آية الحجاب التي توضح عادة من العادات الإسلامية القوية الواردة في الدستور المقدس لدى ثلاثمائة وخمسين مليوناً منذ ألف وثلاثمائة وخمسين عاماً.. هذه الآية الكريمة تعرّضت لاعتراض أحد الزنادقة، ولانتقاد المدنية؛ لذا قمت
بتفسيرها والدفاع عنها متبعاً إجماع ثلاثمائة وخمسين ألف تفسير مقتدياً في ذلك نهج أجدادنا طوال ألف وثلاثمائة وخمسين عاماً. فإذا كانت هناك عدالة في الدنيا فيجب إصدار حكم بنقض العقوبة الصادرة والحكم الصادر بحق رجل قام بمثل هذا التفسير، لكي تمسح هذه اللطخة العجيبة عن جبين جهاز العدالة في هذه الحكومة الإسلامية". وعندما قدمت هذه اللائحة التصحيحية التي كتبتُها إلى المدعي العام هناك أُصيب بالذعر وقال:
"أرجوك! لا ضرورة لكل هذا، فعقوبتك خفيفة، والفترة الباقية قليلة جداً فلا حاجة لتقديم هذه اللائحة".
ولاشك أنكم على علم بأنني أدرجتُ نماذج أخرى عجيبة من الاتهامات ضمن الاعتراضات والدفاعات التي أرسلتها إليكم وإلى المراجع الرسمية في "أنقرة" على غرار هذا الأنموذج، لذا فإني أطلب من محكمة "آفيون" وآمل منها باسم العدالة إعطاء الحرية الكاملة لـ"رسائل النور" التي لها بركة وخدمة تعادل خدمة جيش بأكمله في سبيل مصلحة هذه الأمة وهذا الوطن. وإلاّ فإن دخول بعض أصدقائي إلى السجن بسببي يسوقني إلى اقتراف ذنب يستحق أكبر عقوبة لكي أودع مثل هذه الحياة، فقد خطر على قلبي ما يلي:
بينما كان من المفروض أن تقوم الحكومة بحمايتي وبمد يد العون والمساعدة لي، لوجود مصلحة كبيرة للأمة أو منفعة كبيرة للوطن في هذا الأمر، فإن قيامها بالتضييق عليَّ يشير إلى أن عصابة الإلحاد الخفية التي تحاربني منذ أربعين سنة، والبعض من أفراد عصابة الشيوعيين التي التحقت بها الآن، استطاعوا احتلال أماكن مهمة في المراكز الرسمية، وهؤلاء هم الذين يقودون الحملة ضدي. أما الحكومة فهي إما تجهل هذا الأمر أو أنها تسمح بذلك عن علم، وهناك أمارات عديدة مقلقة حول هذا الأمر.
السيد رئيس المحكمة!
لو سمحتم فإنني أود أن اطرح سؤالاً يحيرني كثيراً..
لماذا يقوم أهل السياسة بتجريدي من جميع حقوقي المدنية ومن حقوقي في الحرية بل ربما من حقوقي في الحياة مع أنني لم اشترك في السياسة ولم أدخل معتركها؟ لقد عاملوني وكأنني سفاح خضب يديه بدماء مئات الضحايا، فوضعوني في حبس منفرد ومنعزل ثلاثة أشهر ونصف، وحاولوا أثناءها التعرض لحياتي واقدموا على تسميمي إحدى عشرة مرة. وعندما أراد أصدقائي الحريصون وتلاميذي الصادقون حمايتي من شر هؤلاء منعوا اتصالهم بي، بل إنهم حرموني حتى من مطالعة كتبي المباركة والخالية من أي ضرر والتي أجد الأُنس معها في وحدتي وشيخوختي ومرضي وغربتي.
لقد رجوت المدعي العام أن يعطيني كتاباً واحداً من كتبي، ومع أنه وعدَ بذلك إلاّ أنه لم يفعل، فاضطررت إلى البقاء وحيداً في قاعة كبيرة ومقفلة وباردة دون أي شاغل أشغل به نفسي، وأوعزوا إلى الموظفين وإلى الخدم والحراس التعامل معي بعداوة وبخشونة بدلاً من المعاملة الحسنة التي قد أجد فيها بعض السلوان وبعض التسرية. وهاكم أنموذجاً صغيراً من معاملتهم هذه:
كتبت عريضة إلى المدير وإلى المدعي العام وإلى رئيس المحكمة، وأرسلتها إلى أحد إخواني لكي يكتبها بالحروف الجديدة التي أجهلها، وفعلاً تمت الكتابة وقُدّمت العريضة لهم. لقد عدّوا هذا جُرماً كبيراً صادراً مني، فقاموا بتغطية وسدِّ جميع نوافذ غرفتي وسمّروها، ومع أن الدخان كان يؤذيني، فإنهم لم يتركوا نافذة واحدة دون تغطيتها وسدِّها. ومع أن أنظمة السجن تقضي بألاَّ تتجاوز مدةُ الحبس الانفرادي خمسة عشر يوماً، فإنهم حبسوني حبساً انفرادياً مدة ثلاثة أشهر ونصف، ولم يسمحوا لأي صديق بالاتصال بيَّ. ثم إنهم أروني لائحة اتهام بأربعين صفحة كتبوها وهيأوها في ثلاثة أشهر، ولأنني لا اعرف الحروف الجديدة ولكوني مريضاً وذا خط رديء، فقد رجوتهم أن يبعثوا إليّ من يقرأ هذه اللائحة مع طالبين من طلابي -من الذين يفهمون لغتي لكي يقوما بكتابة اعتراضي ودفاعي- فلم يأذنوا بذلك ولم يقبلوه وقالوا:
"ليأت المحامي لكي يقرأه". ثم لم يسمحوا حتى بذلك، بل قالوا لأحد الإخوان "اكتب اللائحة بالحروف القديمة واعطها له". ولكن كتابة تلك اللائحة لا يمكن أن
تتم إلاّ في ستة أو سبعة أيام. وهكذا فبدلاً من قراءة تستغرق ساعة واحدة فقد مددوا هذا العمل إلى ستة أو إلى سبعة أيام، وذلك لكي يمنعوا أي اتصال معي، وهذا عمل استبدادي مذهل يلغي كل حقوقي في الدفاع. ولا يتعرض سفاح ارتكب مائة جريمة وحكم عليه بالإعدام إلى مثل هذه المعاملة في أية بقعة من بقاع الدنيا، والحقيقة إنني في ألم شديد لأنني لا أعرف أي سبب لمثل هذا التعذيب. لقد قيل لي بأن رئيس المحكمة شخص عادل ورحيم، لذا فقد قمت بتقديم هذه الشكوى إلى مقامكم كتجربة أولى وأخيرة.
توجد أربعة أسس في لائحة الاتهام:
الأساس الأول:
وهو الإدعاء بأنني شخص أفخر بنفسي وأُمَجِّدها. وقد رددت هذا الادعاء بكل ما أملك من قوة، وكانت اللجنة المختصة في محكمة "دنيزلي" قد ذكرت أنه "لو ادَّعى سعيد أنه المهدي المنتظر لقَبل كلُّ طلابه ذلك".
الأساس الثاني:
قيامه بإخفاء مؤلفاته.
يجب ألاّ تُعطى معاني خاطئة من قبل الأعداء المتسترين، لأن الإخفاء لم يكن بقصد سياسي أو بأي قصد يضر بأمن البلاد، ولا يعدّ وجود جهاز طبع بالحروف القديمة عذراً لهم للهجوم علينا. أما قضية الصفعة الموجهة من "رسائل النور" إلى مصطفى كمال([13]) فقد عرفتْ بها ست محاكم وكذلك المراجع الرسمية في "أنقرة" فلم يعترضوا عليها وأصدروا قرارهم بتبـرئتنا وأعادوا لنا جميع كتبنا ومن ضمنها
"الشعاع الخامس". ثم إن قيامي بإظهار سيئاته ليس إلاّ من أجل صيانة كرامة الجيش. أي إن عدم محبة شخص فرد ليس إلاّ من أجل كيل الثناء إلى الجيش بكل حب.
الأساس الثالث:
على الرغم من وجود مائة ألف طالب من طلاب النور وإحالة مائة ألف نسخة من "رسائل النور" إلى ست محاكم في ظرف عشرين سنة، فلم تُسجّل لدى موظفي أمن عشر ولايات أيَّ شيء يخلّ بالأمن أو يقلق هدوء البلد. وإن عدم وجود أية مادة تشير إلى هذا الإخلال لا في هذه المحاكم الست ولا عند موظفي هذه الولايات العشر لهو أكبر دليل وأفضل ردٍّ على التهمة العجيبة القائلة بأننا نحرّض على الإخلال بالأمن.
أما بخصوص لائحة الاتهام الجديدة هذه فمن العبث القيام بالرد عليها، لأنه ليس إلاّ تكراراً لتُهم سابقة سبق وأن تمت الإجابة عليها عدة مرات، وسبق لثلاث محاكم إصدار قراراتها بتبرئتنا منها، وهي مسائل لا أهمية لها. ولما كان اتهامنا في هذه المسائل يُعد في الحقيقة اتهاماً لمحكمة الجنايات الكبرى في "أنقرة" ولمحكمة "دنيزلي" ولمحكمة "أسكي شهر" (لأن هذه المحاكم برّأتنا في هذه المسائل) لذا فإنني أدَع الإجابة عنها لهذه المحاكم.
زد على هذا فهناك مسألتان أو ثلاث مسائل أخرى:
المسألة الأولى:
مع أنهم أصدروا قراراً ببراءتنا وبإعادة ذلك الكتاب إلينا بعد تدقيق وتمحيص تامّين دام سنتين في محكمة "دنيزلي" و"محكمة الجنايات الكبرى في أنقرة" فإنهم يلوحون بمسالة أو مسألتين واردتين في رسالة "الشعاع الخامس" بخصوص قائد مات وانتهى أمره كمادة اتهام ضدنا. أما نحن فنقول: أن توجيه نقد صائب كلي بحق شخص مات وانتهى أمره وانقطعت صلته بالحكومة لا يعدّ في نظر القانون ذنباً.
ثم قام مقامُ الإدعاء باستخراج تأويل متحذلق من معنى عام وكلي، وطبّق هذا في حق ذلك القائد. علماً بأنه ما من قانون يَعُدّ وجودَ معنى في رسالة خاصة وسرية يدِقّ على أفهام العامة ولا يدركها سوى واحد في المائة.. ما من قانون يعد ذلك ذنباً. ثم
إن تلك الرسالة شرحت تأويلَ الأحاديث المتشابهة بشكل رائع. وعندما نكون بصدد بيان المعنى الحقيقي لحديث وانطبق هذا المعنى بحق شخص مقصّر فما من قانون يعد هذا ذنباً، خاصة وإن هذا البيان موجود منذ حوالي أربعين عاماً وتم تقديمه لثلاث محاكم ولمحكمتكم، وقدّم مرتين خلال ثلاث سنوات إلى ستة مراجع رسمية في "أنقرة" ولم يتم الاعتراضُ على دفاعي وعلى اعتراضاتي التي قدمت فيها إجابات قطعية.
ثم إن نقدَ ذلك الشخص الذي كان ضمن انقلاب أدَّى إلى مساوئ عديدة، لا ترجع إليه وحده حسنات ذلك الانقلاب، بل ترجع إلى الجيش وإلى الحكومة، أما هو فقد تكون له حصة واحدة منها فكما أن قيامنا بنقده من زاوية سيئاته لا يُعد ذنباً، لا يجوز القول أن ذلك يعني الهجومَ على حركة الانقلاب. ويا ترى أيُّ ذنب وأيّ جريرة في أن تنتقد أو تضمر عدمَ المحبة لرجل حوّل جامعَ "آيا صوفيا" الذي هو مبعثُ الشرف الأبدي لأمة بطلة، والدرّة الساطعة لخدماتها وجهادها في سبيل القرآن، وهديةٌ تذكارية نفيسة من هدايا سيوف أجدادها البسلاء.. حوّله إلى دار للأصنام وبيت للأوثان وجعل مقرّ المشيخة العامة ثانوية للبنات؟
المسألة الثانية حول موجبات الاتهام في لائحة الإدعاء العام:
بعدما كسبنا البراءة في ثلاث محاكم، فإن بياناً رائعاً لتأويل حديث شريف (في الشعاع الخامس) قبل أربعين سنة أنقذ الأمة. حيث إن شيخ الإسلام -للجن والإنس- "علي أفندي الزنبللي"(*) قد قال: "ليس هناك أي جواز في لبس القبعة، حتى لو لبست مزاحاً". كما لم يجوّز لبسَها شيوخُ الإسلام وعلماؤه، مما جعل عوام أهل الإيمان أمام خطر حين اضطروا إلى لبسها([14]) إذ أصبحوا أمام خيارين: إما إن يتركوا دينهم، أو يقوموا بحركة عصيان.
ولكن إحدى فقرات رسالة "الشعاع الخامس" ذكرت انه: "ستعلو القبعةُ الرؤوس وستقول: لا تسجد، ولكن الإيمان الموجود في ذلك الرأس سيجبر تلك القبعة أيضاً على السجود ويجعلها إن شاء اللّٰه مسلمة" أنقذت عوام أهل الإيمان من التمرد والعصيان كما إنقذتهم من التخلي عن دينهم باختيارهم. فضلاً عن انه ليس هناك قانون يطالب الأشخاص المنـزوين بمثل هذه الأشياء، وأن ست حكومات في ظرف عشرين سنة لم تجبرني على لبس القبعة. كما إن النساء والأطفال وأئمة المساجد والموظفين في دوائرهم ومعظم القرويين غير مجبرين على لبسها، وفي الآونة الأخيرة رفعت عن رؤوس الجنود. كما إن لبس الطاقية وأغطية الرأس غير ممنوع في كثير من الولايات، ورغم كل هذا فقد أصبح هذا([15]) عنصر اتهام ضدي وضد إخواني. فهل يوجد في العالم كله قانون أو مصلحة أو أصل يعد مثل هذا الاتهام (الخالي من أي معنى) ذنباً؟
الأساس الثالث المتخذ مداراً للاتهام:
وهو زعم التحريض للإخلال بالأمن في "أميرداغ". وأنا أقول رداً على هذا:
أولاً:
نشير إلى الاعتراض الذي قدمتُه إلى هذه المحكمة وإلى ست مراجع رسمية في "أنقرة" بعلم هذه المحكمة وإذنها، وهو اعتراض لم يُردّ عليه، لذا فإنني أقدم الاعتراض نفسه كجواب للائحة الاتهام.
ثانياً:
يشهد كل من تكلم معي في "أميرداغ" ويشهد الأهالي وموظفو الأمن بأنني بعد صدور القرار ببراءتي ابتعدت بكل قوتي -وأنا قابع في انـزوائي- عن المشاركة في أية سياسة دنيوية، حتى إنني تركت التأليف والتراسل، فلم أكتب إلاَّ فقرتين صغيرتين حول الملائكة وحول حكمة التكرار في القرآن، ولم أكن أكتب سوى مكتوب واحد فقط في الأسبوع أحث فيه على قراءة "رسائل النور"، حتى إنني لم ابعث لأخي المفتي([16]) -الذي كان من طلابي طوال عشرين عاماً- سوى ثلاث أو أربع رسائل في ظرف ثلاث سنوات، وكان يبعث إليّ ببطاقات تهنئة العيد على الدوام، وكان يقلق عليَّ قلقاً كبيراً. أما أخي الآخر الساكن في بلدتي فلم أبعث له طوال عشرين عاماً أية
رسالة أبداً، ومع ذلك نرى أن لائحة الاتهام تقوم بحذلقة لا مثيل لها بتكرار الإسطوانة القديمة واتهامي بالإخلال بالأمن، وبالوقوف ضد الحركة الانقلابية. ونحن نقول ردَّاً على هذا:
إنَّ ما يزيد عن عشرين ألف نسخة من رسائل النور، طوال عشرين عاماً، طالعها عشرون ألفاً، بل مائة ألف من الناس بكل شوق وبكل قبول، ومع ذلك لم تجد ستُّ محاكم ولم يجد رجالُ الأمن في عشر ولايات معنية أيَّ شيء ضدهم. وهذا يبين بأنه لو كان هناك احتمال واحد فقط من ألوف الاحتمالات ضدنا فإنهم يأخذون به ويتخذون هذا الاحتمال وكأنه أمر واقع لا محالة، مع أنه لو كان هناك احتمال واحد ضمن احتمالين أو ثلاثة، ولم يظهر أي أثر له فلا يُعدّ ذلك الاحتمال ذنباً. حتى إنَّ واحداً بالألف من الاحتمال غير وارد، وهناك احتمال وارد لكل شخص -ومنهم المدعي العام- وهو احتمال قيامه بقتل أشخاص عديدين، أو القيام بالإخلال بالأمن خدمةً للشيوعيين وللفوضويين. إذن فإن النظر إلى مثل هذه المبالغة في الاحتمالات وكأنها أصبحت حقيقة وواقعة واستعمالها على هذا الأساس خيانة للعدالة وللقانون. ثم إن من الطبيعي وجود معارضة لكل حكومة، وإن المعارضة الفكرية لا تعدُّ جناية. فالحكومةُ تأخذ بالظاهر ولا تحاسب على ما في القلوب. ونحن نخشى أن يكون الأشخاص الذين يوجّهون مثل هذه التهم الباطلة في حق شخص لم يصدر منه أي ضرر ضد الوطن وضد الأمة، بل كانت له فوائد وخدمات كثيرة، ولم يتدخل في شؤون الحياة الاجتماعية بل وأجبروه على العيش في عزلة تامة، والذي قوبلت مؤلفاتُه بكل تقدير في أهم المراكز الإسلامية([17]) نخشى أن يكون هؤلاء الأشخاص أداة في خدمة الشيوعية وفي خدمة الفوضوية دون أن يشعروا.
هناك أمارات أعلمُ منها أن أعداءنا الخفيين يحاولون النيل من رسائل النور والتقليل من قيمتها، فينشرون وَهْم وجود فكرة المهدية -من الناحية السياسية- فيها ويدّعون أن رسائل النور وسيلة لهذه الفكرة، ويبحثون ويدققون عسى أن يعثروا على سند لهم لهذه الأوهام الباطلة. ولعل العذاب الذي أتعرض له نابع من هذه الأوهام. وأنا أقول لهؤلاء الظالمين المتسترين وللذين يسمعون لهم ويعادوننا:
"حاش!... ثم حاش!... إنني لم أقم بمثل هذا الادعاء، ولم أتجاوز حدي ولم أجعل الحقائق الإيمانية وسيلة شخصية أو أداة لنيل الشهرة والمجد، وإن السنوات الثلاثين الأخيرة خاصة من عمري البالغ خمسة وسبعين عاماً تشهد وتشهد رسائلُ النور البالغة مائة وثلاثين رسالة، ويشهد الآلاف من الأشخاص الذين صادقوني حق الصداقة بهذا.
أجل، إن طلاب النور يعرفون هذا، كما إنني سردت الحجج التي أظهرت في المحاكم أنني لم أسْعَ من أجل مقام أو مرتبة لشخصي أو من أجل الحصول على مرتبة أو مقام أو شهرة معنوية أو أخروية، بل سعيت بكل ما أملك من قوة لتوفير خدمة إيمانية لأهل الإيمان، وربما كنت مستعداً لا للتضحية بالمراتب الدنيوية الفانية وحدها بل -إن لزم الأمر- بالتضحية حتى بالمراتب الأخروية الباقية لحياتي في الآخرة، مع أن الجميع يسعون للحصول على هذه المراتب، ويعلم أصدقائي المقربون بأنني -إن لزم الأمر- أقبل ترك الجنة والدخول إلى جهنم من أجل أن أكون وسيلة لإنقاذ بعض المساكين من أهل الإيمان([18]) وقد ذكرت هذا وبرهنت عليه في المحاكم من بعض الوجوه، ولكنهم يرومون بهذا الاتهام إسناد عدم الإخلاص لخدمتي الإيمانية والنورية، ويرومون كذلك التقليل من قيمة رسائل النور وحرمان الأمة من حقائقها.
أيتوهم هؤلاء التعساء أن الدنيا باقية وأبدية؟ أم يتوهمون أن الجميع مثلهم يستغلون الدين والإيمان في مصالح دنيوية؟ إن هذا التوهم يقودهم إلى الهجوم على شخص تحدى أهل الضلالة في الدنيا وضحى في سبيل خدمة الإيمان بحياته الدنيوية، وهو مستعد للتضحية بحياته الأخروية إن لزم الأمر في سبيل هذه الخدمة. وأنه غير مستعد لأن يستبدل ملك الدنيا كلها بحقيقة إيمانية واحدة، كما صرح في المحاكم، ويقودهم إلى الهجوم على شخص هرب بكل قوته من السياسة ومن جميع
مراتبها المادية منها وما يشمّ منها معنى السياسة سواءً أكانت من قريب أو بعيد وذلك بسر الإخلاص، وتحمّل عذاباً لا مثيل له طوال عشرين عاماً، ومع ذلك لم يتنـزل -حسب المسلك الإيماني- إلى السياسة. ثم إنه يعد شخصه من جهة النفس- أقل مرتبة من كثير من طلابه، لذا فهو ينتظر دوماً دعاءهم واستغفارهم له، ومع أنه يعد نفسه ضعيفاً وغير ذي أهمية، إلا أن بعض إخوانه الخلص أسندوا إليه في رسائلهم الخاصة بعضاً من فضائل النور، وذلك لكونه ترجماناً للفيوضات الإيمانية القوية التي استمدوها من رسائل النور، ولم يخطر ببالهم في ذلك أي معنى سياسي، بل على مجرى العادة، ذلك لأن الإنسان قد يخاطب شخصاً عادياً ويقول له: "أنت ولي نعمتي... أنت سلطاني". أي يعطون له -من زاوية حسن الظن- رتباً عالية لا يستحقها، وهي أكثر ألف مرة من رتبته ومن قيمته. وكما هو معلوم فإن هناك عادة قديمة جارية مقبولة -لم يعترض عليها أحد- فيما بين الطلاب وبين أساتذتهم وهي قيام الطلاب بمدح مبالغ فيه لأساتذتهم قياماً منهم بحق الشكر، ووجود بعض التقاريظ والمدح المبالغ فيه في خاتمة الكتب المقبولة.. فهل يعد هذا ذنباً بأي وجه من الوجوه؟ صحيح أن المبالغة تعد في جانب منها مخالفة للحقيقة، ولكن شخصاً مثلي ليس له أحد، ويعاني من الغربة ما يعاني، وله أعداء كثيرون، وهناك أسباب عديدة لكي يبتعد عنه معاونوه ومساعدوه… أفيستكثر علىّ هؤلاء البعيدون عن الإنصاف أن أشدّ من الروح المعنوية لهؤلاء المساعدين والمعاونين ضد المعارضين العديدين، وأن أنقذهم من الابتعاد والهرب وأَحُول دون كسر حماستهم المتجلية في مديحهم المبالغ فيه، وأن أُحَوّل هذا المديح إلى رسائل النور ولا أردهم رداً كاملاً وقاطعاً؟ وهكذا يظهر مدى ابتعاد بعض الموظفين الرسميين عن الحق أو عن القانون وعن الإنصاف عندما يحاولون أن ينالوا من الخدمة الإيمانية التي يؤديها شخص بلغ من العمر عتياً وهو على أبواب القبر، وكأن هذه الخدمة مسخرة لغرض من أعراض الدنيا.
إن آخر ما نقول: لكل مصيبة ﴿إِنَّا للّٰه وَإِنَّـا إِلَيْهِ رَاجِعونَ﴾".
سعيد النورسي
* * *
ملحق
لقد ورد في ختام قرار التحقيقات الأخيرة التي أُجريَت من قبل محكمة التحقيقات ما يأتي:
"لقد قرر مجلس الوزراء قبل أربعة أشهر منعَ نشر رسالة "المعجزات القرآنية" أي "الكلمة الخامسة والعشرين" ومصادرة أعدادها من السوق نظراً لورود شرح لثلاث آيات قرآنية، وهذا الشرح يعارض القانون المدني الحالي ويصادم المدنية".
وجواباً على هذا نقول: إنَّ رسالة "المعجزات القرآنية" موجودة الآن ضمن رسالة "ذو الفقار" هذه الرسالة يقارب عدد صفحاتها الأربعمائة صفحة، كنت قد نشرتُها رداً على انتقادات المدنية الغربية للقرآن الكريم رداً قاطعاً لا يمكن جرحه أو الاعتراض عليه. ويشغل هذا صفحتين منها في معرض تفسير لثلاث آيات قرآنية وموجود بصورة متفرقة في ثلاث رسائل قديمة لي. الآية الأولى كانت آية الحجاب، والآية الثانية كانت حول الإرث وهي آية: ﴿فَلأُمِّهِ السُّدُسُ﴾ (النساء: 11) أما الآية الثالثة فكانت أيضاً حول الإرث وهي آية: ﴿فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ﴾ (النساء: 176) ومع أنني قمت بشرح حِكَم حقائق هذه الآيات في صفحتين اثنتين وقبل عشرين عاماً (بعضها قبل ثلاثين عاماً) شرحاً ألزم الفلاسفةَ، إلاّ أنهم توهموا وكأنها كُتبت اليوم. وبدلاً من منع رسالة "ذو الفقار" البالغة أربعمائة صفحة فقد كان في الإمكان إخراج هاتين الصفحتين فقط منها، ثم إعادتها إلينا، وهذا حق قانوني لنا؛ إذ لو وُجدت كلمةٌ واحدة أو كلمتان ضارتان في خطاب ما، حُذفت هاتان الكلمتان وسُمِح بنشر ذلك الخطاب، وقياساً على هذا فإننا نطالب بحقنا هذا من محكمتكم العادلة.
ولعدم وجود إمكانية مجيء أحدهم عندي ليقرأ لي لائحةَ الاتهام البالغة أربعين صفحة والصادرة قبل شهر، فقد قرأوا هذه اللائحة لي اليوم (المصادف لليوم الحادي عشر من حزيران).. قرأوا اللائحة واستمعتُ أنا فوجدت أن الدفاع الذي كتبتُه قبل شهرين وكذلك تتمة هذا الدفاع وملحقه الذي كتبتُه قبل شهر والذي أرسلته إلى مقامكم وإلى ست مراجع في أنقرة يرد لائحةَ الاتهام هذه رداً قاطعاً، لذا لا أجد أي مسوّغ لكتابة دفاع جديد. ولكني أُحب تذكيرَ مقام الإدعاء عندكم بنقطتين أو ثلاث فأقول:
إنَّ السبب الذي حدا بي إلى عدم الإجابة على هذه اللائحة يعود إلى أنني لم أشأ أن أطعنَ في كرامة ثلاث محاكم عادلة أصدرت قراراتها ببراءتنا ولم أشأ أن أخونها. ذلك لأن تلك المحاكم حققت بشكل دقيق جميعَ الأسس الواردة في لائحة الاتهام هذه ثم أصدرت قراراتها بالبراءة. إن عدم احترام هذه القرارات وعدِّّها وكأنها لا شيء يُعدّ تجاوزاً واعتداءً على شرف جهاز العدالة.
النقطة الثانية:
لقد حاول مقام الإدعاء بحذلقة إعطاءَ معاني لم تخطر على بالنا لمسألتين أو ثلاث من بين آلاف المسائل لاتهامنا، بينما توجد هذه المسائل في أمهات "رسائل النور" وحازت على رضى وقبول المحققين من علماء الأزهر في مصر وعلماء الشام وحلب وعلماء مكة المكرمة والمدينة المنورة وخاصة على رضى وقبول العلماء المحققين لرئاسة الشؤون الدينية، لذا فقد دهشتُ واستغربتُ عندما رأيت المدعي العام يورد بعض الردود وبعض الاعتراضات العلمية في لائحة الاتهام وكأنه عالمٌ من علماء الدين وشيخٌ من شيوخه. ولنفرض جدلاً أن لي بعض الأخطاء فلا يمكن أن تُعد ذنباً يحاسَب عليه القانون بل مجرد خطأ علمي، هذا مع العلم أن أي عالم من آلاف العلماء لم يرَ هذه الأخطاء التي يشير إليها المدعي العام ولم يعترض عليها. ثم إن ثلاث محاكم برّأتنا وبرأت "رسائل النور" كلها سوى خمسَ عشرة كلمة واردة في "اللمعة الرابعة والعشرين" حول (الحجاب) حيث أصدرت محكمة "أسكي شهر" عقوبات خفيفة بحقي وبحق خمسة عشر بالمائة من أصدقائي. وكنت قد ذكرت في تتمة دفاعي التي قدمتها إليكم بأنه لو كانت هناك عدالة على سطح الأرض لما قَبِلتْ ذلك الحُكم ضدي بسبب تفسيري ذاك، الذي اتبعتُ فيه حُكم ثلاثمائة وخمسين ألف تفسير. وقد حاول المدعي العام بذكائه وبمعاذير شتى اختيار بعض الجمل لكتاب ولخطابات تعود إلى عشرين سنة مضت وتحويرها ضدنا. بينما أصبحت خمس أو
ست محاكم -وليست ثلاث محاكم فقط- من المحاكم التي برأتنا شريكة لنا في هذا الذنب أو الجرم المزعوم. وأنا أذَكّر مقام الإدعاء العام بضرورة عدم التعرض إلى كرامة تلك المحاكم العادلة.
النقطة الثالثة:
إنَّ نقد ومعارضة رئيس مات وانتهى أمره وانقطعت صلتُه بالحكومة لكونه سبباً في بعض السلبيات في الانقلاب لا يُعدُّ ذنباً أو جرماً في نظر القانون. ولم يكن انتقادنا له صريحاً، بل قام المدعي العام بحذلقته بتطبيق ما جاء في بياننا بشكل عام وكلي، على ذلك الرئيس. فما كان سراً من المعاني التي لم نوضحها أظهره هذا المدعي العام على الجميع وفضحه وركّز عليه أنظارَ الناس جميعاً. فإن كان هناك ذنبٌ في هذه المعاني فمن المفروض أن يكون المدعي العام شريكاً فيه، ذلك لأنه جلب أنظار الجماهير لهذه المعاني وحرّضهم.
النقطة الرابعة:
على الرغم من قيام ثلاث محاكم بإصدار قراراتها بتبرئتنا بشكل قاطع من تهمة تشكيل جمعية إلاّ أن المدعي العام يحاول تكرار الاسطوانة القديمة حول الأوهام والمزاعم الخاصة بتشكيل جمعية سرية ويجهد نفسه في البحث عن أي معاذير غير حقيقية في هذا المجال. ومع أن هناك عدة جمعيات سياسية ضارة لهذه الأمة ولهذا الوطن، فإنه يؤذَن لها ويسمح لها بأداء نشاطها بينما يتم إلصاق تهمة "استغلال الدين لتحريض الناس على الإخلال بالأمن" بنا، مع أن هناك آلاف الشهود وآلاف الشواهد وقرارات ست ولايات بعدم التعرض لنا، تثبت بأن الصداقة الموجودة بين طلاب النور وهى صداقة دراسة هي في صالح الأمة وفي صالح الدين وهي في سبيل تأمين السعادة الدنيوية والسعادة الأخروية، وأن هؤلاء الطلاب وقفوا وجاهدوا متساندين ضد جميع تيارات الإفساد سواءً أكانت من الخارج أم من الداخل، لذا فإن إلصاقَ تهمة تشكيل جمعية سرية والإخلال بالأمن مع أنه لم يسجل في ظرف عشرين عاماً أي حادثة إخلال للأمن ضد أي طالب من طلاب النور الذين يتجاوز عددهم مئات الآلاف.. إنَّ مثل هذه التهم لا يحتدّ لها النوعُ الإنساني وحده بل يحق
لهذه الأرض أيضاً أن تحتدّ وتردّ هذه التهمة.. على أي حال فإنني لا أجد مبرراً لإطالة الكلام، إذ إن دفاعي (الذي كتبتُه قبل لائحة الاتهام هذه) وتتمة دفاعي كافيتان للرد وللإجابة على المدعي العام.
الموقوف في سجن آفيون
سعيد النورسي
* * *
بِاسمِهِ سُبحَانَهُ
أوضح لمحكمة آفيون ولرئيس محكمة الجنايات الكبرى أنه:
لقد قطعت علاقتي بالدنيا لأنني مفطور منذ البداية على عدم تحمل التحكم. وتبدو الحياة الآن أمام عيني ثقيلة جداً إلى درجة أنني أرى بأنني لا أستطيع العيش في مثل هذه الحياة المليئة بتحكمات لا معنى ولا ضرورة لها إذ لا أستطيع تحمل تحكمات ونوازع السيطرة لدى المئات من الأشخاص الرسميين خارج السجن، فقد مللتُ من مثل هذه الحياة. وأنا أطالبكم بكل ما أَملك من قوة أن تعاقبوني. وبما إنني لا أستطيع نيل الموت فإن من الضروري لي البقاء في السجن. وأنتم تعلمون جيداً أن الاتهامات الباطلة التي أسندها لي مقامُ الإدعاء غيرُ موجودة وغيرُ واردة أصلاً. لذا فهي لا تكفي لإيقاع العقوبة بي. ولكن وجود تقصيرات كبيرة عندي تجاه الوظيفة الحقيقية هو الذي يسبب لي عقاباً معنوياً. ولو كان الاستفسار مناسباً فإنني مستعد للإجابة على استفساراتكم. أجل إنَّ ذنبي الوحيد المتأتي من تقصيراتي الكبيرة والذي لا يُغتفر من حيث الحقيقة، هو أنني بسبب عدم التفاتي إلى الدنيا لم أعمل ما إنا مكلّف به من إيفاء وظيفةً جليلةَ الشأن في سبيل الوطن والأمة وفي سبيل الدين، وأن عدم استطاعتي ذلك لا يشكل عذراً بالنسبة إليّ، وقد توصلت الآن إلى هذه القناعة في سجن "آفيون" هذا.
إنَّ الذين يتهمون طلاب النور - الذين تنحصر علاقتُهم الأخروية الخالصة بـ"رسائل النور" وبمؤلفها، ويحاولون تحميلهم مسؤولية تشكيل جمعية سياسية، بعيدون كل البُعد عن العدالة والحقيقة. أثبت ذلك قرار التبرئة لثلاث محاكم بثلاث جهات. فضلاً عن هذا نقول:
إنَّ جوهر الحياة الاجتماعية الإنسانية ولاسيما للأمة الإسلامية وأساسَها هو: وجود محبة خالصة بين الأقرباء، ووجود رابطة وثيقة بين القبائل والطوائف ووجود أخوة معنوية وتعاونية نحو إخوته المؤمنين ضمن القومية الإسلامية، ووجود علاقة فداء نحو قومه وجنسه ووجود التزام قوي ورابطة قوية لا تهتز مع الحقائق القرآنية التي تنقذ حياته الأبدية، ومع ناشري هذه الحقائق، وأمثالها من الروابط التي تحقق أساس الحياة الاجتماعية، وأن إنكارها لا يؤدي إلاّ إلى قبول الخطر الأحمر الذي يتربص بنا في الشمال والذي يبذر بذور الفوضى ويحاول القضاء على الأجيال وعلى القومية ويجمّع أطفالَ الناس هناك ويضعهم تحت تصرفه ويحاول إزالة شعور القرابة وشعور القومية وإفساد المدنية البشرية والحياة الاجتماعية إفساداً تاماً، أقول إنه بذلك الإنكار وذلك القبول يمكن إطلاق اسم الجمعية على طلاب النور، لذا فإن طلاب النور الحقيقيين يُظهرون علاقاتهم المقدسة مع الحقائق القرآنية ويظهرون ارتباطهم الذي لا ينفصم مع إخوانهم في الحياة الآخرة، ولأنهم يتقبلون برحابة صدر أية عقوبة تقع عليهم بسبب هذه الأخوة فإنهم يعترفون بهذه الحقيقة كما هي في حضور محكمتكم العادلة، ولا يتدنَّون عند الدفاع عن أنفسهم إلى درك الحيلة والنفاق والكذب.
الموقوف
سعيد النورسي
* * *
ذيل تتمة الاعتراض
المقدم إلى الإدعاء العام لمحكمة آفيون
أولاً: أُبيّن للمحكمة أن هذا الادعاء الجديد أيضاً مبني على ادعاءات قديمة لمحكمة "أسكي شهر" و "دنيزلي" ومبني على التقرير المقدم من قبل خبراء سطحيين بعد تحقيقاتهم العابرة. وقد ادعيت في محكمتكم: إن لم أثبت مائة خطأ في هذا الادعاء فأنا راضٍ بإنزال عقاب مائة سنة من السجن بي وها أنا الآن اُثبت دعواي. إن شئتم أقدم لكم الجدول المتضمن للأخطاء التي تزيد على المائة.
ثانياً: عندما أُرسلتْ أوراقنا وكتبنا من محكمة "دنيزلي" إلى أنقرة كتبت لإخوتي -في غضون ترقبي وقلقي على صدور قرار ضدنا- الفقرةَ التي في ختام بعض دفاعاتي، وهي أنه إذا استطاع موظفو العدالة الذين يدققون رسائل النور بهدف النقد والتقييم، أن يقووا إيمانهم وينقذوه، ثم حكموا عليّ بالإعدام، اشهدوا بأنني قد تنازلت لهم عن جميع حقوقي. لأننا خدام الإيمان ليس إلاّ. وإن المهمة الأساس لرسائل النور هي تقوية الإيمان وإنقاذه. لذا نجد أنفسنا ملزمين بالخدمات الإيمانية، دونما تمييز بين عدوٍ وصديق، ومن غير تحيّز لأية جهة كانت.
وهكذا.. أيها السادة أعضاء المحكمة، استناداً إلى هذه الحقيقة، وفي ضوئها، قد استطاعت رسائل النور بحقائقها الناصعة وبراهينها الساطعة أن تستميل نحوها قلوب الكثيرين من أعضاء المحكمة وحملتهم على التعاطف معها. فلا يهمني بعدُ ما تريدون فعله، وما تقررون في حقي.. افعلوا ما شئتم فإني مسامحكم.. ولن أثور أو أغضب عليكم إطلاقاً. و هذا هو السبب في أنني تحملت أشد أنواع الأذى والجور والاستبداد والتعرض والإهانات المتكررة التي أثارت أعصابي والتي لم أُقابَل قبلُ بمثلها طوال حياتي كلها.. بل إنني لم ادعُ على أحد بالشر أو السوء.
وإن مجموعات رسائل النور التي بين أيديكم لهي دفاعي غير القابل للجرح أو الطعن، وهي خير دليل على زيف جميع الادعاءات المثارة ضدنا.
إنه لمثير للعجب والحيرة أنه في الوقت الذي دقق علماء أجلاء من مصر والشام وحلب والمدينة المنورة ومكة المكرمة وعلماء من رئاسة الشؤون الدينية، مجموعاتِ رسائل النور ولم ينتقدوا منها شيئاً، بل استحسنوها وقدروها حق قدرها. وفي الوقت الذي حملت الرسائل مائة ألف من أهل الحقيقة على التصديق بها رغم الظروف الصعبة المحيطة، ورغم ما أعانيه من الاغتراب والشيخوخة وقلة النصير، وفضلاً عن الهجمات الشرسة المتلاحقة.. أقول: في الوقت الذي تقدّر الرسائل هكذا، إذا بالذكي([19]) الذي استجمع علينا ادعاءات واهية يتفوه بخطأ فاحش ينم عن سطحيته وسطحية نظرته للأمور، إذ قال: إن القرآن الكريم عبارة عن مائة وأربعين سورة!.. هذا الشخص نفسه يقيّم رسائل النور فيقول: "إن رسائل النور مع أنها تحاول تفسير القرآن الكريم وتأويل الأحاديث الشريفة إلاّ أنها لا تحمل ماهية علمية وقيمة راقية من حيث تقديمها المعرفة إلى قرائها". ألا يفهم من تنقيده هذا أنه بعيد كل البعد عن القانون والحقيقة والحق والعدالة!.
وأشكو إليكم أيضاً:
لقد أسمعتمونا الادعاء العام كاملاً طوال ساعتين والذي أدمى قلوبنا لما فيه من أخطاء تربو على المائة سجّلناها في أربعين صفحة. إلاّ أنكم لم تفسحوا لي مجال دقيقتين من الزمان كي أجيبه في صفحة ونصف الصفحة رغم إصراري على ذلك، لذا أطالبكم باسم العدالة بقراءة اعتراضي بتمامه.
ثالثاً: إن لكل حكومة معارضين، ولا يسمح القانون بالتعرض لهم ماداموا لم يخلّوا بالنظام. أفيمكن لي ولأمثالي ممن أعرضنا عن الدنيا ونسعى للقبر أن ندع السعي للحياة الباقية على وفق المسلك الذي سلكه أجدادنا الميامين طوال ألف وثلاثمائة وخمسين سنة وبهدي تربية قرآننا العظيم، وفي ضوء دساتير يقدّسها ثلاثمائة وخمسون مليوناً من المؤمنين في كل عصر، ثم ننشغل بحياة دنيوية قصيرة فانية وننقاد لقوانين ودساتير غير أخلاقية للمدنية السفيهة، بل قوانين جائرة وحشية كما هي في البلشفية، وننحاز إليها تحت ضغوط أعدائنا ودسائسهم؟ فليس هناك قانون في العالم كله ولا إنسان يملك ذرة من الإنصاف يُكره الآخرين على قبول هذا بذاك.
إلاّ أننا نقول لأولئك المعارضين: إننا لم نتعرض لكم فلا تتعرضوا لنا!
وهكذا بناء على هذه الحقيقة، إننا لسنا مع زعيم أصدر أوامر حسب هواه باسم القانون، لتحويل جـامع أياصوفيا إلى دار للأصنام وجعل مقر المشيخة العامة ثانوية للبنات.. لسنا معه فكراً ولا موضوعاً ولا من حيث الدافع ولا من حيث النتيجة، ولا نجد أنفسنا ملزمين بقبول أمر كهذا.
والواقع أنه بالرغم من حياة الأسر والتشرد التي عشتها خلال هذه السنوات العشرين، والتي ذقت فيها ألواناً من العذاب، وتعرضت لأقسى وأشنع أساليب الظلم والاستبداد، ومع أن هناك مئات الألوف من إخواني النوريين الأوفياء، فإننا لم نتدخل في الأمور السياسية ولم تُسجّل حادثة واحدة تدل على تعرضنا للأمن أو إخلالنا بالنظام.
إن ما أتعرض له في أخريات أيامي هذه، من الإهانات المتكررة والمعاملات الظالمة التي أُقابل بها، وحياة الاغتراب والتشرد التي أعيشها والتي لم أر مثلها من قبل جعلني أملّ الحياة.. إنني سئمت الحرية المقيدة، تلك الحرية التي يحدها التحكم ويعقلها الجور والاستبداد. لقد رفعت إليكم طلباً لا لإطلاق سراحي وتخفيف عقابي وإبراء ساحتي، كما هو المألوف، بل لإنزال أشد العقاب بي وأقساه، نعم أشده وأقساه لا أخفه وأهونه، ذلك لأنه لا سبيل للتخلص من مثل هذه المعاملة العجيبة المنكرة سوى أحد أمرين: السجن أو القبر. إن الطريق إلى القبر مسدود أمامي لا أستطيع الحصول عليه لأن الانتحار محظور شرعاً، ثم إن الأجل سر خفي، لا يدرك الإنسان كنهه بَلْهَ أن تطاله يداه، لذا فقد رضيت بالسجن الذي أنا رهين اعتقاله وتجريده منذ حوالي ستة أشهر. إلاّ أنني لم أقدم هذا الطلب في الوقت الحاضر إلاّ نزولاً عند رغبة إخواني الأبرياء.
رابعاً: إنني خلال هذه السنوات الثلاثين من حياتي، والتي أطلقت فيها على نفسي اسم "سعيد الجديد" أدّعي فأقول: بأنني قد بذلت ما وسعني الجهد لكبح جماح نفسي الأمارة بالسوء، وصونها من العجب والتطلع إلى الشهرة والتفاخر، بل قد جرحت أكثر من مائة مرة مشاعرَ طلاب النور الذين يحملون حسن ظن مفرط
بشخصي، يشهد على هذا ما كتبته في رسائل النور وحقائقها المتعلقة بشخصي، والمنصفون ممن يختلفون إليَّ بجد، والأصدقاء جميعاً. فأنا لست المالك لبضاعة النور، بل لست إلاّ دلالاً ضعيفاً بسيطاً في حانوت مجوهرات القرآن.
كما إنني بتصديق من إخواني المقربين، وبما شاهدوا من أماراتها العديدة، عازم على ألاّ أضحي بالمناصب الدنيوية وأمجادها الزائفة وحدها، بل لو أُسند إليّ -فرضاً- مقامات معنوية عظمى، فإنني أضحى بها أيضاً لخدمتي للإيمان والقرآن خشية اختلاط حظوظ نفسي بإخلاصي في الخدمة. وقد قمت بهذا فعلاً.
ومع ذلك فقد جعلتْ محكمتُكم الموقرة، مشاعر الاحترام التي أبداها نحوي بعض إخواني -نظير انتفاعهم برسائل النور كشكر معنوي من قبيل احترام زائد عن احترام المرء لأبيه- مع رفضي وعدم قبولي لها، جعلتها مدار استجوابنا وكأنها مسألة سياسية وحملتم فريقاً منهم على التنكر لذلك الاحترام، فيا عجباً أي ذنب وأي جريرة في امتداح جاء على لسان الغير ولم يرض به هذا العاجز ولا يرى نفسه لائقاً بذلك؟
خامساً: إني أعلن لكم بصراحة تامة أن محاولة إلصاق تهمة الانتماء إلى التكتلات والتجمعات والتدخل في الشؤون الداخلية، إلى طلبة النور الذين لا علاقة لهم بأيّ وجه بالتحزب والتجمع والتكتلات والتيارات السياسية المختلفة، ما هي إلاّ من وحي منظمة الزندقة المتسترة التي تعمل منذ أربعين سنة على هدم الإسلام ومحو الإيمان، خادمة بذلك لنوع من البلشفية والتي سبّبت -هذه المنظمة- في تغذية روح التطرف والفوضى في هذه البلاد، سواء بعلم أو بغير علم، واتخذت موقفاً مضاداً تجاهنا.
بيد أن ثلاث محاكم مختلفة قد اتفقت على تبرئة ساحة رسائل النور وطلَبتِها من تهمة الانتماء إلى التكتلات، سوى محكمة واحدة، وهي محكمة "أسكي شهر" حيث حكمت عليّ بالسجن لمدة عام واحد، ولمدة ستة أشهر على خمسة عشر من إخواني من مجموع مائة وعشرين شخصا. ولعل الذي دفع محكمة أسكي شهر إلى اتخاذ ذلك القرار يعود إلى ورود فقرة كُتبت قديماً جاءت ضمن رسالة صغيرة تتعلق بمسألة واحدة وهي "الحجاب".
وكان نص تلك الفقرة كما يأتي:
"لقد طرق سمعنا أن صباغ أحذية قد تعرض لزوجة رجل ذي منصب دنيوي كبير، كانت مكشوفة المفاتن، وراودها نهاراً جهاراً في قلب العاصمة "أنقرة"! أليس هذا الفعل الشنيع صفعة قوية على وجوه أولئك الذين لا يعرفون معنى الحياء من أعداء العفة والحجاب؟"
وإذن فإن اصطناع الأسباب الواهية والاتهامات الباطلة ضد طلبة رسائل النور الآن، إن هو إلاّ بمثابة الحكم ضد تلك المحاكم الثلاث، ومحاولة لإلصاق التهمة بها ووصمها بوصمة الخيانة والعار.
سادساً: لا يمكن المبارزة مع رسائل النور. فقد اتفقت كلمة علماء الإسلام الذين اطلعوا عليها أنها تفسير قيم صادق للقرآن الكريم، أي أنها تنطوي على براهين دامغة لحقائقه الناصعة وهي معجزة معنوية من معجزات القرآن في هذا العصر، وسد منيع أمام الأخطار والمهالك التي تتربص بهذه البلاد وبهذه الأمة من الشمال.
فالواجب يقتضي من حيث الحقوق العامة أن تعمل محكمتكم الموقرة على الترغيب في هذه الرسائل بدلاً من تخويف طلابها وترغيبهم عنها، هذا ما نعلمه، بل ننتظره منكم.
ومن المعلوم أن عدم التعرض لكتب الملاحدة وبعض الساسة المتزندقين ومجلاتهم وجرائدهم -مع ضررها الفادح على الأمة والبلاد والأمن العام- تحت ستار الحرية العلمية، يدفعنا حتماً إلى القول والتساؤل: ما الجانب المحظور من التحاق شاب برئ يحتاج إلى العون والمساعدة إلى صفوف طلبة النور، كي ينقذ إيمانه وينجو من التردي في هاوية الأخلاق الذميمة؟ أفليس من الحكمة والعدل والواجب أن تحتضن الحكومة ووزارة المعارف (التربية) هذا العملَ وتشجعه وتقدره حق قدره بدلاً من أن تعمل على مكافحته وعلى ملاحقتنا دون سبب؟
كلمتي الأخيرة: نسأل اللّٰه أن يوفق الحكام إلى إحقاق الحق وإقرار العدل.. آمين
حسبنا اللّٰه ونعم الوكيل نعم المولى ونعم المصير
الحمد للّٰه رب العالمين.
سعيد النورسي
* * *
كلمتي الأخيرة
أودّ أن أبيّن لهيئة المحكمة ما يلي:
لقد أدركت من لائحة الاتهام ومن وضعي لمرات عديدة وطويلة في السجن الانفرادي بأن شخصي هو الهدف في هذه المسألة، فقد لوحظ وجود مصلحة لتهوين شأني والنيل من شخصي. وقد زعم أنني شخص ضار للإدارة وللأمن وللوطن، وأنني أسعى تحت ستار الدين إلى مقاصد دنيوية ومن أجل نوع من السياسة، و ردّاً على هذا فإنني أقول لكم بصراحة تامة:
لا تمدّوا يدكم بالأذى إلى رسائل النور ولا إلى طلاب النور الميامين من أجل هذه الأوهام ومن أجل محاولتكم محاربتي شخصيا، لأنهم هم الأبناء المضحون في سبيل هذا الوطن وفي سبيل هذه الأمة، وإلاّ فسيلحق بهذا الوطن وبهذه الأمة ضرر كبير وقد يكون ذلك سبيلاً إلى خطر عليهما.
وأريد أن أؤكد لكم: لقد قررت أن أقبل -في ضوء مسلكي الحالي- أيّ أذى وأية إهانة وأيّ عذاب وأيّ عقاب موجه إلى شخصي، بشرط ألاّ يأتي أي ضرر إلى رسائل النور وإلى طلابها بسببي، ففي هذا ثواب لي في الآخرة وهو وسيلة لإنقاذي وخلاصي من شرور نفسي الأمارة بالسوء. فبينما أبكي من ناحية فإنني مسرور من ناحية أخرى. ولو لم يدخل هؤلاء الأبرياء المساكين السجن معي من أجل هذه المسألة لكانت لهجتي في الدفاع شديدة جداً، وقد شاهدتم أنتم أيضاً ورأيتم كيف حاول مَن كتب لائحة الادعاء البحث عن أسباب واهية ومعاذير باطلة، فقدم جميع ما كتبته من كتب ومن خطابات سرية خاصة وغير خاصة في ظرف عشرين أو ثلاثين سنة من حياتي كأنني قد كتبتها بأجمعها في هذه السنة، وساق لبعضها معاني خاطئة، وقدمها وكأنها لم تظهر للعيان ولم تدخل أية محكمة ولم يشملها أي قانون من قوانين العفو ولم تتعرض لمرور الزمن.. كل هذا من أجل النيل مني، والحط من شأني. ومع أنني ذكرت أكثر من مائة مرة بأني أعترف بضآلة شأني وصغر قيمتي، ومع أن معارضيّ يحاولون بكل وسيلة النيل مني وتهوين أمري إلا أن سبب محبة عامة الناس لي محبة أقلقت رجال السياسة يعود إلى أن تقوية
الإيمان يحتاج في هذا الزمن وفي هذه الظروف حاجة ملحة وقطعية إلى أشخاص لا يضحون بالحقيقة -في موضوع الدين- من أجل أي شيء على الإطلاق ولا يجعل أحدهم الدين وسيلة وآلة لأي غرض ولأي شيء، ولا يعطي لنفسه حظاً، وذلك لكي يمكن الاستفادة من إرشاداته في دروس الإيمان وتحصل القناعة التامة به.
نعم، إنه لم يحدث في أي ظرف من الظروف أن اشتدت الحاجة إلى الخدمة مثلما بلغته في عصرنا هذا وذلك لأن الأخطار قد داهمتنا من الخارج بشدة وضراوة بالغتين. ومع اعترافي وإعلاني بأن شخصي العاجز لا يكفي لسد هذه الحاجة أو ملء ذلك الفراغ، فقد ذهب البعض إلى الظن بأن شيئاً من ذلك يمكن أن يتحقق على يدي، لا لمزية معينة في شخصي، بل لشدة الحاجة إلى من يقوم بمثل هذا العمل ولعدم بروز أحد بروزاً ظاهراً لتحمل تلك المسـؤولية العظمى.
ولقد تأملت منذ أمد طويل في هذه المسألة في حيرة وتعجب، إذ على الرغم من أخطائي وعيوبي الشخصية المدهشة، وعدم جدارتي للقيام بمثل هذا العمل الجليل بأي وجه كان، فقد بدأت أفهم الحكمة في التفات العامة وإبدائهم ضرباً من مشاعر الاحترام نحوي. والحكمة هي أن الحقائق التي تحتوي عليها رسائل النور، والشخصية المعنوية التي يمثلها كيان طلبتها، قد يمـمتا وجه تلك الحاجة شطرهما، ولا سيما في ظرف مثل ظرفنا ومثل وسطنا الحاليين، ومع أن حظي من الخدمة قد لا يبلغ الواحد في الألف، فإن البعض يعتقدون فيّ تجسيداً لتلك الحقيقة الخارقة وممثلاً لتلك الشخصية الأمينة المخلصة فيبدون نحوي ذلك النوع من الالتفات.
والواقع أن هذا النوع من الالتفات بقدر ما هو ضارٌّ بي، ثقيل على نفسي أيضاً. حتى إنني آثرت الصمت بغير حق عن تلك الخسائر المعنوية، حفاظاً على الحقائق النورية وشخصيتها المعنوية. وربما يعود السبب في ذلك النوع من الالتفات إلى إشارة مستقبلية للإمام علي رضي اللّٰه عنه وللشيخ الكيلاني قُدس سره، ولبعض الأولياء الآخرين، بإلهام إلهيّ إلى حقيقة رسائل النور، وشخصية طلبتها المعنوية.. وما ذلك إلاّ لكون تلك الرسائل مرآة صغيرة عاكسة لمعجزة القرآن المعنوية في عصرنا الحاضر.
ولعل ذلك البعض قد أخذ شخصي الضعيف بنظر الاعتبار، لا لشيء إلاّ لكوني خادماً لتلك الحقيقة الخارقة. ولقد أخطأت عندما لم أصرف التفاتهم الجزئي لشخصي -بتأويلٍ- إلى رسائل النور. والسبب في هذا يعود إلى ضعفي وكثرة الأسباب التي قد تدفع مساعديّ إلى الخوف. وما قبولي جزءاً مما يخصّ شخصي في الـظاهر إلاّ لإضفاء سمة الاعتماد وصبغة الثقة على أقوالي لا غير.
إنني أنذركم بما يلي:
لا داعي إطلاقاً للقضاء على شخصي الفاني المشارف على باب القبر. ولا داعي كذلك إلى إعطاء مثل هذه الأهمية لوجودي. وإنه مما يجب أن تعلموه جيداً هو أن المبارزة مع رسائل النور محاولة يائسة. إنكم لن تستطيعوا مبارزتها، فلا تبارزوها. إنكم لن تتغلبوا عليها. ولئن حاولتم مبارزتها، فلن تعودوا إلاّ بأضرار جسيمة على الأمة والبلاد معاً، ولكن لن تستطيعوا تشتيت شمل طلبتها أو تفكيك وحدتهم مهما حاولتم.. إذ ليس من السهل حمل أحفاد أجدادنا وأبنائهم البسلاء الذين ضحوا بأكثر من خمسين مليوناً من الشهداء في سبيل الحفاظ على القرآن وحقائقه القيمة، على التنكر والنسيان لماضيهم المجيد، ولا الحيلولة دون بطولاتهم الدينية الرائعة التي كانت دوماً محط أنظار العالم الإسلامي وموضع إعجابه. وحتى لو انسحبوا من الميدان فإن أولئك الطلاب الأوفياء لن يتخلوا عن رسائل النور التي هي مرآة عاكسة لتلك الحقيقة ولن يرضوا -بذلك التخلي- أن يصيب الضرر الوطن والأمة والأمن.
وآخر قولي: ﴿فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُلْ حَسْبِيَ اللّٰه لا إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ﴾ (التوبة:129)».
* * *
عريضة مرسلة إلى مجلس الوزراء
لي رجاء مهم جداً:
في خاتمة المجموعة المسماة "سراج النور" والتي تزيد عن ثلاثمائة صفحة توجد خمسُ عشرة صحيفة -وهي "الشعاع الخامس"- كُتبت منذ زمن طويل كانت سبباً لصدور قرار من مجلس الوزراء بمصادرة تلك المجموعة وجمعها.
إن من الممكن إخراج هذا القسم الذي تُوهّم ضررُه من مجموعة "سراج النور" التي ثبتت وتحققت فائدتها للجميع ولاسيما لأصحاب المصائب والبلايا وللشيوخ وللذين لديهم شكوك في نواحي الإيمان، ثم السماح بما تبقى من الثلاثمائة صفحة للنشر، فباسم جميع من استفادوا من هذه المجموعة وسُرّي عنهم من أصحاب المصائب والرزايا والشيوخ وباسم جميع المحتاجين إلى الحقائق الإيمانية نرجو من مجلس الوزراء السماحَ بنشرها.
وفي مجموعة "ذو الفقار" البالغة أربعمائة صفحة والتي كُتبت قبل ثلاثين سنة للرد على فلاسفة أوروبا، وردت صفحتان فقط من تفسير آيتين حول الإرث وحول تحجب النساء.
وورد سطر واحد حول المصارف في رسالة "إشارات الإعجاز" التي كتبت قبل ثلاثين سنة عند تناول آية: ﴿وَأَحَلَّ اللّٰهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا﴾ (البقرة: 275).
وقبل ثلاثين سنة عندما كنت عضواً في "دار الحكمة" كتبت جواباً لستة أسئلة تقدّم بها رئيس أساقفة الأنكليكان لإنكلترا إلى المشيخة الإسلامية وهناك سطر واحد فقط في هذه الإجابة لا يسمح به القانون المدني الحالي.
إننا نرجو منكم إعادةَ مجموعة "ذو الفقار" إلينا والمصادَرة بحجة وجود صفحتين وسطر واحد فقط فيها، قيل أن القانون المدني الحالي لا يسمح به. مع أن هذه الرسالة قوبلت في العالم الإسلامي باستحسان كبير وأثبتت عملياً فوائدها الكبيرة لأنها برهنت بشكل رائع على ثلاثة أركان إيمانية، فطلَبُ إعادتها إلينا من حقنا، ذلك لأنه
إنْ وجدت خمسُ كلمات ممنوعة في رسالة ما تُحذف تلك الكلمات ويُسمح بنشر باقي الرسالة، لذا فنحن نطلب ضمان هذا الحق القانوني المهم لنا. وباسم جميع من يخدم القرآن والإيمان ويسعى إلى تحقيق الأمن والنظام ويخدم هذا الوطن وهذه الأمة عن طريق "رسائل النور" نطالبكم بإنقاذنا من الظلم الواقع علينا من الذين يجعلون من الحبة قبة.
ثم إن رسالة "الهجمات الست" التي كتبتُها قبل ثمانية عشر عاماً في ساعة غضب وحدّة، لتعرضي إلى ظلم شديد.. هذه الرسالة لم أرها منذ ذلك الوقت أبقيتُها سرية خاصة ولم أسمح بنشرها، ومع أنها وقعت في أيدي ثلاث وأربع محاكم، إلاّ أن هذه المحاكم إعادتها إلى أصحابها.
سعيد النورسي
* * *
«رسالة شكر»
بِاسمِهِ سُبحَانَهُ
رسالة شكر أقدّمها إلى هيئة الخبراء في ديوان رئاسة الشؤون الدينية، أبين فيها "ثلاث نقط" لأُعينَهم بها على تصحيح انتقادات جزئية وردت في تدقيقاتهم وأُجيب عنها بوضوح.
النقطة الأولى:
إنني أُقدم شكري إلى أولئك العلماء الأفاضل بثلاث جهات. فأنا ممتنّ لهم بصفتي الشخصية:
أولاها: قيامهم بتلخيص ثلاث عشرة رسالة من مجموعة "عصا موسى" -مما سوى رسالة "الشعاع الخامس"- تلخيصاً يبعث على التقدير والإعجاب.
ثانيتها: ردّهم لما دار عليه اتهامنا وهو: إنشاء طريقة صوفية، تشكيل جمعية، والإخلال بأمن البلاد.
ثالثتها: تصديقهم لدعواي في المحكمة، وهو ما قلته أمام المحكمة: إذا وجد شيء من الذنب فإنه يعود لي، فطلاب النور بريئون منه، ولقد سعوا في سبيل النور إنقاذاً لإيمانهم. فأولئك الخبراء ينقذون أيضاً طلاب النور ويبرؤن ساحتهم ويسندون الذنوب إليّ. وأنا بدوري أقول لهم: ليرضَ اللّٰه عنهم. إلاّ أنهم جعلوا كلاً من المرحوم "حسن فيضي" والمرحوم "الحافظ علي" وأشخاص من أمثال هذين الشهيدين ووارثيهم شركاء بذنوبي. لذا فقد أخطأوا في هذه الجهة. لأن أولئك الميامين سابقون في خدمة الإيمان وليسوا شركاء في الذنوب، وهم بريئون من أخطائي وذنوبي وقد أرسلَتهم العنايةُ الإلهية مُعينين لي رأفةً بضعفي.
النقطة الثانية:
لقد اعترض أولئك الخبراء على روايات في "الشعاع الخامس" فقالوا عن بعضها ضعيفة وعن أخرى موضوعة، وخطّأوا تأويل قسم منها. وقد كتب الإدعاءُ العام لمحكمة
"آفيون" تقريره في ضوء ذلك، بينما أثبتنا واحداً وثمانين خطأً من أخطائه في قائمة تبلغ خمس عشرة صحيفة. فليطلع الخبراء الأفاضل على تلك القائمة.
نقدم أدناه نموذجاً منها:
لقد قال المدعي: جميع تأويلاته مغلوطة، والروايات إما إنها موضوعة أو ضعيفة.
ونحن نقول:
إنَّ التأويل يعني: أن هذا المعنى ممكن مراده من هذا الحديث، أي يحتمل هذا المعنى. أما ردّ إمكان واحتمال ذلك المعنى -حسب علم المنطق- فيكون بإثبات محاليته. بينما شوهد ذلك المعنى عياناً، وتحقق فعلاً فردٌ من كلية الطبقة الإشارية لمعنى الحديث، لذا لا يعترض على ذلك المعنى قطعاً، لأن الحديث قد أظهر بلمعة إعجاز غيبي ذلك المعنى وأَشهدَ له هذا العصر. علاوة على ذلك فقد أثبتنا في تلك القائمة أخطاء المدعي من ثلاثة وجوه.
أحدها:
أنَّ الإمام أحمد بن حنبل الحافظ لمليون من الأحاديث الشريفة، وكذا الإمام البخاري الحافظ لخمسمائة ألف حديث، لم يجرؤا على نفي تلك الروايات على إطلاقها . علماً أن إثبات نفيها غير ممكن منطقياً، وأن المدعي نفسه لم يطلع على جميع كتب الأحاديث النبوية، وأن الأكثرية العظمى لأمة الإسلام في كل عصر قد انتظروا رؤية معاني تلك الروايات، أو فرداً من كلية معانيها، بل إن تلك المعاني قريبة من تلقي الأمة بالقبول، وقد برز في الواقع أفراد منها بذاتهم وشُوهِدوا عياناً..
لذا فإن إنكار تلك الروايات إنكاراً كلياً خطأ من عشر جهات.
الوجه الثاني:
إنَّ الرواية الموضوعة تعنى أنها ليست حديثاً مسنداً عن فلان وعن فلان. ولا يعنى أن معناها خطأ. ولما كانت الأمة قد تلقتها بالقبول، ولاسيما أهل الحقيقة والكشف، وقسم من أهل الحديث وأهل الاجتهاد، بل انتظَروا تحقيق معانيها. فلابد أن لتلك الروايات حقائق متوجهة إلى العموم كما هي في الأمثال المضروبة.
الوجه الثالث:
إني أسأل: هل هناك مسألة أو رواية لم يُعترض عليها في كتاب لعلماء مختلفين في المشارب والمذاهب. فمثلاً: إن إحدى الروايات التي تذكر مجيء دجالين في الأمة هي هذا الحديث الشريف:
(لن تزال الخلافة في ولد عمي -صِنْوِ أبي- العباس حتى يسلمّها إلى الدجال).([20])
هذا الحديث الشريف يخبر عن فتنة "جنكيز خان" و"هولاكو"، وأن دجالاً سيظهر بعد خمسمائة سنة وسيهدم الخلافة.. وأمثالها من الروايات الكثيرة التي تخبر عن أشخاص آخر الزمان، وعلى الرغم من ذلك فقد رفض بعض أهل المذهب الميامين أو ذوو الأفكار المفرطة هذه الروايات. وقالوا: أنها رواية ضعيفة أو موضوعة.. وعلى كل حال.
إنَّ سبب اقتصاري على ما ذكرت مما ينبغي أن يطول هو حدوث زلزلتين هنا في الساعة التي كنت أكتب هذا الجواب، مثلما حدث أربع زلازل وقت شن الهجوم على "رسائل النور" وطلابها. والأمر على النحو الآتي:
هو توافق حدوث زلزلتين أثناء ما كنت أعاني من ألَم جراء عمليات جراحية أجراها تقرير الخبراء الذي سلّم لي مساءً فضلاً عن الحزن الذي غشاني من الانفراد وعدم اللقاء مع الآخرين.
نعم، لقد تسلمتُ تقرير الخبراء لرئاسة الشؤون الدينية بعد بقائي ثمانية شهور في السجن الانفرادي ومقاساتي المضايقات الشديدة، وإذ أنا منتظر أن يكونوا لي معينين، إذا -في الصباح- أجد أنهم يعززون إدعاء المدعي، حيث ورد: "إن سعيداً قال: إن الزلازل الأربع الماضية هي من كرامات "رسائل النور».
فمثلما كتبتُ في القائمة، أقول: إن "رسائل النور" من نوع الصدقة المقبولة التي تكون وسيلة لدفع المصائب، فمتى ما هوجمت تجد المصائبُ الفرصةَ سانحة أمامها فتنـزل، وأحياناً تغضب الأرض بالزلزال.
فما إن عزمتُ على كتابة هذا، وقع زلزالان هنا([21]) مما حملني على ترك كتابة ذلك البحث، لذا ننتقل إلى النقطة الثالثة.
النقطة الثالثة:
يا علماءنا المدققين المنصفين ذوى الحقيقة!
لقد دأب أهلُ العلم -منذ القديم- على عادة فيما بينهم، وهي وضعهم تقريظاً وثناءً -وأحياناً مبالَغ فيه- نهاية مؤلَّف جيد جديد. وفي الوقت الذي يبدي المؤلِّف امتنانه لأولئك المقرظين لا يُتهم حتى من قبل منافسيه أنه يدّعي الإعجاب وحبَّ الظهور. لذا فإن كتابة عدد من طلاب النور الخواص الخالصين -كالمرحوم حسن فيضى والشهيد الحافظ علي- تقاريظ بناءً على عجزي وضعفي وغربتي وعدم وجود الأهل والأقارب وإزاء هجوم أعداء كثيرين ظلمة وحثاً للمحتاجين إلى النور، وعدّ تلك التقاريظ نوعاً من الغرور والإعجاب بالنفس، رغم إحالتي ما يخصني من المدح والثناء إلى "رسائل النور"، ورغم عدم ردّي له رداً كلياً.. أقول إنني لم أستطع أن أوفق بين تلقيكم ذلك المدح أنه إعجاب بالنفس وبين ما تحملونه من دقة علمية وتعاون رؤوف وإنصاف.. لذا فأنا متألم من هذا. علماً أن أصدقائي الخالصين أصحاب التقاريظ لم تخطر ببالهم السياسة وشؤونها.
ولا يقال لقولهم: إن "رسائل النور" في هذا الزمان يصدق عليها معنى فرد وجزئي من المعنى الإشاري الكلى، لأن الزمان يصدّق ذلك. ولنفرض أن هذا الكلام مبالَغ فيه كثيراً أو خطأ، فهو خطأ علمي ليس إلاّ. فكل شخص يستطيع أن يكتب قناعته الشخصية. وأنتم أدرى بالأفكار المتباينة والقناعات المختلفة في كتب الشريعة التي دوّنها أصحابُ المذاهب الاثني عشر ولاسيما أصحابُ الحنفية والشافعية والمالكية والحنبلية وما يقرب من السبعين من فرق دائرة علماء الكلام وأصول الدين. والحال أنه لم يات زمان نحن في أمس الحاجة فيه إلى اتفاق علماء الدين وعدم خوضهم في مجادلات فيما بينهم مثل هذا الزمان. فنحن مضطرون إلى نبذ الاختلاف في الأمور الفرعية وعدم جعلها مدار المناقشات.
* * *
ثلاثة أسئلة أوجهها للعلماء المنصفين من الخبراء
الأول:
شخص يُثني على آخر بنية خالصة، أ يكون الشخص المثنى عليه مسؤولاً، ولاسيما إن كان المثنى عليه لا يرضى بالثناء بكل قوته ويحيله إلى غيره؟ إلاّ أنه لم يوبخ ذلك الصديق الحميم لئلا ينفر منه بل اكتفى بالقول: إنَّ هذا الثناء فوق حدّي بمائة درجة. فهل يعدّ سكوته هذا إعجاباً بالنفس وتحرّياً للمصلحة الذاتية؟..
السؤال الثاني:
في غمرة الهجوم العنيف الذي يُشَن على الدين حالياً، إذا ما أبدى أحد طلاب النور العاشقين للحقيقة قناعته الشخصية الخاطئة، بخطأ علمي جزئي لا ضرر فيه، هل يستحق هذه الإهانة والاستخفاف؟ علماً أن هناك مسائل دينية تقدّر بضخامة الشم الرواسي.
وبينما ينتظر ذلك المثنىَ عليه تذكيراً شفيقاً من علماء وأساتذة من أمثالكم على ذلك الخطأ، أوَ يجوز عقابه من قبل العدلية؟
السؤال الثالث:
إنَّ "رسائل النور" التي تصدت منذ عشرين سنة لأعتى المعارضين الذين لا يحصيهم العد وأنقذت إيمانَ مئات الألوف من الناس وآزرت إيمانَهم. أيليق انتقادكم لها في مسألة أو مسألتين فيها؟
إني أذكّر أولئك العلماء الأفاضل:
أنهم انتقدوا المقدمة التي يستهل بها بحث الثناء لأحمد فيضي، وكأنني قد أثنيتُ بها على نفسي، علماً أن تلك المقدمة هي ردّي لذلك الثناء ورفعه. وقد رفعتُ فعلاً قسماً منه وصححت القسم الآخر، ولكن لضرورة الاستعجال لم أتمكن من إكماله ، فأرسلت المقدمة كاملة إلى أحد إخوتي، وهم بدورهم وضعوها في موضعها من ذلك البحث الذي اتخذناه بحثاً خاصاً جداً. ولكن أثناء إرسالهم لها إلى أخ آخر قبضت عليها الحكومة.
فيا ترى إن تقريظاً علمياً وخاصاً جداً، وهو بحث نابع عن قناعة وجدانية ولا يتداول إلاّ بين أصدقاء ليقوموا بتصحيحه تصحيحاً كاملاً هل يستحق هذا الاعتراض الشديد؟
ثم إن جمعَ رسائل خاصة للتهنئة والحث على العمل، والقيام بتجليدها حفاظاً عليها، في مجلد أو مجلدين، حصلت عليها الشرطة أثناء التحري، هل يمكن استخراج الأحكام من مثل هذه الرسائل، ثم تكون محورَ سؤال وجواب ومن ثم محاولة إلصاقها بالسياسة. أوَ يحتاج الأمر إلى هذا.. وما أشبه هذا الأمر بمن لا يرى ثعابين مَرَدة تهاجم القرآن لكنه في الوقت نفسه ينشغل بلسع البعوض!.. أليس الأمر هكذا؟
إنَّ ترك "سراج اوغلو"([22]) الذي يعدّ الدين والتربية المحمدية سماً زعافاً، والانشغال بمجموعة "سراج النور" التي تبين الحقيقة واضحة كالشمس وهى البلسم الشافي لجراحات الإنسانية جمعاء، ولاسيما الاحتجاج بوجود تأويلات لأحاديث ضعيفة في رسالة في ختامها، ألا يكون عوناً على مصادرتها؟
إننا مع عدم امتعاضنا من انتقاداتكم الجزئية ننتظر منكم أيها العلماء الأفاضل ضماداً لجراحاتنا وتكونوا أعواناً لنا بقوة فراستكم.
الموقوف
سعيد النورسى
* * *
بِاسمِهِ سُبحَانَهُ
مقدمة
«الفقرات المذكورة أدناه»
لغرض تقديم شيء من المساعدة إلى محكمة التمييز الموقرة التي فسختْ لصالحنا قرار إدانتنا من قبل محكمة "آفيون" وأوردت دلائل صائبة ذات حقيقة ، نشير -باختصار- إلى قسم من أخطاء وردت في القرار المذكور، فندرج أدناه تلك الفقرات المستلة من الرسائل الخاصة السرية، التي عدّتها المحكمةُ ذنباً لإدانتنا. فنبين أخطاءهم ونضع الذين أدانونا في موضع المسؤولية.
فمثلاً: لقد كتبوا في ختام القرار ما يشبه قائمة تضم جميع ذنوبي لأجل إنزال أشد العقوبات بي:
"نذكر مما رفضه سعيد النورسي من مواد: إلغاء السلطنة والخلافة".
فهذا خطأ وسهو في الوقت نفسه، لأن ما كتبتُه في لمعة "الشيوخ" هو الآتي: "لقد أحزنتني وفاة سلطنة الخلافة" وقد أجبتُ عن استفسار محكمة "أسكي شهر" قبل خمس عشر سنة عن هذا جواباً ألزمَهم الصمت. فالذي يعدّ خاطرة لا أهمية لها ذنباً، ومرت عليها هذه المدة المديدة، ونالت من قرار العفو والبراءة ما نالت.. أقول إن الذي يعدّها ذنباً هو الذي يكون مذنباً.
ولأجل إسناد هذا الذنب الموهوم، ذكر القرار ما أوردتُه في إحدى اللمعات وفي رسالة "المعجزات الأحمدية" على صاحبها أفضل الصلاة والسلام، الحديث الشريف الآتي: (الخلافة بعدي ثلاثون سنة ثم تكون مُلكاً عَضوضاً وفساداً وجبروتاً).([23])
وقد كتبتُ في رسالة قديمة أن هذا الحديث الشريف يبين ثلاث معجزات غيبية مستقبلية ولكن جاء في القرار كأنه ذنب اقترفته: "إن سعيداً قد قال في رسالة: سيكون فساداً وجبروتاً بعد الخلافة".
يا أعضاء هيئة الخبراء السطحيين!
إنَّ الذي يعدّ بيان إعجاز حديث شريف يخبر بإشارة غيبية عن حادثة ستقع في زماننا هذا يسري دمارها في الأرض كلها، وعن فساد عظيم مادي ومعنوي يدب في البشرية كافة.. أقول إن من يعدّ هذا ذنباً هو المذنب مادة ومعنى.
وكتبوا أيضاً "ومن ذنوبه: أنه يعدّ المنجزات الثورية (حركات الانقلاب) بدعةً وضلالةً وإلحاداً، فيعدّ إغلاق التكايا والزوايا والمدارس الدينية، وإقرار العلمانية، ووضع أسس القومية بديلاً عن مبادئ الإسلام، وفرض لبس القبعة، ورفع الحجاب، وفرض كتابة الحروف اللاتينية بديلاً عن الحروف القرآنية، وأداء الأذان والإقامة باللغة التركية، وإلغاء دروس الدين في المدارس، ومنح المرأة حقوقاً في الميراث كالرجل وإلغاء تعدد الزوجات، وأمثالها من الأعمال.. يعدّ كل ذلك بدعة وضلالة وإلحاداً.. فلا شك أنه متهم بالرجعية".
يا أعضاء هيئة الخبراء العديمي الإنصاف!
إنْ كان بمقدوركم إنكار ما يأمر به القرآنُ الكريم الذي هو إمام سماوي مقدس لثلاثمائة مليون في كل عصر، ويضم مناهج سعاداتهم جميعاً، وهو الخزينة المقدسة الحاوية على أسرار الحياتين الدنيوية والأخروية، يأمر في كثير من آياته الكريمة بصراحة تامة بما لا يحتمل التأويل، بالحجاب وقواعد الميراث ويسمح بتعدد الزوجات، ويدعو إلى ذكر اللّٰه، ويحث على تدريس علوم الدين ونشرها والحفاظ على الشعائر الدينية.. وإن كان بمقدوركم إدانة جميعَ مجتهدي الإسلام والقضاة وشيوخ الإسلام.. وإن كان بمقدوركم إنكار تقادم الزمان على تلك الرسائل وقرار عدة محاكم لها بالبراءة وقوانين العفو الصادرة بحقها وإنكار وجه سريتها وخصوصيتها.. وإن كان بمقدوركم رفع حرية الضمير والمعتقد وحرية الفكر من البلاد ومن الحكومات.. وإنكار كون مخالفة تلك الرسائل مخالفة فكرية وعلمية فحسب..
أقول إنْ كان بمقدوركم هذا فاعتبروني مذنباً بتلك الأمور. وإلاّ تكونون أنتم المذنبون الرهيبون في محكمة العدالة والحق والحقيقة.
سعيد النورسي
* * *
(فقرة أدلينا بها وكتبتها المحكمة بإعجاب وحيرة ضدنا مع أنها ضدهم)
"وأنا أقول لمحكمة وزارة العدل الموقرة!
إن إدانة مَن يفسّر أقدسَ دستور إلهي وهو الحق بعينه، ويحتكم إليه ثلاثمائة وخمسون مليوناً من المسلمين في كل عصر في حياتهم الاجتماعية، خلال ألف وثلاثمائة وخمسين عاماً. هذا المفسر استند في تفسيره إلى ما اتفق عليه وصدَّق به ثلاثمائة وخمسون ألف تفسير، واقتدى بالعقائد التي دان بها أجدادُنا السابقون في ألف وثلاثمائة وخمسين سنة.. أقول: إن إدانة هذا المفسر قرارٌ ظالم لابد أن ترفضه العدالةُ، إن كانت هناك عدالة على وجه الأرض، ولابد أن تردّ هذا الحكم الصادر بحقه وتنقضه".
* * *
(فقرة كتبتها المحكمة في قرارها بإعجاب وتقدير وكأنها تكون مادة ضدنا، والحال أنها تدينهم)
يبحث سعيد النورسي في "المكتوب السادس والعشرين" عن نفسه ويقول:
"إنَّ في أخيكم هذا الفقير ثلاث شخصيات كل منها بعيدة عن الأخرى كل البعد، بل بعداً شاسعاً جداً.
أولاها:
شخصية مؤقتة خاصة خالصة لخدمة القرآن وحده، بكوني دلالاً لخزينة القرآن الحكيم السامية. فما تقتضيه وظيفةُ الدعوة إلى القرآن والدلالة عليه من أخلاق رفيعة
سامية ليست لي، ولا أنا أملكها. وإنما هي سجايا رفيعة يقتضيها ذلك المقام الرفيع وتلك الوظيفة الجليلة. فكل ما ترونه من أخلاق وفضائل من هذا النوع فهي ليست لي، وإنما هي خاصة بذلك المقام، فلا تنظروا إليّ من خلالها.
الشخصية الثانية:
حينما أتوجه إلى بابه تعالى وأتضرع إليه، ينعم عليّ سبحانه شخصية خاصة في أوقات العبادة بحيث إن لتلك الشخصية آثاراً ناشئة من أساس معنى العبودية، وذلك الأساس هو معرفة الإنسان تقصيرَه أمام اللّٰه وأدراك فقره نحوه وعجزه أمامه والالتجاء إليه بذل وخشوع، فأرى نفسي بتلك الشخصية أشقى وأعجز وأفقر وأكثر تقصيراً أمام اللّٰه من أي أحد كان من الناس، فلو اجتمعتْ في ذلك الوقت الدنيا برمّتها في مدحي والثناء عليّ لا تستطيع أن تقنعني بأنني صالحٌ وفاضل.
ثالثتها:
هي شخصيتي الحقيقية، أي شخصيتي الممسوخة من «سعيد القديم» وهي عروق ظلت من ميراث "سعيد القديم". فتبدي أحياناً رغبةً في الرياء وحب الجاه وتبدو فيّ أخلاق وضيعة مع المبالغة في الاقتصاد إلى حدّ الخسة حيث إنني لست سليل عائلة ذات جاه وحسب.
فيا أيها الاخوة!
لن أبوح بكثير من المساوئ الخفية لهذه الشخصية ومن أحوالها السيئة، لئلا أنفّركم عني كلياً.
وقد أظهر سبحانه وتعالى عنايته الرحيمة فيّ بحيث يسخّر شخصيتي هذه التي هي كأدنى جندي، في خدمة أسرار القرآن التي هي بحكم أعلى منصب للمشيرية وأرفعها. فله الحمد والمنة ألف ألف مرة.
فالنفس أدنى من الكل، والوظيفة أسمى من الكل.
الحمد للّٰه.. هذا من فضل ربي.
* * *
(هذه جملة سجّلتها المحكمة في القرار بتخوف شديد ضدنا والحال أن تلك الجملة الشديدة التي كُتبتْ قبل خمس عشرة سنة قد عدّلت إلى هذه الصيغة).
"إخوتي! مراعاةً لمشاعر الأبرياء والشيوخ، لا تثأروا لي ممن يقتلني ظلماً، فحسبهم عذاب القبر والسَقر".
ينبغي أن تحملهم هذه الفقرة الآتية على الإنصاف:
"إنكم ترون أن لنا خلافاً ومعارضة كلية معكم، ومعاملاتكم القاسية شاهدةٌ على ذلك. فأنتم تضحون بدينكم وآخرتكم في سبيل دنياكم. ونحن بدورنا مستعدون على الدوام للتضحية بدنيانا في سبيل ديننا، وفي سبيل آخرتنا، وهذا هو سر المعارضة التي بيننا حسب ظنكم.
ولا جرم أن التضحية ببضع سنين من حياتنا التي تمضي في ذل وهوان في ظل حُكمكم القاسي قساوةَ الوحوش لنكسِب بها شهادة خالصة في سبيل اللّٰه، تُعدّ ماءَ كوثر لنا. ولكن استناداً إلى فيض القرآن الحكيم وإشاراته، أُخبركم يقيناً بالآتي لترتعدَ فرائصُكم:
إنكم لن تعيشوا بعد قتلي، فإن يداً قاهرة ستأخذكم من دنياكم هذه التي هي جنتكم وأنتم مغرمون بها، وتطردكم عنها، وتقذف بكم فوراً إلى ظلمات أبدية، وسيقتل بعدي رؤساءكم الذين تَنمرَدوا وطغَوا قِتلة الدواب، ويُرسَلون إليّ، وسأمسك بخناقهم أمام الحضرة الإلهية، وسآخذ حقي منهم بإلقاء العدالة الإلهية إياهم في أسفل سافلين.
أيها الشقاة الذين باعوا دينهم وآخرتهم بحطام الدنيا!
إن كنتم تريدون أن تعيشوا حقاً فلا تتعرضوا لي ولا تمسّوني بسوء، وإن تعرضتم فاعلموا أن ثأري سيؤخذ منكم أضعافاً مضاعفة.
اعلموا هذا جيداً ولترتعدْ فرائصكم!
وإني آمل من رحمة اللّٰه سبحانه أن موتي سيخدم الدين أكثر من حياتي، وأن وفاتي ستنفلق على رؤوسكم انفلاقَ القنبلة، وستشتت رؤوسَكم وتبعثرها.
فإن كانت لكم جرأة، فتعرّضوا لي، فلئن كان لكم ما تفعلونه بي، فلتَعلمُنّ أن لكم ما تنتظرونه وتلاقونه من عقاب.
* * *
(هذه الفقرة أوردتها المحكمة لإدانتي والحال أنها تتهمهم بالإفراط)
يرد في الرسائل :
"دخل مصطفى كمال ديوان رئاسة الجمهورية بأنقرة وهو على أشد الغضب وقال له: "إننا دعوناك إلى هنا لتقدّم لنا أفكاراً راقية وآراء قيمة، ولكنك ما إن أتيت كتبت أشياء حول الصلاة، فأوقعتَ فيما بيننا الاختلاف والتفرقة" وردّ عليه سعيد: "إن من لا يصلي خائن وحكم الخائن مردود".
ثم أبدى مصطفى كمال نوعاً من الاسترضاء له متراجعاً عن غضبه وحدّته. وعلى الرغم من أنه -أي سعيد- قد جرحَ مشاعرَ مصطفى كمال وخرق مبادءه إلاّ أن مصطفى كمال لم يمسّه بسوء.
وإنها لكرامة ساطعة لـ"رسائل النور" وقوة عظيمة خارقة لشخصها المعنوي ولطلابها الروّاد والأبطال في المستقبل أن يخشى منها قوادٌ جبابرة كما كانوا يخشون من «سعيد القديم"."
* * *
(فقرة ألزمت المحكمة وجعلتها مسؤولة مع أنها اتخذت ضدنا في القرار)
يذكر -في الرسائل- "إننا لسنا مع زعيم أصدر حسب هواه أوامر باسم القانون ونفذها بقوة لتحويل "جامع أياصوفيا" إلى دار للأصنام، وجعل مقر المشيخة الإسلامية العامة
ثانوية للبنات، لسنا معه فكراً ولا موضوعاً، ولا من حيث الدافع ولا من حيث النتيجة والغاية. ولا نجد أنفسنا ملزمين بقبول أمر كهذا".
ويكتب في عريضته المؤرخة في 29/8/1948:
"ورد هذا الفكر إلى قلبي: إنه ضروري جداً لصالح الأمة ولنفع البلاد أن تحافظ الحكومة عليّ حفاظاً تاماً وتمدّ يد المعاونة إليّ. إلاّ أنها تضيق الخناق عليّ، مما يومئ إلى أن الذين يحاربونني هم منظمة الزندقة السرية وقسم من منظمة الشيوعية الذين التحقوا بهم، هؤلاء قد قبضوا على زمام الأمر في عدد من المناصب الرسمية المهمة في الدولة، فيهاجمونني ويجابهونني. أما الحكومة فإما إنها لا تعرف بهم أو تسمح لهم. ويا ترى أي ذنب وأي جريرة في أن تنتقد أو تضمر عدم المحبة لرجل حوّل جامع أياصوفيا الذي هو مبعث الشرف الأبدي لأمة بطلة، والدرة الساطعة لخدماتها وجهادها في سبيل القرآن، وهدية تذكارية نفيسة من هدايا سيوف أجدادها البسلاء.. حوّله إلى دار للأصنام وبيت للأوثان وجعل مقر المشيخة الإسلامية العامة ثانوية للبنات؟
* * *
(هذه الفقرة هي أقوى فقرة ظنت المحكمة أنها تنـزل العقاب بسعيد. وهو الكلام الذي أطلقه سعيد في محكمة دنيزلي تجاه أعدائه المتسترين إلاّ أن المحكمة قد فهمتها خطأ بل خطأ كلياً أنها فقرة ضد الدولة والحكومة تماماً وأظهرتها سبباً لإنـزال العقاب بي).
لقد أطلق على قسم من القوانين الحديثة للدولة التي سنّت هذه القوانين الانقلابية ووضعتها موضع التنفيذ اسم "الاستبداد الكفري الاعتباطي" وعلى الجمهورية اسم "الاستبداد المطلق". وعلى النظام اسم "الارتداد المطلق" وعلى الشيوعية والمدنية اسم "السفاهة المطلقة".
* * *
(فقرة كتبت في قرار المحكمة بإعجاب وتقدير)
ويذكر: أن لكتابة "رسائل النور" فوائد دنيوية وأخروية كثيرة جداً، منها:
1- الجهاد المعنوي تجاه أهل الضلالة.
2- مساعدة الكاتب لأستاذه على نشر الحقائق.
3- خدمة المسلمين من حيث الإيمان.
4- كسب العلم بالقلم.
5- القيام بعبادة فكرية التي تعدل ساعة منها أحياناً سنة من العبادة.
6- حُسن الخاتمة ودخول القبر بالإيمان.
وكذا لها خمس أنواع من الفوائد الدنيوية:
1 - البركة في الرزق.
2- الانشراح والسرور في القلب.
3- اليسر في العيش.
4- التوفيق في الأعمال.
5 - الاشتراك في أدعية طلاب النور جميعهم، لكسبه فضيلة طالب العلم.
وسيدرك شبابُ الجامعة هذه الأمور عن قريب وستحوّل الجامعة إلى مدرسة نورية.
* * *
(إنه لمحير أن تعدّ هذه التضحية الخالصة جرماً وذنباً)
إنَّ إحدى الخطتين اللتين حاكهما المنافقون المتسترون في جنح الظلام هي التهوين من شأني. وكأن قيمة الأنوار الرفيعة لـ"رسائل النور" تسقط بهذا من عليائها.
والثانية: هي بث القلق والاضطراب في صفوف طلاب النور. وكأنهم بهذا يعيقون انتشار "رسائل النور".
لا تقلقوا يا إخوتي! إن حقيقةً سامية افتدتها ملايين الرؤوس فداءٌ لها رؤوسُنا نحن الضعفاء أيضاً.
* * *
(لقد اعترضوا على واحد من الأسباب التسعة الداعية إلى تسمية "رسائل النور" بهذا الاسم. فقالوا: إننا لا نرى من تسمّى باسم "نور" من بين طلابه الممتازين، وكما أجبنا عنه في الهامش فإن كلاً من "نوري بنلي ونوري الساعاتي" من الممتازين في خدمة النور حالياً، بمعنى أنهم لا يجدون ما ينتقدونه ولكنهم يضطرون إلى التشبث بحجج جزئية تافهة)
إنه يذكر في "الكلمة السادسة والعشرين":
إن سبب إطلاق اسم "رسائل النور" على مجموع الكلمات (وهي ثلاث وثلاثون كلمة) والمكتوبات (وهي ثلاثة وثلاثون مكتوباً) واللمعات (وهي إحدى وثلاثون لمعة) والشعاعات (وهي ثلاثة عشر شعاعاً) هو أن كلمة النور قد جابهتني في كل مكان طوال حياتي، منها:
أن قريتي اسمها: نورس.
واسم والدتي المرحومة: نورية.
وأستاذي في الطريقة النقشبندية: سيد نور محمد.
وأستاذي في الطريقة القادرية: نور الدين.
وأستاذي في القرآن: نوري.
وأكثر من يلازمني من طلابي من يسمّون باسم نور.
وأكثر ما يوضح كتبي وينورها هو التمثيلات النورية.
وأكثر ما حل مشكلاتي في الحقائق الإلهية هو: اسم "النور" من الأسماء الحسنى.
ولشدة شوقي نحو القرآن وانحصار خدمتي فيه فإن إمامي الخاص هو سيدنا عثمان ذو النورين رضي اللّٰه عنه.
* * *
(إن رسالة "الهجمات الست" وذيلها قد كتبت قبل عشرين سنة لمجابهة تعدٍّ ظالمٍ شديد. وهي رسالة في غاية الخصوصية والسرية، وقد مرّت بين يدي محاكم كثيرة. وكتبت في حالة سورة غضب انتابتني في أثناء الحرب العالمية الثانية. وهي إذ تبين ذلك الغضب والحدة حقاً، إلاّ أن مصادرتها وكأنها قد كتبت حالياً وعدّها ذنباً وجريرة، بُعدٌ عن العدالة عظيم .
تُستهل مقدمة ذيل "الهجمات الست" بالآتي:
كُتب هذا الذيل (للتداول الخاص)، لتجنُّب ما يرد في المستقبل من كلمات الإهانة وشعور الكراهية، أي؛ لئلا يصيب بصاقُ إهانتهم وجوهَنا، أو لمسحِه عنها عندما يُقال: تباً لرجال ذلك العصر العديمي الغيرة!
وكُتب تقريراً ولائحة لترن آذانٌ صمّ، آذان رؤساء أوروبا المتوحشين المتسترين بقناع الإنسانية.. ولينغرز في العيون المطموسة، عيون أولئك العديمي الضمير الجائرين الذين سلّطوا علينا هؤلاء الظلمة الغدّارين.. وليُنـزِل صفعةً كالمطرقة على رؤوس عبيد المدنية الدنيّة التي أذاقت البشرية في هذا العصر آلاماً جهنمية حتى صرخت في كل مكان: لتعش جهنم!
لقد حدثت في الفترة الأخيرة اعتداءات شنيعة كثيرة على حقوق المؤمنين الضعفاء، من الملحدين المتخفين وراء الأستار، وأخص بالذكر اعتداءهم عليّ تعدياً صارخاً، باقتحامهم مسجدي الخاص الذي عمّرتُه بنفسي، وكنا فيه مع ثلّة من رفقائي الأعزاء، نؤدي العبادة، ونرفع الأذان والإقامة سراً. فقيل لنا: لِمَ تقيمون الصلاة باللغة العربية وترفعون الأذان سراً؟
نفد صبري في السكوت عليهم: وها أنذا لا أخاطب هؤلاء السفلة الدنيئين الذين حُرموا من الضمير، وليسوا أهلاً للخطاب، بل أخاطب أولئك الرؤساء المتفرعنين في القيادة الذين يلعبون بمقدرات الأمة حسب أهواء طغيانهم. فأقول:
يا أهل الإلحاد والبدعة! إني أطالبكم بالإجابة عن ستة أسئلة.
السؤال الأول:
إنَّ لكل حكومة، مهما كانت، ولكل قوم، بل حتى أولئك الذين يأكلون لحم البشر، بل حتى رئيس أية عصابة شرسة، منهجاً وأصولاً ودساتير، يحكمون وفقها.
فعلى أيّ أساس من دساتيركم وأصولكم تتعدّون هذا التعدي الفاضح. أظهروه لنا. أم أنكم تحسبون أهواء عددٍ من الموظفين الحقراء قانوناً؟ إذ ليس هناك قانون في العالم يسمح بالتدخل في عبادة شخصية خاصة! ولا يُسنّ قانون في ذلك قطعاً.
* * *
(إنه ليبعث على الأسف اتخاذهم جملة أو جملتين من رسالة "الإشارات السبع" ذريعة لمصادرتها وحُجة علينا مع أنها رسالة قديمة وخاصة وسرية وتتضمن حقيقة قوية ورصينة بحيث تستحق أن تعلن لصالح الحياة الاجتماعية على البشرية جمعاء والعالم أجمع).
إن أحمق الحمقى في الدنيا هو من ينتظر من أمثال هؤلاء الملحدين السفهاء الرقيَّ وسعادةَ الحياة.
ولقد قال أحد هؤلاء الحمقى، وهو يشغل منصباً مهماً: "إننا تأخرنا لقولنا: اللّٰه.. اللّٰه.. بينما أوروبا تقدمت لقولها : المدفع.. البندقية!".
إنَّ جواب أمثال هؤلاء: السكوت حسب قاعدة: "جواب الأحمق السكوت" ولكننا نقول قولاً لأولئك العقلاء الشقاة الذين يتبعون بعض الحمقى:
أيها البائسون! هذه الدنيا إنما هي دار ضيافة..
فما دام الموتُ موجوداً، وأن المصير إلى القبر حتماً، وأن هذه الحياة ماضية راحلة، وستأتي حياة باقية خالدة، فإن قيل : المدفع.. البندقية مرة واحدة فلابد من القول ألف مرة: "اللّٰه.. اللّٰه".
* * *
(إن ما يوجب الحيرة، أن جملة من "اللمعة السادسة عشرة" وهي لصالحنا، حوّلوها إلى جملة ضدنا، وابدوا رغبة في مصادرة تلك الرسالة القيمة)
من "اللمعة السادسة عشرة":
إنَّ مصيبة الحرب وبلاءها، ضرر بالغ لخدمتنا القرآنية.. إن القدير ذا الجلال الذي يطهّر وجه السماء الملبّد بالغيوم ويبرز الشمس الساطعة في وجه السماء اللامع خلال دقيقة واحدة، هو القادر أيضاً على أن يزيل هذه الغيوم السوداء المظلمة الفاقدة للرحمة. ويُظهر حقائق الشريعة كالشمس المنيرة بكل يسر وسهولة وبغير خسارة.
إننا نرجو هذا من رحمته الواسعة، ونسأله سبحانه ألاّ يكّلفنا ذلك ثمناً غالياً. وأن يمنح رؤوس الرؤساء العقلَ ويهب لقلوبهم الإيمان. وهذا حسبنا، وحينها تتعدل الأمور بنفسها وتستقيم.
ما دام الذي في أيديكم نور، وليس هراوة وصولجاناً، فالنور لا يُعارَض ولا يُهرَب منه، ولا ينجم من إظهاره ضرر. فلِمَ إذن توصون أصدقاءكم بأخذ الحذر وتمنعونهم من إبراز رسائل نيّرة كثيرة للناس كافة؟.
مضمون جواب هذا السؤال باختصار هو:
إنَّ رؤوس كثير من الرؤساء مخمورة، لا يقرءون، وإذا قرءوا لا يفهمون، فيؤوّلونه إلى معنى خطأ، ويعترضون ويهاجمون. لذا، وللحيلولة دون الهجوم ينبغي عدم إظهار النور لهم لحين إفاقتهم واسترجاع رشدهم.
ثم إن هناك غير منصفين كثيرين، ينكرون النور، أو يغمضون أعينهم دونَه، لأغراض شخصية خاصة، أو خوفاً أو طمعاً..
ولأجل هذا أوصى إخوتي أيضاً ليأخذوا حذرهم ويحتاطوا للأمر، وعليهم ألاّ يعطوا الحقائق أحداً من غير أهلها، ألاّ يقوموا بعمل يثير أوهام أهل الدنيا وشبهاتهم عليهم.
* * *
(إن الحجاب أمر قرآني، و قد أُجيب عنه جواباً شافياً في الرسائل. علماً أن هذه الرسالة قد كتبت سابقاً وقاسينا العقاب بسببها. ولكن رغم هذا اتخذوها ذنباً اقترفناه واعتبروها حُجة علينا، ثم إن بداية حقيقة جليلة وردت في رسالة "الشيوخ" و"مرشد الشباب" تلك الحقيقة القيمة النافعة للناس كلهم، جعلوها جريرة لنا ومبرراً لمصادرة تلك الرسالة.. كل ذلك يدل على أنهم لا يجدون ما يتذرعون به للانتقاد والجرح).
في "اللمعة الرابعة والعشرين"، بعد الإيضاح أن الحجاب أمر قرآني يقول: "ولقد طرق سمعَنا: أن صباغ أحذية قد تعرض لزوجة رجل ذي منصب دنيوي كبير، كانت مكشوفة المفاتن، وراودها نهاراً جهاراً في قلب العاصمة "أنقرة"! أليس هذا الفعل الشنيع صفعةٌ قوية على وجوه أولئك الذين لا يعرفون معنى الحياء من أعداء العفة والحجاب؟".
وفي "اللمعة السادسة والعشرين" الخاصة بالشيوخ :
"ففي ذات يوم من الأيام الأخيرة للخريف، صعدتُ إلى قمّة قلعة أنقرة، التي أصابها الكِبر والبلى أكثر مني، فتمثّلت تلك القلعةُ أمامي كأنها حوادث تاريخية متحجرة، واعتراني حزن شديد وأسى عميق من شيب السنة في موسم الخريف، ومن شيبي أنا، ومن هرم القلعة، ومن شيخوخة الدولة العثمانية العلية، ومن وفاة سلطنة الخلافة. فاضطرتني تلك الحالة إلى النظر من ذروة تلك القلعة المرتفعة إلى أودية الماضي وشواهق المستقبل.
فالماضي أوحشني بدلاً من أن يسلّيني ويمنحني النور.
والمستقبل تراءى لي على صورة مقبرة كبرى مظلمة لي ولأمثالي وللجيل القابل، فأدهشني عوضاً من أن يؤنسني.
ثم نظرت إلى زمني الحاضر، فبدا ذلك اليوم لنظري الحسير ونظرتي التاريخية على شكل نعش لجنازة جسمي المضطرب كالمذبوح بين الموت والحياة.
* * *
(كان عليهم أن يقدّروا هذه الجملة حق قدرها إلاّ انهم انتقدوها واتخذوها حجة علينا).
يذكر: "لقد صرفتُ كثيراً من مرتّبي الذي كنت قد قبضته وأنا في "دار الحكمة الإسلامية" وادّخرت قليلاً منه لأداء فريضة الحج. وقد كفَتني تلك النقود القليلة ببركة القناعة والاقتصاد، فلم يُرَق مني ماءَ الوجه. ومازالت بقية من تلك النقود المباركة موجودة".
ثم في "اللمعة الثانية والعشرين" بعد أن يشير إلى أنها رسالة سرية خاصة لإخوته الصادقين الخالصين يقول:
"الإشارة الأولى: لِمَ يتدخل أهل الدنيا بأمور آخرتك كلما وجدوا لهم فرصة، مع أنك لا تتدخل في شؤون دنياهم؟.. إن الذي يجيب عن هذا السؤال هو حكومة محافظة إسبارطة وأهاليها.".
* * *
(إنَّ الذين يتوهمون هذا الأمل الخالص والرغبة النـزيهة النابعة من الشفقة الإيمانية والذي يوجب الإعجاب، يتوهمونه ذنباً نقترفه، لا شك أنهم هم المذنبون).
في رسالة موقعة باسم "سعيد" يُذكر: "تُرى ما حكمة تراكض الأطفال الأبرياء الذين تتراوح أعمارهم من السابعة إلى العاشرة لمجرد ملاحظتهم إياي وأنا أتجول في العربة الحصانية، ثم التفافهم حول يدي ؟ كنت أحار أمام هذا المنظر، ولكن إذا بخاطر يخطر إلى قلبي فأدركت أن هؤلاء الأطفال الأبرياء يستشعرون بحسٍ قبل الوقوع أنهم سينالون السعادة بـ"رسائل النور" وسينجون من مهالك معنوية ستحيط بهم".
* * *
(إن عدّ هذه الفقرة الآتية ذنباً ظلمٌ وخارج عن الإنصاف تلك التي كانت في البداية دفاعاً لي وعدت في النهاية تمنياً ورغبة)
يذكر: "إنَّ قسماً من الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة يشيران معاً إلى حقيقة نورانية في هذا العصر، ويظهران المجدد الأكبر الذي سيأتي في آخر الزمان، وإن أهم وظيفة من وظائفه الثلاث الجليلة هي إنقاذ الإيمان. ويذكر أن إحياء الشريعة وإقامة الخلافة وما شابهها من الوظائف العظيمة الشاملة لدائرة واسعة جداً، لا ضرر من عدم ذكرهما، حيث إنه يكون وسيلة لانتقاد المعارضين وهجوم السياسيين، لذا يرفع بعض الجمل ويعدّلها وسيعيدها إلى إخوته المدققين.
وفي رسالة موقعه باسم "سعيد النورسي":
بينما سُترت الآيتان الكريمتان: ﴿إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا﴾ (الفتح: 1) و ﴿وَيَنصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا﴾ (الفتح: 3) الموجودتان على الباب الخارجي لبناية الوزارة الحربية المتحولة إلى الجامعة بالمرمر، فإن إبرازَهما مثال على السماح لاستعمال الخط القرآني، ووسيلة لما تقصده "رسائل النور" من استعمال الخط القرآني وإشارة إلى تحول الجامعة إلى مدرسة نورية.
* * *
(إن ما بيّنوه من نقد حول إيضاحي للحقيقة الواردة في رسالة تكبيرات الحجاج، جوابه المسكت المقنع هو الهامش الذي وضعه "خسرو")
يقول في رسالة موقعة باسم "سعيد النورسي"، ومعنونة بتكبيرات الحجاج:
إنَّ قسماً من طلاب النور الذين لهم أهمية، يظنون بك، أنك الشخص الذي سيأتي في آخر الزمان من آل البيت. ويصرّون على ظنهم هذا ولكنك ترفض بإصرار أيضاً ما يدور في أذهانهم، و تتحرز منه وتتجنّبه. وهذا في ذاته تناقض وتضاد. نريد حلّه.
ثم يردف إزاء سؤالهم هذا قوله:
"إن الشخص المعنوي الذي يمثل مهدي الرسول المنتظر له ثلاث وظائف. وأهم تلك الوظائف هي إنقاذ الإيمان، ثم إحياء الشعائر الإسلامية باسم الخلافة المحمدية، ويسعى ذلك الشخص لإنجاز هذه المهمة نظراً لتعطّل كثير من أحكام القرآن وقوانين الشريعة المحمدية.
هذا وإن طلاب النور يرون أن الوظيفة الأولى كلياً في عهدة "رسائل النور". أما الوظيفتان التاليتان فهما بالنسبة للأولى ثانوية وثالثية. لذا يتلقون الشخص المعنوي لـ"رسائل النور" أنه نوع من المهدي حقاً، ويعطى ذلك الاسم أحياناً إلى هذا الضعيف العاجز الذي يعتقد قسمٌ منهم أنه يمثل ذلك الشخص المعنوي. حتى إن قسماً من الأولياء يرون في كراماتهم الغيبية أن "رسائل النور" هي مهدي آخر الزمان ومرشده. وهم يقولون: إن هذا الأمر يفهم بالتحقيق والتأويل. ولكن هناك التباس في نقطتين، لا بد من التأويل.
الأولى:
إن الوظيفتين الأخيرتين، رغم أنهما ليستا بأهمية الوظيفة الأولى من زاوية الحقيقة، إلاّ أن الخلافة المحمدية والاتحاد الإسلامي هما لدى عامة الناس وأهل السياسة ولاسيما في أفكار هذا العصر، أنهما أهم من الوظيفة الأولى بألف مرة.
وعلى الرغم من أن اللّٰه يبعث في كل عصر مهدياً ومرشداً، وقد بعث فعلاً، إلاّ أنهم لم يحرزوا لقب المهدى الأكبر لآخر الزمان حيث إنهم أدّوا في جهة من الجهات وظيفة واحدة من تلك الوظائف الثلاث.
الثانية:
إنَّ ذلك الشخص العظيم الذي سيظهر في آخر الزمان هو من آل البيت، وإني وإن كنت بمثابة ولد معنوي لسيدنا علي رضي اللّٰه عنه حيث تلقيت منه درسَ الحقيقة، وأن آل محمد شامل لطلاب النور الحقيقيين في معنىً من معانيه، وأعدّ من هذه الجهة من آل البيت، إلاّ أنه ليس في مسلك النور إظهار الشخصيات وإبراز الأنانية، ولا الرغبة في نيل مقامات شخصية رفيعة، ولا الحصول على السمعة والصيت، بل حتى
لو أُعطيتُ مقامات أخروية فإني أرى نفسي مضطراً للتخلي عنها لكيلا أخلّ بالإخلاص في النور..
وهذا يعني أنه يجيب بما يشمّ منه موافقته الجزئية للموضوع إذ ليس فيه ردّ حاسم ورفض جاد لهذه المسألة، المهدية.([24])
* * *
(إنَّ الحوادث المذكورة في هذه الفقرة واقعة فعلاً وبصورة عجيبة محيرة، فإن حدوث الزلزلة عقب ثلاث دقائق من قولي: "لا تحزنوني إن الأرض تغضب عليكم" كان المفروض عليهم أن يأخذوا المسألة بجدّ ويستحسنوا الموقف، وذلك بمقتضى الشفقة، حيث إنها ليست موضع انتقاد واعتراض)
"بعد مرور عشر ساعات على أخذ إفادته التي دامت أربع ساعات وهو يعاني الضيق، دبّ الحريق في دائرة المعارف، حتى كأنها في الوقت نفسه. مما أظهر أن "رسائل النور" وسيلة لدفع البلايا بحيث لو هوجمت وجدت البلايا لها منفذاً فتنـزل.".
وفي الرسالة المرقمة مائة وواحد وأربعين:
بعد أخذ إفادته التي دامت أربع ساعات ونصف الساعة، يذكر حوادث الحريق التي نشبت في دائرة المعارف في "أنقرة" وفي كراج السيارات وفي معمل في "إزمير" وفي عمارة كبيرة في "أطنه".. ثم يذكر قوله: "لا تحرموني من الرسائل، وإلاّ تكون خسارة جسيمة لي ولهذا الوطن، فالأرض تحتد وتغضب بالزلزلة". وبعد قولته هذه بثلاث دقائق وقعت الزلزلة ودامت ثلاث ثواني، وأظهرت غضب الأرض، وشبت النار في دائرة المعارف، في وقت الهجوم على "رسائل النور" وطلابها، وقد ثبت هذا فعلاً لدى المحكمة أن حدوث الزلازل ونشوب الحريق تلازم وقت الهجوم على "رسائل النور". فهذه الحوادث لا يمكن أن تكون مصادفة.
لقد أصبحت "رسائل النور" وسيلة لدفع كثير من البلايا في هذه البلاد، فهناك وقائع كثيرة جداً على هذا.
وفي الرسالة المرقمة مائة وسبع وأربعين يذكر:
أن الشتاء قد غضب غضباً شديداً، في الوقت الذي شُنّ الهجوم علينا وقد أظهر غضب الهواء وحدّته بالعواصف والبرد الشديد، إنه متى ما توقفت الهجمات على الرسائل وطلابها، فإن ابتهاج طلاب النور يبدّل تلك العواصف القاسية إلى أيام ربيع بهيجة.
إنَّ الحريق الذي دبّ في دائرة المعارف صفعة قوية.
* * *
(إن الحالة التي يجب أن تُبارك، لا ينظر إليها نظر الاعتراض)
سألوني في هذه المرة في المحكمة ضمن أسئلة لا معنى لها، قائلين: بِمَ تعيش؟ فقلت: ببركة الاقتصاد. إن من كان في "إسبارطة" ويعيش في شهر رمضان على رغيف واحد، وكيلو من اللبن وكيلو من الرز، لا يتنازل للدنيا كلها لأجل العيش، ولا يضطر إلى قبول الهدايا.
* * *
(قد ساق الثناء الساطع لـ"زبير"(*) ودفاعه الذي قرأه أمام المحكمة إلى التقدير والاستحسان بإذن اللّٰه بحيث أدرجوه بإعجاب في القرار)
إن ما كتبه "زبير" في إحدى الملازم المطبوعة بالآلة الطابعة والمعنونة بـ(شبابنا يطلب علماً وأخلاقاً راقية تعلّم الحق والحقيقة) جاء في صفحتها العاشرة: "إن "رسائل النور"
التي تنقذ مسلمي القرن العشرين والبشرية عامة من ظلمات الأفكار الباطلة القاتمة ليست من بنات أفكار المؤلف نفسه بل إلهام قذفه رب العالمين إلى قلب المؤلف، فهي رسائل راقية قيمة نفيسة".
وجاء في الصفحة الثانية عشرة:
"إذا ما قيل لطالب يخدم في مجال "رسائل النور": استنسخ هذه الكتب بدلاً عن "رسائل النور"، أعطيك ثروة "فورد" وغناه. لأجابهم قبل أن يرفع طرف قلمه من كتابة "رسائل النور": لا أقبل حتى لو أُعطيتم لي ثروةَ الدنيا كلها وسلطنتها".
وفي الصفحة الخامسة عشرة:
"إن كانت درجة ارتباطنا لنـزيهي الفكر من المؤلفين مائة درجة فإن درجة ارتباطنا لشخصية عظيمة كبديع الزمان الذي يرشدنا إلى سعادة الدنيا والآخرة بلايين البلايين بل بغير نهاية".
وفي الصفحة الثانية عشرة:
"إن الشخص المعنوي لـ"رسائل النور" قد شخّص أمراض هذا العصر الاجتماعية والروحية والدينية، وعرض لإنسان هذا العصر بعناية اللّٰه ما يداويه من العِلل الاجتماعية المزمنة بأدوية نابعة من حقائق القرآن".
وفي الصفحة الرابعة والأربعين:
"قال بديع الزمان: من يقرأ هذه الرسائل لسنة كاملة يمكن أن يكون عالماً جليلاً في هذا الزمان. نعم إنه كذلك.".
وفي الصفحة الرابعة والخمسين:
"إنَّ الحكام الذين قرأوا "رسائل النور" لا يُتوقع صدور قرارات غير صائبة منهم.".
* * *
إلى رئاسة محكمة التمييز
في جلسة محكمة التمييز التي راجعناها لإبطال القرار الجائر الذي أصدرته محكمة "أفيون" في حقنا لم يَدَعوا لي فرصة للكلام، بل تلوا علينا اتهاماً ثالثاً شديد اللّهجة، ولم يسمحوا لأحد أن يساعدني في الكتابة، وفضلاً عن رداءة خطي في الكتابة فقد كنت مريضاً، وهذه الشكوى التي كتبتها وأنا مريض أقدمها إلى مقامكم "الذي أنصفني مرتين إنصافاً تاماً" كلائحة تمييز.
* * *
بِاسمِهِ سُبحَانَهُ
هذه عريضة إلى محكمة الحشر الكبرى، وشكوى إلى المقام الإلهي، ولتسمعها محكمة التمييز في الوقت الحالي والأجيال الآتية في المستقبل وليسمعها أساتذة دار الفنون "الجامعة" وطلابها المثقفون، فمن مئات المصائب والبلايا التي واجهتها طوال ثلاث وعشرين سنة اخترت عشراً منها لعرضها على عدالة المقام الإلهي ذي الجلال الحاكم المطلق مشتكيا إليه:
الأولى: مع أنني شخص مقصر، فقد نذرت كل حياتي في سبيل سعادة هذه الأمة وفي سبيل إنقاذ إيمانها، ولقد سعيت بكل جهدي للعمل برسائل النور لكي أضحى بنفسي في سبيل حقيقة افتدتها ألوف الأنفس، وهي الحقيقة القرآنية، واستطعت بتوفيق من اللّٰه تعالى وفضل منه أن أتحمل شتى ضروب التعذيب، فلم أتقهقر ولم أنسحب.
أسوق مثالاً واحداً من التصرفات الغادرة والظالمة التي واجهتها في سجن أفيون وفي محكمتها:
مع أنهم أسمعوني وأسمعوا طلابَ النور الأبرياء الذين كانوا ينتظرون السلوان من عدالة المحكمة ثلاث مرات لائحة الاتهام المليئة بالافتراءات وكانت قراءة اللائحة
تستغرق كل مرة ساعتين في الأقل، إلاّ أنهم لم يسمحوا لي بالكلام وبالرد إلاّ لمدة دقيقة واحدة أو دقيقتين، مع أنني رجوت منهم أن يسمحوا لي بالدفاع عن حقوقنا لمدة خمس أو عشر دقائق.
ومع أنني أُبقيت معزولاً لمدة عشرين شهراً في سجن انفرادي، إلاّ أنهم لم يأذنوا لأحد بزيارتي ورؤيتي إلاّ لصديقين أو ثلاثة ولمدة ثلاث أربع ساعات فقط، وقد ساعدتني هذه الزيارة مساعدة جزئية جداً في كتابة دفاعي. ثم منعوا هؤلاء أيضاً، وعاملوهم معاملة قاسية وعاقبوهم. وأجبرونا على سماع لائحة الاتهام للمدعي العام البالغة خمس عشرة صحيفة والتي ملأها بالأكاذيب المغرضة وبالافتراءات وبسوء الفهم.
حتى إنني أحصيت فيها واحداً وثمانين خطأً، ولم يسمحوا لي بالكلام وبالرد، ولو سمحوا لي بذلك لقلت لهم: أنتم تنكرون دينكم وتهينون أجدادكم -بوصفهم بأنهم كانوا على ضلالة- وتنكرون نبيكم صلى الله عليه وسلم ولا تقبلون بقوانين قرآنكم الكريم، بينما لا تتعرضون لليهود ولا للنصارى ولا للمجوس، ولا للمنافقين المرتدين من الفوضويين من أنصار البلشفية، وذلك تحت شعار حرية الفكر وحرية الوجدان. وإن الحكومة البريطانية التي نعلم مدى تعصبها للنصرانية ومدى جبروتها، تسمح للملايين من المسلمين الموجودين تحت حكمها بقراءة القرآن في كل وقت وأخذ دروس منه، هذه الدروس التي ترّد كل العقائد الباطلة وكل الدساتير الكافرة للإنكليز. ثم إن المعارضين لكل حكومة يستطيعون إبداء آرائهم علناً ويستطيعون نشر هذه الأفكار، ولا تتعرض لهم محاكم هذه الحكومات. أما إنا فقد تم تدقيق أربعين سنة من حياتي وتدقيق مائة وثلاثين كتاباً من كتبي وجميع مكاتيبى ورسائلي حتى السرية منها في محكمة "إسبارطة" وفي محكمة "دنيزلي" وفي محكمة جزاء "أنقرة" وكذلك في رئاسة الشؤون الدينية، كما قامت محكمة التمييز بهذا التدقيق مرتين -وربما ثلاث مرات- وبقيت رسائل النور بكل نسخها الخاصة منها وغير الخاصة في يدها مدة حوالي ثلاث سنوات، ومع ذلك لم يجدوا فيها أي شيء يستوجب عقوبة مهما كانت صغيرة. وأنا أتساءل ما هو الذنب الذي اقترفناه لكي تقوموا بإصدار عقوبة قاسية في حقنا وسجننا سجناً انفرادياً
وأنا بهذه الدرجة من الضعف وفي هذا الوضع القاسي من الظلم والقهر، وأي قانون أو مصلحة أو وجدان يرضى بهذا؟ مع أن رسائل النور -التي تجدون مجموعتها كاملة بين أيديكم- أصبحت مرشداً قوياً وقويماً لأكثر من مائتي ألف طالب من طلاب النور الحقيقيين المستعدين للتضحية، فخدمت بذلك أمن البلد واستقراره. ثم إن دفاعي الذي قدمته والذي بلغ أربعمائة صفحة أثبت براءتنا بشكل قاطع لا يقبل الشك، لذا ستُسألون هذه الأسئلة أمام المحكمة الكبرى يوم الحشر دون ريب.
الثانية: لقد عدّوا تفسيري للآيات القرآنية الصريحة حول الحجاب والإرث وذكر اللّٰه وتعدد الزوجات، وقيامي برد الاعتراضات المثارة ضدها من قبل المدنية الغربية الحالية رداً مفحماً.. عدّوا ذلك إحدى التهم الموجهة إليّ. وأكرر هنا الفقرة التي أوردتها قبل خمسة عشر عاماً في محكمة "أسكي شهر" ثم في محكمة التمييز في أنقرة وستكون هذه الفقرة شكواي في محكمة الحشر الكبرى وتنبيهاً وإيقاظاً للجماعات المثقفة للأجيال القادمة وستكون هي مع "رسالة الحجة الزهراء" بمثابة لائحة تمييز، كما إنني أكرر هذه الفقرة للمدعي العام الذي لم يترك لي فرصة للكلام والذي أثبتّ ثمانين خطأ ورد في لائحته الاتهامية التي ملأها بالمغالطات وأعرضها مرة أخرى على هيئة المحكمة التي أصدرت حكما عليّ بسنتين من الحبس الانفرادي الشديد وبسنتين من النفي والإقامة الجبرية:
إنني أقول لمحكمة وزارة العدل: إن إدانة من يفسر أقدس دستور إلهيّ وهو الحق بعينه، ويحتكم إليه ثلاثمائة وخمسون مليوناً من المسلمين في كل عصر في حياتهم الاجتماعية، خلال ألف وثلاثمائة وخمسين عاماً. هذا المفسر استند في تفسيره إلى ما اتفق عليه وصدق به ثلاثمائة وخمسون ألف مفسر، واقتدى بالعقائد التي دان بها أجدادنا السابقون في ألف وثلاثمائة وخمسين سنة.. أقول: إن إدانة هذا المفسر قرار ظالم لا بد أن ترفضه العدالة، إن كانت هناك عدالة على وجه الأرض، ولا بد أن ترد ذلك الحكم الصادر بحقه وتنقضه. ولتسمع هذا الآذان الصماء لعصرنا الحالي.
ألا يعني إدانة شخص ترك السياسة واعتزل الحياة الاجتماعية ولا يؤمن من الناحية الفكرية العلمية ببعض القوانين الأجنبية التي قُبلت في هذا البلد بمقتضى ظروف معينة، لقيامه بتفسير هذه الآيات إنكاراً منهم للإسلام وخيانة لمليار من أجدادنا الأبطال المتدينين واتهاماً لملايين التفاسير القرآنية؟!
الثالثة: من الأسباب التي ذكروها لتبرير الحكم عليّ هي القيام بالإخلال بالأمن والاستقرار؛ وعلة هذا أنهم قاموا بتفسير خاطئ لمعنى بعض الجمل الواردة في خطابات شخصية ورسائل خاصة لا تتجاوز الخمسين جملة، مع أن رسائل النور تحوي أكثر من مائة ألف كلمة وجملة، ونظروا إلى احتمال واهٍ وبعيد جداً لا يتجاوز واحداً في المائة بل واحداً من ألف، وعدوا هذا الاحتمال البعيد واقعاً ويريدون به عقابنا.
وأنا أُشهد الذين يعرفون الثلاثين أو الأربعين سنة الأخيرة من حياتي والآلاف من طلبة النور الأصفياء فأقول:
عندما بدأ القائد العام للجيش الإنكليزي الذي احتل إسطنبول ببذر بذور الخلاف بين المسلمين حتى خدع شيخ الإسلام وبعض العلماء الآخرين وجعل أحدهم يهاجم الآخر، ووسع الخلاف بين جماعة الاتحاديين وجماعة "الائتلاف"([25]) لكي يهيئ الجو لانتصار اليونانييـن واندحار الحركة المـلية الوطنية. قمـت آنذاك بتأليف كتـابي "الخطوات السـت" ضد الإنكلـيز وضد اليونانييـن، وقام السـيد "أشرف أديب"(*) بطبعه ونشره، مما ساعد على إبطال مفعول الخطة الجهنمية لذلك القائد، فالذي لم يحفل بتهديد القائد الإنكليزي بإعدامه ولم يهرب إلى أنقرة مع أن حكومة أنقرة
استدعته تقديراً منهم لنضاله، وفي روسيا لم يحفل بقرار الإعدام الذي أصدره القائد الروسي، واستطاع في حوادث 31 مارت بخطبة واحدة تهدئة ثماني كتائب هائجة من الجيش وإعادتها إلى الطاعة. وعندما قال له باشوات المحكمة العسكرية العرفية([26]): "أنت أيضاً رجعي فقد طالبت بحكم الشريعة" لم يحفل بتهديدهم أدنى احتفاء بل أجابهم: "إذا كانت المشروطية عندكم تعني استبداد فئة معينة فليشهد الثقلان أنني رجعي، وأنا مستعد للتضحية بروحي في سبيل مسألة واحدة فقط من مسائل الشريعة مما أذهل الضباط الكبار. وبينما كان يتوقع حكم الإعدام أصدروا قرارهم بتبرئته وتخلية سبيله. ولم يشكرهم على قرارهم هذا، بل هتف وهو في طريقه للخروج "لتعش جهنم للظالمين".
وفي ديوان الرئاسة في أنقرة -كما أدرج في قرار لمحكمة أفيون- عندما قال له مصطفى كمال في غضب: "لقد دعوناك هنا لكي نستأنس بآرائك السديدة، فإذا بك تكتب أموراً حول الصلاة فبذرتَ الخلاف فيما بيننا" فأجابه أمام ما يقرب من خمسين نائباً: "إن أكبر مسألة بعد مسألة الإيمان هي الصلاة، ومن لا يصلي يعدّ خائناً وحكم الخائن مردود". فاضطر ذلك القائد الصارم إلى كظم غيظه وإلى إرضائه بعض الترضية.
ثم إنه لم يسجل رجال أمن الحكومة في ست ولايات أية حادثة تخل بالأمن لطلبة النور مع أنهم يعدّون بمئات الآلاف سوى حادثة صغيرة تتعلق بقيام أحد الطلبة الصغار بدفاع شرعي. ولم يسمع أحد أن طالباً من طلاب النور دخل السجن بسبب جرم أو جناية، وما دخل السجن إلاّ وأصلح المسجونين. ومع أن مئات الآلاف من نسخ رسائل النور منتشرة في أرجاء البلد فلم يشاهد أحد ضرراً لها، بل لم يجدوا منها سوى النفع طوال ثلاث وعشرين سنة. وأصدرت ثلاث محاكم لثلاث حكومات أحكامها
بالبراءة، كما إن مئات الآلاف من الطلبة يشهدون ويصدقون بأقوالهم وبأفعالهم على قيمة رسائل النور.
ثم هل يجوز أن يتهم شخص منـزوٍ ومنعزل وكبير السن وفقير ويرى نفسه على حافة القبر وترك بكل قوته وقناعته الأشياء الفانية، فلا يهتم بأية رتبة دنيوية بل هو في شغل شاغل بما يكفّر عن تقصيراته السابقة وبأمور تنفع حياته الخالدة، وهو لشدة شفقته ولرغبته في تجنيب الأبرياء والشيوخ أية أضرار تلحق بهم فإنه يتجنب الدعاء على ظالميه ومعذبيه.. هل يجوز أن يُتهم مثل هذا الشخص ويقال بحقه: إن هذا الشيخ المنـزوي يحاول الإخلال بالأمن ويفسد الاستقرار، وغايته هي المؤامرات الدنيوية وهي القصد من اتصالاته ومكاتيبه، لذا فهو مذنب؟. إن من يقول هذا بحقه ويحكمون عليه في ظل ظروف قاسية لا شك أنهم مذنبون، ومذنبون جداً، وسيدفعون ثمن هذا في المحكمة الكبرى يوم الحشر.
مثل هذا الرجل الذي هدّأ ثماني كتائب عسكرية وأجبرها على الانقياد للنظام بخطبة واحدة واستطاع قبل أربعين سنة بمقالة واحدة أن يجعل الآلاف من الناس ينحازون إليه ويكونون أنصاره، ولم يُحنِ رأسه أمام ثلاثة قواد جبارين -المذكورين سابقاً- ولم يخش منهم ولم يتملق لهم وقال أمام المحاكم: ألا فلتعلموا جيداً بأنه لو كان لي من الرؤوس بعدد ما في رأسي من شعر وفصل كل يوم واحد منها عن جسدي فلن أحني هذا الرأس الذي نذرته للحقائق القرآنية أمام الزندقة والكفر المطلق، فلن أخون الوطن والأمة والإسلام. فهل يجوز بعد هذا أن يقال لمثل هذا الشخص الذي لم يكن له علاقة مع أحد في مدينة "أميرداغ" إلا مع بضعة من أصدقاء الآخرة إضافة إلى ثلاث من الذين كانوا يقومون بشؤون خدمته...
هل يجوز أن يقال: إن سعيداً هذا عمل سراً في أميرداغ كي يخل بالأمن، فقد سمم أفكار بعض أفراد الشعب هناك، فقام عشرون شخصاً هناك بمدحه وكتابة مكاتيب خاصة له، مما يبرهن على أنه يعمل سراً ضد النظام الثوري للحكومة؟ واستناداً إلى هذه التهمة فقد اتُبِعتْ سياسة عدائية ضده وحكم عليه بالحبس الشديد لمدة سنتين حيث وضع في سجن انفرادي وفي عزلة تامة، ولم يسمحوا له بالكلام والدفاع عن نفسه في المحكمة. لأجل كل هذا فإنني أحيل هؤلاء الذين عذبوني وابتعدوا هذا الابتعاد عن العدالة وعن الإنصاف إلى ضمائرهم.
وهل يعقل وهل من الممكن أن يقوم مثل هذا الشخص الذي نال توجّه الناس إليه أكثر مما يستحقه والذي حمل الألوف على الطاعة والانقياد بخطبة واحدة، وجعل الآلاف من الناس ينضمون إلى جمعية الاتحاد المحمدي بمقالة واحدة منه، واستمع إلى خطبته خمسون ألف شخص في جامع أياصوفيا بكل تقدير.. هل يعقل وهل يمكن أن يقوم مثل هذا الشخص بعمل سري طوال ثلاث سنوات في مدينة أميرداغ ثم لا يوفق إلاّ في إقناع بضعة أشخاص ويترك أمور الآخرة وينغمس في مؤامرات السياسة فيملأ قبره -القريب منه- بالظلمات بدلاً من النور؟ أيمكن هذا؟ إن الشيطان نفسه لا يمكن أن يُقنع بهذا أحداً.
الرابعة: لقد أبرزوا عدم قيامي بلبس القبعة كسبب مهم لإدانتي ولم يسمحوا لي بالكلام، وقد كنت ناوياً أن أقول لهم:
لقد بقيت في مدينة "قسطموني" مدة ثلاثة أشهر موقوفاً في مركز الشرطة هناك ولم يقل لي أحد: "عليك أن تضع القبعة على رأسك". وفي ثلاث محاكم لم أضع قبعة على رأسي ولم أحسر عن رأسي في جلسات هذه المحاكم، ولم يتعرض أحد لي. صحيح أن بعض الظالمين الذين لم يكن لديهم نصيب من الدين اتخذوها حجة وتعرضوا لي بشكل غير رسمي بالأذى طوال ثلاث وعشرين سنة وضيقوا عليّ كثيراً وآذوني. وأن الأطفال والنساء وأكثر القرويين والموظفين في الدوائر الرسمية والذين يلبسون غطاء الرأس، غير مضطرين إلى لبس القبعة، إذ لا فائدة أو مصلحة مادية في ذلك، إذن فإن شخصاً منـزوياً مثلي قاسى عشرين عاماً بسبب عدم لبس القبعة والافتراءات، علماً بأن جميع المجتهدين وجميع شيوخ الإسلام منعوا لبسها، والآن يعودون إلى إيذائي وعقوبتي دون أي وجه حق، فكما لا يتعرض أحد إلى الذين يشربون الخمر جهاراً نهاراً في شهر رمضان ولا يصلون، وذلك باسم الحرية الشخصية، لذا
فإن الذين يتهمونني من أجل زيي مراراً وتكراراً بهذا العناد وبهذه الشدة سوف يسألون عن هذا عندما يشاهدون الحبس الانفرادي الأبدي في القبر ويحضرون إلى المحكمة الكبرى.
الخامسة: إن رسائل النور التي حازت قبول مائة ألف من أهل الإيمان والتي قدمت طوال عشرين عاماً منافع عديدة -خالصة من أية شائبة من الضرر- للأمة وللوطن تُصادر لأتفه الأسباب: فمثلا صودرت مجموعة "ذو الفقار-المعجزات الأحمدية" -التي أنقذت إيمان مائة ألف شخص- لورود تفسير صحيح ومحقّ لآيتين كريمتين في صفحتين فقط من مجموع صفحاتها البالغة أربعمائة صفحة مع أن هذه المجموعة تعرضت لمرور الوقت، وصدرت خلاله قوانين عفو عديدة، فهل يجوز مصادرة تلك المجموعة القيمة النافعة من أجل صفحتين فقط؟ والآن تتم مصادرة رسائل أخرى قيمة بسبب كلمة أو كلمتين -يفسرونها تفسيراً خاطئاً- ضمن ألف كلمة. وكل من سمع لائحة الادعاء الثالثة هذه والقرار الذي نشرناه يتأكد مما نقول.
أما نحن فإننا نقول لكل مصيبة نراها: ﴿إِنَّا لِلّٰهِ وَإِنَّـا إِلَيْهِ رَاجِعونَ﴾ و ﴿حَسْبُنَا اللّٰهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ﴾.
السادسة: إنني أقول للذين يتهمون المترجم المسكين لرسائل النور (أي نفسه) بسبب قيام بعض طلبة النور بثناء مبالغ فيه وحسن ظن مفرط بإرسال رسائلِ تشجيع وتهنئة وتقدير وشكر بعد أن استفادوا استفادة كبرى من البراهين الإيمانية التي لا تتزعزع واكتسابهم العلوم الإيمانية بدرجة علم اليقين... أقول لهم:
إنني شخص ضعيف وعاجز ومنفي ونصف أمي، وعندما كانوا يثيرون الناس ضدي بدعاياتهم ويخوفونهم مني، كنت كلما أجد دواء لأدوائي من أدوية القرآن الكريم ومن حقائقه الإيمانية الرفيعة كتبت تلك الحقائق القيمة إيماناً منى بأنها ستكون علاجاً شافياً لأبناء الأمة والوطن، ولما كان خطي رديئاً جداً فقد كنت بحاجة ماسة إلى معاونين، فيسّرت العناية الإلهية لي معاونين خاصين وصادقين وثابتين.
ومن الطبيعي أنني لا أستطيع أن أرد بشكل قاطع حسن ظنهم ومدحهم المخلص، أو أن أوبخهم على هذا فأجرح مشاعرهم، فمثل هذا التصرف يخالف الأنوار المستلهمة من خزينة القرآن الكريم ويعاديها ويهوّن منها. لذا فلكي لا يبتعد عني هؤلاء المعاونون من ذوي الأقلام الألماسية والقلوب الشجاعة فإنني كنت أحول مديحهم لشخصي العاجز المفلس إلى رسائل النور التي هي صاحبة الحق في هذا المديح لأنها تعكس المعجزة المعنوية للقرآن الكريم، أحيلها إلى الشخصية المعنوية لطلاب النور. وعندما كنت أقول لهم: "إنكم تعطون لي حصة تزيد على حصتي بمائة مرة" كنت أوذي مشاعرهم إلى حد ما. فهل هناك مادة قانونية تضع شخصاً في موقع الاتهام واللوم لأن أفراداً آخرين يمدحونه بالرغم من أنه كاره لهذا المديح؟ أتوجد مثل هذه المادة القانونية لكي يمكن تبرير قيام موظف رسمي اتهامي باسم القانون؟
هذا مع العلم أنه قد ذكر في الصفحة رقم (54) من القرار المنشور للائحة الاتهام ضدنا قولي: "إن ذلك الشخص العظيم الذي سيظهر في آخر الزمان سيكون من نسل آل البيت، أما نحن معشر طلاب النور فيمكن أن نعدّ من آل البيت من الناحية المعنوية فقط. ثم إنه لا يوجد في مسلك النور مكان للأنانية أو لتبجيل شخص أو الرغبة في مقامات دنيوية، أو التطلع نحو الجاه والشهرة أبداً. بل إنني أرى نفسي مضطراً حتى لترك المقامات الأخروية -إن أُعطيت لي- كي لا أخلَّ بالإخلاص الموجود في المسلك النوري".
كما ورد في الصفحة (22) وفي الصفحة (23) من قرار اللائحة هذه العبارات: "معرفة الإنسان تقصيرَه أمام اللّٰه وأدراكُ فقره نحوه وعجزه أمامه والالتجاء إليه بذل وخشوع... فأرى نفسي بتلك الشخصية أشقى وأعجز أفقر وأكثر تقصيراً أمام اللّٰه من أي أحد كان من الناس. فلو اجتمعت الدنيا في مدحي والثناء علىّ لا تستطيع أن تقنعني بأنني صالح وفاضل... لن أبوح بكثير من مساوئ شخصيتي الثالثة ومن أحوالها السيئة لئلا أنفركم عنى كلياً. فالفضل الإلهي هو الذي يسخر شخصيتي التي
هي كأدنى جندي، في خدمة أسرار القرآن التي هي بحكم أعلى منصب للمشيرية وأرفعها. فالنفس أدنى من الكل والوظيفة أسمى من الكل، فألف شكر وشكر للّٰه سبحانه".
ومع أن اللائحة اقتبست العبارات أعلاه من كلامنا وأدرجتها في متنها، إلاّ أن الذين يريدون وضعي في موضع المذنب لمجرد قيام بعض الأشخاص بمدحي ووصفي بأنني مرشد عظيم ومهدى -بأنني هديتهم بالمعنى الوارد في رسائل النور- لا شك أنهم يستحقون نيل جزاءهم على ما اقترفوه من ذنوب كبيرة.
السابعة: قامت محكمة دنيزلي ومحكمة الجنايات الكبرى في "أنقرة"، ومحاكم التمييز بإصدار قراراتها بالإجماع على تبرئتنا وعلى تبرئة رسائل النور بأجمعها، حيث أعادت هذه الرسائل وكذلك جميع خطاباتنا إلينا، ومع أنهم قالوا إنه "حتى على فرض وقوع خطأ في قرار التبرئة لمحكمة دنيزلي فما دامت محكمة التمييز قامت بتبرئتكم، فإن قرار التبرئة أصبح قطعياً وثابتاً ولا يمكن سوقُكم إلى المحكمة مرة أخرى". ومع أنني قضيت ثلاث سنوات في مدينة "أميرداغ" منـزوياً لا أتصل إلا مع بضعة أشخاص ممن يقومون بشؤون خدمتي بشكل متناوب -وكانوا يعملون كمساعدي خياط- ولا أتحدث مع أحد إلاّ مع بعض المتدينين في حالات نادرة وضرورية ولمدة بضع دقائق فقط، وسوى إرسال رسالة واحدة فقط في الأسبوع من أجل التشجيع على قراءة رسائل النور -حتى إنني لم أرسل إلى شقيقي المفتي إلاّ ثلاث رسائل طوال ثلاث سنوات- بل تركت التأليف الذي كنت عاكفاً عليه منذ ثلاثين سنة سوى تأليف نكتتين اثنتين بعشرين صفحة تناولت موضوعين مهمين ومفيدين جداً لأهل الإيمان ولأهل القرآن وهما "حكمة التكرار في القرآن" و "بعض المسائل حول الملائكة"... لم أؤلف عداهما ولكني وافقت على ضمّ الرسائل التي برأتها المحاكم وجعْلِها بشكل مجلدات، وعندما قامت المحكمة بإرجاع خمسمائة نسخة من "رسالة الآية الكبرى" التي كانت مطبوعة بالأحرف القديمة، فقد أعطيت موافقتي لإخواني
باستنساخها بوساطة جهاز الاستنساخ -لعلمي بأن القانون لا يمنع ذلك بصورة رسمية- وذلك لكي يستفيد العالم الإسلامي منها، وانشغلت فقط بتصحيحها ولم أنشغل أبداً بالسياسة، حتى إنني فضلت البقاء في غربة أليمة ولم أرجع إلى بلدتي -كما فعل جميع المنفيين الآخرين- رغم صدور الإذن الرسمي بذلك لكي لا أنشغل بالدنيا وبالسياسة.
إذن فإن القيام بتوجيه هذا الاتهام الثالث المحتوي على أمور باطلة وكاذبة وعلى تفسيرات خاطئة ومحاولة إدانة مثل هذا الرجل يحتوي على معنيين مذهلين -سوف لن أقولهما الآن- وقد أثبتت المدة الأخيرة البالغة عشرين شهراً هذا الأمر. وأنا أقول: حسبهم القبر وسقر، وأحيل أمري إلى المحكمة الكبرى يوم القيامة.
الثامنة: بعد أن بقيت رسالة "الشعاع الخامس" سنتين لدى محكمة دنيزلي ومحكمة أنقرة أعيدت إلينا. وبعد أن صدر القرار بتبرئتها سمحتُ بنشرها -مع دفاعي في تلك المحكمة- في آخر مجموعة "سراج النور". صحيح أنني كنت أحتفظ بها كرسالة خاصة ليست معروضة على الناس، ولكن ما دامت المحكمة شهرت بها وأعلنتها ثم أعادتها إلينا بعد براءتها، فقلت بأنه لا ضرر إذن من نشرها، لذا أذنت لهم بنشرها. وكان أصل هذه الرسالة قد كتب قبل حوالي أربعين سنة حول تأويلات أحاديث متشابهة كانت قد انتشرت بين الناس منذ القديم، ومع أن عدداً من علماء الحديث ضعّفوا قسماً من هذه الأحاديث، إلاّ أنني قمت بكتابة هذه الرسالة إنقاذاً لأهل الإيمان من الشبهات لأن المعاني الظاهرة لهذه الأحاديث كانت تتسبب في اعتراضات كثيرة عليها، إلاّ أن قسماً من تأويلاتها الخارقة ظهرت أمام الأعين، لذا اضطررنا إلى إخفاء هذه الرسالة وجعلها رسالة سرية خاصة لكي لا تُفسر تفسيراً خاطئاً، وبعد أن قامت عدة محاكم بتدقيقها وتشهيرها ثم إعادتها إلينا، إلاّ أنها عادت مرة أخرى إلى اتخاذها سبباً في إدانتنا، لذا فإننا نحيل مدى ابتعاد هذا العمل
عن العدالة وعن الحق وعن الإنصاف إلى ضمائر هؤلاء الذين يريدون إدانتنا بسبب من قناعاتنا الوجدانية، كما نحيل شكوانا هذه إلى المحكمة الإلهية الكبرى ونقول: ﴿حَسْبُنَا اللّٰه وَنِعْمَ الْوَكِيلُ﴾.
التاسعة: وهذه نقطة مهمة جداً ولكننا نمسك عن ذكرها لئلا نغضب الذين حكموا علينا، وذلك لأجل قيامهم بقراءة رسائل النور.
العاشرة: وهذه نقطة قوية ومهمة ولكننا نمسك أيضاً عن ذكرها حاليا لكي لا تدفعهم إلى الاستياء والامتعاض.
سعيد النورسي
الموقوف في السجن الانفرادي
* * *
عريضة مقدمة إلى مجلس الوزراء
هذا قسم من العريضة المقدمة إلى مجلس الوزراء قبل خمسة عشر عاماً وأثناء محكمة "أسكي شهر":
يا أهل الحل والعقد!
لقد تعرضتُ لظلم يندر وجوده في الدنيا. ولما كان السكوت على هذا الظلم يعدّ استهانة بالحق وعدم احترام له فقد اضطررت إلى إفشاء حقيقة مهمة جداً، فأقول:
إما قوموا بإعدامي وببيان ذنبي الذي استلزم حكماً مقداره مائة سنة وسنة ضمن دائرة القانون وإطاره، أو برهِنوا على أنني مجنون وفاقد للعقل، أو أعطوا لرسائلنا ولنا ولأصدقائنا الحرية الكاملة وحاسِبوا الذين تسببوا في إيقاع الأذى بنا.
أجل، لا بد أن يكون لكل حكومة قانون واحد، وأصول واحدة، حيث تُعطى العقوبات على أساس ذلك القانون، فإذا لم يكن في قوانين الحكومة الجمهورية ما يبرر إيقاع الأذى الشديد بي وبأصدقائي فإن من المفروض ومن الواجب تقديم الترضية الضرورية والتقدير والمكافأة لنا مع إعطائنا كاملَ الحرية، ذلك لأنه لو كانت خدمتي القرآنية تعدّ عملاً عدائياً موجهاً ضد الحكومة، فإنه يلزم إصدار حكم عليّ بالسجن لمدة مائة سنة وسنة أو بالإعدام، وكذلك إصدار عقوبات قاسية على الذين ارتبطوا معي في هذه الخدمة بشكل جدي بدلاً من الحكم عليّ بسنة واحدة وعلى أصدقائي بستة أشهر. فإن لم تكن خدماتنا هذه موجهة ضد الحكومة، فعليها أن تقابلنا بالتقدير والمكافأة بدلاً من العقاب والسجن والأذى والاتهام. ذلك لأن مائة وعشرين رسالة، أصبحت ترجماناً لهذه الخدمة، واستطاعت أن تتحدى فلاسفة أوروبا وأن تهدم كل أسسهم الفكرية وتجعلها أثراً بعد عين.
لا شك أن هذه الخدمة الفعالة والمؤثرة ستؤدي إما إلى نتيجة مخيفة، أو إلى ثمرة علمية راقية ونافعة جداً، لذا لا يمكن إصدار قرار بحبسي سنة واحدة وكأننا نلعب
لعب الأطفال من أجل ذر الرماد على العيون واستغفال العامة والتستر على مؤامرات الظالمين ضدنا، ذلك لأن أمثالي إما إن يصعدوا على المشنقة بكل فخر ويعدموا، وإما إن يكونوا أحراراً في الموقع الذي يستحقونه.
أجل، إن اللص الماهر الذي يستطيع أن يسرق ألماسات بقيمة آلاف الليرات، إن قام بسرقة قطع زجاجية بقيمة عدة قروش وتم الحكم عليه بنفس الحكم من سرقة ألماسات ثمينة، فإنه ما من لص أو ذي عقل وشعور يفعل ذلك. لأن أمثال هذا اللص يكون ذكياً وحاذقاً ولا يتورط في عمل في غاية الحمق والبلاهة.
أيها السادة!
لنفرض أنني كنت مثل ذلك اللص حسب ما تتوهمون، فلماذا أختار ناحية بائسة من نواحي مدينة "إسبارطة" حيث بقيت منـزوياً فيها مدة تسع سنوات. إذن فبدلاً من توجيه أفكارِ بضعةٍ من الأفراد المخلصين "الذين تم الحكم عليهم بأحكام خفيفة" نحو معاداة الحكومة وإلقاءِ نفسي ورسائلِ النور -التي هي غاية حياتي وهدفها- في الخطر فقد كان من الأفضل لي البقاء في موقع كبير في "أنقرة" أو في "إسطنبول" -كما كنت في السابق- وتوجيه الآلاف من الناس نحو الغاية التي ابتغيها، عند ذلك كنت أستطيع أن أتدخل وأن أشارك في أمور الدنيا بعزة تليق بمسلكي بدلاً من التعرض لمثل هذه العقوبة التافهة والذليلة.
ولأجل أن أبين مدى الخطأ الذي يقع فيه الذين يريدون دفعي إلى رتبة واطئة لا نفع فيها ولا أهمية لها، فإنني أقول مضطراً مذكراً ببعض أنانيتي وريائي السابقين وليس من أجل الفخر والمدح:
إن الذين تيسرت لهم رؤية دفاعي الذي طبع تحت عنوان "شهادة مدرستين للمصيبة" يشهدون أنه استطاع بخطبة واحدة جلب ثماني كتائب من الجنود إلى الطاعة في أحداث 31 مارت، وكما كتبتْ الجرائد آنذاك استطاع بمقالة واحدة في زمن حرب الاستقلال باسم "الخطوات الست" أن يحوّل رأى العلماء في إسطنبول ضد الإنكليز، مما كان له أثر إيجابي كبير في الحركة الملية "الوطنية" وفي جامع أياصوفيا استمع الآلاف إلى خطبته، وفي مجلس المبعوثان "المجلس النيابي" في أنقرة
استُقبل بتصفيق حار وقام مائة وثلاث وستون نائباً بالموافقة على تخصيص مائة وخمسين ألف ليرة لمدرسة دار الفنون "الجامعة"، وعندما دعا إلى الصلاة قابل حدة رئيس الجمهورية في ديوان الرئاسة وردّ عليه دون خوف أو وجل وعندما كان في "دار الحكمة الإسلامية" رأت حكومة الاتحاد والترقى بالإجماع أنه أوفق شخص لتبليغ الحكمة الإسلامية إلى حكماء أوروبا بشكل مؤثر. أما كتابه "إشارات الإعجاز" الذي ألّفه في جبهات القتال -والذي تمت مصادرته الآن- فقد أعجب به القائد العام أنور باشا إعجاباً كبيراً إلى درجة أنه هرع إلى استقباله بكل احترام -وهذا ما لم يفعله مع أحد- وقرر إعطاء الورق اللازم لطبع هذا الكتاب لكي تكون له حصة من شرف تلك الهدية ومن ثوابها، هدية الحرب، كما ذُكر جهاد مؤلف الكتاب في الحرب بكل خير وبكل تقدير..
فمثل هذا الرجل لا يستطيع أن يسكت على معاملته بهذه الصورة وكأنه تورط في جرائم تافهة كسرقة بغلة أو خطف بنت أو نشل جيب، لأنه لو سكت لكان هذا وصمة له ولعزته العلمية القدسية ولخدماته وللألوف المؤلفة من أصدقائه الغالين، لأنكم عندما تعاقبونه بحبسه سنة واحدة فكأنكم تعاملونه معاملة سارق نعجة أو خروف. فبعد قيامكم بوضعه دون أي سبب تحت الإقامة الجبرية وتحت المراقبة مدة عشر سنوات مليئة بالمضايقات وبالآلام، وبعد هذا التعذيب تقومون الآن بحبسه سنة واحدة وبإبقائه تحت الإقامة الجبرية سنة أخرى. وبدلاً من معاناته من تحكم وتجبر شرطي عادي أو رجل بوليس سري عادي -وهو الذي لم يتحمل تحكم السلطان- فإنه من الأفضل والأولى له أن يُشنق. ولو أن مثل هذا الرجل أراد التدخل في أمور الدنيا ورغب في ذلك، وكانت وظيفته ومهمته المقدسة تسمح له بذلك، إذن لاستطاع أن يقود أمراً أعظم بعشرات المرات من حادثة "منمن" ومن ثورة "الشيخ سعيد" أي لأسمعكم صوتاً راعداً كدوي المدافع وليس طنيناً كطنين أجنحة الذباب!
أجل، إنني أعرِض أمام أنظار حكومة الجمهورية بأن ما أتعرض له حالياً من مصائب ومن بلايا هو نتيجة لمؤامرات ودعايات منظمة بلشفية سرية، فهناك جو من الدعايات العامة الشاملة التي لم يشاهَد لها مثيل في السابق وجو من الخوف ومن
الإرهاب، والدليل على هذا هو أنه ما من أحد من أصدقائي -الذين يبلغ عددهم مائة ألف- استطاع أن يبعث لي رسالة واحدة منذ ستة أشهر ولم يستطع أن يرسل لي تحية أو سلاماً. وأصحاب المؤامرات هذه الذين يحاولون خداع الحكومة واستغفالها استطاعوا بتقاريرهم السرية ترتيب تحقيقات واستجوابات وتحريات في كل مكان بدءً من الولايات الشرقية للبلد إلى الولايات الغربية.
إن الخطة التي كان المتآمرون يحيكونها رتبت وكأن هناك حادثة مهمة أعاقَب عليها -مع الآلاف من الأشخاص مثلي- عقاباً قاسياً، ولكنها انتهت في الأخير إلى عقوبة تافهة جداً يمكن أن تفرض على أي شخص اعتيادي قام بحادثة سرقة تافهة، إذ عوقب خمسة عشر شخصاً بريئاً من بين مائة وخمسة عشر بالسجن لمدة ستة أشهر. فهل هناك شخص يملك شعوراً وعقلاً يقوم بوخز أسد كبير في ذيله وخزة خفيفة بسيف قاطع حاد يحمله في يده فيثيره ضده؟ ذلك، لأنه لو كان يريد حفظ نفسه من ذلك الأسد أو لو كان يريد قتله لاستعمل ذلك السيف القاطع في موضع آخر من ذلك الوحش.
إن قيامكم بإصدار عقوبة خفيفة ضدي يدل على أنكم تتوهمون أنني مثل هذا الرجل. ولو أنني كنت شخصاً يتصرف مثل هذا التصرف البعيد عن العقل وعن الشعور فلماذا ملأتم هذا البلد بطوله وعرضه بجو من الخوف؟ وما الداعي لكل هذه الدعايات التي تستهدف جلب عداء الرأي العام ضدي؟ لقد كان من المفروض أن تتعاملوا معي كتعاملكم مع مجنون عادي فترسلوني إلى مستشفى المجاذيب.
أما لو كنت شخصاً مهماً كأهمية التدابير التي تتخذونها ضدي، فليس من العقل ومن المنطق وخز ذلك الأسد أو ذلك الوحش في ذيله وإثارته للهجوم عليه، بل عليه أن يحافظ قدر الإمكان على نفسه منه. وهكذا فإنني فضلتُ حياةَ الانزواء منذ عشر سنوات باختياري وتحملت من الآلام والمضايقات مالا يتحمله إنسان، ولم أتدخل في أي شأن من شؤون الحكومة ولم أرغب في ذلك أصلاً، ذلك لأن مهمتي المقدسة تمنعني من هذا.
يا أهل الحل والعقد!
هل من الممكن لمن استطاع قبل خمس وعشرين سنة -بشهادة جرائد ذلك الوقت- أن يكسب إلى جانب أفكاره ثلاثين ألف شخص بمقالة واحدة كتبها، وجلب نحوه أنظارَ واهتمامَ جيشِ الحركة،([27]) وأجاب بست كلمات على أسئلةِ كبيرِ قساوسةِ إنكلترة الذي طلب الإجابة عليها بستمائة كلمة، والذي كان يخطب في بداية عهد الحرية كأي سياسي متمرس... هل من الممكن ألاّ يوجد في مائة وعشرين رسالة من رسائل هذا الشخص سوى خمس عشرة كلمة تتعلق بالسياسة وبأمور الدنيا؟ أيمكن لأي عقل أن يقتنع بأن مثل هذا الرجل يسلك طريق السياسة وله أهداف دنيوية؟ لأنه لو كان يهتم بالسياسة وبالتعرض للحكومة لظهر ذلك صراحةً أو إيماءً في مائة موضع من كتاب واحد فقط. ولو كانت غايته توجيه النقد السياسي أَمَا كان بإمكانه أن يجد ما ينقده غير موضوع الحجاب وغير موضوع الميراث وهما من المواضيع ومن الدساتير الموجودة منذ السابق؟
إن أي شخص يملك فكراً سياسياً معيناً يستطيع أن يجد مئات الآلاف من المواضيع التي ينتقدها لنظام هذه الحكومة التي قامت بانقلاب كبير، ولا يقتصرَ على موضوعين معلومين فقط. فهل يمكن حصر الانقلاب الذي قامت به حكومة الجمهورية على مسألتين صغيرتين فقط؟ ومع أنني لم أقصد توجيه أي انتقاد لها فقد التقطوا كلمتين أو ثلاثاً وردت في كتاب أو كتابين كتبتهما سابقاً وادّعوا بأنني أهاجم نظام الحكومة وأهاجم انقلابها. وأنا أسألكم الآن: هل يعقل إشغال البلد بطوله وعرضه ونشر جو من الخوف فيه لمجرد تناولي لمسألة علمية لا تتطلب إصدار أية عقوبة من جرائها مهما كانت صغيرة؟
إن القيام بإصدار عقوبة خفيفة وتافهة في حقي وفي حق بضعة أشخاص من أصدقائي ونشر دعايات مكثفة وشديدة ضدنا في عموم البلد، وإشاعة جو من
الخوف والإرهاب بين الناس لكي ينفّروهم منا ويبغّضونا في أعينهم، وجلب وزير الداخلية "شكري قايا" قوة كبيرة إلى مدينة إسبارطة لتقوم بمهمةٍ يستطيع القيام بها جندي واحد -وهي القيام بإلقاء القبض علي وسجني- وقيامَ رئيس الوزراء عصمت "إينونو" بزيارة الولايات الشرقية بهذه المناسبة، وكذلك منعي من الحديث والتكلم شهرين كاملين في السجن وعدم السماح لأي أحد بالسؤال عن حالي أو إرسال تحية لي وأنا وحيد في هذه الغربة.. كل هذا يشير إلى وضع غريب جداً لا معنى له ولا حكمة فيه لا تليق بأية حكومة في الدنيا -علما بأن مصدر كلمة "الحكومة" هو تناول الأمور بالحكمة- وليس فقط بحكومة الجمهورية التي من المفروض أنها تراعي القوانين وتحترمها.
إنني أريد حفظَ حقوقي في إطار القانون. كما أتهم كل من يخالف القانون ويدوس عليه باسم القانون بأنه يرتكب جناية، ولا شك أن قوانين حكومة الجمهورية ترفض أعمال هؤلاء الجناة، وآمل أن تعاد لي حقوقي».
سعيد النورسي
* * *
ملاحظة:
المكتوب السادس عشر (من المكتوبات) مع ذيله يعدّ دفاعاً عن الأستاذ النورسى وعن "رسائل النور"، ولهذا أدرجَه الأستاذ النورسي هنا ضمن الشعاع الرابع عشر هذا، فمن شاء فليراجعه في موضعه من "المكتوبات". (المترجم)
* * *
رسائل من السجن
بِاسمِهِ سُبحَانَهُ
السلام عليكم ورحمة اللّٰه وبركاته أبداً دائماً.
أيها الإخوة الأعزاء الأوفياء!
لقد رأيت أنوار سُلوان ثلاثة، أبينها في نقاط ثلاث للذين ابتلوا بالسجن ومن يقوم بنظارتهم ورعايتهم ومن يعينهم في أعمالهم وأرزاقهم.
النقطة الأولى: إن كل يوم من أيام العمر التي تمضي في السجن، يمكن أن يُكسِب المرءَ ثوابَ عبادة عشرة أيام، ويمكن أن يحوّل ساعاته الفانية -من حيث النتيجة- إلى ساعات باقية خالدة.. بل يمكن أن يكون قضاء بضع سنين في السجن وسيلة نجاة من سجن أبدي لملايين السنين.
فهذا الربح العظيم مشروط لأهل الإيمان بأَداء الفرائض والتوبة إلى اللّٰه من الذنوب والمعاصي التي دفعته إلى السجن، والتوجه إليه تعالى بالشكر صابراً محتسباً. علماً أن السجن نفسَه يحول بينه وبين كثير من الذنوب.
النقطة الثانية: إن زوال الألم لذةٌ، كما إن زوال اللذة ألمٌ.
نعم، إن كل من يفكر في الأيام التي قضاها بالهناء والفرح يشعر في روحه حسرةً وأسفاً عليها، حتى ينطلق لسانُه بكلمات الحسرات: أواه.. آه.. بينما إذا تفكر في الأيام التي مرت بالمصائب والبلايا فإنّه يشعر في روحه وقلبه فرحاً وبهجة من زوالها حتى ينطلق لسانه بـ: الحمد للّٰه والشكر له، فقد ولّت البلايا تاركةً ثوابَها. فينشرح صدره ويرتاح.
أي أنّ ألماً موقتاً لساعة من الزمان يترك لذة معنوية في الروح، بينما لذةٌ موقتة لساعة من الزمان تترك ألماً معنوياً في الروح، خلافاً لذلك.
فما دامت الحقيقة هذه، وساعاتُ المصائب التي ولّت مع آلامها أصبحت في عِداد المعدوم، وأنّ أيام البلايا لم تأتِ بعدُ، فهي أيضاً في حكم المعدوم.. وإنّه لا ألمَ من غير شيء.. ولا يَرِدُ من العدم ألمٌ.. فمن البلاهة إذن إظهار الجزَع ونفاد الصبر الآن، من ساعات آلامٍ ولّتْ، ومن آلامٍ لم تأتِ بعدُ، علماً أنها جميعاً في عِداد المعدوم. ومن الحماقة أَيضاً إظهار الشكوى من اللّٰه وترك النفس الأمارة المقصّرة من المحاسبة، ومن بعد ذلك قضاء الوقت بالحسرات والزفرات. أوَ ليس من يفعل هذا أَشدُّ بلاهة ممن يداوم على الأكل والشرب طَوالَ اليوم خشيةَ أَنْ يجوع أو يعطش بعد أيام؟
نعم، إنّ الإنسان إن لم يُشتِّتْ قوة صبره يميناً وشمالاً -إلى الماضي والمستقبل- وسدّدها إلى اليوم الذي هو فيه، فإنها كافيةٌ لتحل له حبالَ المضايقات.
حتى إنني أَذكر -ولا أَشكو- أَنّ ما مرَّ عليَّ في هذه المدرسة اليوسفية الثالثة ([28]) في غضون أيام قلائل من المضايقات المادية والمعنوية لم أَرها طوال حياتي، ولاسيّما حرماني من القيام بخدمة النور مع ما فيّ من أمراض. وبينما كان قلبي وروحي يعتصران معاً من الضيق واليأس إذا بالعناية الإلهية تمدني بالحقيقة السابقة، فانشرح صدري أيّما انشراح وولّت تلك المضايقات فرضيتُ بالسجن وآلامه والمرض وأَوجاعه. إذ من كان مثلي على شفير القبر يُعدّ ربحاً عظيماً له أن تتحول ساعة من ساعاته التي يمكن أن تمر بغفلة إلى عشر ساعات من العبادة.. فشكرت اللّٰه كثيراً.
النقطة الثالثة: إن القيام بمعاونة المسجونين بشفقة ورأفة وإعطاءهم أرزاقهم التي يحتاجون إليها وضماد جراحاتهم المعنوية ببلسم التسلّي والعزاء، مع أنه عمـل بسيـط إلاّ أَنّه يحمل في طياته ثواباً جزيلاً وأجراً عظيماً. حيث إن تسليم أرزاقهم التي تُرسل إليهم من الخارج يكون بحكم صَدقة، وتُكتب في سجل حسنات كل مَن قام بهذا العمل، سواءاً الذين أَتوا بها من الخارج أو الحراس أو المراقبون الذين عاونوهم، ولاسيّما إن كان
المسجون شيخاً كبيراً أو مريضاً أو غريباً عن بلده أو فقيراً معدماً، فإنَّ ثواب تلك الصدقة المعنوية يزداد كثيراً.
وهذا الربح العظيم مشروط بأداء الفرائض من الصلوات لتُصبح تلك الخدمة لوجه اللّٰه.. مع شرط آخر هو أن تكون الخدمة مقرونة بالشفقة والرحمة والمحبة من دون أَن يحمّل شيئاً من المنّة.
* * *
(حاشية صغيرة لرسالة "مرشد الشباب")
بِاسمِهِ سُبحَانَهُ
إنَّ المسجونين هم في أمسّ الحاجة إلى ما في "رسائل النور" من سلوان حقيقي وعزاء خالص. ولاسيما أولئك الشبان الذين تلقَّوا صفعات التأديب ولطمات التأنيب بنـَزواتهم وأهوائهم. فقضوا نضارةَ عمرهم في السجن، فحاجة هؤلاء إلى النور كحاجتهم إلى الخبز.
إن عروق الشباب تنبض لهوى المشاعر، وتستجيب لها أكثرَ مما تستجيب للعقل وترضخ له. وسَورات الهوى -كما هو معلوم- لا تبصر العقبى، فتفضّل درهماً من لذة حاضرة عاجلة على طنٍ من لذة آجلة، فيُقدم الشابُّ بدافع الهوى على قتل إنسان بريء للتلذذ بدقيقة واحدة من لذة الانتقام، ثم يقاسي من جرائها ثمانية آلاف ساعة من آلام السجن.. والشاب ينساق إلى التمتع لساعة واحدة في اللهو والعبث -في قضية تخص الشرف- ثم يتجرع من ورائها آلام ألوف الأيام من سجن وخوف وتوجس من العدو المتربص به.. وهكذا تضيع منه سعادةُ العمر بين قلق واضطراب وخوف وآلام.
وعلى غرار هذا يقع الشباب المساكين في ورطات ومشاكل عويصة كثيرة حتى تحوّل ألطفَ أيام حياتهم وأحلاها إلى أمرّ الأيام وأقساها، وفي حالة يرثى لهم ولاسيما بعد أن هبّت عواصفٌ هوجاء من الشمال تحمل فتناً مدمّرة لهذا العصر؛ إذ
تستبيح لهوى الشباب الذي لا يرى العقبى أعراضَ النساء والعذارى الفاتنات وتدفعهم إلى الاختلاط الماجن البذيء، فضلاً عن إباحتها أموالَ الأغنياء لفقراء سفهاء.
إن فرائص البشرية كلَّها لترتعد أمام هذه الجرائم المنكرة التي تُرتكب بحقها.
فعلى الشباب المسلم في هذا العصر العصيب أن يشمّروا عن سواعد الجد لينقذوا الموقف، ويسلّوا السيوفَ الألماسية لحجج "رسائل النور" وبراهينها الدامغة -التي في رسالة "الثمرة" و"مرشد الشباب" وأمثالهما- ويدافعوا عن أنفسهم، ويصدّوا هذا الهجوم الكاسح الذي شُنّ عليهم من جهتين.. وإلاّ فسيضيع مستقبلُ الشباب في العالم، وتذهب حياتُه السعيدة، ويفقد تنعّمه في الآخرة، فتنقلب كلُّها إلى آلامٍ وعذاب؛ إذ سيكون نـزيلَ المستشفيات، بما كَسبت يداه من إسراف وسفاهة.. ونـزيلَ السجون، بطيشه وغيّه.. وستبكي أيامُ شيخوخته بكاءً مراً ويزفر زفرات ملؤها الحسرات والآلام.
ولكن إذا ما صان نفسه بتربية القرآن، ووقاها بحقائق "رسائل النور" فسيكون شاباً رائداً حقاً، وإنساناً كاملاً، ومسلماً صادقاً سعيداً، وسلطاناً على سائر المخلوقات.
نعم، إنَّ الشاب إذا دفع ساعة واحدة من أربع وعشرين ساعة من يومه في السجن إلى إقامة الفرائض، وتاب عن سيئاته ومعاصيه التي دفَعَتْه إلى السجن، وتجنّب الخطايا والذنوب مثلما يجنّبه السجنُ إياها.. فإنه سيعود بفوائدَ جمّة إلى حياته وإلى مستقبله وإلى بلاده وإلى أمته وإلى أحبّائه وأقاربه، فضلاً عن أنه يكسب شباباً خالداً في النعيم المقيم بدلاً من هذا الذي لا يدوم خمسَ عشرة سنة.
هذه الحقيقة يبشّر بها ويخبر عنها عن يقين جازم جميعُ الكتب السماوية وفي مقدمتها القرآنُ الكريم.
نعم، إذا ما شكر الشاب على نعمة الشباب -ذلك العهد الجميل الطيب- بالاستقامة على الصراط السوي، وأداء العبادات، فإن تلك النعمة المهداة تزداد ولا تنقص، وتبقى من دون زوال، وتصبح أكثر متعةً وبهجة.. وإلاّ فإنها تكون بلاء
ومصيبة مؤلمة ومغمورة بالغم والحزن والمضايقات المزعجة حتى تذهب هباءً فيكون عهدُ الشباب وبالاً على نفسه وأقاربه وعلى بلاده وأمته.
هذا وإن كلَّ ساعة من ساعات المسجون الذي حُكم عليه ظلماً تكون كعبادة يومٍ كامل له، إن كان مؤدياً للفرائض، ويكون السجن بحقه موضعَ انـزواء واعتزال من الناس كما كان الزهّاد والعُبّاد ينـزوون في الكهوف والمغارات ويتفرغون للعبادة. أي يمكن أن يكون هو مثل أولئك الزهاد.
وستكون كل ساعة من ساعاته إن كان فقيراً ومريضاً وشيخاً متعلقاً قلبُه بحقائق الإيمان وقد أناب إلى اللّٰه وأدّى الفرائض، في حُكم عبادة عشرين ساعة له، ويتحوّل السجنُ بحقّه مدرسةً تربوية إرشادية، وموضع تحابب ومكان تعاطف، حيث يقضي أيامُه مع زملائه في راحة فضلاً عن راحته وتوجه الأنظار إليه بالرحمة، بل لعله يفضل بقاءَه في السجن على حريته في الخارج التي تنثال إليه الذنوب والخطايا من كل جانب، ويأنس بما يتلقى من دروس التربية والتزكية فيه. وحينما يغادره لا يغادره قاتلاً ولا حريصاً على أخذ الثأر، وإنما يخرج رجلاً صالحاً تائباً إلى اللّٰه، قد غنم تجاربَ حياتية غزيرة. فيُصبح عضواً نافعاً للبلاد والعباد، حتى حدا الأمر بجماعة كانوا معنا في سجن "دنيزلي" إلى القول، بعدما أخذوا دروساً إيمانية في سمو الأخلاق ولو لفترة وجيزة من "رسائل النور":
"لو تلقّى هؤلاء دروسَ الإيمان من "رسائل النور" في خمسة أسابيع، فإنه أجدى لإصلاحهم من إلقائهم إلى السجن خمس عشرة سنة".
فما دام الموتُ لا يفنى من الوجود، والأجلُ مستورٌ عنا بستار الغيب، ويمكنه أن يحلّ بنا في كل وقت.. وأن القبر لا يُغلق بابُه.. وأن البشرية تغيب وراءه قافلة إثر قافلة.. وأن الموت نفسه بحق المؤمنين ما هو إلاّ تذكرة تسريح وإعفاء من الإعدام الأبدي -كما وضّح ذلك بالحقيقة القرآنية- وانه بحق الضالين السفهاء إعدام أبدي كما يشاهدونه أمامهم؛ إذ هو فراق أبدي عن جميع أحبتهم وأقاربهم بل الموجودات قاطبة.. فلابد ولا شك بأن أسعد إنسان هو مَن يشكر ربه صابراً محتسباً في سجنه مستغلاً وقته أفضل استغلال، ساعياً لخدمة القرآن والإيمان مسترشداً بـ"رسائل النور".
أيها الإنسان المبتلى بالملذات والمُتع!
لقد علمتُ يقيناً طوال خمس وسبعين سنة من العمر، وبألوفِ التجارب التي كسبتُها في حياتي، ومثلها من الحوادث التي مرت عليّ أن الذوقَ الحقيقي، واللذةَ التي لا يشوبها ألم، والفرحَ الذي لا يكدّره حُزن، والسعادةَ التامة في الحياة إنما هي في الإيمان، وفي نطاق حقائقه ليس إلاّ. ومن دونه فإن لذةً دنيوية واحدة تحمل آلاماً كثيرة كثيرة. وإذ تقدّم إليك الدنيا لذة بقدر ما في حَبَّة عنب تصفعك بعشر صفعات مؤلمات، سالبةً لذةَ الحياة ومتاعَها.
أيها المساكين المبتلون بمصيبة السجن!
ما دامت دنياكم حزينة باكية، وأن حياتكم قد تعكرت بالآلام والمصائب، فابذلوا ما في وسعكم كيلا تبكي آخرتُكم، ولتفرح وتحلو وتسعد حياتكم الأبدية. فاغتنموا يا إخوتي هذه الفرصة، إذ كما إن مرابطةَ ساعة واحدة أمام العدو ضمن ظروف شاقة يمكن أن تتحول إلى سنة من العبادة، فإن كل ساعة من ساعاتكم التي تقاسونها في السجن تتحول إلى ساعات كثيرة هناك إذا ما أديتم الفرائض، وعندها تتحول المشقات والمصاعب إلى رحماتٍ وغفران.
سعيد النورسي
* * *
إخوتي الأعزاء الأوفياء!
لا أعزّيكم بل أهنئكم، إذ مادام القدر الإلهي قد ساقنا إلى هذه المدرسة اليوسفية الثالثة لحكمة اقتضاها، وأنه سيطعمنا قسماً من أرزاقنا دعتنا إلى هنا، ومادامت تجاربنا القاطعة قد علّمتنا -لحد الآن- أن العناية الإلهية لطيفة بنا وقد جعلتنا ننال سر الآية الكريمة: ﴿وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ﴾ (البقرة: 216)، وأن إخواننا الحديثي العهد في المدرسة اليوسفية هم أحوج الناس إلى السلوان الذي تورثه رسائل النور، وأن العاملين في دوائر العدل هم أشد حاجة من الموظفين
الآخرين إلى القواعد و الدساتير السامية التي تتضمنها رسائل النور، وأن أجزاء هذه الرسائل تؤدى لكم مهمتكم خارج السجن وبكثرة كاثرة، وأن فتوحاتها لا تتوقف، وأن كل ساعة فانية هنا في السجن تصبح بمثابة ساعات من العبادة الباقية... ينبغي لنا -وفق النقاط المذكورة- أن نتجملَ بالصبر والثبات شاكرين خالقنا مستبشرين إزاء هذه الحادثة.
أُعيد إليكم الرسائلَ الصغيرة المسلية كلها، والتي كتبناها في سجن "دنيزلي".
نسأل اللّٰه أن تسليكم أيضاً تلك الفقرات المشحونة بالحقائق.
* * *
إخوتي الأعزاء الأوفياء!
أولاً: حمداً للّٰه بما لا يحدّ من الحمد للّٰه. لقد ظهر في الساحة روّادٌ معنويون من المفتيين والوعاظ والأئمة والعلماء، الذين هم الأصحاب الحقيقيون لـ"رسائل النور"، حيث كان الشباب والمعلمون والطلاب هم طلبة النور الغيارى لحد الآن.
فألف ألف تهنئة وبارك اللّٰه فيكم يا أدهم وإبراهيم وعلي وعثمان.. فلقد بيّضتم وجوه أهل المدارس الشرعية، وحوّلتم إحجامهم وترددهم إلى شجاعة وإقدام.
ثانياً: ما ينبغي أن يتأسف ويندم أولئك الذين ولّدوا هذه الحادثة من جراء فعالياتهم وانفعالاتهم الخالصة للّٰه. لأن سجن "دنيزلي" قد بارك الذين لم يأخذوا الحذر في أعمالهم من حيث النتيجة، حيث التعب قليل والفائدة المعنوية عظيمة جداً. نسأل اللّٰه ألاّ تكون هذه "المدرسة اليوسفية الثالثة" قاصرة عن التي قبلها.
ثالثاً: علينا الشكر للّٰه على ظروفنا العصيبة هذه في السجن وذلك لما فيها من زيادة الثواب حسب المشقة. ونسعى في الوقت نفسه لأداء وظيفتنا التي هي خدمة الإيمان بإخلاص. أما التوفيق في أعمالنا أو الحصول على نتائج خيّرة فيها فموكولة إلى اللّٰه سبحانه وتعالى ولا نتدخل فيها، بل نظل صابرين شاكرين للّٰه إزاء هذه المعتكفات قائلين: خير الأمور أحمزها.
وعلينا أن نعلم أن هذه الحادثة ما هي إلاّ علامة على قبول أعمالنا، وهي وثيقة وأمارة على اجتيازنا الامتحان في جهادنا المقدس.
* * *
إلى السيد مدير السجن والهيئة الإدارية:
طلبٌ بسيط لا أهميةَ له ظاهراً إلاّ أن له أهمية قصوى بالنسبة لي:
إنَّ حياتي التي مضت في السجن الانفرادي والتجريد المطلق وعمري الذي ناهز الخامسة والسبعين قد أوهَنا جسدي، بحيث أصبح لا يطيق اللقاحات ضد الأمراض. وقد أُجري عليَّ قبل مدة مديدة اللقاح، ودام جراحُه طوال عشرين سنة، حتى أصبح بمثابة سم ملازم. يعرف ذلك الطبيبان الصديقان في "أميرداغ". وقبل أربع سنوات أجروا عليَّ اللقاح مع المحكومين في سجن "دنيزلي" فلازمتُ الفراش عشرين يوماً، علماً بأنه لم يلحق الضررَ بأيٍّ منهم، وقد كفاني حفظ اللّٰه وعنايته فلم أضطر إلى الذهاب إلى المستشفى.
بمعنى أن جسدي لا يتحمل اللقاح قطعاً، فضلاً عن أن عذري شديد، إذ قد بلغت من العمر الخامسة والسبعين ونحل جسمي وربما لا يتحمل سوى لقاح طفل في العاشر من العمر. فضلا عن أنني أقضي حياتي منفرداً في تجريد مطلق ولا أختلط مع أحد من الناس. وقبل شهرين أرسل الوالي طبيبين إلى "أميرداغ" وكشفوا عليَّ كشفاً كاملاً ولم يجدوا أي مرض سارٍ إلاّ الضعف الشديد والتشنج الظهري. فحالتي هذه لا تحملني قطعاً على إجراء التلقيح، وأرجوكم رجاءاً حاراً لا ترسلوني إلى المستشفى فلا تلجؤني إلى البقاء تحت تحكم الأطباء ومن لا أعرفهم، فإني لا أستطيع البقاء في هذا الوضع ولم أُطقه طوال حياتي. ولاسيما في هذه السنوات العشرين التي قضيتُها في التجريد المطلق.
وعلى الرغم من أنني بدأت أجد الراحة في دخولي القبر في هذه الفترة إلاّ أنني فضلت السجن حالياً على القبر لما وجدت من معاملة إنسانية في هذا السجن ولكيلا أمس مشاعر الهيئة الإدارية، فضلاً عن القيام ببث العزاء والسلوان في قلوب المسجونين.
* * *
إخوتي الأعزاء الأوفياء!
أولاً: لا تتألموا على الإهانات والأذى التي ينـزلونها بشخصي بالذات، لأنهم لا يستطيعون أن يجدوا نقصاً في رسائل النور، فينشغلون بشخصي الاعتيادي المقصّر كثيراً. فأنا راضٍ عن هذا الوضع. بل لو وجدت ألوفاً من الإهانات والتحقير والآلام والبلايا الشخصية لأجل سلامة رسائل النور وظهور قيمتها لشكرت اللّٰه شكراً مكللاً بالفخر، وذلك مقتضى ما تعلمته من درس النور. لذا لا تتألموا عليّ من هذه الناحية.
ثانياً:إن هذا التعدي السافر الواسع النطاق والهجوم الشديد الظالم، قد خف حالياً من العشرين إلى الواحد فلقد جمعوا بضع أشخاص بدلاً من ألوف الخواص -من طلاب النور- وجمعوا عدداً محدوداً من إخوة جدد بدلاً من مئات الألوف من المهتمين بالرسائل المرتبطين بها. مما يعني أن المصيبة قد تحولت إلى أخف حالاتها بالعناية الإلهية.
ثالثاً: لا تقلقوا يا إخوتي ولا تيأسوا فإن الوالي السابق الذي كان يحيك المؤامرات ويدبر الدسائس ضدنا طوال سنتين قد ولّى بفضل العناية الإلهية.
ولربما قد خفف وزير الداخلية الهجوم علينا لسببين: أنه من بلدتي. وأن أجداده أهل دين حقاً.
رابعاً: لقد أثبتت تجارب كثيرة وحوادث عديدة، بما يورث القناعة التامة؛ أن الأرض تهتز والسماء تبكى ببكاء "رسائل النور" وحزنها. ولقد شاهدنا هذا مراراً بأم أعيننا وأثبتناه كذلك في المحكمة.
وأعتقد أن توافق ابتهاج الصيف -في بدايته- في هذه السنة بانتشار "رسائل النور" سراً وتبسمها باستنساخها بالرونيو، وتطابق حدّة الشتاء وغضبه وبكائه بالقلق على مصادرة الرسائل والتحريات الكثيرة في كل مكان وتوقف نشاطها، ما هو إلاّ أمارة قوية على أن "رسائل النور" معجزة كبرى ساطعة لحقائق القرآن العظيم تتجلى في هذا العصر. حيث الأرض والسماء ذات علاقة معها.
* * *
إخوتي الأعزاء الأوفياء!
لقد خطر لي اليوم فجأة أن أهنئ القادمين إلى هذه المدرسة بدلاً من تقديم التعازي لهم -بمناسبة قضية "رسائل النور"- بسَوقٍ من القدر الإلهي والرزق المقسوم فيها، لأن كل واحد من الأكثرية ينقذ إلى حدٍ ما في عشرين سنة أو ثلاثين سنة بل مائة سنة من الأتعاب والمشاق، بديلاً عن ألف من إخواننا الأبرياء.
وكذا فإن دوام عملكم في سبيل الإيمان بوساطة "رسائل النور"، يعني أن كل واحد منكم يؤدى عملاً كبيراً في وقت قليل، نظير ما ينجزه البعض في عشر سنوات من أعمال تنجز في مائة سنة.
وكذا فإن الداخلين في هذه المجاهدة المرهقة، والحاضرين هذا الامتحان الجاري في هذه "المدرسة اليوسفية" الحديثة، وأخذهم حظهم فعلاً من نتائجه القيمة الكلية، وملاقاتهم بيُسر إخوتهم الخالصين المخلصين المشتاقين إلى رؤيتهم وتبادلهم أبحاث درس ممتع لذيذ، وكذا عدم دوام أوقات الراحة في الدنيا بل ذهابها هباءاً منثوراً. أقول: إن الذين يكسبون مغانم عظيمة إلى هذا الحد، وبمثل هذه الأتعاب القليلة يستحقون التهنئة حقاً.
إخوتي !
إنَّ هذا الهجوم الواسع الذي شُن علينا، إنما هو لصدّ فتوحات "رسائل النور»" وغزوها القلوب. إلاّ أنهم أدركوا أنهم كلما تعرضوا لـ"رسائل النور" ازدادت سطوعاً وكسبت أهمية أكثر وتوسعت دائرة الدروس. فلا تُغلب "رسائل النور". إلاّ أنها تنضوي تحت ستار "سراً تنورت" ولأجل هذا بدّلوا خطتهم، فلا يتعرضون للأنوار ظاهراً. وحيث إننا تحت العناية الإلهية فعلينا الشكر العظيم لربنا الجليل مع التجمل بكمال الصبر .
* * *
بِاسمِهِ سُبحَانَهُ
إخوتي الأعزاء الأوفياء!
لقد آن أوان بيان حالتين غريبتين من أحوالي:
أولاها:
أُخطر إلى قلبي: أن في عدم لقائنا -في سجن التجريد المطلق- لقاءاً حراً بإخوتي الذين أُحبهم أكثر من روحي، فيه مصلحةٌ وعناية إلهية. ذلك لأن كثيراً من إخواننا في الآخرة ممن كان يصرف خمسين ليرة للمجيء إلى "أميرداغ" لأجل لقاء يدوم خمسين دقيقة وأحياناً عشر دقائق وأحياناً يرجع خائباً دون لقاء.. كانوا يلقون أنفسهم إلى هذه "المدرسة اليوسفية" بحجة بسيطة.
فلو كان وقتي الضيق وحالتي الروحية النابعة من الانزواء يسمحان بذلك فإن الخدمة النورية ما كانت لتسمح بالمجالسة التامة والمحاورة الكاملة مع أولئك الأصحاب الأوفياء.
ثانيتها:
لقد شاهد المجاهدون في جبهات متعددة من الحرب عالِماً جليلاً فاضلاً. وذكروا له مشاهدتهم، فقال: إن بعض الأولياء قد ظهروا بمظهري وأدّوا بدلاً عنى في موضعي أعمالاً لأجل إكسابي ثواباً وليستفيد أهل الإيمان من دروسي.
ومثل هذا تماماً، فقد شاهدوني في جوامع "دنيزلي" وأنا نزيل سجنها، حتى أبلغوا ذلك إلى الجهات المسؤولة وإلى المدير والحرّاس، وقال بعضهم في قلق واضطراب: "من يفتح له باب السجن!" فالأمر نفسه يحدث هنا تماماً.
والحال أنه بدلاً من إسناد حادثة جزئية خارقة إلى شخصي المقصر جداً فإن رسالة "ختم التصديق الغيبي" تثبت خوارق لرسائل النور وتبينها كاسبةً ثقة أهل الإيمان برسائل النور أكثر بكثير من تلك الحادثة بمائة مرة بل بألف مرة. فضلاً عن تصديق أبطال النور بأحوالهم الخارقة وكتاباتهم الرائعة لمقبولية رسائل النور.
سعيد النورسى
* * *
إخوتي الأعزاء الأوفياء!
لا تقلقوا عليّ، فإنني سعيد ومحظوظ لأني معكم في بناية واحدة، فأنا راضٍ ومسرور. إن وظيفتنا الحالية، إرسال نسخة من "الدفاع" إلى "إسبارطة". وإن أمكن كتابة عشرين نسخة منه بالآلة الطابعة بالحروف القديمة والحروف الجديدة، كي يبرز إلى المدعى العام هناك وتعطى نسخة منه إلى محامينا، ونسخة أخرى إلى المدير كي يسلمه هو إلى وكيل دعوانا. وليرسل إلى المسؤولين في "أنقرة" بالحروف الجديدة والقديمة كما كان في "دنيزلي".
وإن أمكن تهيئةُ خمسة نسخ للدوائر المسؤولة، لأن "رسائل النور" المصادرة قد أُرسلت بالحروف القديمة إلى تلك الدوائر ولاسيما إلى هيئة ديوان رئاسة الشؤون الدينية وأعيدت إلى هنا.
ثم أبلغوا وكيلنا السيد أحمد، أنه عند طبعه الدفاع بالآلة الطابعة عليه أن يلاحظ بدقة صحة العبارات والكلمات. لأن إفادتي لا تشبه إفادات الآخرين فإن خطأً في حرف واحد وأحياناً في نقطة واحدة يغيِّر المسألة، ويفسد المعنى. وكذا أعيدوا آلتي الطابعة بالحروف القديمة والجديدة إنْ لم يسمحوا بهما. وكذا لا تضجروا يا إخوتي ولا تقلقوا ولا تيأسوا فإن العناية الإلهية ستسعفنا سريعاً بمضمون الآية الكريمة: ﴿إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا﴾ (الشرح: 6).
* * *
إخوتي الأعزاء الأوفياء!
إن رسائل النور تواجهكم وتقابلكم بدلاً مني، فهي ترشد وتعلّم تعليماً جيداً إخواننا الجدد المشتاقين لدروس النور. ولقد ثبت بالتجارب أن الانشغال برسائل النور سواءً قراءتها أو استقراءها أو كتابتها يورث الفرح للقلب والراحة للروح والبركة في الرزق والصحة للجسد.
وقد أنعم اللّٰه عليكم حالياً ببطل من أبطال النور وهو "خسرو" وستكون المدرسة اليوسفية أيضاً موضع دراسة مباركة لمدرسة الزهراء إن شاء اللّٰه. إنني كنت إلى الآن أُخفي خسرو ولا أظهره إلى أهل الدنيا، إلاّ أن المجموعات التي نشرت قد أظهرته إظهاراً لا لبس فيه لأهل الدنيا، فلم يبق شيء للإخفاء. ولهذا أظهرت بضعاً من خدماته إلى بعض الإخوة الخواص. وسوف نبين -أنا وهو- الحقيقة إن لزم الأمر بعينها ولا نخفى شيئاً.
ولكن الآن يواجهنا شخصان عنيدان رهيبان من بين الذين يستمعون إلى الحقيقة، وقد ظهر أنهما يعملان لصالح الزندقة والشيوعية -أحدهما معروف في "أميرداغ" والآخر معروف هنا- وهما يحاولان نشر الشبهات ضدنا بمنتهى المكر والدسيسة وذلك لقذف الرعب في قلوب الموظفين.
لذا علينا الأخذ بالحذر الشديد وعدم إبداء القلق وانتظار العناية الإلهية بالتوكل لتمدنا.
* * *
يا إخوتي في الدين ويا زملائي في السجن!.
لقد أُخطر لقلبي أن أبين لكم حقيقة مهمة، تنقذكم بإذن اللّٰه من عذاب الدنيا والآخرة، وهي كما أوضحها بمثال:
إن أحداً قد قتل شقيقَ شخص آخر أو أحد أقربائه. فهذا القتل الناجم من لذة غرور الانتقام التي لا تستغرق دقيقة واحدة تورثه مقاساة ملايين الدقائق من ضيق القلب وآلام السجن. وفي الوقت نفسه يظل أقرباء المقتول أيضاً في قلق دائم وتحيّن الفرص لأخذ الثأر، كلما فكروا بالقاتل ورأوا ذويه. فتضيع منهم لذةُ العمر ومتعة الحياة بما يكابدون من عذاب الخوف والقلق والحقد والغضب.
ولا علاج لهذا الأمر ولا دواء له إلاّ الصلح والمصالحة بينهما، ذلك الذي يأمر به القرآن الكريم، ويدعو إليه الحق والحقيقة، وفيه مصلحة الطرفين، وتقتضيه الإنسانية، ويحث عليه الإسلام.
نعم، إن المصلحة والحقيقة في الصلح، والصلح خير؛ لأن الأجل واحد لا يتغير، فذلك المقتول على كل حال ما كان ليظل على قيد الحياة ما دام أجلُه قد جاء. أما
ذلك القاتل فقد أصبح وسيلة لذلك القضاء الإلهي، فإن لم يحل بينهما الصلحُ فسيظلان يعانيان الخوف وعذاب الانتقام مدة مديدة؛ لذا يأمر الإسلام بعدم هجر المسلم أخاه فوق ثلاثة أيام. فإن لم يكن ذلك القتلُ قد نجم من عداء أصيل ومن حقد دفين، وكان أحد المنافقين سبباً في إشعال نار الفتنة، فيلزم الصلح فوراً، لأنه لولا الصلح لعظمت تلك المصيبة الجزئية ودامت، بينما إذا ما تصالح الطرفان وتاب القاتل عن ذنبه، واستمر على الدعاء للمقتول، فإن الطرفين يكسبان الكثير، حيث يدب الحب والتآلف بينهما، فيصفح هذا عن عدوه ويعفو عنه واجداً أمامه أخوة أتقياء أبراراً بدلاً من شقيق واحد راحل، ويستسلمان معاً لقضاء اللّٰه وقدره، ولاسيما الذين استمعوا إلى دروس النور، فهم مدعوون لهجر كل ما يفسد بين اثنين، إذ الأخوة التي تربطهم ضمن نطاق النور، والمصلحة العامة، وراحة البال وسلامة الصدر التي يستوجبها الإيمان.. تقتضي كلُّها نبذَ الخلافات وإحلال الوفاق والوئام. ولقد حصل هذا فعلاً بين مسجونين يعادي بعضهم بعضاً في سجن "دنيزلي" فأصبحوا بفضل اللّٰه إخوة متحابين بعد أن تلقّوا دروساً من "رسائل النور"، بل غدَوا سبباً من أسباب براءتنا، حتى لم يجد الملحدون والسفهاء من الناس بداً أمام هذا التحابب الأخروي، فقالوا مضطرين: "ما شاء اللّٰه.. بارك اللّٰه!!" وهكذا انشرحت صدورُ السجناء جميعاً وتنفسوا الصعداء بفضل اللّٰه. إذ إني أرى هنا مدى الظلم الواقع على المسجونين، حيث يشدد الخناق على مائة منهم بجريرة شخص واحد، حتى إنهم لا يخرجون معه إلى فناء السجن في أوقات الراحة.. إلاّ أن المؤمن الغيور لا تسعه شهامتُه أن يؤذي المؤمن قط، فكيف يسبب له الأذى لمنفعته الجزئية الخاصة، فلابد أن يسارع إلى التوبة والإنابة إلى اللّٰه حالما يشعر بخطئه وتسبّبه في أذى المؤمن.
* * *
بِاسمِهِ سُبحَانَهُ
إخوتي الأعزاء الأوفياء!
إني أهنئ "رسائل النور" وأهنئكم وأهنئ نفسي بالبشارات القيّمة التي زفّها خسرو وحفظي والسيد من "بارطن".
نعم، إن الذين سافروا إلى الحج في هذه السنة مثلما وجدوا علماء أجلاء في مكة المكرمة يسعون إلى ترجمة مجموعات من "رسائل النور" إلى العربية والهندية، كذلك وجدوا المدينة المنورة قبِلَتها ورضيَت عنها بحيث وضعوها في الروضة المطهرة لدى الحجرة الشريفة للقبر النبوي المبارك صلى الله عليه وسلم. بمعنى أن تلك الرسائل قد نالت القبول النبوي ودخلت ضمن رضى الرسول الكريم محمد صلى الله عليه وسلم.
فلقد زارت "رسائل النور" تلك الأماكن المقدسة بدلاً عنا كما هي نيتنا وكما أبلغنا المسافرون إلى الحج.
وإن فائدة أخرى من الفوائد الكثيرة جداً لما ينشره أبطال النور من هذه المجموعات المصحّحة أنهم أنقذوني من مهمة التصحيح والقلق عليه وأصبحوا بمثابة مائة مصححٍ بما أوجدوا من المصادر المصححة، فشكراً للّٰه بما لا يتناهى من الحمد والشكر.
أسأل اللّٰه تعالى أن يكتب ألف حسنة في سجل حسناتهم لكل حرف من حروف تلك المجموعات. آمين. آمين. آمين.
* * *
رؤيا لطيفة ذات بشارة ظهر تأويلها
أتاني "علي" الذي يعاونني في الأمور وقال: لقد رأيت فيما يرى النائم أنك و"خسرو" قد قبّلتما يدَ الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم. وإذا بي استلم رسالة تتضمن أن مجموعة "عصا موسى" المكتوبة بخط "خسرو" قد شاهدها الحجاج في الروضة المطهرة. بمعنى أن تلك المجموعة قد قبّلت اليد المعنوية للرسول الكريم صلى الله عليه وسلم ونالت رضاه.
* * *
بِاسمِهِ سُبحَانَهُ
إخوتي الأعزاء الأوفياء وزملائي في السجن!
أولاً: لا تقلقوا من عدم التقاء بعضنا بالبعض الآخر، فنحن نتواجه معنىً في كل وقت. فإن قرأتم أيّةَ رسالة تحصلون عليها أو تستمعون إليها، فإنكم تشاهدونني وتتحاورون معي خلال تلك الرسالة بصفة خادم القرآن العظيم بدلاً من شخصي
الاعتيادي. علماً أنني كذلك أواجهكم خيالاً في جميع أدعيتي وفي كتاباتكم وعلاقاتكم. وحيث إننا معاً ونعمل ضمن دائرة واحدة، فكأننا نتقابل دائماً.
ثانياً: نقول للقادمين الجدد من طلاب رسائل النور في هذه المدرسة اليوسفية الحديثة:
لقد ثبت بحجج قوية وبإشارات قرآنية أوقفت الخبراء وألجأتهم إلى الاستسلام: "أن طلاب النور الصادقين ستختم حياتهم بالحسنى ويدخلون القبر بالإيمان.. وأن كل طالب -حسب درجته- يكون شريكاً لمكاسب جميع إخوانه المعنوية ولأدعيتهم، وذلك بفيض أنوار الاشتراك المعنوي النوري، كأنه يؤدى العبادة ويستغفر بألف لسان".
فهاتان الفائدتان والنتيجتان المهمتان، وفي هذا الزمان العجيب تزيلان جميع الصعاب والمشقات. وهكذا تربح رسائل النور طلابها هذين الربحين العظيمين بثمن زهيد جداً.
* * *
بِاسمِهِ سُبحَانَهُ
إخوتي الأعزاء الأوفياء!
إنَّ الدفاعات المرفوعة في محكمة "آفيون" تتضمن حقائق جليلة ذات علاقة بنا وبـ"رسائل النور" وبهذه البلاد وبالعالم الإسلامي. فلا بد أن تُستنسخ منها ما يقرب من عشر نسخ بالحروف الجديدة لترسل إلى الدوائر العليا في "أنقرة". إنَّ وظيفتنا الآن هي تبليغ تلك الحقائق إلى أركان الحكومة وإلى دوائر العدل وإلى الأمة، ولا أهتم قطعاً لو أبرأوا ساحتنا أو عاقبونا. ولربما هذه الوظيفة هي إحدى الحِكم المقدّرة بالقدر الإلهي فساقنا إلى هذه المدرسة. أسرعوا على قدر الإمكان في استنساخها بآلة الرونيو، فنحن مضطرون إلى إبلاغها تلك الدوائر العليا حتى لو أخلو سبيلَنا اليوم. فلا يغرركم أحد بتأخيرها، كفى التأخير والتأجيل، وليكن هذا الدفاع مسكَ الختام لدفاعات قُدّمت طوال خمس عشرة سنة إزاء مسألة واحدة وتجاه الظلم القاسي والعذاب الأليم الذي لا نظير له والحجج التافهة المختلقة.
فما دمنا قد حصلنا على صلاحية استنساخ دفاعاتنا بالرونيو حسب القانون، ومن المحاكم السابقة، فلا يستطيع أحد أن يمنعنا من استعمال حقنا هذا قانوناً. وإن لم تجدوا حلاً للأمر رسمياً فليستنسخ محامينا حوالي خمس نسخ وليكن أميناً على الحفاظ على سلامتها وصحتها.
سعيد النورسي
* * *
إخوتي المسجونين الأعزاء الجدد والقدامى!
لقد بتُّ على قناعة تامة من أن العناية الإلهية هي التي ألقَت بنا إلى ههنا وذلك لأجلكم أنتم، أي إنَّ مجيئنا إلى هنا إنما هو لبث السلوان والعزاء الذي تحمله "رسائل النور" إليكم.. وتخفيف مضايقات السجن عنكم بحقائق الإيمان.. وصونكم من كثير من بلايا الدنيا ولأوائها.. وانتشال حياتكم المليئة بالأحزان والهموم من العبثية وعدم الجدوى.. وإنقاذ آخرتكم من أن تكون كدنياكم حزينة باكية.
فما دامت الحقيقة هي هذه، فعليكم أن تكونوا إخوة متحابين كطلاب النور وكأولئك الذين كانوا معنا في سجن "دنيزلي".
فها أنتم أولاء ترون الحراس الذين يحرصون على القيام بخدماتكم يعانون الكثير من المشقات في التفتيش، بل حتى إنهم يفتشون طعامكم لئلا تكون فيه آلة جارحة، ليحولوا دون تجاوز بعضكم على بعض، وكأنكم وحوش مفترسة يقضي الواحد على الآخر ليقتله، فضلاً عن أنكم لا تستمتعون بالفرص التي تتاح لكم للتفسح والراحة خوفاً من نشوب العراك فيما بينكم.
ألا فقولوا مع هؤلاء الإخوة حديثي العهد بالسجن الذين يحملون مثلكم بطولة فطرية وشهامة وغيرة. قولوا أمام الهيئة ببطولة معنوية عظيمة في هذا الوقت:
"ليست الآلات الجارحة البسيطة وحدها، بل لو سلّمتم إلى أيدينا أسلحة نارية أيضاً فلا نتعدى على أصدقائنا وأحبابنا هؤلاء الذين نُكبوا معنا، حتى لو كان بيننا
عداءٌ أصيل سابق. فقد عفونا عنهم جميعاً، وسنبذل ما في وسعنا ألاّ نجرح شعورهم ونكسر خاطرهم، هذا هو قرارنا الذي اتخذناه بإرشاد القرآن الكريم وبأمر أخوة الإسلام وبمقتضى مصلحتنا جميعاً".
وهكذا تُحوّلون هذا السجن إلى مدرسة طيبة مباركة.
* * *
إخوتي الأعزاء الأوفياء:
إنَّ الذين هم في سياسة واحدة أو مهنة واحدة، أو وظيفة واحدة أو في خدمة تتعلق بالحياة الاجتماعية أو لهم نوع من تجارة خاصة.. كل طائفة من طوائف أهل الدنيا هؤلاء لهم اجتماع عام يخصهم يتذاكرون فيه أمورهم. كذلك طلاب النور العاملين في الخدمة المقدسة للإيمان التحقيقي فإن مجيئَهم إلى الاجتماع العام في هذه "المدرسة اليوسفية" بأمر القدر الإلهي وباقتضاء العناية الربانية وسَوقها. لا شك أنه يحمل فوائد معنوية جليلة جداً وسينعمون بتلك الفوائد والنتائج القيمة إن شاء اللّٰه وأن كل واحد من أركان طلاب النور سيكون بمثابة حرف ألف، حيث إن (حرف ألف) قيمتُها واحدة إن كانت بمفردها ولكنها مع أخواتها، أي ثلاث ألفات معاً متكاتفة ومتواجهة بأحوالها تصبح قيمتُها ألفاً ومائة وواحداً، وكذلك سيكون ثواب ذلك الأخ المنخرط في هذا الاجتماع وقيمته وخدمته السامية ألفاً بإذن اللّٰه.
* * *
بِاسمِهِ سُبحَانَهُ
إخوتي الأعزاء الأوفياء!
إن سبب سدّهم اليوم نوافذي ودقّها بالمسامير هو عزلي عن المسجونين وقطع تبادل السلام والتحيات فيما بيننا، إلاّ أنهم أبدَوا حجة تافهة ظاهرية أخرى، فلا تقلقوا. بل إن انشغالهم بشخصي الذي لا أهمية له، وانصرافهم عن شد الخناق على رسائل
النور وطلابها، وإنزالهم الإهانات والعذاب بي، وإيلامي قلباً وحقيقةً مع عدم تعرضهم لرسائل النور يجعلني في رضىً عن هذا الوضع بل أشكر ربي صابراً فلا أضطرب ولا أقلق أبداً وأنتم كذلك لا تتألموا. فإني على قناعة من أن صرف أعدائنا المتسترين أنظار الموظفين في السجن إلىّ فيه عناية إلهية وخير من حيث سلامة ومصلحة رسائل النور وطلابها.
فعلى بعض الإخوة ألاّ يحتدّوا ولا يتفوّهوا بكلام جارح يمسّ شعورهم، وليأخذوا حذرهم في حركاتهم وسكناتهم، دون إبداء القلق والاضطراب. ولا يفتحوا الموضوع عن هذه المسألة أمام كل أحد، لأن هناك جواسيس يحرّفون كلام إخوتنا السذج والجدد الذين لم يتعلموا بعدُ أخذ الحذر ويصرفون كلامهم إلى معاني مغايرة ويستهولون الأمور التافهة، ويخبرون المسؤولين بها. إن وضعنا الحاضر كله جدّ لا هزل فيه. ومع هذا فلا تضطربوا قطعاً واعلموا أننا تحت رعاية العناية الإلهية وقد عزمنا على مجابهة جميع المشقات بالصبر الجميل بل بالشكر العظيم للّٰه. فنحن مكلفون بالشكر لأن درهماً من التعب والمشقة يورث طناً من الثواب والرحمة.
سعيد النورسي
* * *
بِاسمِهِ سُبحَانَهُ
إخوتي الأعزاء الأوفياء!
لقد أودعت جميع أعمال الدفاع إلى طلاب النور الأركان الذين قدموا والذين سيقدمون إلى هنا وذلك بناء على سببين مهمين وبإخطار قوي، فاضطررت إلى هذا الأمر قلباً. أودعها بخاصة إلى كل من خسرو، رأفت، طاهر، فيضي، صبرى.
السبب الأول: لقد علمت قطعاً من دائرة التحقيق، ومن أمارات عديدة، أنهم يحاولون إحداث مشكلات ضدي، بكل ما لديهم من قوة، والتهرب من ظهوري وغلبتى عليهم فكراً، ولهم في ذلك إشعار رسمي. فكأنني إذا تكلمت بشيء فسأبين
قدرة علمية وقابلية سياسية بحيث ألزم المحاكم الحجة وأُسكت السياسيين، لأجل ذلك يمنعونني عن الكلام بمعاذير واهية. حتى إنني أثناء التحقيق أجبت عن أحد الأسئلة قائلاً: لا أتذكر. فتعجب الحاكم وحار في الأمر وقال: كيف ينسى شخص مثلك يملك ذكاءً وعلماً فوق المعتاد؟
نعم، إنهم يعتقدون أن رفعة شأن رسائل النور وتحقيقاتها العلمية الدقيقة من بنات أفكارى. ومن هنا يأخذهم العجب والحيرة، فلا يريدونني أن أتكلم مع أحد، وكأن كل من يقابلني ويواجهني سيكون مباشرة طالباً غيوراً من طلاب النور! ولهذا يمنعونني من المقابلة مع أي أحد كان. حتى إن رئيس الشؤون الدينية قال: "كل من يقابله ينجذب إليه، إن جاذبيته قوية".
بمعنى أن مصلحتنا تقتضي أن أودع شؤوني إليكم الآن. وما لديكم من دفاعاتي القديمة والجديدة تشترك بدلاً عني في مشاوراتكم بعضكم مع بعض، فهي كافية لهذا الأمر.
السبب الثاني: أُجّل إلى وقت آخر بمشيئة اللّٰه.
أما الإشارة القصيرة إلى الإخطار المعنوي فهي: إنَّ الذي جعلني أترك السياسة وقراءة الجرائد وأمثالها من الأمور الفانية خلال خمسة وعشرين عاماً ومَنعني من الاشتغال بها، هو واجب أُخروي جليل جداً، مع حالة روحية ذات أثر فعال. فهذان السببان أيضاً يمنعانني كلياً عن الاشتغال بهذه المسألة بتفرعاتها الدقيقة. فأنتم تؤدون أيضاً مهمتي بالاستشارة أحياناً مع موكلَيكم الاثنين.
* * *
إخوتي الأعزاء الأوفياء!
لقد ورد الآن في الصلاة إلى القلب الآتي:
إنه بناء على حُسن الظن المفرط الذي يحمله الأخوة الأعزاء ينتظرون منك درساً وإرشاداً لهم، وهمّة ومدداً مادياً ومعنوياً. فمثلما وكّلتَ الإخوة الخواص في أمورك
الدنيوية وأودعتها إلى الشورى فيما بين الأركان، وحسناً فعلت. كذلك بتوكيلك الشخص المعنوي للخواص الخالصين في أعمالك الأخروية والقرآنية والإيمانية والعلمية فإنهم يؤدون تلك الوظيفة مع وظيفتهم وعلى أفضل وجه وأكمله. وهم فعلاً يؤدونها الآن وعلى الدوام.
مثلاً: إن كان الذي يواجهك ويسترشد بنصيحة ودرس منك موقتاً بمقدار درهم، فإنه يستطيع أن يأخذ مائة درهم من النصيحة والدرس والإرشاد من جزء من أجزاء "رسائل النور" فضلاً عن أنه يصاحبها وينتصح منها بدلاً منك. ثم إن الخواص من طلاب النور يؤدون وظيفتك هذه كل وقت. ونسأل اللّٰه أن يكون شخصهم المعنوي المالك لمقام رفيع والدعاء المقبول ظهيراً لهم وأستاذاً ومعيناً. هكذا ورد الإخطار فأورث السلوان لروحي وزفَّ لها البشرى والراحة.
* * *
إخوتي الأعزاء الأوفياء:
إنَّ وقوع حادثتي الانفجار في غضون اليومين الماضين من دون أن يكون هناك سبب ظاهري، لا تشبهان المصادفة وتنمان عن مغزى عميق.
أولاها: انفجار المدفأة الحديدية القوية الموجودة في ردهتي فجأة، وأحدثت صوتاً قوياً حطمت القطعة الفولاذية التي تحتها، فهلع منها "الخياط حمدي"، وأوقعنا في حيرة. علماً أنها تتحمل حرارة الفحم الحجري في عزّ الشتاء.
ثانيتها: تهشم القدح الموضوع على مشربة الماء تهشماً عجيباً في ردهة "فيضي" من دون سبب ظاهري وذلك في اليوم التالي لانفجار المدفأة.
والذي يرد إلى الخاطر أن القنابل الموضوعة لتنفجر علينا قد فجرتها نسخُ الدفاع المرسلة إلى دواوين المسؤولين الستة في "أنقرة". وأن مدفأة الغضب التي تستعر لتحرقنا بنارها قد تحطمت دون أن يلحقَ بنا الضرر.
ولعل تلك المدفأة المباركة التي كانت أنيسة نافعة وتستمع إلى آهاتي وتضرعاتي تخبرني قائلةً: لا حاجة إليّ وسترحل من هذا السجن.
* * *
إخوتي الأعزاء الصديقين!
انتابني اليوم قلق وحزن لأجلكم بإخطار معنوي وَرَدَ إلى القلب، فلقد حزنت لأحوال إخواننا الذين يرغبون في الخروج حالاً من السجن من جراء قلقهم على هموم العيش. وفي الدقيقة التي فكرت في هذا، وردت خاطرة ميمونة إلى القلب مع حقيقة وبشرى هي أنه:
ستحل الشهور الثلاثة المباركة جداً الحاملة لأثوبة عظيمة بعد خمسة أيام فالعبادات مثابة فيها بأضعافها، إذ الحسنة إن كانت بعشر أمثالها في سائر الأوقات ففي شهر رجب تتجاوز مائة حسنة وفي شهر شعبان تزيد على ثلاثمائة حسنة، وفي شهر رمضان المبارك ترتفع إلى الألف حسنة، وفي ليالي الجمع فيه إلى الآلاف، وفي ليلة القدر تصبح ثلاثين ألف حسنة. نعم، إن الشهور الثلاثة سُوق أخروية سامية رفيعة للتجارة، بحيث تُكسِب المرء هذه الأرباحَ والفوائد الأخروية الكثيرة جداً.. وهي مشهر عظيم ومعرض ممتاز لأهل الحقيقة والعبادة.. وهي التي تضْمن عمراً لأهل الإيمان بثمانين سنة خلال ثلاثة شهور.. فقضاء هذه الشهور الثلاثة في المدرسة اليوسفية التي تكسب ربحاً بعشرة أمثالها. لا شك أنه ربح كبير وفوز عظيم. فمهما كانت المشقات فهي عين الرحمة.
فكما أن الأمر هكذا من حيث العبادة، فهي كذلك من حيث الخدمة النورية والعمل لنشر رسائل النور، إذ تتضاعف الخدمات إلى خمسة أضعافها باعتبار النوعية إن لم تكن باعتبار الكمية، لأن القادمين والمغادرين لدار الضيافة هذه (السجن) يصبحون وسائط لنشر دروس النور، وقد ينفع أحياناً إخلاص شخص واحد بمقدار عشرين شخصاً. ثم إن كان هناك شيء من المشقات والمضايقات فلا أهمية له إزاء انتشار سر الإخلاص الموجود في رسائل النور بين صفوف المسجونين الذين هم أحوج الناس إلى ما في الرسائل من سلوان ولاسيما ممن تسري في عروقهم بطولات سياسية.
أما من حيث هموم العيش، فمن المعلوم أن هذه الشهور هي سُوق الآخرة وقد دخل بعضكم هذا السجن بدلاً عن الكثيرين من الطلاب، بل إن بعضكم قد دخله بدلاً عن الألف. فلا شك أنه ستكون لهم مساعدات وإمدادات لأعمالكم الخارجية.
هكذا وردت الخاطرة وفرحتُ بها فرحاً تاماً وعلمت أن البقاء هنا إلى العيد نعمة إلهية عظيمة.
سعيد النورسي
* * *
إلى رئاسة الوزارة ووزارة العدل ووزارة الداخلية ([29])
إنَّ جميع رجال الدولة يعرفوني عن كثب، ولاسيما أولئك الذين عاصروا الظروف الجسام التي مرت على البلاد منذ إعلان الحرية (الدستور) وفي أثناء الحرب العالمية الأولى، وخلال غزو الحلفاء للبلاد ودخولهم "إستانبول"، وما أعقبته من أحداث لحين تشكل الحكومة الوطنية، وفترة إعلان الجمهورية.. فالذين يحيطون علماً بتلك الظروف ممن يتولون الآن مناصب في الدولة يعرفونني معرفة جيدة.. ومع هذا فاسمحوا لي أن أعرض مشاهد من حياتي أمامكم عرضاً سريعاً:
«"ولدتُ في قرية "نورس" التابعة لولاية "بتليس"، وطوال فترة حياة التلمذة وتحصيل العلوم دخلتُ في مناقشات علمية حادة مع كل مَن قابلته من العلماء، كنت أتغلب عليهم بفضل العناية الربانية. حتى بلغتُ "إستانبول". وهناك في جوها المشوب بآفة الشهرة والصيت لم أنقطع عن مناظراتي العلمية. إلا أن وشاية الحاسدين والخصماء، أدّت بي أن أُساق إلى مستشفى المجاذيب بأمر السلطان عبد الحميد -رحمه اللّٰه رحمة واسعة- ثم استقطبتُ نظر حكومة الإتحاد والترقي، بناءً على خدماتي أثناء إعلان الدستور وحادثة 31 مارت. طرحت عليهم مشروع بناء جامعة في مدينة "وان" باسم "مدرسة الزهراء" على غرار الأزهر الشريف.. حتى إنني
وضعت حجرها الأساس بنفسي، ولكن ما إن اندلعت الحرب العالمية الأولى حتى شكلتُ من طلابي والمتطوعين "فرق الأنصار" وتوليت قيادتهم، فخضنا معارك ضارية في جبهة القفقاس مع الروس المعتدين في "بتليس".. وقعت أسيراً بيدهم، إلاّ أن العناية الربانية أنجتني من الأسر. وأتيت "إستانبول". وعُينتُ فيها عضواً في "دار الحكمة الإسلامية"، وبادرت إلى مجاهدة الغزاة المحتلين لاستانبول في تلك الظروف الحرجة، وبكل ما وهبني اللّٰه من طاقة.. إلى أن انتهت حروب الاستقلال وتشكلت الحكومة الوطنية في "أنقرة"، فنظرتْ من جديد -تثميناً لخدماتي تلك- إلى مشروع تأسيس الجامعة في "وان".
إلى هنا كانت حياتي طافحة بخدمة البلاد، وفق ما كنت أحمله من فكرة خدمة الدين عن طريق السياسة. ولكن بعد هذه الفترة ولّيت وجهي كلياً عن الدنيا، وأقبرتُ "سعيداً القديم" -حسب اصطلاحي- وأصبحت "سعيداً جديداً" يعيش كلياً للآخرة، فانسللت من حياة المجتمع ونفضتُ يدي عن كل ما يخصهم فاعتزلت الناس تماماً واعتكفت في "تل يوشع" في "إستانبول" ومن ثم في مغارات في جبال "وان" و "بتليس". بتُّ في مجاهدة مستديمة مع روحي ووجداني. انفردت إلى عالمي الروحي رافعاً شعار "أعوذ باللّٰه من الشيطان والسياسة" صرفت كل همي ووقتي إلى تدبّر معاني القرآن الكريم. وبدأت أعيش حياة "سعيد الجديد".. أخذتني الأقدار نفياً من مدينة إلى أخرى.. وفي هذه الأثناء تولدت من صميم قلبي معانٍ جليلة نابعة من فيوضات القرآن الكريم.. أمليتها على مَن حولي من الأشخاص، تلك الرسائل التي أطلقت عليها اسم "رسائل النور". إنها انبعثت حقاً من نور القرآن الكريم. لذا نبع هذا الاسم من صميم وجداني، فأنا على قناعة تامة ويقين جازم بأن هذه الرسائل ليست مما مضغته أفكاري وإنما هي إلهام إلهيّ أفاضه اللّٰه سبحانه على قلبي من نور القرآن الكريم، فباركت كل من استنسخها، لأنني على يقين أن لا سبيل إلى حفظ إيمان الآخرين غير هذه السبيل فلا تمنع تلك الفيوضات عن المحتاجين إليها. وهكذا تلقفتْها الأيدي الأمينة بالاستنساخ والنشر، فأيقنت أن هذا تسخير رباني وسَوق إلهي لحفظ إيمان المسلمين. فلا يستطيع أحد أن يمنع ذلك التسخير والسوق الإلهي، فاستشعرت بضرورة تشجيع كل مَن يعمل في هذه السبيل امتثالاً بما يأمرني به ديني. فهذه
الرسائل التي تربو على المائة والثلاثين رسالة لا تبحث بحثاً مقصوداً عن أمور الدنيا والسياسة، وإنما تخص كلياً أمور الآخر ة والإيمان. وعلى الرغم من كل هذا فقد أصبحت الشغل الشاغل للانتهازيين والمتصيدين في الماء العكر حتى أوقفتني السلطات في كل من "أسكي شهر" و "قسطموني" و "دنيزلي".. وأجرت المحاكم تدقيقات علمية على الرسائل. قام بها خبراء متخصصون، إلاّ أن الحقيقة -بفضل اللّٰه سبحانه- كانت تتجلى بنصاعتها دوماً، وتتبوأ العدالة مكانتها اللائقة بها. بيد أن هؤلاء المتربصين للفرص المتصيدين في الماء العكر لم يسأموا أبداً، بل تسببوا في اعتقالي في هذه المرة، وأتوا بي إلى "آفيون" يسندون إليَّ التهم الآتية وأنا رهن التوقيف للاستجواب:
1- إنك قد شكلت جمعية سياسية.
2- إنك تنشر أفكاراً تعادى النظام.
3- إنك تستهدف غاية سياسية.
والأسباب الموجبة لهذه الاتهامات ودلائلها هي بضع عشرة جملة في عدد من رسائلي.
أيها الوزير المحترم!
"آتوني جملة لا يمكن تأويلها، وأنا أحكم بها عليكم بالإعدام" قالها نابليون. تُرى أية جملة يتفوّه بها الإنسان لا تكون سبباً للتأويلات والجرم والذنب؟ ولاسيما من كان مثلي بالغاً الخمس والسبعين من العمر وقد تخلى عن أمور الدنيا ونفض يده عنها كلياً وحصر حياته كلَّها للآخرة. فلا بد أن تكون كتابات مثل هذا الشخص حرة طليقة، لأنها مقرونة بحُسن النية وحُسن الظن، فليس فيها تردد ولا تحرّج. لذا فإن تحري الجرم والتنقيب عن التهمة بالتدقيق تحت سطور هذه الكتابات، ظلم واضح فاضح لا غير.
وبناءً على هذا فإن "رسائل النور" البالغة ثلاثين ومائة رسالة، لا تتضمن قصداً ما يتعلق بأمور الدنيا قط، بل كلها تتعلق بالآخرة والإيمان ، فلا غرو أنها مقتبسةٌ من
فيض نور القرآن الكريم، وليس فيها أية غاية وقصد دنيوي ولا سياسي قط. فما من محكمة تناولت أمور هذه الرسائل إلاّ وقررت تبرئتها بالقناعة نفسها. ولهذا فإن إشغال المحاكم بما ليس ضرورياً لها ولا يلزمها وعزل أهل العمل المؤمنين الأبرياء عن أعمالهم وإشغالهم أمر مؤسف بحق البلاد والعباد.
نعم، إن "سعيداً القديم" الذي بذل كل حياته في سبيل إسعاد هذه الأمة ونشر الأمن والسعادة في ربوع البلاد، وانسحب انسحاباً كلياً عن الدنيا بأسرها وكفّ يده عن أمورها كلياً، أيمكن له أن يشتغل بالسياسة بعد أن أصبح "سعيداً جديداً" وبلغ من العمر الخامسة والسبعين؟ أعتقد أنكم مقتنعون كذلك بهذا قناعة تامة.
لي غاية واحدة وهي:
إنني في هذا الوقت الذي أتقرب فيه إلى القبر.. وفي هذا الوطن الذي هو بلاد إسلامية، نسمع نعيق أبوام البلاشفة.. هذا النعيق يهدد أسس الإيمان في العالم الإسلامي، ويشدّ الشعب ولاسيما الشباب إليه، بعد سلب الإيمان منهم.
إنني بكل ما أملك من وجود، أُجاهد هؤلاء، وأدعو المسلمين وبخاصة الشباب إلى الإيمان، فأنا في جهاد دائم مع هذه المجموعة الملحدة. وسأمثل إن شاء اللّٰه في ديوان حضوره سبحانه وأنا رافع راية هذا الجهاد. وكل عملي ينحصر في هذا. وأخشى ما أخشاه أن يكون الذين يحولون بيني وبين غايتي هذه هم بلاشفة أيضاً.
فغايتي المقدسة هي التكاتف والتساند والترابط مع كل من يجاهد أعداء الإيمان هؤلاء. أعطُوني حريتي وأطلقوا يديّ كي أعمل بالتكاتف مع القوى المجاهدة في سبيل إعلان التوحيد وترسيخ الإيمان في هذه البلاد وإصلاح الشباب المتسمم بالشيوعية.
الموقوف
سعيد النورسي
* * *
بِاسمِهِ سُبحَانَهُ
إخوتي الأعزاء الصدّيقين!
إن أنجع علاج في هذه الدنيا، ولا سيما في هذا الزمان، وبخاصة للمبتلين بالمصائب، ولطلاب النور الذين انتابهم ضجر شديد ويأس قاتم هو تسلية أحدهم الآخر، وإدخال السرور في قلبه، وإمداد قوته المعنوية وضماد جراحات الضيق والحزن والسأم، وتلطيف قلبه المغموم، كأخ حقيقي مضح. إذ الأخوة الحقة والأخروية التي تربطكم لا تتحمل التحيز والإغاظة.
فأنا أعتمد عليكم كلياً وأستند إليكم، وأنتم على علم بقراري وعزمي بأنني عازم على أن أضحى مسروراً لأجلكم أنتم بروحي، لا براحتي وشرفي فحسب، بل قد تشاهدون هذا مني فعلاً، حتى إنني أقسم لكم: إنه منذ ثمانية أيام يتألم قلبي من عذاب شديد، من جراء حادثة تافهة سببت دلالاً ظاهرياً بين ركنين من أركان النور فأحزن أحدُهما الآخرََ بدلاً من أن يكونا مبعث سلوان. فصرختْ روحي وقلبي وعقلي معاً، وبكت قائلة: "أواه! أواه! الغوث الغوث يا أرحم الراحمين، احفظنا وأجرنا من شياطين الجن والإنس، واملأ قلوب إخواني بالوفاء التام والمحبة الخالصة والأخوّة الصادقة والشفقة الكاملة".
فيا إخوتي الثابتين الصلبين صلابة الحديد! أعينوني في مهمتي! فإن قضيتنا في منتهى الدقة والحساسية، فلقد سلمت إلى شخصكم المعنوي جميع مهماتي، لشدة ثقتي واطمئناني بكم، فعليكم إذن أن تسعوا -ما وسعكم- لإمدادي وعوني، فعلى الرغم من أن الحادثة تافهة جزئية، فإن وقوع شعرة، مهما كانت صغيرة في عيننا تؤلم، وفي ساعتنا توقفها إن هذه الحادثة الجزئية تعد كبيرة حيث أخبرت عنها الانفجارات الثلاثة المادية والمشاهدات الثلاث المعنوية.
سعيد النورسي
* * *
إخوتي الأعزاء الأوفياء!
إنَّ انفجار مدفأتي وتهشّم أقداح "فيضي" و "خسرو" ينبئان عن وقوع مصيبة ستحل بنا.
نعم، إنه ينبغي التساند الحقيقي والترابط الصادق الذي هو أقوى مرتكز ونقطة استناد لنا مع غض النظر عن أخطاء بعضنا البعض وعدم الاستياء من "خسرو" الذي هو بطل النور والممثل لشخصه المعنوي وفي موقعي أنا.
وقد كنت أشعر قبل بضعة أيام ضيقاً شديداً في صدري وأقول في قلق: "لقد وجد أعداؤنا وسيلة للتغلب علينا" ..
حذار..! حذار..! حذار..! اعملوا فوراً على رأب الصدع في ترابطكم الوثيق الفولاذي.. أُقسم باللّٰه أن هذه الحادثة -ولاسيما في هذه الفترة- تلحق الضرر بالعمل للقرآن وخدمة الإيمان أكثر من دخولنا السجن.
سعيد النورسي
* * *
بِاسمِهِ سُبحَانَهُ
إخوتي الأعزاء الصديقين!
إنَّ "ليلة المعراج" بمثابة "ليلة قدر" ثانية. فكسب الثواب بالعمل المتواصل -كلما أمكن- يرتفع في هذه الليلة من الواحد إلى الألف. وكذا بالسر الكامن في الاشتراك المعنوي ستؤدون عبادات وتدعون دعوات في هذه الليلة المباركة، ولاسيما في هذا المعكتف المُثاب عليه كثيراً، بأربعين ألف لسان كبعض الملائكة المسبّحة بأربعين ألف لسان. ومن ثم تشكرون ربكم بعبادات هذه الليلة، إزاء عدم تضررنا بواحد من ألف من الأضرار التي كانت تلحق بنا نتيجة العاصفة المقبلة.
إننا نبارك أخذكم الحذر التام، ونبشركم في الوقت نفسه أن العناية الربانية قد تجلت بحقنا تجلياً واضحاً.
سعيد النورسي
* * *
إخوتي الأعزاء الصديقين!
أولاً: أبارك ليلتكم، ليلةَ المعراج، بكل ما أملك من روح وجسد.
ثانياً: إنَّ دعوانا منذ عشرين سنة هي أن طلاب النور لا يتعرضون -ما أمكن- لنظام البلاد ولا يمسّون أمنَها بسوء. إلاّ أن قضية سجننا هذه يمكن أن تُعد أمارة قوية وحُجة على جرح دعوانا تلك، حيث إنَّ الذين يهاجموننا يزعمون أننا نخلّ بأمن البلاد ونظامِها أولاً. إلاّ أن العناية الإلهية قد ظهرت بشكل خارق بكرامة إخلاصكم ووفائكم، إذ قد خَفَّت شدة المصيبة من المائة إلى الواحد وغدت القُبة حَبة بفضله تعالى. وإلاّ فإن الذين يستهولون الأمور ويجعلون الحَبة قُبة بحقنا يستغلون هذه الفرصة لبثّ الافتراءات ضدَّنا وربما يحملون الناس على تصديقها.
ثالثاً: لا تفكروا فيّ ولا تقلقوا عليّ أبداً. فإن وجودي معكم في بناية واحدة يزيل كل صعابي ومشقاتي ومضايقاتي.. وحقاً إن اجتماعنا هنا له أهمية عظيمة من جهات شتى، وفوائد جمة لخدمة الإيمان حتى إن إرسال تلك الحقائق المهمة التي تتضمنها "تتمة الاعتراض" إلى الدوائر العليا الست هذه المرة وجلبها أنظارهم وإجرائها حكمها فيهم -إلى حدّ ما- أزال جميعَ مشقاتنا وأتعابنا.
رابعاً: إنَّ الانشغال بـ"رسائل النور" -حسب الإمكان- يزيل الضجر والضيق، ويمكن أن يعدّ خمسة أنواع من العبادة.
خامساً: لقد خفّت المصيبة السابقة من شدتها من المائة إلى الواحد بفضل دروس "رسائل النور"، وإلاّ لكانت تصبح -من حيث الظرف الدقيق زماناً ومكاناً- الحبةَ قباباً كثيرة، أي هي بمثابة إلقاء الشرارة في البارود. حتى إن فريقاً من الموظفين الرسميين قالوا: "إنَّ الذين استمعوا إلى دروس النور لم يتدخلوا في الأمر" فلو كان الجميع يستمعون إليها لمَا حدث شيء قط.
فلا تفسحوا يا إخوتي المجال -قدر المستطاع- إلى الثنائية والتفرقة، لئلا يُضاف شيء آخر إلى ضيق السجن وضجره. وليكن المسجونون أيضاً إخوة متحابين كطلاب النور ولا يهجرنّ بعضهم بعضاً.
سعيد النورسي
* * *
إخواني الأوفياء المخلصين!
لقد تحتم علينا بدرجة الوجوب استعمال دساتير لمعة الإخلاص وسر الإخلاص الحقيقي فيما بيننا وتجاه بعضنا البعض الآخر، ما استطعنا إلى ذلك سبيلاً، وبكل ما نملك من قوة. إذ علمت بخبر يقيني أنه قد عُيّن ثلاثة أشخاص، منذ ثلاثة شهور، ليُلقوا الفتور فيما بين الإخوة الأوفياء هنا باستغلال اختلاف الأفكار والمشارب فيما بينهم، وعاملين على تثبيط عزائم الأقوياء منكم، وبث الشبهات والأوهام والخوف في قلوب الرقيقين منهم، القليلي الصبر والتحمل، لجعلهم يتخلون عن القيام بخدمة النور ليمددوا مدة محاكمتنا دون سبب.
فحذار.. حذار! وإياكم أن تهتز تلك المحبة الصميمية الصادقة التي ربطت قلوبكم، إذ إن اهتزازاً طفيفاً في الأخوّة والمحبة بقدر ذرة واحدة تضرنا أيّما ضرر. لأن بعض علماء الدين في "دنيزلي" قد ابتعدوا عنا بسبب تزعزع طفيف ونحن نضحي بأرواحنا رخيصة في سبيل أخوّتنا إن استوجب الأمر، وهذا ما تقتضيه خدمتنا القرآنية والإيمانية. لذا فلا يضجرنّ أحد من الآخر مما يسببه توتر الأعصاب الناجم عن الضيق الشديد ومن أي سبب آخر، بل ليسعَ كل منكم بزيادة محبته لأخيه وزيادة صميميته وإخلاصه له وليحمّل نفسه التقصير بكمال التواضع والتسليم، وإلا فسوف نتضرر عظيم الضرر، إذ تصبح الحبة الصغيرة قبة عظيمة تستعصي على الإصلاح. أختصر الكلام هنا محيلاً الموضوع إلى فراستكم.
* * *
إخوتي الأعزاء الصديقين!
بناءً على إخطار معنوي مهم، إنّ لكم مهمة أو مهمتين نوريتين، تلك هي السعي بكل ما أوتيتم من قوة بدروس "رسائل النور"، لئلا يحدث بين المسجونين المبتلين المساكين في هذه "المدرسة اليوسفية الثالثة"، الانحياز إلى جهة والانشقاق، حيث إن مفسدين خطرين يتربصون تحت الستار ليستغلوا الاختلاف والأغراض الشخصية والحقد والعناد.
فما دام معظم أصحابنا في السجن يحملون روح البطولة والتضحية بروحه لأجل بلاده وأمته وأحبته إن استوجب الأمر، فلاشك أن الواجب على أولئك الرجال
الشهمين أن يضحّوا بعنادهم وأغراضهم الشخصية وعداواتهم لأجل سلامة الأمة وراحة المسجونين والنجاة من إفساد المتسترين الذين يعملون بخفاء لصالح الفوضى والإرهاب ويلقحون أفكار الناس بالشيوعية، فيضحون بتلك العداوة التي لا فائدة فيها قطعاً بل فيها ضرر كبير ولاسيما في هذا الوقت العجيب.
وإلاّ، أي بخلاف هذا، سيكون الأمر في هذا الوقت العصيب كمن يُلقي الشرارة في البارود وسيلحق الضرر بمائة سجين ضعفاء وبطلاب النور الأبرياء، وبولاية "آفيون" هذه، بل ربما يكون وسيلة لطرف أصابع منظمة أجنبية دخلت البلاد.
وحيث إننا قد دخلنا السجن لأجل أولئك بالقدر الإلهي، بل قسم منا لا يريد مغادرة السجن، لاستدامة سعادتهم وراحتهم المعنوية، ونحن مستعدون للتضحية براحتنا وهنائنا في سبيل راحة الآخرين من إخواننا، وتحمّل كل ضيق وضجر بالصبر الجميل، فلابد أن إخواننا الجدد أولئك أيضاً يصبحون كمسجوني سجن "دنيزلي"، فلا يضجر بعضهم من بعض ولا يهجره ولا يسأم منه ويستاء، بل عليهم وهذا ضروري أن يتصالحوا فيما بينهم إخواناً متحابين تلطيفاً لمشاعر إخواننا ولأجل حرمة شهر شعبان وشهر رمضان المبارك.
وبدورنا نحن جميعاً وأنا كذلك نعدّهم ضمن دائرة طلاب النور حتى إنهم قد دخلوا ضمن دعواتنا.
سعيد النورسي
* * *
إخواني الأعزاء الصادقين.
أولاً: إنَّ في تأجيل موعد محاكمتنا وحضور إخواننا الذين أخلَوا منها هنا يوم المحاكمة، فيه خير كثير .. والخير فيما اختاره اللّٰه.
نعم، لما كانت قضية "رسائل النور" تهم العالم الإسلامي كله وبخاصة هذا البلد، لذا تستدعي أمثال هذه الاجتماعات الصاخبة المثيرة الجالبة لأنظار الناس عامة إلى حقائق "رسائل النور". وهكذا تلقي "رسائل النور" دروسَها الرائعة وبصراحة
تامة على الأصدقاء والأعداء، حتى أظهرت أخفى أسرارها إلى أعدى أعدائها دون إحجام ولا تردد، في مثل هذه الاجتماعات التي هي فوق حسباننا وخارج حذرنا وخلاف إخفائنا للرسائل وتضادد تهوين معارضينا لشأنها، فضلاً عن أنها خارج طوقنا وإرادتنا.
فمادامت الحقيقة هذه، فينبغي لنا أن نعدّ مضايقاتنا التي نعانيها هنا وهي جزئية وقليلة جداً، علاجاً مراً، نتناوله بالصبر والشكر، قائلين: كل حال يزول.
ثانياً: لقد كتبتُ لمدير هذه "المدرسة اليوسفية":
عندما كنت أسيراً في "روسيا" قامت الثورة البلشفية أول ما قامت من السجون، كما إن الثورة الفرنسية قد اندلعت من السجون أيضاً، وحملها أولئك المسجونون المذكورون في التاريخ باسم الفوضويين. لذا نحن طلاب النور قد سعينا في كل مرة في سجن "أسكي شهر" و "دنيزلي"، وكذلك هنا (في آفيون) قدر المستطاع لإصلاح المسجونين، وقد تكلل ذلك السعي الجميل في "أسكي شهر" و "دنيزلي" بالثمرات الطيبة وستثمر هنا إن شاء اللّٰه فوائد أكثر. حتى إنه في هذا الوقت الدقيق والمكان الحرج مضت تلك الزوبعة([30]) وخفت شدتها من المائة إلى الواحد بفضل دروس النور. إذ لولا ذلك لكانت التيارات الخارجة المفسدة تتمنى الفرصَ لتستغل الاختلافات وأمثال هذه الحوادث. ولكانت تلقي الشرارة في البارود وتشب الحريق..
سعيد النورسي
* * *
بِاسمِهِ سُبحَانَهُ
إخوتي الأعزاء الصدّيقين الثابتين في خدمة القرآن، يا من لا يتهربون منا من شدة الضيق!
أحزنتني نفسي الآن في التفكير لأجلكم، جراء ضيق مادي ومعنوي، ولكن.. إذا بخاطر يرد إلى القلب وهو أنكم لو تحملتم عشرة أضعاف هذه المشقات والمتاعب وبصورة أخرى لكانت زهيدة في سبيل لقاء أحد من الإخوة هنا لقاء عن قرب.
ثم من الضرورة بمكان أن يكون لطلاب النور كل بضع سنين اجتماع يجتمعون فيه دفعة واحدة، كما كان أهل الحقيقة سابقاً يجتمعون مرة أو مرتين كل سنة ويديمون فيه مسامراتهم ومحاوراتهم على وفق مشرب رسائل النور المكلل بالتقوى والرياضة الروحية، ومسلكها المتسم بإلقاء الدروس إلى الناس كافة وإلى المحتاجين خاصة بل حتى إلى المعارضين، ولأجل إنطاق الشخص المعنوي في دائرتها، فالمدرسة اليوسفية هذه أفضل مكان لطلاب النور وملائم جداً لهذه الأغراض، بحيث تهون أمامه المشقات حتى لو كانت ألف مشقة وضيق.
إن اجتناب بعض إخوتنا الضعفاء وانسحابهم من ميدان العمل للنور لسآمتهم في سجوننا السابقة كان خسارة جسيمة لحقت بهم، بينما لم يلحق أي ضرر برسائل النور وطلابها، بل انضم بدلاً منهم من هو أكثر ثباتاً وإخلاصاً منهم.
وحيث إن امتحان الدنيا عابر ويمضي بسرعة، ويسلّم لنا ثوابه وثمراته، فعلينا الاطمئنان إلى العناية الإلهية شاكرين ربنا من خلال الصبر.
سعيد النورسي
* * *
بِاسمِهِ سُبحَانَهُ
إخوتي الأعزاء الصدّيقين!
أولاً: عندما تسلّمون القطعتين الأخيرتين إلى رئيس المحكمة، بوساطة شخص فاضل تختارونه ليطّلع عليها اطلاعاً غير رسمي، ليكن ذلك بعد طبعهما بالحروف الجديدة أو بالحروف القديمة، وقدّموا معهما إليه مذكرة أخرى اكتبوا فيها:
إنَّ "سعيداً" يقدم لكم شكرَه الجزيل ويقول: لقد فتح الحراس الشبابيك إلاّ أن المدعي العام لا يسمح لأي واحد من إخوتي بالمجيء إليَّ. وإنه يرجو منكم رجاءً حاراً أن تعيدوا إليه المصحف الشريف المحجوز في المحكمة والمكتوب بخط نفيس معجز كي يتلو فيه هذه الشهور المباركة، علماً أنه قد أُرسلت ثلاثة أجزاء من ذلك المصحف إلى
رئاسة الشؤون الدينية ليسعوا في طبعه بالصورة. وعلاوة على ذلك يرجو منكم أن تسلموا إليه إحدى المجموعات التي سُلّمت إلى المحكمة، كي تكون له مدار تسلٍ في تجريده المطلق وضيقه الشديد وليأنس بمطالعتها ويصاحبها في عزلته هذه عن الناس. علماً أن تلك المجموعات قد مرت على ثلاث محاكم أو أربع دون أن يعترضوا عليها. فضلاً عن تقدير الكثير من علماء مكة المكرمة والمدينة المنورة والشام وحلب وكبار علماء الأزهر بمصر، بل إعجابهم بها من دون أن ينتقدوا منها ولا يعترضوا عليها وذلك بشهادة الحجاج القادمين.
سعيد النورسي
* * *
إخوتي الأعزاء الأوفياء!
إنَّ لدى "فيضي" نسختين من "الحزب النوري" فإن لم تكونوا بحاجة إليهما فلترسلا إليّ، أو ليكتب "محمد فيضي" نسخة أخرى. فضلاً عن أننا بحاجة إلى "رسالة رمضان" و"الآية الكبرى" المطبوعة.
أصلحوا فوراً الجفاء الموجود فيما بينكم.
حذار.. حذار من هذا.. لأن انحرافاً ولو طفيفاً جداً يلحق بدائرة النور ضرراً أيما ضرر، فلا تنفعلوا بالأحاسيس الناشئة من الضيق، فلقد أشار انفجار مدفأتي إلى هذه الحادثة.
* * *
إخوتي الأعزاء الصدّيقين: خسرو ومحمد فيضي وصبري!
كنت آمل أن أُودع إليكم -بكل ثقتي وقناعتي- الحفاظ على سلامة "رسائل النور" ثم أدخل القبر سليم القلب. وكنت أعتقد أنه لا يمكن أن يحول شيءٌ -مهما كان- بين بعضكم البعض الآخر. والآن هناك إشعار رسمي موضوع بخطة رهيبة لإحداث جفوة بين أركان طلاب النور.
ولما كنتم مستعدين للتضحية -إذا استوجب الأمر- بحياتكم لأجل الآخرين،
بمقتضى وفائكم الخالص وترابطكم الوثيق بـ"رسائل النور"، فلا شك بل ويحتم عليكم أن تضحوا بمشاعركم الجزئية العابرة التي لا أهمية لها في سبيل الآخرين. إذ بخلاف ذلك ستلحق بنا بلا شك -في هذه الفترة- أضرار جسيمة، كما إن هناك احتمال الافتراق عن دائرة النور.. أقول ذلك وأنا أرتعد من هذا المصير.
ولقد انتابني ضيق شديد منذ ثلاثة أيام لم أرَ مثله قط وهزني هزاً عنيفاً، وعلمت الآن قطعاً أن تدللاً من بعضكم على البعض الآخر وإن كان طفيفاً -كشعرة في العين- يقع وقوع القنبلة في حياتنا النورية.
حتى إنني أبلغكم هذا أيضاً: لقد بُذلتْ جهودٌ مضنية لإظهارنا ذوي علاقة مع الزوبعة السابقة، فيحاولون الآن إلقاء الجفاء -ولو قليلاً- فيما بينكم.
إنني قررتُ ألاّ أنظر إلى تقصير أيٍ منكم رغم أنني أقاسي -في سبيل الحفاظ على مشاعركم- المتاعب والمضايقات أكثر منكم بعشر مرات، فأطلب منكم باسم أستاذنا الشخص المعنوي لطلاب النور، تركَ الأنانية وعدم الأخذ بها محقّاً كان المرء أم غير محق.
وإن كانت هناك أصابع خفية تلعب في ذلك المكان العجيب، لوجودكم معاً، فليذهب أحدكم إلى ردهة "طاهري".
سعيد النورسي
* * *
إخوتي الأعزاء الصديقين ويا زملاء الدراسة في هذه "المدرسة اليوسفية"!
إنَّ الليلة القادمة هي ليلة النصف من شعبان، وهي بمثابة نواة سامية لسنة كاملة، ونوع من برنامج للمقدرات البشرية، لذا تكتسب هذه الليلة قدسية من ليلة القدر. فمثلما الحسنات تتضاعف إلى ثلاثين ألف ضعف في ليلة القدر، يرتفع العملُ الصالح وكل حرف من الحروف القرآنية في ليلة النصف من شعبان إلى عشرين ألف ثواب.
فلئن كانت الحسنة بعشرة أمثالها في سائر الأوقات، ففي الشهور الثلاثة ترتفع إلى
المائة وإلى الألف، وفي هذه الليالي المشهورة ترتفع إلى عشرة آلاف، وعشرين ألف، وثلاثين ألف من الحسنات. فهذه الليالي المباركة تعدل عبادة خمسين سنة، لذا فالانشغال - قدر المستطاع - بتلاوة القرآن الكريم والاستغفار والصلوات على الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم في هذه الليلة ربح عظيم جداً.
سعيد النورسي
* * *
بِاسمِهِ سُبحَانَهُ
السلام عليكم ورحمة اللّٰه وبركاته أبداً دائماً.
سلّمكم اللّٰه في الدارين.
نبارك لكم ليلة النصف من شعبان بكل قلوبنا وأرواحنا، تلك الليلة التي يمكن أن يغنم فيها أهل الإيمان عمراً معنوياً يعدل خمسين سنة من العبادة. فكل طالب مخلص خالص للنور في هذه الليلة كأنه يعبد ربه ويستغفره بأربعين ألف لسان كبعض الملائكة المسبّحين بأربعين ألف لسان.. هكذا نأمل من رحمته تعالى باطمئنان تام وبسرّ الاشتراك المعنوي وبفيض التساند المعنوي.
سعيد النورسي
* * *
بِاسمِهِ سُبحَانَهُ
أولاً: لقد اعترض البعض في الإدعاء على مسألة من "الشعاع الخامس" تتعلق بالدجال، متأثرين في اعتراضهم هذا بادعاءات بعض أصحاب الأهواء والبدع من العلماء، الذين ينكرون مجيء الدجال أو حتى عدد من الدجالين في الإسلام. ولعلّ الحديث النبوي التالي يعتبر خير دليل على دحض تلك المزاعم.
فقد ورد في الحديث الصحيح:
(لن تزال الخلافة في ولد عمي –صِنْو أبي- العباس حتى يسلمها إلى الدجال) وهذا الحديث الشريف فضلاً عن أنه يعتبر معجزة رائعة من معجزات نبينا صلى الله عليه وسلم، فإنه يدل دلالة صريحة على أن الخلافة العباسية ستظهر وتستمر مدة طويلة بما يقرب من خمسمائة سنة ثم تدمَّر على يد دجال من الدجالين الثلاثة من أمثال "جنكيز" و"هولاكو" ويتولى حكومة دجالية في العالم الإسلامي، أي أنه يدل دلالة ظاهرة على أن العالم الإسلامي سيُفْتَتَن بثلاثة من الدجالين طبقاً للأحاديث المختلفة الواردة.
على أن الخبر الغيبي الوارد في هذا الحديث ينطوي على معجزتين قطعيتين من معجزات الرسول صلى الله عليه وسلم.
إحداها: أن الخلافة العباسية ستقوم فيما بعد وتدوم خمسمائة عام.
ثانيها: أن هذه الخلافة ستنقرض على يد دجال ظالم طاغ من أمثال "جنكيز" و"هولاكو".
فيا عجباً! هل يمكن لصاحب الشريعة الذي أخبر في كتب الأحاديث عن أشياء جزئية تعود إلى شعائر الإسلام والقرآن ألاّ ينبئ عن الأحداث العجيبة التي في زماننا هذا؟.. وهل يمكن ألاّ يُشار إلى تلاميذ "رسائل النور" الذين نذروا أنفسهم لخدمة القرآن خدمة مخلصة، وبشكل رائع وواسع، لاسيما في زمن عجيب كزماننا هذا، وفي ظروف صعبة وشديدة كظروفنا.. تلك الخدمات التي يعترف بها الأعداء والأصدقاء؟
سعيد النورسي
* * *
بِاسمِهِ سُبحَانَهُ
إلى الرائد النوري العزيز وخادم القرآن أخي رأفت بك!
هذه نكتة من نكات الآية الجليلة:
﴿وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ﴾ (البقرة: 61)
إنَّ اليهود لما أفرطوا في حُب الحياة والتكالب على الدنيا استحقوا أن يتلقَوا صفعة الذل والمسكنة في كل عصر وكل مكان. إلاّ أن الأمر بالنسبة لقضية فلسطين هذه يختلف بعض الشيء. فقد حلّ محل حُب الحياة والتكالب على الدنيا الذي هو جبلّة اليهود وديدنُهم على مر العصور شعورٌ قومي وديني؛ حيث بدأوا يحسون أن "فلسطين" هي مقبرة بني إسرائيل وأن الأنبياء السابقين كانوا من قومهم. وبالنظر إلى شعورهم القومي والديني هذا فإنهم لم يتلقَّوا صفعة تأديب بسرعة هذه المرة. وإلاّ فكيف يكون باستطاعة ثلة قليلة من الناس أن تعيش وسط ذلك الجمع الهائل من العرب الذين يطوقونها من كل صوب دون أن يتلقَّوا صفعة سريعة وتُضربَ عليهم الذلة والمسكنة.
* * *
سؤال: هل هناك آية كريمة تدل على كروية الأرض، وفي أية سورة من سور القرآن الكريم. فإن شبهةً تجول في فكري حول تسويتها أو كرويتها، وحيث إن أراضي كل حكومة تحدها البحار فما الذي يحافظ على أطراف هذه البحار الواسعة؟.
الملا علي من أميرداغ
الجواب: لقد حلّت "رسائل النور" هذه المسألة وما شابهها من المسائل. علماً أن علماء الإسلام قد قبلوا بكروية الأرض، وإنها لا تخالف الدين. ولا يدل ورود السطح في الآية الكريمة([31]) على عدم كرويتها.
هذا وإن استقبالَ القبلة شرط في الصلاة لدى المجتهدين، والشرط يسري في
جميع الأركان، لذا يلزم استقبال القبلة في الركوع والسجود، وهذا إنما يمكن بكروية الأرض. والقبلة شرعاً عمودٌ نوراني يصعد من فوق الكعبة إلى العرش وتمتد من أسفلها إلى الفرش. فاستقبال القبلة في أركان الصلاة إنما يكون بكروية الأرض وبكون القبلة عموداً نورانياً كما ذكرنا.
سعيد النورسي
* * *
بِاسمِهِ سُبحَانَهُ
﴿وَاِنْ مِنْ شَيءٍ إلاّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ﴾
السّلام عليكم ورحمة اللّٰه وبركاته.
إخوتي الأعزاء الصديقين!
نبارك من كل قلوبنا وأرواحنا حلول شهر رمضان المبارك ونسأله تعالى أن يجعل ليلة القدر لكم خيراً من ألف شهر. آمين.. ويقبلها سبحانه منكم في حكم ثمانين سنة من العمر المقضي بالعبادة.. آمين.
ثانياً: إنني أعتقد أن بقاءنا هنا إلى العيد فيه خير كثير وفوائد جمة. إذ لو أُفرج عنا لحُرمنا من خيرات هذه "المدرسة اليوسفية"، فضلاً عن أننا سننشغل بأمور دنيوية في هذا الشهر المبارك شهر رمضان الذي هو شهر أُخروي بحت، وهذا مما يخل بحياتنا المعنوية.
إذن فالخير فيما اختاره اللّٰه، وستكون إن شاء اللّٰه أفراحٌ كثيرة وخيرات أكثر. لقد علمتم أيضاً يا إخوتي في المحكمة أنهم لا يستطيعون وجدان شيء علينا حتى بقوانينهم أنفسهم، لذا يتشبثون بأمور جزئية جداً لا تمسُّ القانون بشيء ولو بقدر جناح بعوضة، فينقبون في مكاتب جزئية وأمور جزئية خاصة جداً، حيث لا يجدون من المسائل النورية العظيمة وسيلة تكون سبباً للتعرض لنا.
ثم إنَّ لنا مصلحة أخرى وهي أنهم ينشغلون بشخصي الذي لا أهمية له فيهوّنون من شأني بدلاً من انشغالهم بطلاب النور الكثيرين و"رسائل النور" الواسعة الانتشار. فلا يسمح القدر الإلهي لهم بالتعرض لطلاب النور و"رسائل النور"، بل يشغلهم
بشخصي فحسب، وأنا بدوري أبيّن لكم ولجميع أصحابي وأصدقائي:
إنني أرضى بجميع المشقات الآتية على شخصي وبكل سرور وامتنان وبكل ما أملك من روح وجسد بل حتى بنفسي الأمارة، في سبيل سلامة رسائل النور وسلامتكم أنتم. فكما أن الجنة ليست رخيصة فإن جهنم كذلك ليست زائدة عن الحاجة.
ولما كانت الدنيا ومشقاتها فانية وماضية عابرة بسرعة، فإن المظالم التي ينـزلها بنا أعداؤنا المتسترون سننتقم منهم ونثأر لأنفسنا بأضعاف أضعافها بل بمائة ضعف، وذلك في المحكمة الكبرى وجزء منها في الدنيا.
فنحن بدلاً من الحقد والغضب عليهم نأسف على حالهم.
فما دامت الحقيقة هي هذه، فعلينا التوكل على اللّٰه والاستسلام لما تجري به المقادير الإلهية والعناية الإلهية التي تحمينا، من دون أن يساورنا القلق. مع أخذ الحذر، والتحلي بالصبر الجميل والشكر الجزيل، وشدّ أواصر المحبة ووشائج الألفة والمسامرة المباركة مع إخوتنا هنا في الأيام المباركة لهذا الشهر المبارك شهر رمضان، وقضائه في جوّ من الأخوّة الخالصة والسلوان الجميل والترابط الوثيق، والانشغال بالأوراد في هذا الشهر الذي يرفع الثواب إلى الألف، ومحاولة عدم الاكتراث بهذه المضايقات الجزئية العابرة الفانية بل الانهماك بدروسنا العلمية، وذلك حظ عظيم يؤتيه اللّٰه من يشاء.
هذا وإن دروس النور المؤثرة تأثيراً جيداً في هذا الامتحان العسير واستقراءها حتى للمعارضين فتوحات نورية لها أهميتها وقيمتها.
حاشية: إن إنكار بعض إخواننا كونه طالباً من طلاب النور دون ما حاجة إلى ذلك ولاسيما (...) وسترهم لخدماتهم النورية الجليلة السابقة من دون ضرورة، رغم أنه عمل سيئ. إلاّ أن خدماتهم السابقة تدعونا إلى الصفح عنهم وعدم الاستياء منهم.
سعيد النورسي
* * *
بِاسمِهِ سُبحَانَهُ
﴿وَإنْ مِنْ شَيءٍ إلاّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِه﴾
إخوتي الأعزاء الصدّيقين!
أولاً: إنَّ الليالي المقبلة تكسب المرء ثمانين ونيفاً من سني العمر المليء بالعبادة، واحتمال وقوع ليلة القدر فيها وارد حسب ما ورد في الحديث الصحيح: (تحرّوا ليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان)([32]) فعلينا إذن السعي لاغتنام هذه الفرصة الثمينة فهي سعادة عظمى ولاسيما في مثل هذه الأماكن المثابة عليها.
ثانياً: بمضمون: (من آمن بالقدر أمِنَ من الكدر) وكذا حسب القاعدة الحكيمة: "خذوا من كل شيءٍ أحسنَه" وكذا قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ﴾ (الزمر: 18).
فحسب هذه الآية الجليلة والقواعد السابقة علينا أن ننظر إلى الجهة الحسنة من كل شيء والوجه الجميل المبشّر منه لكي لا تنشغل قلوبُنا بما لا يعني من الحالات القبيحة العابرة التي لا حاجة لنا إليها، بل هي مضرة تورث الضيقَ والانقباض. ولقد ذُكر في "الكلمة الثامنة": رجلان يدخل أحدهما الحديقة بينما يغادرها الآخر. فالمحظوظ السعيد هو الذي ينظر إلى الأزاهير وما شابهها من الأشياء الجميلة في الحديقة، فينشرح ويرتاح ويهنأ، بينما الآخر الشقي يحصر نظره في الأمور القذرة الفاسدة لعجزه عن التنظيف، فينتابه الغثيان ويتضايق بدلاً من أن ينسرّ في الحديقة، ويتركها هكذا..
هذا وإن صفحات الحياة الاجتماعية البشرية الحالية ولاسيما "المدرسة اليوسفية" هي بمثابة حديقة، فيها أشياء قبيحة وحسنة معاً وفيها أمور محزنة ومفرحة جنباً إلى جنب. فالكيّس مَن أشغل نفسه بالأمور الجميلة من دون أن يعبأ بالقبيحة والفاسدة منها. فيشكر ربّه وينسرّ في موضع الشكوى والقلق.
سعيد النورسي
* * *
إخوتي الأعزاء الصادقين الثابتين!
أبارككم بكل روحي وقلبي، فلقد ضمدتم جرحنا بسرعة. وأنا بدوري فرحت تمام الفرح وانسررت الليلة بالشفاء. ومن المعلوم أن "مدرسة الزهراء" تتوسع وتزوّد الأذهان والقلوب بسر الإخلاص الحقيقي والتضحية الجادة وترك الأنانية والتواضع التام وذلك ضمن دائرة النور، وتقوم بنشر هذه الأمور في الأوساط. فلابد إذن ألاّ يفسد تلك الدروس القوية والعلاقة الأخوية المتينة ما يتولد من المشاعر والأحاسيس من أمور عابرة في منتهى الجزئية ولا الدّلّ فيما بينكم. إن لمعة "الإخلاص" خير ناصح في هذا المجال.
وقد وضعتْ في الوقت الحاضر خطةٌ رهيبة لضربنا وتشتيت "رسائل النور" وزعزعة الروابط بين طلابها، وذلك بإلقاء الجفاء بين الطلاب وإحداث السآمة فيما بينهم وإيجاد الفِرقة من حيث اختلاف المشرب والفكر..
سعيد النورسي
* * *
أخي العزيز السيد رأفت!
بحرمة القرآن العظيم، وبحق ارتباطكم القرآني، وبشرف خدماتكم العظيمة في مسلك النور طوال عشرين سنة.. ارفعوا ما بينكم من هجر وسخط، فهو رهيب رغم كونه شيئاً جزئياً -ظاهراً- إلاّ أنه أليم فجيع بالنسبة لأوضاعنا الحالية الدقيقة. فهو عون عظيم للمنافقين المتسترين الذين يسعون لإبادتنا وإفنائنا. تخلَّوا يا إخوتي عن استياء بعضكم عن بعض، الشبيه بإلقاء الشرارة في البارود، واحملوا الآخرين عن التخلي عنها. إذ بخلاف ذلك هناك احتمال قوي أن يلحق الضررُ بنا وبالخدمة القرآنية والإيمانية بالأرطال بسبب حق جزئي شخصي لا يعادل درهماً.
وإني أطمئنكم مقسماً باللّٰه أنه إذا أهانني أحدُكم أشدّ إهانة وأشنع تحقير، وحطّ من كرامة شخصيتي كلياً، ولم يتخلّ -في الوقت نفسه- عن الخدمة القرآنية والإيمانية والنورية، فإنني أصفح عنه وأتنازل له عن حقي، وأُصالحه، وأسعى لعدم الاستياء منه.
فما دمتم تعلمون أن أعداءنا يستغلون جفاءً جزئياً فيما بين الإخوة، تصالَحوا فوراً. وتخلَّوا عن التدلل الذي لا معنى له، بل فيه ضرر بليغ. وإلاّ سيكون ضرراً جسيماً لخدمتنا الإيمانية.
ولما كانت العناية الإلهية قد وهبت لنا الكثيرين بدل الضائعين المفارقين لنا، فستسعفنا وتمدّنا بإذن اللّٰه.
سعيد النورسي
* * *
بِاسمِهِ سُبحَانَهُ
إخوتي الأعزاء الصديقين!
لا تقلقوا! فنحن في ظل العناية الإلهية وتحت رعايتها. إنَّ المشقات الظاهرة تحمل رحمات كثيرة. لقد أرغموا الخبراء على أن يهوّنوا جزءاً من الرسائل.. لا شك أن قلوب الخبراء قد أصبحت من "النوريين".
سعيد النورسي
* * *
بِاسمِهِ سُبحَانَهُ
إخوتي الأعزاء الصديقين الثابتين الذين لا ينال منهم القلق والاضطراب ولا يتركون الآخرة بالعودة إلى الدنيا الفانية!
لا تحزنوا من بقائنا هنا مدة أخرى لرغبتهم في توسيع دائرة قضيتنا، بل كونوا راضين شاكرين كما إنا راضٍ شاكر، إذ العمر لا يتوقف بل يحث الخطى نحو الزوال، وينال البقاء بثمراته الأخروية في مثل هذه المعتكفات، فضلاً عن أن دائرة دروس "رسائل النور" تتوسع. فمثلاً: اضطر علماء هيئة الخبراء إلى قراءة "سراج النور" بإمعان، علماً أن هناك احتمال ورود نقيصة لخدمتنا الإيمانية -بجهة أو جهتين- فيما إذا أُفرج عنا في هذه الفترة.
إنني لا أرغب في مغادرة السجن بالرغم من أنني أقاسي المضايقات أكثر منكم بكثير. وأنتم كذلك اجهدوا -حسب المستطاع- على الصبر والتحمل والتعود على نمط الحياة هنا مع الاشتغال باستنساخ "رسائل النور" ودراستها لتجدوا السلوان والسرور.
سعيد النورسي
* * *
إخوتي الأعزاء الصديقين!
أولاً: ربما كان عدد منا يسافر لأداء فريضة الحج في هذه السنة لو كان السفر إليه حراً مسموحاً به.([33]) نسأل اللّٰه تعالى أن يقبل نياتنا هذه وكأننا سافرنا إلى الحج فعلاً، ويمنح خدمتنا الإيمانية والنورية ثواباً عظيماً كثواب الحج ونحن نعاني هذه الأحوال المليئة بالمضايقات والمشقات.
ثانياً: إن رسائل النور تفسير قيّم وحقيقي للقرآن الكريم. لقد كررنا هذا الكلام. وخطر الآن للقلب بيان حقيقته وذلك لعدم وضوح معناه الحقيقي:
التفسير نوعان:
الأول: التفاسير المعروفة التي تبين وتوضح وتثبت معاني عبارات القرآن الكريم وجمله وكلماته.
القسم الثاني من التفسير: هو إيضاح وبيان وإثبات الحقائق الإيمانية للقرآن الكريم، إثباتاً مدعماً بالحجج الرصينة والبراهين الواضحة. ولهذا القسم أهمية كبيرة جداً.
أما التفاسير المعروفة والمتداولة فإنها تتناول هذا النوع الأخير من التفسير تناولاً مجملاً أحياناً. إلاّ أن رسائل النور اتخذت هذا القسم أساساً لها مباشرة. فهي تفسير معنوي للقرآن الكريم بحيث تلزم أعتى الفلاسفة وتسكتهم.
سعيد النورسي
* * *
بِاسمِهِ سُبحَانَهُ
إخوتي الأعزاء الصديقين!
تُرى هل نحن و"رسائل النور" أكثر إضراراً في الأوساط، بحيث يكتب كل محرر للصحف ما يشاء ويعقد كل صنف اجتماعاً دون مداخلة أحد؟ والحال إذا انعدمت التربية الدينية فلا تكون لدى المسلمين وسيلة للإدارة سوى الاستبداد المطلق والرشوة التي لا تحدها حدود، إذ كما لا يتهود المسلم -التارك لدينه- حقاً ولا يتنصّر حقاً، بل يكون ملحداً ويضل ضلالاً بعيداً، كذلك لا يكون شيوعياً قط بل فوضوياً إرهابياً، وعندئذٍ لا يمكن إدارته إلاّ بالاستبداد المطلق.
أما نحن طلاب النور فإننا نسعى لمعاونة الإدارة وإقرار الأمن والنظام وإحراز السعادة للأمة والوطن. والذين يجابهوننا هم إرهابيون ملحدون أعداء الأمة والوطن. فالأولى للحكومة بل الألزم لها أن تسعى لحمايتنا ومعاونتنا لا التعرض لنا والتعدي علينا.
سعيد النورسي
* * *
بِاسمِهِ سُبحَانَهُ
إخوتي الأعزاء الصديقين!
أولاً: إنَّ الإفراج عن كل من "رأفت" و"أدهم" وأفراد عائلة "جالشقان" و"برهان" وأمثالهم من طلاب النور الناشرين، يدل على أن انتشار "رسائل النور" ليس محظوراً، فلا تتعرض لها المحكمة.
ثم إنه علامة على الإقرار بعدم وجود تحزب وتشكيل جمعية.
ثم إن إطالة مدة قضيتنا وجلبهم الأنظار إلى "رسائل النور" في ميدان واسع إنما هي بمثابة دعوة عامة لقراءتها، وإعلان رسمي لها يثير لدى السامعين المشتاقين الرغبة في قراءتها.. وهي وسيلة لكسبنا نحن وأهل الإيمان المنافع العظيمة التي تفوق مشقاتنا
بمائة درجة.. وهي إشارة إلى تأثير مثل هذا الدرس الإيماني النـزيه في أوسع دائرة في الأرض -كالقنبلة الذرية- إن شاء اللّٰه إزاء هجوم كلي شامل قاسٍ شرس تشنّه جيوشُ الضلالة الرهيبة في هذا الزمان.
سعيد النورسي
* * *
بِاسمِهِ سُبحَانَهُ
إخوتي الأعزاء الأوفياء: رأفت، محمد فيضى، صبرى!
لقد تلقيت إخطاراً قلبياً فأرجوكم رجاءاً خالصاً لأجل "رسائل النور"، وبركة هذا العيد المبارك، ولأجل حقوق الأخوة السابقة فيما بيننا: اسعوا أيها الإخوة الثلاثة لضماد جرحنا الجديد الغائر. لأن أعداءنا ينفّذون خطتين اثنتين علينا:
أُولاها: التهوين من شأني.
ثانيتها: بث الجفاء فيما بيننا، بنشر روح الانتقاد والاعتراض والاستياء فيما بينكم ولاسيما مع "خسرو".
إني أُعلن لكم: لو كان لـ"خسرو" ألف تقصير وخطأ فإني أخاف من الكلام عليه. لأن الكلام عليه خيانة عظيمة في الوقت الحاضر. حيث يعنى الكلام على "رسائل النور" مباشرة، وعليّ بالذات، ويكون لصالح الذين استضعفونا. فهو خيانة عظيمة إلى حدٍّ فجّرت مدفأتي. وإني على قناعة من التعذيب الذي يذيقونني إياه مؤخراً ناتج من انحلال الترابط فيما بينكم، والذي ليس له مغزى قط، بل فيه ضرر كبير. إنَّ أصابع رهيبة تتدخل هنا في السجن ولاسيما في الردهة السادسة. لا تدفعوني يا إخوتي إلى البكاء والحزن في عيدنا هذا. تصالَحوا فوراً صلحاً قلبياً.
سعيد النورسى
* * *
إخوتي الأعزاء الصديقين!
كنت أريد أن يخلَّوا سبيل اثنين أو ثلاثاً من إخواننا اليوم، إلاّ أن العناية الإلهية قد أخّرتهم لفوائد يحصلون عليها. بل إن بقاءنا في وضعنا هذا بما يقرب من عشرين يوماً ضروري، بل ضروري جداً لأن وجودنا معاً في هذا العيد ضروري لنا ولـ"رسائل النور" ولخدمتنا وراحتنا المادية والمعنوية، ولنأخذَ حظنا كاملاً من أدعية الحجاج، ولنجاة "رسائل النور" المرسلة الى "أنقرة" من المصادرة، ولتزايد عدد الذين يشفقون على كوننا مظلومين فينسلكوا في مسلك النور، وليكون حُجة على أننا لا نستجير بخوّنة الوطن والأمة بالرضى عن الأخطاء العظيمة التي تُرتكب حالياً.
سعيد النورسي
* * *
إخوتي الأعزاء الأوفياء!
السجن هو أفضل مكان لنا في هذه الفترة الطافحة بالشبهات والأوهام والاضطرابات والقلاقل. وإن "رسائل النور" ستكسب لنا ولهم الإفراج بإذن اللّٰه. إذ ما دامت "رسائل النور" تستقرئ نفسها بشكل لا مثيل له، وإلى هذه الدرجة الواسعة خلال هذه الظروف الصعبة المحيطة، وإزاء معارضين كثيرين جداً، وتدفع طلابَها إلى أنواع شتى من العمل للإسلام في السجن، ولا تفسح المجال إلى تذللهم بفضل العناية الإلهية.. فنحن إذن مكلّفون بأداء الشكر للّٰه بدل الشكوى، والاطمئنان إلى هذا.
فإن تحملي جميع الشدائد والمضايقات الشديدة نابع من هذه القناعة والاطمئنان. فلا أتدخل في مشيئة اللّٰه.
سعيد النورسي
* * *
بِاسمِهِ سُبحَانَهُ
إخوتي الأعزاء الأوفياء!
إنَّ إحدى النسختين، لي، والأخرى للمدير. صحِّحوا أخطاء النسخة الأخرى على نسختي المكتوبة بخطي.
وعندما كنت أطالع رسالة "الآية الكبرى" هذه المرة، وجدت أنها ذات قيمة عالية ولاسيما المقام الثاني والمحاورة المعنوية في الختام. وقد استفدت منها أيّما استفادة.
فلأجل أن تستفيدوا، ليقرأها أحدُكم وليستمع إليها الآخر، وليتولى اثنان من إخواننا المطالعة أثناء التصحيح ولا يظلوا عاطلين عن العمل.
ثانيا: "الكلمة العاشرة" الخاصة بي والمكاتيب الموجودة هنا وغيرها يجب ألاّ تضيع، ولا تبقى معطلةً عن القراءة. فلقد عهدت نظارتها ومراقبتها إلى "جيلان".(*)
سعيد النورسى
* * *
بِاسمِهِ سُبحَانَهُ
إخوتي الأعزاء الصديقين الثابتين!
أولاً: إنَّ تأجيل قضيتنا فيه خير، والخير فيما اختاره اللّٰه. فقد كان قلبي يرغب في هذا التأخير. وإطلاق حرية "رسائل النور" يستدعيه كذلك. وستوفقون -بهذا التأخير- إن شاء اللّٰه إلى بث السلوان فيما بينكم، وإلى تقوية الروح المعنوية، وإلى مذاكرة علمية وإقامة جلسات طيبة، وإلى كتابة "رسائل النور" ومطالعتها وإلى إزالة نقطة الزحمة وتحويلها إلى رحمة. وإلى تبديل هذه الساعات الفانية إلى ساعات خالدة باقية.
ثانياً: إنَّ تهانينا بالعيد قد جرت في المنـزل المؤقت للمحكمة، لذا فأنا أُرسل إليكم حلاوة العيد وهي ماء زمزم، أتى به رائد مدينة قونية "الأخ زبير" وعسل قرية
"نورس" الذي له مغزى عظيم عندي. ضعوا الماء في وعاء العسل ورجّوه جيداً ثم صبوا فيه ماء زمزم، واشربوه هنيئاً مريئاً.
سعيد النورسي
* * *
بِاسمِهِ سُبحَانَهُ
إخواني الأعزاء الصديقين!
لقد طُرح عليّ سؤال ذو مغزىً هام، من مصدر هام جداً. فقد سألوني ما يلي:
على الرغم من أنكم لستم جمعية؛ وذلك بشهادة ثلاث محاكم أصدرت حكمها بالبراءة بهذا الصدد؛ وبعد أن أخذت ست ولايات على عاتقها مهمة الرصد والتجسس طوال عشرين عاماً، وتبيّن لها في النهاية أن لا علاقة لكم بتلك التهمة، وأنها مختلَقَة من أساسها.. على الرغم من ذلك كله، فإن العلاقة التي تربط "طلاب النور" بعضهم ببعض لا يوجد لها نظير في أي جمعية أو هيئة.. فهلا تفضلتم بإيضاح هذه المسألة وحل تلك المعضلة؟ فأجبتهم قائلاً:
نعم، إن طلاب النور ليسوا جمعية أو شبه جمعية، ولن يكونوا.. خاصة وأنهم يربأون بأنفسهم عن أن ينتموا إلى ذلك النوع من الجمعيات التي تتشكَّل لأغراض شخصية أو جماعية، مستهدفة كسب المنافع السياسية أو الدنيوية -إيجابية كانت تلك المنافع أم سلبية- بيد أن أبناء وبنات وأحفاد أبطال هذا الوطن القدامى من فدائيي الإسلام، الذين قدّموا ملايين الأرواح -بكمال المسرّة والرضى- في سبيل نيل مرتبة الشهادة، لا بد أنهم قد ورثوا حظاً من روح تلك التضحية والفداء حتى أظهروا تلك العلاقة الخارقة التي دفعت أخاهم هذا العاجز الضعيف إلى القول أمام محكمة "دنيزلي":
إن الحقيقة التي افتدتها ملايين الأبطال برؤوسهم، فداء لها رؤوسنا أيضا.
قال هذه الجملة باسمهم، وأسكت المحكمة، تاركاً إياها في حيرة وتقدير وذهول.
بمعنى أن في طلاب النور فدائيين حقيقيين خالصين مخلصين للّٰه لا يريدون إلاّ وجهه ونيل رضاه والحياة الآخرة. فلم يجد الماسونيون والشيوعيون وأهل الضلالة والإفساد والزندقة والإلحاد والطاشناق وأمثالهم من المنظمات الخطرة، وسيلة لدحر أولئك النوريين فغرروا بالحكومة ودوائر العدلية بوساطة قوانين مطاطة بغية تشتيتهم وكسر شوكتهم.. ألا حبطت أعمالهم! فلا ينالون شيئا منهم بإذن اللّٰه بل سيكونون وسيلة لزيادة عدد الأبطال المضحين للنور والإيمان.
سعيد النورسي
* * *
إخواني الأعزاء الصديقين!
سأذكر لكم ما جرى من محاورة قبل أربعين سنة، شبيهة بالتي جرت أمس:
كانت علاقة طلاب "سعيد القديم" وطيدة جداً مع أستاذهم حتى بلغت مرتبة التضحية والفداء. لذا كان "سعيد القديم" يتمكن من التصدي للفعاليات الكثيرة التي كانت تقوم بها عصاباتُ الأرمن وفدائيو الطاشناق في حوالي مدينة "وان" و "بتليس" بل كان يوقفهم عند حدّهم إلى درجة ما.
وحينما وجد لطلابه بنادق الماوزر وتحولت مدرستُه إلى ما يشبه المعسكر -إذ الكتب كانت جنباً إلى جنب مع البنادق- حضر قائد عسكري برتبة فريق وشاهد هذا المنظر.. وقال: "هذه ليست مدرسة دينية بل ثكنة عسكرية" وأمر قائلاً: "اجمعوا بنادقه" لما ساورته الشكوك من جراء حادثة "بتليس". فحصلوا منا خمس عشرة بندقية، وبعد حوالي شهرين اندلعت الحرب العالمية الأولى، فاسترجعت بنادقي منهم.. وعلى كل حال..
ولمناسبة هذه المواقف والأحوال سألوني:
إنَّ عصابات الأرمن التي تملك فدائيين رهيبين تخشاكم، حتى إنها تجنبت الاحتكاك معكم وتفرقوا بعيداً عنكم لما اعتزلتم الناس في جبل "أرك" في "وان". ترى ما القوة التي فيكم حتى يكون الأمر هكذا؟.
فكنت أجيبهم: إن فدائيي الأرمن الذين يقومون بهذه البطولات الخارقة، إنما يقومون بـها في سبيل الحصول على حياة دنيوية فانية، ولأجل كسب مصلحة قومية مؤقتة صغيـرة، وللحفاظ على سلامتها.. ونحن نجابه هؤلاء بالطلاب الذين يسعون في سبيل الحصول على حياة باقية خالدة، ولأجل كسب مصالح إيجابية لأمة الإسلام السامية العظيمة وقد أيقنوا بأن الأجل واحد لا يتغير. فلا شك أن هؤلاء الطلاب لا يتخلفون قطعاً عن أولئك الفدائيين. بل إذا لزم الأمر يفدون بحياتـهم وبأجلهم المحتوم وبعمر لا يعدو بضع سنوات ظاهرية، في سبيل الفوز بملايين السنوات من العمر الخالد، وفي سبيل الحفاظ على سلامة مليارات من الناس المؤمنين الأتقياء.. يفدونها دون تردد، وبكل فخر واعتزاز.
* * *
إخواني الأعزاء ذوي الشفقة والوفاء!
لقد اشتد عليّ منذ يومين أثر الرشحة (الزكام) سواء في رأسي وفي أعصابي. ففي مثل هذه الحالات أشعر بحاجة إلى الأُنس بالأصدقاء والتسلي بلقائهم، ولكن ضايقتني وحشة الانفراد والتجريد العجيب مضايقة شديدة، فورد إلى القلب شكوى على هذه الصورة.
لِمَ هذا التعذيب؟ وما فائدته لخدمتنا في سبيل القرآن والإيمان؟
وفجأة أُخطر للقلب صباح هذا اليوم، الآتي:
إن دخولكم هذا الامتحان القاسي، وتمييزكم الدقيق في المحك مرات عدة ليخلص الذهب عن النحاس، واختباركم من كل جانب وناحية بتجارب ظالمة لمعرفة مدى بقاء حظوظ نفوسكم الأمارة ودسائسها ومن ثم تمحيصكم بثلاث ممحصات، كان ضرورياً جداً لخدمتكم التي هي خالصة لوجه الحق والحقيقة، لذا سمح القدر الإلهي والعناية الربانية به، لأن الإعلان عن هذه الخدمة السامية، في ميدان امتحان كهذا، تجاه معارضين عنيدين ظَلَمة يتشبثون بأتفه حجة.. جعل الناس يفهمون أن هذه الخدمة القرآنية نابعة من الحق والحقيقة مباشرة، ولا تداخلها حيلة ولا خداع ولا أنانية
ولا غرور، ولا غرض شخصي ولا منافع دنيوية وأخروية، إذ ما كان عوام المؤمنين يثقون بها لولا هذا الامتحان، حيث كان لسان حالهم يقول: ربما يقولون ليغرروا بنا ويخدعونا. ويرتاب خواص المؤمنين ويقولون: ربما يعملون هكذا وصولاً إلى مقامات معينة، وكسباً لثقة الناس بهم ونيلاً للإعجاب، كما يفعله بعض أهل المقامات المعنوية. وعندئذ لا يثقون بالخدمة. ولكن بعد الابتلاء، اضطر حتى أعتى عنيد مرتاب إلى التسليم بالأمر. لذا إن كانت مشقتكم واحدة فإن ربحكم ألف إن شاء اللّٰه.
سعيد النورسي
* * *
بِاسمِهِ سُبحَانَهُ
إخوتي الأعزاء الصديقين!
إنَّ إعلان الحادثة التي وقعت أثناء أسري في روسيا([34]) في الجريدة، قد زيّد من توجه الناس وإقبالهم رغم شدة المنع والسعي لتجنيب الناس عنّا. وقد قال رئيس الحراس: إن ثلاثة أشخاص رسميين قد قالوا أمس في فناء السجن وهم من المؤيدين لإنـزال الإهانات بنا ولاسيما بي: عندما يظهر "سعيد" من النافذة يتجمع الناس وينظرون إليه. فعليه ألاّ يقف أمام النافذة، وإلاّ بدّلوا ردهته إلى أخرى.
إخوتي! لا تهتموا! فلقد قررتُ أن أتحمل المضايقات مهما كانت. وستتبدل -إن شاء اللّٰه- إلى أفراح ومسرات ببركة دعواتكم.
إنَّ أصل تلك الحادثة صحيح. ولكن لم أفصّل في بيانها لعدم وجود شاهد لي في الحادثة. إلاّ أنني لم أكن أعلم أن مفرزة من الجنود قد أتوا لإعدامي، وعلمت ذلك بعدئذٍ. ولم أعرف أيضاً ما قاله القائد الروسي من كلام لإرضائي. فالنقيب المسلم الذي كان حاضراً في أثناء الحادثة والذي أخبر "الجريدة" بها، قد فهم إذن ما قاله القائد الروسي مكرراً: "معذرة".
إخوتي! إنني كلما انشغلت بـ"رسائل النور" تضاءلت المضايقات وخفّت، بمعنى أن وظيفتنا هي الانشغال بـ"رسائل النور" وعدم الاهتمام بالأمور العابرة، مع التحلّي بالصبر والتجمل بالشكر.
سعيد النورسي
* * *
سجية تحير العقول لبديع الزمان
(هذا المقال نشر في مجلة «أهل السنة» الصادرة باستانبول في 15 تشرين الأول 1948 بقلم صاحبها المحامي).
عندما جُرحت وأُسـرتُ في موضع "بتليس" في الحرب العالمية الأولى، وقع بديع الزمان أيضاً في اليوم نفسه أسيراً. فأُرسل إلى أكبر معسكر للأسرى في سيبريا، وأُرسلتُ إلى جزيرة "نانكون" التابعة لـ"باكو".
ففي يوم من الأيام عندما يزور نيقولاي نيقولافيج المعسكر المذكور للتفتيش -يقوم له الأسرى احتراماً- وعندما يمر من أمام بديع الزمان لا يحرك ساكناً ولا يهتم به، مما يلفت نظر القائد العام، فيرجع ويمر من أمامه بحجة أخرى، فلا يكترث به أيضاً. وفي المرة الثالثة يقف أمامه، وتجري بينهما المحاورة الآتية بوساطة مترجم:
- أَمَا عرفني؟
- نعم أعرفه إنه نيقولاي نيقولافيج، خال القيصر والقائد العام لجبهة القفقاس.
- فلمَ إذَن قَصَد الإهانة؟
- كلا! معذرة. إنني لم أستهن به، وإنما فعلت ما تأمرني به عقيدتي.
- وماذا تأمر العقيدة؟
- إنني عالم مسلم أحمل في قلبي الإيمان، فالذي يحمل الإيمان في قلبه أفضل ممن لا يحمله. فلو أنني قد قمت له احتراماً لكنت إذن قليل الاحترام لعقيدتي. ولهذا لم أقم له.
- إذن فهو بإطلاقه صفة عدم الإيمان عليّ يكون قد أهانني وأهان جيشي وأهان أمتي والقيصر فلتشكّل حالاً محكمة عسكرية للنظر في استجوابه.
وتتشكل محكمة عسكرية بناء على هذا الأمر، ويأتي الضباط الأتراك والألمان والنمساويون للإلحاح على بديع الزمان بالاعتذار من القائد الروسي وطلب العفو منه، إلاّ أنه أجابـهم بالآتي: "إنني راغب في الرحيل إلى دار الآخرة والمثول بين يدي الرسـول الكريم صلى الله عليه وسلم، فأنا بحاجة إلى جواز سفر فحسب للآخرة، ولا أستطيع أن أعمل بما يخالف إيماني..."
وتجاه هذا الكلام يُؤْثِر الجميع الصمت منتظرين النتيجة.
وتنهي المحكمة أعمالها بإصدار قرار الإعدام بموجب مادة إهانة القيصر والجيش الروسي. وتحضر مفرزة يقودها ضابط روسي لأخذه إلى ساحة الإعدام. ويقوم بديع الزمان إلى الضابط الروسي قائلاً له بابتهاج: اسمحوا لي خمس عشرة دقيقة فقط لأؤدي واجبي.
فيقوم إلى الوضوء.. وأثناء أدائه الصلاة، يحضر نيقولاي نيقولافيج ويخاطبه: "أرجو منك المعذرة؛ كنت أظن أنكم قمتم بعملكم هذا قصد إهانتي، فاتخذت الإجراءات القانونية بحقكم، ولكن الآن أدركت أنكم تستلهمون هذا العمل من إيمانكم، وتنفذون ما تأمركم به عقيدتكم. لذا أبطلت قرار الحكم بحقكم. إنكم تستحقون كل تقدير وإعجاب لصلاحكم وتقواكم. أرجو المعذرة فقد أزعجتكم. وأكرر رجائي مراراً: أرجو المعذرة".
إن هذه العزة الدينية، وهذه السجية الرفيعة التي هي قدوة حسنة للمسلمين جميعاً أخبرني عنها أحد أصحابه في معسكر الأسر، وهو برتبة نقيب، وكان شاهد عيان للحادثة.
وأنا ما إن عرفت هذا حتى اغرورقت عيناي بالدموع دون اختيار مني...([35])
عبد الرحيم زابسو
* * *
إخوتي!
لانقطاع شهيتي عن الطعام، ولتضرري من الهدية، أرسلت إليكم ما وقع لي من حصة الطعام وهي: ثلاث قطع من الدهن، وسلة من العنب، وكيس من التفاح، وعلبتان من الشاي والسكر. فقد كنت عازماً على إرسال شيء ما هديةً لكم، ولكن علمت أنه لديكم منه أيضاً. وقد قبلته لئلا تسخط عليّ "مدرسة الزهراء" قائلة: لم يأكل من هديتي! بيعوا هذه المواد إلى المحتاجين بأثمان رخيصة وإلى المستحقين لأنني سأشتري بأثمانها البيض واللبن والخبز، كي تكون هدية مباركة حقاً وشفاءً لي وللشارين ولمدرسة الزهراء وشُعبها وليكن "خسرو" المشرف على البيع، ويتولى "جيلان" و"حفظي" أمر البيع.
سعيد النورسي
* * *
إخوتي الأعزاء الصديقين!
أولاً: لمناسبة ما نشر في الجريدة حول حادثة أسري، أُخطر إلى قلبي الآن:
إنَّ قائداً جبّاراً للروس قد تخلّى عن حدّته وهدّأ غضبَه إزاء ما أبديتُه من عزة الإيمان، فاعتذَر. ولكن الموظفين الرسميين الذين يرون صلابة الإيمان لدروس "رسائل النور" القوية الخالصة والتي تفوق مائة درجة على الصلابة التي أبداها شخصي، أقول: إنْ لم تلن قلوبُهم، وأصروا على عنادهم، فلا يطهّرهم إذن إلاّ نار جهنم. لأن هذا العمر القصير المحدود لا يسعه هذا الجرم العظيم. حيث إن الدهن لا يمكن أكله إذا فسد، بخلاف اللبن والحليب، نسأله تعالى أن تكون "رسائل النور" قد أنقذت الكثيرين منهم قبل أن يفسدوا.
سعيد النورسي
* * *
بِاسمِهِ سُبحَانَهُ
إخوتي الأعزاء الصديقين!
أولاً: لقد أُخطر إلى قلبي بيان معاملة محيرة وذات عبرة وقعت خلال أسري لمرتين (في روسيا وهنا):
كنا في "قوصتورما"، في روسيا، مع تسعين من ضباطنا الأسرى في ردهة واحدة، وكنت أُلقي عليهم أحياناً الدرس. وذات يوم حضر القائد الروسي وشاهد الموقف وقال: إن هذا الكردي قائد المتطوعين قد ذبح كثيراً من جنودنا، ويأتي الآن ويلقى دروساً سياسية هنا، لا يمكن هذا، أمنعه قطعاً.
ولكن بعد يومين قال: يبدو أن دروسكم غير سياسية، بل دينية وأخلاقية. استمر عليها فسمح بإلقاء الدرس.
وفي أسري الثاني:
منعت "العدلية" أن يحضر عندي أحد إخوتي الخواص الذي استمعَ إلى دروسي طوال عشرين سنة، ويحسن إلقاء الدرس أفضل مني. ومنعت كذلك أن يأتيني من يعاونني في أموري الضرورية الخاصة كيلا يأخذ درساً مني.
والحال، إن "رسائل النور" لا تدع حاجة إلى تلقّي الدروس من غيرها، فضلاً عن أنه لم يبق لنا درس غيرها، وليس لنا سر يُخفى.. وعلى كل حال فقد حال شيء عن ذكر هذه المسألة الطويلة.
سعيد النورسي
* * *
بِاسمِهِ سُبحَانَهُ
إخوتي الأعزاء الصديقين!
تُعرَض لي حالةٌ روحية مهمة لمرتين أو ثلاث، وهي حالة شبيهة بالتي دفعَتني لأنـزوي في جبل يوشع باستانبول قبل ثلاثين سنة وجعلتني أنسلّ من الحياة
الاجتماعية البراقة لـ"دار الحكمة الإسلامية"، بل لم أسمح حتى ببقاء المرحوم "عبدالرحمن" معي، وهو الطالب الأول لـ"رسائل النور" وبطلُها الرائد، كي ينجز بعض أعمالي الضرورية.
تلك الحالة التي هي انقلاب روحي أظهر ماهية "سعيد الجديد".
والآن بدأت عندي تباشيرُ شبيهة بتلك الحالة، وأعتقد أنها إشارة إلى ظهور "سعيد الثالث" الذي يكون تاركاً للدنيا كلياً.
بمعنى أن "رسائل النور" وطلابَها الغيارى سيؤدون مهماتي بدلاً عني، فلم يعُد هناك حاجة إليّ. ومن المعلوم أن كل جزء من الأجزاء الجامعة لـ"رسائل النور"، وكل طالب من طلابها الثابتين يدرّس ويرشد أفضل مني وأتم.
سعيد النورسي
* * *
بِاسمِهِ سُبحَانَهُ
أولاً: إنني أخال بناءً على بعض الأمارات، أن رسالة "مرشد الشباب" تعطى لها أهمية أكثر من المجموعات الأخرى لـ"رسائل النور". فأعتقد أن ما فيها من "نكتة توحيدية في لفظ هو" قد قصمت ظهرَ أعدائنا الزنادقة وشتتت طاغوتَ الطبيعة التي يستندون إليها. فلم يعُد لشيء ما إن يخفيه بعد أن كان التراب الكثيف يخفيه إلى حدٍ ما. إلاّ أنه بعد ظهور تلك النكتة التوحيدية لا يمكن إخفاؤه في الهواء الرقيق الشفاف. بمعنى لا يستطيع أن يخفى نفسه في أية جهة كانت. ليغرروا العدلية بالكفر العنادي والتمرد الارتدادي. وستصرف "رسائل النور" بإذن اللّٰه أنظار العدلية إلى صالحها، وستفشل هذا الهجوم وتجعله بائراً.
ثانياً: إنَّ ما نُشر في هذه الفترة، سواءً في مجلة "أهل السنة" أو الجريدة المحلية هنا وكذا المقابلة الصحفية التي أجراها "زبير" بحرارة، أصبح بمثابة إعلان جيد للاشتغال بـ"رسائل النور". إقرأوا -بدلاً منى- الأبحاث التي تخصنا وتروق لي، وأعلموني بها.
سعيد النورسي
* * *
بِاسمِهِ سُبحَانَهُ
إخوتي الأعزاء الصديقين محمد ومصطفى وإبراهيم وجيلان!
أولاً: لقد شاهدتُكم أمس وأنتم الأربعة في جلسة أخوية لطيفة. فسررتُ بها كثيراً وشكرتُ اللّٰه عليها. واستمعت إليها بفرح وسرور وكأنني معكم في الجلسة. ولكن شاهدت فجأة أن هناك في جهتيكم مَن يَسترِق السمع إليكم، ودام الاستماع نصف ساعة من الزمان. فقلقت وقلت في قلبي: ربما بينهم جاسوس يغيّر معاني الكلام فيجعل من الحبة قبة حيث كانوا يُلقون السمع باهتمام. ولا يتلفت إليهم الإخوة المتكلمون لعدم اهتماهم بالحذر ولمتعة الجلسة والمؤانسة التي فيها. فكتبت إليكم جواباً بهذا الشأن.
والحمد للّٰه فقد علمتُ أن الكلام ما كان فيه ضرر، ومع هذا فالأخذ بالحذر ضروري في هذه الفترة الحرجة.
ثانياً: لقد علمت من رسالة "الملاحق" الحاملة لحُسن ظن مفرط بحقي، بما يفوق حدّي مائة درجة، أنه سيكون نظير المرحوم "حسن فيضي" الذي هو رائد طلاب النور في "دنيزلي" وسيظهر في "آفيون" بإذن اللّٰه من أمثال "حسن فيضي" الكثيرون. فلا تكون "آفيون" قاصرة عن "دنيزلي" وعندها تتبدل مشقاتُنا مسراتٍ ورحمات.
سعيد النورسي
* * *
إخوتي!
ما كنت أهتم بالجرائد، إلاّ أن نشر مجلة "أهل السنة" و"سبيل الرشاد" مقالات لصالحنا، حيّرت بلا شك الأعداء الزنادقة والحاسدين. وقد أثار اهتمامي احتمال محاولة هؤلاء لإسكات أولئك الأصدقاء!
سعيد النورسي
* * *
بِاسمِهِ سُبحَانَهُ
سلوان ذو حقيقة يزيل مصائبي المضجرة
الأول: تحوُّل المشقات إلى رحمات ومسرات.
الثاني: الانشراح النابع من الرضى والتسليم لعدالة القدر الإلهي.
الثالث: السرور الناشئ من رعاية العناية الإلهية الخاصة بطلاب النور.
الرابع: اللذة الناشئة من زوال المصيبة التي هي عابرة.
الخامس: الأثوبة العظيمة.
السادس: عدم التدخل في مشيئة اللّٰه.
السابع: حصول أخف الجراحات وأقل المشقات عند أشد الهجوم شراسة.
الثامن: تضاؤل المصيبة بدرجات كثيرة بالنسبة للمبتلَيْنَ الآخرين.
التاسع: الفرح المنبعث من تأثير الإعلانات الرفيعة عن الانتهاء من الامتحان العسير في خدمة النور والإيمان.
فهذه المسرات المعنوية التسع، علاج لذيذ ومرهم لطيف إلى حدّ لا يمكن تعريفه لتهدئة آلامنا الشديدة.
سعيد النورسي
* * *
بِاسمِهِ سُبحَانَهُ
أولاً: إنه لَعناية إلهية أنني لم أتمكن من سماع ما قاله المدعي العام من افتراءات. وإلاّ كنت أجيبه بكلام قاس.
وما قلته في المحكمة: "سأحيلك إلى المحكمة". أعني به: أحيلك إلى المحكمة الكبرى لظلمك إيانا، وإلى محكمة دنيوية لتصرفك غير القانوني.
وقصدي من: "ليس لي محام". أن لنا جميعاً محامياً لمسألتنا الكلية التي تخصنا معاً. أما الهجوم عليّ شخصياً فأنا المتكفل بالإجابة عنه..
أبلغوا هذا "أحمد حكمت".
ثانياً: إن دفاعاتنا السابقة كافية لدحض افتراءات المدعي العام.
ثالثاً: لقد كتب إليّ كل من "مصطفى عثمان" و"جيلان"، أن ما قيل في المحكمة لا يؤدي إلى تأثير سيء في وسط دائرة النور، ولا يعكر صفو القلوب قطعاً. ووجدت البطل الرائد "طاهري" قد تلقى الأمر هكذا أيضاً.
رابعاً: أظن أن الكفر والضلالة لأنهما يهجمان علينا بشكل منظم مستندَين إلى منظمات ومؤسسات، فإن القدر الإلهي يعذبنا بظلمهم الشنيع المستند إلى المنظمات، بمعنى أن إتحاد أهل الإيمان فيما بينهم في الوقت الحاضر أمر ضروري. ونحن لجهلنا بتلك الحقيقة نتلقى صفعة تأديب عادلة من القدر الإلهي.
سعيد النورسي
* * *
إخوتي الأعزاء الصديقين!
أولاً: إن أفضل مكان لنا هو السجن في زمن حكم وزارة مستبدة تمنع الحج وتهدر ماء زمزم وتحظره، وتسمح بإنزال أشد الظلم بنا، ولا تكترث بمصادرة "ذو الفقار" و "سراج النور" وترفع درجة الموظفين الذين يتولون تعذيبنا قصداً، وبلا سند قانوني، ولا تلقي السمع إلى أصواتنا المرتفعة ولا إلى بكائنا بكاء المظلومين المنطلق من مساكننا بلسان الحال. إن أفضل مكان لنا في فترة حكم هذه الوزارة هو السجن. إلاّ أنه إذا نُقلنا إلى سجن آخر فستحل السلامة كلياً.
ثانياً: كما أنهم حملوا أبعد الناس عنا بالإكراه على قراءة أخص الرسائل سرية. كذلك يدفعوننا دفعاً وبإصرار لنشكل جمعية. لأن الأخوّة الإسلامية الموجودة في اتحاد جماعة أهل الإيمان قد نمت لدى طلاب النور نمواً خالصاً طاهراً مكللاً بالتضحية الجادة والفداء التام الذي ورثوه من أجدادنا الأوائل الملايين الأبطال الذين ضحوا
بكمال الشوق بأرواحهم في سبيل حقيقة، فارتبط النوريون بتلك الحقيقة ارتباطاً وثيقاً بحيث لا يدع حاجة لحد الآن إلى تشكيل منظمات، سياسية كانت أم رسمية علنية كانت أم سرية.
إذن فهناك حاجة في الوقت الحاضر بحيث يسلط القدر الإلهي أولئك علينا، فهم يقترفون الظلم بإسناد جمعية موهومة إلينا. والقدر الإلهي يقول لنا: لِمَ لم تكوّنوا بإخلاص تام وبتساند تام حزبَ اللّٰه الحقيقي؟ فصفعَنَا صفعة تأديب بأيديهم، وقد عدل.
سعيد النورسي
* * *
بِاسمِهِ سُبحَانَهُ
إخوتي الأعزاء الصديقين!
أولاً: لا أجدكم بحاجة إلى السلوان، يكفي أنكم تشدون الروح المعنوية بعضكم لبعض. وتكفيني كذلك اللوحة التي تقابلني!.
وقد عُلم أن هذا الهجوم الأخير ما كان إلاّ ظلماً وعملاً غيرَ قانوني وترهيباً لم ينجم إلاّ من أوهام وضعف.
فقد كانت أوضاع الناس وموقف أفراد الأمن بمثابة اعتراض على ذلك الهجوم العابث.
ثانياً: هل تكفي دفاعاتي لما تُسنَد إلينا من اتهامات؟ وهل المحامون و"زبير" يسعون في الأمر؟ ألديهم شيء من القلق؟ عليهم ألاّ يقلقوا قطعا!.
إن المواد التي يتهموننا بها، توجب اتهام جميع من يحمل الأخوة الإيمانية، حتى جماعات المصلين لجميع الأئمة، وطلاب جميع المعلمين والأساتذة. بمعنى أنهم وجدوا أنفسهم أمام معارضين أقوياء فهجموا علينا هذا الهجوم بوضع الإمكانات بدل الوقوعات.
ثالثاً: إنَّ قناعتي الشخصية هي أننا يجب أن نبقى في السجن حتى الربيع. إذ من المعلوم أن الأمور تتوقف في الشتاء. وستمدنا العناية الإلهية إن شاء اللّٰه.
سعيد النورسي
* * *
إخوتي الأعزاء الصديقين!
أولاً: الأخذ بالحذر والحيطة مع الاستشارة والثبات أمور ضرورية.
ثانياً: لقد سلمت أعمالي هنا إلى "زبير" و"جيلان"، حيث أُخطر لي إخطاراً معنوياً أن "زبير" بديل ابن أخي المرحوم "عبد الرحمن"، و"جيلان" بديل ابن أخي الآخر المرحوم "فؤاد".
* * *
إن الاعتداء والهجوم في هذه المرة قد شن في دائرة واسعة جداً.
فقد هاجمَنَا كل من رئيس الحكومة والوزراء، هاجموا وفق خطة مرسومة بنيت على أوهام رهيبة. فحسب ما تلقيته من خبر وبأمارات كثيرة، إن الإخباريات الكاذبة للمنافقين المتخفين، وبدسائسهم الماكرة لفّقوا أن لنا علاقة قوية وارتباطاً وثيقاً بالمنظمة الداعية إلى إحياء الخلافة الإسلامية، وبالجمعية السرية للطريقة النقشبندية. بل أظهرونا كأننا في مقدمتهم ورائدوهم. حتى ساقوا الحكومة إلى اضطراب وقلق كبير، مبينين المجموعات الكبيرة لرسائل النور المجلدة في إسطنبول والمرسلة إلى العالم الإسلامي التي كسبت الرضى والقبول هناك دليلاً على نشاط النوريين. فقذفوا في روع الحكومة الخوف والهلع وأثاروا عرق الغيرة والحسد لدى بعض العلماء الرسميين، وهيجوا الأوهام والشكوك لدى الموظفين حتى جعلوهم ضدنا. وقد حسبوا أن هناك وثائق كثيرة وأمارات عديدة تديننا، واعتقدوا كأن سعيداً الجديد لا يتحمل الأوضاع كما كان سعيد القديم، فيخل بالنظام. ولكن الحمد للّٰه بما لا يتناهى من الحمد والشكر، فلقد خَفّف وطء تلك المصيبة من الألف إلى الواحد، فهم لم يستطيعوا أن يعثروا على أية علاقة كانت مع المنظمات والجميعات فهي غير موجودة أصلاً، فكيف يجدونها؟ ولهذا اضطر المدعي العام إلى اختلاق الأكاذيب والافتراءات وإسناد أمور جزئية تافهة غير ذات مسؤولية إلينا.
فما دامت الحقيقة هي هذه، فقد نجونا إذاً نحن ورسائل النور من تسع وتسعين بالمائة من المصيبة، لذا ينبغي لنا انتظار رعاية العناية الإلهية وترقبها بالشكر والصبر والتضرع لتتجلى علينا تجلياً كاملاً. فعلينا إذن الشكر بل ألف شكر وليس الشكوى وأن نمدّ يد العون إلى القادمين والمغادرين لهذه المدرسة اليوسفية وتسليتهم بدروس النور.
سعيد النورسي
* * *
بِاسمِهِ سُبحَانَهُ
أخي العزيز الصدّيق!
لقد علمت بإخطار شديد، أنك و"أحمد فيضي" قد سلكتما سلوكاً خارج مسلك النور الذي هو عدم المجابهة والمبارزة وعدم الانهماك مع أهل الدنيا (السلطة الحاكمة) وعدم الدخول في أمور السياسة، والدفاع فقط عند الاضطرار القاطع، فما أدليتما به وقرأتماه من فقرات في المحكمة من أمور كثيرة، ومضرّة كانت تنم عن المجابهة والمبارزة وبأسلوب سياسي، وقد ألحق أضراراً كثيرة لـ"رسائل النور" حتى ولّدت إنـزال العقاب بنا جميعاً وإلى تشديد الخناق عليّ. فأنا لا أسخط عليك ولا على "أحمد فيضي"، ولكن كان يجب إراءته لي أولاً، لقد أعطي لكما ذلك الوضع (الدفاع) كقضاء إلهي مادي، وعليكم العمل مثلي لأجل ترميمه. والألزم لـ"فيضي" ترك الدفاع السياسي بكل ما يملك من قوة، والتوجه الكلي إلى "رسائل النور" كـ"طاهري" ولينشغل مع الطلاب الجدد.
* * *
دفاع طلاب النور
(هذه دفاعات رفعها طلاب "رسائل النور" في محكمة آفيون سنة 1948. فقد حوكموا أولاً وأشيع عن أحكام الإعدام لبث الخوف في النفوس إلاّ أنها انتهت بإعادة الرسائل.)
إنَّ العلاقات الخاصة الصافية التي تربط طلاب النور بالرسائل وبمترجمها (أي الأستاذ)، والتي لا يرجون منها إلاّ الثواب في الآخرة.. أقول؛ إنَّ الذين يحاولون أن يوصموا هذه العلاقة الخالصة بأنها علاقات دنيوية أو سياسية، بغية إدانة الطلاب أمام المحاكم، بعيدون كل البعد عن الحقيقة والعدالة، فضلاً عن أن اتفاق ثلاث محاكم على تبرئة ساحتهم من تلك التهمة تبهتهم.
زد على هذا نقول:
إنه لا يمكن إلصاق تهمة الانتماء إلى التنظيمات والجمعيات السياسية إلى طلاب النور إلاّ بأمرين:
الأول: إنكار الروابط الأساس التي تبنى عليها الحياةُ الاجتماعية الإنسانية، ولاسيما الأمة الإسلامية وهي المَحبة الصادقة بين الأقارب، والعلاقة الوثيقة بين القبائل والطوائف، والأخوة المعاوِنة معنوياً ضمن الملّية الإسلامية، والآصرة القوية المتسمة بالتضحية والفداء مع أبناء جنسه وقومه، والرابطة التي لا تنفصم، والالتزام التام بحقائق القرآن وناشريها تلك التي تنقذ حياته الأبدية. وأمثالها من الروابط التي تشد أبناء المجتمع وتحقق الحياة الاجتماعية السليمة.
الثاني: بقبول الخطر الأحمر القادم من الشمال الذي ينشر بذور الفوضى والإرهاب، والذي يفني وشائج النسل والقوم فيقطع روابط الأبوة والبنوة مزيلاً علاقات القرابة والقوم، ويفتح الطريق إلى إفساد الحضارة البشرية والمجتمع الإنساني إفساداً كلياً.
وبهذين الأمرين وحدهما يمكن إلصاق تهمة الانتماء إلى الجمعيات والتنظيمات إلى طلاب النور، ولأجل هذا يُظهر طلاب النور، دون تردد، علاقاتِهم التي لا تتزعزع بحقائق القرآن، وبأخوّتهم الأخروية، فيبينون حقيقة حالهم أمام محكمتكم العادلة، من دون أن يتنازلوا إلى الدفاع عن أنفسهم بالحيَل والأكاذيب والتملق.
الموقوف
سعيد النورسى
* * *
دفاع "خسرو"
إلى محكمة "آفيون" للجنايات الكبرى:
لقد وجّه المدعي العام تهمتين لي، إحداهما: اتهام عام وكلّي، والأخرى: اتهام خاص.
الاتهام العام: هو سعيي في سبيل "رسائل النور" واشتراكي في الجرم الموهوم المسنَد إلى أستاذي.
أما الاتهام الخاص فهو حول أمور شخصية وخاصة بحياتي التي تتسم بطابع الانزواء ولا تشكل في الحقيقة أي ذنب أو جرم، لأنها مسائل جزئية ولا أهمية لها.
وأنا أقول ردَّاً على اتهام مقام الإدعاء حول اشتراكي في الجرم الموهوم لأستاذي وحول بذلي الخدمات في سبيل "رسائل النور":
إنني أشترك في مسلك أستاذي بل أشترك معه وأساعده بكل روحي وقلبي في الجرم الموهوم المسنَد إليه في موضوع "رسائل النور" التي تؤدي خدمات مقدسة للعالم الإسلامي، ولاسيما لهذا الوطن ولهذه الأمة، وسأظل أحمد اللّٰه تعالى وأشكره حتى آخر عمري لتوفيقه إياي لهذه الخدمة الإيمانية.
هيئة المحكمة الموقرة!
إنَّ أبلغ دليل للنجاح الذي رأيناه جراء خدمتنا لـ"رسائل النور" هو أنه بينما كان خطي في كتابة حروف القرآن رديئاً جداً ، إلاّ أنه قد تحسن تحسناً يفوق قدرتي وإمكانياتي، حيث استطعت كتابة ثلاث نسخ رائعة لا مثيل لها من القرآن الكريم، إحداها بين أيديكم.
الدليل الثاني:
هو أنني وُفّقت إلى كتابة ما يقارب ستمائة رسالة من "رسائل النور" التي حققت منافع كبيرة جداً لهذا الوطن ولهذه الأمة وللدين وللأخلاق الحسنة منذ عشرين عاماً. حتى إن أصدقائي يعلمون بأنني وفّقت إلى كتابة أربع عشرة رسالة في مدة قصيرة بلغت شهراً واحداً. وأنا أرى أنه من الفضول القيام بالدفاع عن النقاط التي توهمها
مقام الإدعاء جُرماً لي في خدمتي لأستاذي وهو يؤدي مهمته المقدسة، لأنني أصادق وأوافق بكل ما أملك من قوة على كل ما جاء في الدفاع الذي كتبه أستاذي، وفي تتمة دفاعه وأعُدّه دفاعاً لي وأقدمه إلى محكمتكم السامية على هذا الأساس.
هيئة المحكمة الموقرة!
إنَّ أستاذي -الموجود حالياً في محكمتكم- بمؤلفاته المباركة حول الإيمان وحقائق القرآن وبرسائله النورانية لم يقصد أية بغية دنيوية ولا أي قصد سياسي، فأنا وأصدقائي إذ نؤيد أستاذنا ونبارك له خدماته المقدسة التي قدمها لهذا الوطن ولهذه الأمة فإننا نقول بأنه حتى الوطنيين في حكومة "الاتحاد والترقي" أيدوا هذا، فنراهم يخصصون تسعة عشر آلاف ليرة ذهبية لأجل تمكينه من بناء مدرسته المسماة "مدرسة الزهراء" في مدينة "وان" وقد أعجب حتى محبو الوطن بوطنية أستاذنا وبحميته الملية وبخدماته العلمية وأيدوها، لذا نرى أن مائة وستين نائباً من مجموع مائتي نائب يوقعون بالموافقة على تخصيص مائة وخمسين ألف ليرة لدار الفنون (الجامعة).
إنني أود أن أعرض على محكمتكم الموقرة وأن أعلن بأنني فخور جداً بالخدمة التي أديتُها لـ"رسائل النور"، بكوني مستنسخاً لها طوال عشرين عاماً، هذه الخدمة التي عدّها مقامُ الإدعاء جُرماً وذنباً لي، ذلك لأن أستاذي -بارك اللّٰه فيه- عمل طوال حياته لأداء خدمة مقدسة أراد فيها وضع اللبنات لسعادة هذا الوطن وهذه الأمة، وهذا هو السبب في أن أكثر حسّاده وأعدائه ضراوةً والذين كانوا يسعون لإدانته في المحاكم لم يستطيعوا التعرض لكلماته الشديدة والمؤثرة ولم يكن أمامهم سوى التسليم بما يقول.
الموقوف
خسرو آلتن باشاق
* * *
دفاع طاهري
إلى محكمة "آفيون" للجنايات الكبرى:
لقد تم تبليغي من قبل مقام الإدعاء العام لمحكمة "آفيون" بأن التهمة الموجهة لي ولأستاذي "بديع الزمان سعيد النورسي" ولأصدقائي الآخرين هي استغلال الشعور الديني لتحريض الشعب للإخلال بأمن الدولة، وأن هذا هو سبب تقديمي للمحكمة.
لقد أجبت عن جميع الأسئلة التي وجّهت إليّ (سواء في محكمة صلح "إسبارطة" أم في دائرة التحقيق في "آفيون") إجابات صحيحة. ولقد قامت محكمة "دنيزلي" بإعادة جميع كتبنا المصادَرة وذلك بعد أن أصدرت قرارها بتبرئتنا، ولم تعاقبنا. لأننا -مع إخوتنا الآخرين من طلبة أستاذي "بديع الزمان"- كنا نقرأ ونستنسخ "رسائل النور" ونتراسل بيننا، مع أنني قمت قبل ست سنوات -ودون إذن من أستاذي- بطبع خمسمائة نسخة من رسالة "الشعاع السابع" لبديع الزمان في مطبعة في "إستانبول" بالأحرف القديمة. فقد قامت محكمة "دنيزلي" بقرارها المؤرخ في 20/7/1945 بإعادة جميع هذه الكتب بصناديقها إلينا، وعند ذلك تم توزيع هذه الرسائل -مقابل ثمن طبعها- على طلاب النور الذين كانوا في شوق إليها.
وهكذا، واستناداً إلى الحُكم الذي اكتسب صورةً قطعية بقرار التمييز الذي صدر عن هذه المحكمة الموقرة، فقد قمت قبل سنتين بجلب الأوراق وجهاز الاستنساخ "رونيو" من "إستانبول" إلى "إسبارطة".
وقد قام أخي "خسرو آلتن باشاق" بكتابة مجموعتين من المجموعات الثلاثة الموجودة بين أيديكم. أما المجموعة الثالثة فقد قمت أنا بكتابتها. قمنا أولاً بطبع مجموعة "ذو الفقار" و"المعجزات القرآنية" و "المعجزات الأحمدية" وبعنا بعضها واشترينا من هذا المبلغ الأوراق اللازمة لمجموعة "عصا موسى" وتم طبعها، ثم اشترينا الأوراق لمجموعة "سراج النور" وطبعناها. وقد استغرق هذا مدة سنة واحدة. وعندما قمت بنقل ثلاثين مجموعة إلى "أكريدر" قبضوا عليَّ وسلَّموني إلى الجهات العدلية في "أكريدر" ولم تمض مدة طويلة حتى دوهم بيت "خسرو آلتن باشاق" من قبل الجهات العدلية لمدينة "إسبارطة" حيث صودر جهاز "الرونيو" ومجموعات "رسائل
النور" وقُدّمنا إلى المحكمة قبل سنة، وفي النتيجة أُصدر علينا -خسرو وأنا وصديق آخر معنا- الحُكم بالحبس لمدة شهر واحد لقيامنا دون إذن رسمي بطبع كتب دينية غير ممنوعة. فقمنا بتمييز هذا القرار، وقبل أن تظهر نتيجةُ التمييز جيءَ بي إلى سجن "آفيون".
وهكذا يراد في محكمتكم الموقرة إيقاع العقوبة بي لأنني قدمت هذه الخدمة لديني ولإخواني في الدين، وذلك للمسائل الواردة في رسالة "الشعاع الخامس" -التي كانت المحكمة قد أعادتها لنا- والتي تحتوي على شرح لبعض الأحاديث الشريفة، كما إن المدعي العام لمحكمة "آفيون" اتهمني واتهم مؤلف الرسالة و "خسرو آلتن باشاق" مع ست وأربعين طالباً من طلاب النور بالإخلال بأمن البلاد وبكتابة هذه الرسائل وقراءتها مطالباً بإيقاع العقوبة بنا.
وكمواطن حقيقي في هذا الوطن فإنني سأتكلم في حضوركم دون أن أحيد عن الحقيقة وأقول:
إنني طالب منذ عدة سنوات لأستاذي "سعيد النورسي" الذي أَكنّ له احتراماً كبيراً، فقد ربَّانا برسائله وهذَّب أخلاقنا الدينية ورقّاها، ومع أننا ننظر إليه بصفة "مجدد" إلاَّ أنه يرفض هذا ويردّنا. وأنا أشهد عن يقين بأنه لا توجد عنده ولا في رسائله ولا عند طلابه أية محاولة للقيام بإخلال أمن البلاد، ولاسيما إن أحد الاتهامات الموجهة إلينا كان بخصوص أثمان الكتب، وعندما اطلعت محكمة "إسبارطة" على الحقيقة في هذا الخصوص عن قرب لم تصدر بحقنا أية عقوبة، ذلك لأننا لا نحتاج في معيشتنا إلى أثمان هذه الكتب أبداً ولا نعتاش عليها. ونحب أن نقول لمحكمتكم الموقرة بأنها مقابل أثمان جهاز الاستنساخ "الرونيو" وأثمان الورق والحبر.
إنَّ جهودنا هذه وخدمتنا النابعة من نيات صافية وفي سبيل اللّٰه تعالى لا يمكن أن تشكل ذنباً أو جُرماً، لذا نطلب من محكمتكم الموقرة ومن ضمائركم الحية إعادة "رسائل النور" إلينا.
الموقوف
طاهري
* * *
دفاع زبير
هيئة محكمة "آفيون" للجنايات الكبرى!
إنني متهم بتهمة تشكيل جمعية سرية وبالإخلال بأمن الدولة، ولأنكم سوف تقتنعون بما سأعرضه عليكم أدناه اقتناعاً كاملاً بأنني لم اقترف مثل هذا الجرم فإنني أردُّ هذه التهمة منذ الآن.
أجل، إنني طالب من طلاب النور.. أقول هذا وأعلنه بكل سرور وقناعة لأن إنكار هذا الأمر يتناقض تماماً مع دروس الفضيلة التي لقنتني إياها "رسائل النور"، لذا فلست مستعداً لاقتراف هذا الجرم، إنَّ الشخص الذي يقرأ "رسائل النور" على الدوام لا يمكن أن يخفي قراءته هذه، بل على العكس من ذلك فإنه يفتخر بهذه ويعلنها دون تردد أو خشية، ذلك لأن "رسائل النور" لا تحتوي على أية جملة بل على أية كلمة توجب الخشية أو التردد.
كنت قد حاولت بيان قيمة "رسائل النور" في كراسة تتألف من أربعين إلى خمسين صفحة.. لا أقول بأنني مدحتها.. ذلك لأنني لست قادراً على إيفاء جزء صغير من "رسائل النور" حقها فكيف بكل هذه الرسائل؟
ذلك لأنَّ هذه الرسائل تفسير حقيقي للقرآن الكريم الذي هو عقل الكون وشمسه التي نورت وأضاءت طريق البشرية وهدتها وأرشدتها منذ ما يزيد على ألف وثلاثمائة سنة. وكما ذكرت، فإن وجدتم موضعاً أياً كان حول الجمعية السرية في المؤلفات التي حاولت بيان قيمتها، يمكنكم إيقاع العقوبة بي لكوني آنذاك مروِّجاً لمؤلفات ضارة. ولكن "رسائل النور" هذه التي أُلّفت بشكل رائع وغير مسبوق والتي حازت على رضى الشخصيات العلمية وتأييدهم، والتي تملك قدرة إصلاح مجتمع فاسد وتملك قابلية إرشاد إنسان القرن العشرين وإنقاذه من الضلالة ومن المادية ومن الإلحاد ومن عبادة الطبيعة ومن حياة السفاهة ومن ظلمة الأفكار الدامسة التي تفضي إليها هذه المادية، وتفتح الرسائل بفيض من القرآن الحكيم ونور منه، أبوابَ السعادة الأبدية والسلامة الأبدية للبشرية. فإذا لم يكن في كليات "رسائل النور" أي موضوع يؤيد
التُهم المسنَدة إليها، فإن صدور أي عقاب ضدي يعد تناقضاً مع أسس العدالة، وهذا -حسب قناعتنا- هو ما ستراه محكمتكم وستقبله.
لقد قيل في أثناء استجوابي: يُقال إنك من طلبة "رسائل النور"؟ أقول: إنني لا أجد في نفسي لياقة لكي أكون طالباً لأستاذ عبقري مثل "بديع الزمان سعيد النورسي". فإن قَبِل هو هذا فإنني سأقول بكل فخر: أجل!.. إنني من طلاب "رسائل النور".
كثيراً ما تعرض مؤلف "رسائل النور" -أستاذي الذي لا مثيل له "بديع الزمان سعيد النورسي"- إلى افتراءات من قبل أعدائه الخفيين وسِيق إلى المحاكم، ولكنه بُرئ من قبل جميع هذه المحاكم، وقد قامت هيئة مؤلفة من الأساتذة ومن علماء الإسلام بتدقيق كل سطر بعناية في المجموعة الكاملة لـ"رسائل النور"، واعترفوا في تقاريرهم بان هذه الرسائل مؤلفة عن علم كبير وأنها تفسير حقيقي للقرآن الحكيم. فإذا كانت هذه هي الحقيقة فلماذا يُساق إلى المحكمة مرة أخرى؟.. سأقول لكم قناعتي التامة حول هذا الأمر:
إنَّ الذين يقرأون "رسائل النور"، ولاسيما من الشباب الواعي يكتسبون إيماناً قوياً. فيصبح متديناً تديناً لا يهتز ولا يتوانى عن أية تضحية، ويكون مُحبَّاً لوطنه. وعندما يوجد إيمان صلد في أي موضع كان فلا يكون هناك مجال للسفاهة وللسقوط الأخلاقي الذي يكون نتيجة طبيعية لبعض الإيديولوجيات الضارة. وكلما زاد عدد المتسلحين بهذا الإيمان القوي ضاق المجال أمام توسع الماسونية والشيوعية. إن "رسائل النور" تقوم -استناداً إلى آيات القرآن الكريم- بالبرهنة على مدى زَيف الفلسفة المادية التي يستند إليها الشيوعيون وذلك ببراهين وحجج قوية وتبرهن مدى بعدها عن الحق وعن الحقيقة ببراهين عقلية وفكرية ومنطقية فتنير بذلك أذهان الذين سقطوا في ظلمة هذه الفكرة الفاسدة وتنقذهم. وتقوم بإثبات وجود اللّٰه للماديين الذين لا يؤمنون إلا بما يشاهدونه بأعينهم بأدلة قوية يستحيل إنكارها أو الاعتراض عليها.
إنَّ هذه الرسائل تستقرئ نفسها على طلاب الثانوية وعلى طلاب الجامعة بما تتمتع به من أسلوب أخاذ وأصيل ومن أدب راقٍ.
ولهذا فقد أدرك الشيوعيون والماسونيون أن "رسائل النور" تشكل عائقاً قوياً أمام أفكارهم السامة، لذا فإنهم يتوسلون إلى مختلف الافتراءات والدسائس لكي يزيلوا "رسائل النور" ويمنعوا قراءتها لأنها مستند قوي ومنبع ثرّ للإيمان لكونها تفسيراً حقيقياً للقرآن الكريم. ومع أنه لم تظهر هناك أية أمارة على ما اسندوه إلى "رسائل النور" كذباً، فإنهم مستمرون على هجومهم.
ويظهر من هذا أنهم يرومون إخافتنا وإبعادنا عن "رسائل النور" ومن جهة أخرى كي يقدموا لنا كتبهم المسمومة. وهكذا يستطيعون محو الإيمان وإزالته من أُمتنا ومن شبابنا لكي يتم الانهيار الأخلاقي. فيضمنوا بذلك سقوط الحكومة سقوطاً ذاتياً ويسلموا وطننا وأمتنا إلى دولة أجنبية، فهذا هو أملُهم. وأنا أودّ أن أعلن في حضور محكمتكم بكل صراحة ودون أي تردد: ليعلم هؤلاء جيداً بل ليرتجفوا خوفاً، ذلك لأننا لن نخشى ألاعيبهم ولا نخشاهم، لأننا رأينا الحق والحقيقة وتعلمناها من "رسائل النور" وآمنا بها.
إنَّ الشباب التركي يقظ غير نائم، وهذه الأمة التركية المسلمة لا يمكن أن تكون خاضعة تحت حُكم دولة أخرى. إنَّ الشباب المسلم الفدائي -استناداً إلى قوة إيمانه اليقيني- لا يمكن أن يسمح ببيع وطنه. إنَّ الأمة التركية المتدينة البطلة والشباب التركي المؤمن لا يمكن أن يجبنا أو يخافا. لذا فإننا نقرأ "رسائل النور" وسنداوم على قراءتها لأنها تسمو بنا إلى أعلى مستوى من الخلق الإنساني وإلى أعلى مراتبها، ولأنها تعلّمنا -نحن الشباب- الدين الذي هو سبب رقيّنا في جميع المجالات، ولأنها تبث فينا محبةَ الوطن ومحبة الأمة وتربينا على القيم الدينية التي تجعلنا نضحي بكل ما نملك في سبيلهما. وكما ذكرت سابقاً فإنني استفدت فائدة كبيرة من "رسائل النور" مع أنني قرأت جزءً يسيراً منها، ولو كنت أَملك ثروة لصرفتها في نشر المجموعة الكاملة لهذه الرسائل التي تحقق فوائد كثيرة جداً للوطن وللامة وللإنسانية جمعاء، ذلك لأنني على أتم استعداد للتضحية بكل ما أملك في سبيل ديني وفي سبيل السعادة الأبدية لوطني ولأمتي وفي سبيل سلامتهما.
كنت أحس فراغاً كبيراً في نفسي ، في روحي، وبينما كنت أبحث عن كتاب لأقرأه وجدت "رسائل النور" التي ما إن قرأتها حتى علمت بأنني لن أستطيع بَعدُ
مفارقتها، إذ أحسست بأنها هي التي تسدُّ هذه الحاجة القلبية لديَّ، لأنني وجدت فيها البراهين والأدلة العقلية والإيمانية المنقذة من الشبه العلمية والإيمانية وتخلصت بذلك من القلق ومن الضيق الذي كانت الشبهات تحدثه وتولده فيّ. وأدركت من هذه الحقائق أن "رسائل النور" كُتبت لإنسان هذا العصر.
لكي يملك الإنسان المزايا السامية كالأدب الجَم والتربية الراقية فإن عليه أن يملك إيماناً قوياً، ولما كانت "رسائل النور" تعرض الحقائق الإيمانية بأدلة غاية في القوة وبأمثلة واضحة. فقد أحسست أن إيماني يقوى كلما قرأتها، وهذا أنقذني من السقوط في هوة الضلالة، وأنقذني من العدول عن ديني الجامع لكل جوانب الحق والحقيقة -وهما أُسس أرقى مدنية- وأنقذني من أن أكون لقمة سائغة يلتهمها الوحش الأحمر. لذا فهي تنقذ قراءها من كثير من المصائب المادية والمعنوية وتعطي لهم عِلماً يفوق العلم الذي يملكه خريج الجامعة، وتبث فيهم حُبَّ الإسلام وحُبَّ الوطن والأمة وتعلمهم إطاعة اللّٰه والعمل الجاد والنشاط والرحمة. فأيما قارئ لها لا يتخلى عنها ولا يغادرها مهما كان الثمن ولا يمكن إخراج مثل هذه المشاعر الخالصة نحو "رسائل النور" من احترام وتوقير من قلب أي شخص مهما كان.
توصف "رسائل النور" من قبل مقام الإدعاء العام بأنها مؤلفات ضارة؛ وأنا أَحتج بشدة على هذه الفرية التي لا يقول بها مَن كان له نصيب من ضمير ووجدان.
ويذكر الإدعاء بأنني كنت أشجع على قراءة "رسائل النور".. أجل!.. هذا صحيح. ولكن قلوب جميع المثقفين دُميت من الافتراء الآخر، بل بُكيت وصُرّتْ أسنانهم.
إنَّ القرن العشرين هو القرن الذي تسود فيه الأفكار المدللة عليها بالبراهين، إذ لا يلتفت أحد إلى أي شيء ولا يمكن الإيمان بأي شيء دون دليل ودون برهان، لذا نطلب من مقام الإدعاء إثبات أن "رسائل النور" كتب ضارة.
من بين المقاصد والغايات ما يشيعه الأعداءُ الخفيون من افتراءات هو كسر التساند والرابطة فيما بيننا، النابعة من مشاعر الحب والاحترام والتراحم للأخوة التي تربط بين قراء "رسائل النور" الذين ارتبطوا بروابط الإسلام من أجل خدمة القرآن فقط وليس من
أجل أي هدف آخر.. إذا كانت هذه هي غايتهم.. فهم واهمون وعبثاً يحاولون. وأنا -باعتباري أكثر قراء "رسائل النور" عامية وأقلهم فهماً وفي الصفوف الخلفية منهم- أقول جواباً لهؤلاء:
لو كان أحدنا في الشرق والآخر في الغرب.. لو كان أحدنا في الشمال والآخر في الجنوب.. لو كان أحدنا في الآخرة والآخر في الدنيا فإننا جميعاً معاً، ولو اجتمعت قوى الكون لما استطاعت أن تبعدنا عن أُستاذنا "سعيد النورسي" ولا عن "رسائل النور" ولا أن تفرق فيما بيننا.
ذلك لأننا نخدم القرآن، وسنظل نخدمه، ولأننا نؤمن بحقيقة الآخرة. فإنه ما من قوة تستطيع قلع هذه المحبة وهذا التساند المعنوي فيما بيننا، ذلك لأن المسلمين جميعاً سيجتمعون في دار السعادة الأبدية.
دعوني أذكر لكم -إنْ سمحتم- الحقيقة المهمة التالية باسم أمن وسلامة وطننا وأمتنا:
إنَّ من ضمن الخطط السرية للشيوعيين هو تحريض الشعب ضد الحكومة، بجانب التقارير المزيفة الكاذبة التي تقدم للمسؤولين في الحكومة لإيداع "بديع الزمان سعيد النورسي" في السجن وإظهار أن مؤلفاته ضارة، فإن هناك محاولات لترويج دعايات كاذبة لا يصدّق بها أي فرد من أفراد الشعب.
ولأنَّ هذه الأمة مقتنعة تماماً ومنذ سنوات عديدة أن "بديع الزمان سعيد النورسي" عبقري نادر من عباقرة الإسلام في هذا العصر، وأن له شخصية فذة من جميع الأوجه، فإن من المستحيل على أية دعاية أن تقضي على هذه القناعة الصحيحة أو أن تفسدها.
إنني أحمد اللّٰه سبحانه وتعالى وأُثني عليه بما يَسَّر لي بلطفه الاستفادة من مؤلفات أُستاذ كبير، وأنا مَدينٌ من كل قلبي ومن كل كياني لهذا الأستاذ. حيث إنني أخذت دروساً قيّمة حول الإيمان وحول الإسلام. وأنا أتقبل بكل رحابة صدر البقاء في السجن سنوات عديدة من أجل هذا الأستاذ الفاضل الذي قضى سنوات عديدة وشاقة وهو يكتب ويؤلف لكي ينقذ شبابنا من أن يكون طُعمة للشيوعية وأن يكون السجن الانفرادي الأبدي مصيرهم.
منذ عشرين عاماً تقوم "رسائل النور" -التي هي تفسير للقرآن الكريم- بإعطاء دروس الإيمان والإسلام والفضيلة إلى ملايين الأفراد، وتقيهم من الإلحاد، فلو حُكم عليَّ بالإعدام في سبيل هذه الرسائل لأسرعت إلى المشنقة وأنا أهتف: "اللّٰه.. اللّٰه.. يا رسول اللّٰه".
إنَّ "رسائل النور" التي تصون شبابنا من الوقوع في أحضان الشيوعية والخروج من دينه والسقوط في مهاوي البلايا والمصائب التي تؤدي به إلى خيانة الوطن التي لا عقاب لها إلاّ الإعدام رمياً بالرصاص.. إنني مستعد أن يُحكم عليَّ بالإعدام رمياً بالرصاص من أجل "رسائل النور" هذه، وأن أبرز صدري لتلك الرصاصات دون خوف أو تردد، ولو قطّعوني بالخناجر إرباً إرباً في سبيل أستاذي "بديع الزمان" لدعوت اللّٰه أن يجعل دمائي المتناثرة حوالي تكتب: "رسائل النور.. رسائل النور".
هيئة المحكمة الموقرة!
إنَّ قراءة "رسائل النور" وتحصيل العلم فيها شيء مبتكر وأصيل في الحقيقة ولا يوجد ما يشابهه؛ ذلك لأنَّ أي تحصيل علمي آخر تكون الغاية من الاستمرار فيه هي المنفعة المادية أو الحصول على موقع ما. أي أن الدوام لهذه الدروس لا تكون عن رغبة بل في الغالب للحصول على منافع مادية أو على شهرة. أما "رسائل النور" فتشبه جامعة حرة غير منظمة، والذين يداومون في هذه الجامعة بقراءة "رسائل النور" لا يبتغون أي هدف دنيوي بل يبتغون خدمة الإيمان والقرآن فقط لا غير.
ومع هذا فإن "رسائل النور" التي هي مؤَلَّف علمي وإيماني جاد، تُقرأ بكل شوق وبكل لهفة، وتُقرأ بمتعة وسرور كبيرين إلى درجة أن قرّاءها الصادقين يحسون برغبة لقراءتها مرات عديدة. وأن الذين استنسخوا "رسائل النور" وقرأوها عندما سيقوا إلى المحاكم وأصبحت حياتهم في خطر، فإنهم اعترفوا بقراءتهم لها وبعزمهم على دوام قراءتها، ولو أيقنوا أن قرار الإعدام سيصدر بحقهم لما تزحزحوا عن موقفهم الثابت هذا. وهذه الخاصية الموجودة في "رسائل النور" ضمن صفاتها الخارقة للعادة، لابد أنها تجعلكم تتساءلون:
"أ أرواح هؤلاء المعترفين رخيصة عليهم إلى هذا الحد؟".
إذن فهناك حقيقة سامية في "رسائل النور" وفي "بديع الزمان"، ولابد من عدم وجود أمور ضارة في هذه المؤلفات، لأنهم لم ينكروا قراءتها.
إنَّ طلاب المدارس يدرسون دروسهم لوجود قوة تفرض عليهم النظام والدراسة، أما "بديع الزمان" فلم يجبر أحداً على قراءة "رسائل النور"، ولكن هناك مئات الآلاف من القراء أكثرهم لم يشاهدوه ولكنهم متعلقون به برابطة قوية لا تنفصم وارتضوا لأنفسهم أن يكونوا طلبة لـ"رسائل النور" وأن يتلقوا دروسهم عنها.
إنَّ مثل هذا النظام الرائع وغير الاعتيادي للتدريس لم يشاهَد لا في التاريخ القديم ولا في التاريخ المعاصر ولم يُشاهَد في أية جامعة.
قال لي السيد المدعي: "إنَّ الاحترام الذي تبديه نحو "بديع الزمان" لا تبديه نحو المفسرين الآخرين".
وهذا صحيح.. فإن الاحترام والتوقير يتناسب مع درجة الكمال، والمنّة والشكر يتناسب مع مقدار الفائدة المستحصلة، فإن عِظَم الفائدة المستحصلة من مؤلفات "بديع الزمان" لا نراه في غيرها.
إنَّ الماسونيين والشيوعيين يحاولون ألاّ نعرف وألاّ يعرف شبابُنا خاصة "بديع الزمان" الذي يُعَدُّ من أكبر المؤلفين والمفكرين المسلمين في القرن العشرين. ولكن الشباب التركي المسلم والأمة الإسلامية وشبابها الواعين عرفوا هذا الأستاذ الرائد واستفادوا منه وجعلوا غيرهم أيضاً يستفيدون منه.
وهذا هو السبب في أن الارتباط القوي نحو "بديع الزمان" والثقة به لا يمكن أن تهتز أو تنفصم.
ولكون "رسائل النور" تقوم بتفسير آيات القرآن الحكيم بمهارة فائقة وبلغتنا التركية دون أن تفقد هذه الآيات خصوصيتها التي تعد أكبر معجزة لها، فإن جميع طبقات الشعب رجالاً ونساءً، موظفين وأصحاب حِرف، علماء وفلاسفة يستطيعون قراءتها والاستفادة منها. ومن جراء الفوائد التي يرونها فيها -كل حسب استعداده- يزداد
تعلقهم بها. فالجميع يقرأونها.. طلاب الثانوية وطلاب الجامعة وأساتذة الجامعة والفلاسفة، وفضلاً عن استفادة هذه الطبقة المثقفة فإنهم يتفقون ويجمعون على روعة بيان التأليف وأسلوبه في "رسائل النور" فيزداد شوقهم لقراءة المجموعة الكاملة لهذه الرسائل.
إنَّ جميع من تعرّف حديثاً على "بديع الزمان" وعلى "رسائل النور" من أصحاب الإدراك السليم يأسفون على عدم معرفتهم لها في السابق، ولكي يعوّضوا عن المدة التي فقدوها وتأخروا فيها، نراهم يستغلون الفرص المناسبة -وإن كانت خمس دقائق- ليقرأوا "رسائل النور" باستمرار. ولم تشاهد مثل هذه الرغبة الشديدة ومثل هذا التعلق الشديد بمؤلفات أي عالم اجتماعي أو عالم نفسي أو فيلسوف، إذ لا يستفيد من هؤلاء سوى الأشخاص المتعلمين. فعندما يطالع طالب في مدرسة متوسطة، أو امرأة تعرف القراءة كتاباً لفيلسوف ما، فإنهم قد لا يستفيدون منه، ولكن الجميع -كل حسب قابلياته- يستفيدون من "رسائل النور". لذا فإن هناك أمة كاملة تنتظر بلهفة قراركم بتبرئة "بديع الزمان" و"طلاب النور". ولو لم يقم "سعيد النورسي" بتلقين طلابه دروساً في الصبر والتحمل لدى أوقات المحن والشدائد -مثلما جمع طلابه عندما كان قائداً للحامية الفدائية في أثناء الحرب- فإن آلافاً من طلاب النور كانوا سيضربون خيامهم على تلول مدينة "آفيون" ينتظرون فيها قرار البراءة من محكمة الجنايات الكبرى في "آفيون".
لم يستطع أحد حتى الآن إثبات: أن نشاط "سعيد النورسي" ونشاط طلاب النور يدخل من الناحية القانونية في إطار نشاط جمعية سرية. فلماذا لا يمكن إثبات ذلك؟ أ فيعجز شخص يُعدّ رجل قانون مختص ارتقى حتى وصل إلى مقام الإدعاء العام عن إثبات ذلك قانونياً؟ كلا.. إنه ليس عاجزاً عن ذلك أبداً. ولكن نظراً لعدم وجود تشكيلة لجمعية سرية فإنه لا يكون بوسع أحد أن يثبت وجود مثل هذه الجمعية.
لقد قال المدعي العام في البداية: "طلاب النور ليسوا جمعية" فكان رأيه هذا وحُكمه صائباً وضمن الإطار القانوني، ولكنه عاد بعد قليل -ولا أحد يدري لماذا- وقال: "إنهم جمعية".. وهذا تناقض، ولا شك أنه رأيٌ له لا حُكم. ونحن على يقين بأن هيئة المحكمة تدرك هذه الحقيقة إدراكاً تاماً وأنها ستقرر أنه "لا توجد جمعية سرية تؤلف بينهم".
أيها الحكام المحترمون!
لو كان من عادة القلب أن تتقطع في موقف الحزن والأسى لكان من المفروض أن يتمزق القلب إلى عدد ذراته أسىً ولوعة أمام خبرٍ عن شاب سقط في هاوية الإلحاد.
وهكذا فإن قرار التبرئة الذي سيصدر عنكم سيكون وسيلة فعالة لإنقاذ شباب الإسلام والعالم الإسلامي من هذه الآفة الرهيبة، وهذا هو أحد الأسباب التي تربطني برباط لا ينفصم مع "بديع الزمان" ومع مؤلفاته.
إنَّ القرار الذي ستصدرونه لتبرئة "رسائل النور" والسماح بتداولها سينقذ الشباب التركي والمسلمين من مصيبة الإلحاد، ذلك لأنَّ "رسائل النور" التي هي خزينة الحقائق السامية ستُعرف وستشتهر في يوم من الأيام في جميع أنحاء الدنيا دون شك. وعلى هذا الأساس فسوف تكونون محط تقدير الإنسانية جمعاء، وستكون الأجيال الحالية وأجيال المستقبل شاكرة لكم لقراركم بالبراءة، وستذكركم هذه الأجيال بكل تقدير كلما قرأت "رسائل النور" واستفادت من فيضها العظيم.
وعندما أقول لكم بكل إخلاص هذه الكلمات فأرجو أن لا يذهبن بكم الظن إلى أنني أنافق أو أتملق.. أبداً ومطلقاً.. ذلك لأنني لا أخشى من أحد ولا أرهب أحداً في المحكمة التي تحاكم "بديع الزمان".
ولكني أرجو منكم أن تسمحوا لي ببيان قصير:
إن استمر المدعي في كيل هذه التهم الشنيعة بحق "رسائل النور" وبحق مؤلفها وقرائها مع أنها -"رسائل النور"- تُعد علاجاً مؤثراً ضد الشيوعية وضد الماسونية في هذا الوطن المبارك، وإذا لم يتخل عن اتهاماته الخاطئة تماماً وسائر انفعالاته الشخصية وعواطفه الذاتية فإنه يكون بذلك عوناً للماسونية وللشيوعية وعوناً لترعرعهما وانتشارهما.
* * *
جزء من اللائحة المقدمة إلى محكمة التمييز
إنَّ "رسائل النور" تقوم -عن طريق البرهنة- بتقوية الإيمان المتضعضع للذين تؤثر فيهم شبهات تبثها منشورات منظمات الإلحاد.
إنَّ سراً دقيقاً من أسرار تعلق الشباب وتمسكهم بـ"رسائل النور" وكأنَّ بهم مَسّ من كهرباء هو الآتي:
لقد قام "بديع الزمان سعيد النورسي" منذ سنوات عديدة بإنكار ذات وتضحيات لا مثيل لها وفي زمن شيخوخته ومرضه -أي في مرحلة يحتاج فيها إلى الرعاية وإلى الاهتمام- وبصبر وتحمل لا يوصفان أمام جميع أنواع الاضطهاد والتعذيب من قبل أعدائه المتسترين من الماسونيين والشيوعيين ومن الذين انخدعوا بهم. وعَلِم بثاقب بصره وأدرك بملاحظته الواقعية المؤامرات المدهشة الخفية، والدسائس المرعبة والخطط المحاكة ضد الإيمان وعرف كيف يحبط هذه الخطط بمؤلفاته الإيمانية.
لكن أليس من المحزن، و أليس من المؤلم أن يقاسي هذا الرائد الإسلامي وهذه الشخصية الكبيرة الفذة من عذاب السجون منذ خمسة وعشرين عاماً ومن الحبس الانفرادي التام وأن يحاول القضاء عليه؟
ولكن وإن قاسى مؤلف "رسائل النور" وعوقب نتيجة للأوهام الناشئة من إهانات الشيوعيين ودسائسهم فإن الإقبال المتزايد على قراءة "رسائل النور" بكل شوق سوف يدوم ويستمر.
إنَّ أول دليل وأكبره هو أن الشباب الذي قرأ رسالة "عصا موسى" التي استنسخت بالأحرف الجديدة، بدأوا بتعلم القراءة بأحرف القرآن لكي يستطيعوا قراءة الرسائل الأخرى، وهكذا هدموا سداً كبيراً وهو الجهل بخط القرآن الكريم، هذا الجهل الذي كان مانعاً وعائقاً أمام تعلم الكثير من العلوم، وإجبارهم على قراءة كثير من الكتب التي كتبت لإبعاد الناس عن الدين والإيمان. وحينما يقبل شباب أية أمة على القرآن وعلى العلوم التي تتنور منه، ويتجهز بهذه العلوم ويتسلح بها فمعنى ذلك أن تلك الأمة بدأت تسير في طريق الرقي والتقدم. إن الشباب الظامئة أرواحُهم إلى
الإيمان وإلى الإسلام قد بدأوا بملء أرواحهم بفيوضات "رسائل النور" التي هي تفسير للقرآن الكريم، وبذلك فإن الشباب الذي سيملك إيماناً يقينياً وعن علم سيجاهدون الإلحاد والشيوعية، ولن يسمحوا أبداً ببيع أوطانهم إلى أعداء الإسلام. لذلك فإن استطاع الشيوعيون أن يفنوا ويقضوا على الورق وعلى الحبر لقام شباب مثلي أو شيوخ بفداء أنفسهم لأجل نشر "رسائل النور" التي هي خزانة الحقائق، حتى وإن اضطروا إلى أن يعملوا من جلودهم ورقاً ومن دمائهم حبراً.
نعم، نعم، نعم.. ألف مرة نعم.
يقول المدعي العام ضمن اتهاماته: "لقد قام "سعيد النورسي" بتسميم أفكار شباب الجامعة بمؤلفاته". ونحن نقول رداً على هذا:
"لو كانت "رسائل النور" سمّاً، فإننا في حاجة إلى أطنان من هذا السم وإذا كان يعرف مكاناً يكثر فيه هذا السمّ فليرسله إلينا على جناح السرعة".
وعندما نتعرض -نحن طلاب النور- إلى ظلم الظالمين ونحن نؤدي خدماتنا في سبيل الإيمان والإسلام فإننا نفضل أن نسلم الروح في السجون وعلى أعواد المشانق وليس على فراش الراحة. لأننا نعدّ الموت ظلماً في السجون -بسبب خدمتنا القرآنية- فضلاً إلهيا كبيراً، ونفضل هذا الموت على العيش في حياة ظاهرها الحرية وباطنها وحقيقتها استبداد مطلق.
الموقوف في سجن آفيون
زبير كوندوز آلب
من ولاية قونية
ملاحظة:
بعد إرسال هذا الدفاع ولائحة الدفاع المقدمة إلى محكمة التمييز، أرسلت رئاسة محكمة التمييز برقية طلبت فيها إطلاق سراح "زبير" من السجن فوراً.
* * *
دفاع مصطفى صونغور(*)
إلى محكمة "آفيون" للجنايات الكبرى:
طلب مقام الإدعاء إيقاع العقوبة بي أيضاً بتهمة انتسابي لجمعية النوريين وقيامي بتحريض الشعب ضد الحكومة.
أولاً: لا توجد جمعية باسم جمعية النوريين، ولست منتسباً لأية جمعية من هذا القبيل. إنني منتسب إلى جمعية الإسلام المقدسة والعظيمة.. الجمعية الإلهية والنورانية التي تبشر الإنسانية جمعاء بالسعادة الأبدية وبالسلامة الأبدية والتي وضعها منذ أكثر من ألف وثلاثمائة وخمسين سنة فخر الكائنات محمد صلى الله عليه وسلم والتي لها ثلاثمائة وخمسين مليون منتسب في كل عصر. وقد عقدت العزم -بحمد اللّٰه- بكل قوتي على إطاعة أوامره المقدسة.
أما "رسائل النور" التي اعتبر المدعي تتلمذي عليها ذنباً وجُرماً، فقد علّمتني وظائفي الدينية والإيمانية، وعلمتني أن الإسلام أسمى وأقدس دين وأنه السبيل الوحيد لسعادة البشرية، وعلمتني أن القرآن هو الأمر الإلهي النازل من رب العالمين سبحانه وتعالى، الحاضر الناظر في كل مكان، وأن الوجود بأجمعه بدءً من الذرات وانتهاءً بالنجوم وبالشموس هو تحت قدرته وتحت إدارته الأزلية، وعلمتني أن القرآن معجزة إلهية يحيط نظره بكل الحوادث منذ الأزل إلى الأبد، وأنه أسمى من جميع الكتب، وكتاب معجز من أربعين وجهاً، وكلام أزلي يبشر البشرية جمعاء بالسعادة الأبدية فيجعل المشتاقين إليه يشعرون بعظم المنة عليهم. وأن الرسول صلى الله عليه وسلم المرسل من قبل رب العالمين كان بكل أحواله أكمل الناس جميعاً وأصدقهم وأسماهم في نواحي الكمال، وأنه قدم للناس جميعاً -بنور الإسلام- أكبر بشرى وأقدس سلوان، وأنه أدار بسلطنته المعنوية خُمس نوع البشر منذ أربعة عشر قرناً، ويُكتب في دفتر حسناته جميع ما كسبته أمته من حسنات منذ ألف وثلاثمائة ونيف من السنين، وأنه سبب خلق الكائنات، وأنه حبيب اللّٰه. وعلمتني أن الآخرة والجنة وجهنم حق وحقيقة، وذلك ببراهين وحجج باهرة مستقاة من القرآن المعجز.
أما "رسائل النور" فإنها بكلماتها وجملها تشهد أنها فيض من نور القرآن الكريم ونور محمد صلى الله عليه وسلم. وذلك بانتسابها للقرآن الكريم وكونها تفسيراً خاصاً له، وبهذا الاعتبار فهي سماوية وعرشية.
وهكذا فإن "رسائل النور" -المتهمة بأنها تحرض الناس ضد الحكومة- بكل أجزائها كـ"الكلمات" و "المكتوبات" و "اللمعات" و "الشعاعات" إنما تعطي دروساً حول الحقائق الإلهية وحول الدساتير الإسلامية وحول الأسرار القرآنية. فكيف إذن يُعدّ جُرماً أو ذنباً قراءة "رسائل النور" وهي مؤلفات تعد في الذروة من ناحية تدريسها وتلقينها للأخلاق الفاضلة والحقائق الإيمانية؟ وهل يعد جُرماً أو ذنباً القيام باستنساخ هذه الرسائل التي تهدي إلينا السعادة الأبدية أو جعل أخ مؤمن يستفيد منها من الناحية الإيمانية؟ أ يعد هذا تحريضاً للناس ضد الحكومة؟ وهل زيارة مؤلف مثل هذه الرسائل المباركة الذي بلغ الذروة في الإيمان وفي الأخلاق وفي الفضيلة، أو تكوين أخوة في سبيل القرآن الكريم مع طلاب النور المجهّزين بالإيمان الراسخ وبالعقيدة التي لا تتزعزع والذين أخذوا على أنفسهم حفظ شرف الإسلام وحقائق القرآن في هذا العصر والذين لا هدف لهم سوى اكتساب رضى اللّٰه.. أيعدّ هذا تشكيل جمعية؟ أي ضمير نقي وأي ضمير عادل يستطيع إصدار عقوبة على هذا؟
أيها الحكام المحترمون!
إنَّ "رسائل النور" بجميع أجزائها اعتباراً من "الكلمات" و "اللمعات" وانتهاءً بـ"الشعاعات" التي أقر بها كبار العلماء والتي تهب مرتبة إيمانية عالية وشوقاً إسلامياً كبيراً لمن يقرأها ليست إلا تفسيراً نورانيا للقرآن ذي البيان المعجز، وكل جزء من أجزائها شمس تزيل الأمراض المعنوية وتبدد الظلمات المعنوية. أما أستاذنا مؤلف "رسائل النور" فقد أمضى حياته كلها في سبيل الإيمان وفي سبيل القرآن وتحمّل في هذا السبيل جميع أنواع الأذى والمصاعب، وحاول بنشره هذه الحقائق القرآنية في هذا العصر إنقاذ أبناء هذا الوطن المبارك من الهجوم الشرس للشيوعية ولكل أنواع الإلحاد، وأن الصفحة البيضاء لحياته الخالية من أي نقص تشهد بأنه موظف ومؤهل للقيام حالياً بهذه المهمة المقدسة فهو -حاشاه- لم يلقّنا دروساً غير أخلاقية، ولا دروساً في فن
التخريب، بل لقننا دروساً في إنقاذ الإيمان، وهذا ربما يشكل أكبر غاية وأهم هدف للبشرية على سطح الأرض، إن قيامه منذ ما يقرب من خمس وعشرين سنة بمحاولة إنقاذ إيمان مئات الآلاف من الناس بـ"رسائل النور"، ولاسيما من أمثالي من المساكين الذين لم نكن نعرف شيئاً عن الإسلام وإعطاءنا دروساً في الإيمان الذي هو السعادة القصوى والغاية من الحياة يعد دون شك فضلا إلهياً. ونحن نقول للذين يقلبون الحقائق فينكرون قيامه بهذه الخدمة المقدسة ويرونه خطراً على الحياة الاجتماعية:
إنْ كان ذنباً وجُرماً قيامه بإنقاذ الناس من آفات رهيبة كالتردي الأخلاقي والإلحاد وعدم الإيمان، وإرشاد الناس إلى الإيمان وإلى السير في الطريق الذي رسمه اللّٰه تعالى والدعوة إلى إطاعة أوامر الدين وإسعاد الناس بالسعادة الدائمية للإسلام.. إن كان هذا ذنباً وجُرماً فأنتم تستطيعون آنذاك القول بأنه ضار للحياة الاجتماعية. وإلاّ فإن هذا الإدعاء أكبر فرية وهو جريمة لا تغتفر.
إنَّ "رسائل النور" لا تستهدف الدنيا، بل تستهدف السعادة الأخروية الدائمة وتستهدف نيل رضى اللّٰه الباقي الأزلي الرحيم ذي الجلال الذي لا يشكل الحسن والجمال في الدنيا إلا ظِلاً خافتاً لجماله ولا تشكل لطائف الجنة جميعاً إلا لمعة من محبته سبحانه. فما دام مثل هذا الهدف الإلهي المقدس ومثل هذا الهدف السامي موجوداً، فإنني أبرئ "رسائل النور" وأنزهها ألف مرة من الوقوع في أمور سفلية ومحرمة تؤدي إلى نتيجة كتحريض الناس ضد الحكومة. ونحن نلوذ بحمى اللّٰه تعالى من شرور هؤلاء الذين لا يريدون منا أن نتعلم أمور ديننا ولا أن نخدم إيماننا فيفترون علينا مثل هذه الافتراءات لكي يقضوا علينا.
أيها الحكام المحترمون
لا يمكن أبداً إطفاء نور "رسائل النور". وأكبر دليل على هذا هو أنه رغم المحاولات التي جرت منذ خمس وعشرين سنة للقضاء عليها، فإنها -على العكس من ذلك- انتشرت وسطعت أكثر، ذلك لان صاحبها ومولاها هو اللّٰه ذو الجلال الذي بيده مقاليد كل شيء منذ الأزل إلى الأبد، ولان حقائقها هي الحقائق القرآنية التي تكفل اللّٰه تعالى بحفظها والعناية بها. وستبقى أنوارها تتشعشع على الدوام إن شاء اللّٰه.
أيها الحكام المحترمون!
إنْ كان جُرماً قراءة "رسائل النور" واستنساخها التي تعلمنا الإيمان والإسلام بكل شوق وبكل حُب، والتي لا هدف لها سوى مرضاة اللّٰه تعالى والتي هي تفسير نوراني للقرآن المعجز البيان في هذا العصر، وإن كان إعطاء هذه الرسائل -المشتملة على الحقائق الإيمانية- إلى إخوة مؤمنين جُرماً، وإن كانت الرابطة الدينية والاخوة الإسلامية التي تجمع المؤمنين في سبيل مرضاة اللّٰه وفي طريق القرآن والإيمان والتي تعد من الأوامر القدسية للدين.. إن كانت هذه الرابطة في نظركم تعتبر تشكيل جمعية، فإن من دواعي سعادتي أن أكون منتسباً لمثل هذه الجمعية، وهي سعادة أكبر من جميع المكافآت ومن جميع الأوسمة، وإنني أحمد اللّٰه تعالى حمداً لا حد له لما مَنّ على مسكين مثلي بفضله وبلطفه هذه السعادة الكبيرة عندما جعلني طالباً من طلبة "رسائل النور". وليس لي في الختام سوى القول:
﴿حَسْبُنَا اللّٰهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ﴾
﴿حَسْبِيَ اللّٰهُ لا إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ﴾
المعلم
مصطفى صونغور
* * *
لائحة دفاع مصطفى صونغور في محكمة التمييز
1- لقد عدّت محكمة الجنايات الكبرى قيامي بقراءة "رسائل النور" واستنساخها وإعطاءها إلى أحد الإخوة المؤمنين المحتاجين ليستفيد منها، ذنباً وجرماً لأنني قمت -حسب الإدعاء- بتحريض الشعب ضد الحكومة. علماً بأنني سبق وأن قلت في دفاعي جواباً على هذا الاتهام:
إنَّ "رسائل النور" التي تعدونها تحرض الناس ضد الحكومة ليست في الواقع إلا تفسيراً حقيقياً للقرآن الكريم، فهي -بكل أجزائها- تعطي دروساً في الحقائق
الإيمانية، وتهب لكل من يقرأها أو يستنسخها سعادة كبرى. ولم يكن من هدفها أبداً أمور دنيوية سافلة وفانية كتحريض الناس ضد الحكومة والتي هي من أعمال أصحاب الفتن وأعمال الساقطين، بل هدفها هو نيل رضى اللّٰه وهو أسمى مرتبة للسعادة والحبور. وإنني أفتخر لكوني خادماً عاجزاً وطالباً من طلاب "رسائل النور" التي أكسبتني عند قراءتها واستنساخها أحلى نعمة وأكبر فضيلة وهي نعمة الإيمان وفضيلته. ومع أنني ذكرت أن تتلمذي على "رسائل النور" يعد أكبر فضل إلهي، وإنني أحمد اللّٰه تعالى وأشكره شكراً دائماً إذ أحسن بي هذه النعمة التي أسبغها على شخص فقير ومسكين مثلي، ومع ذلك فقد تم إصدار حكم بعقوبتي لأنهم عدّوا ارتباطي بالإيمان وبالإسلام جُرماً دون أن يستندوا إلى أي قانون وإلى أي دليل فخالفوا الحق والحقيقة مخالفة تامة وصريحة.
2- إنني أشهد أنه عندما كنت أدرس في معهد "كول كوي" في "قسطموني" فإن بعض المعلمين كانوا يلقنوننا دروساً إلحادية ويقولون لنا أن محمداً صلى الله عليه وسلم -حاشاه- هو الذي كتب القرآن الكريم، وأن الإسلام في حكم الملغي، وأن المدنية تسير في طريق التقدم، لذا فإن من الخطأ الكبير ومن الرجعية إتباع القرآن الكريم، حتى إن أحد المعلمين قال لنا في أحد الأيام:
"إن المسلمين يقضون حياتهم في ألم وفي عذاب دائم لأنهم يصلون ويذكرون الآخرة. وأن جواً من الكآبة يسود جوامع الإسلام على الدوام، بينما يقضي النصارى حياتهم في نشوة دائمة وفي جو من الموسيقى واللهو".
لقد كانوا يحاولون أن يقطعوا كل ما يربط بين قلوبنا وبين الإيمان والإسلام من روابط، وأن يُحلّوا فيها بدلاً منهما الكفر والإلحاد. وهكذا فبينما كنت محقوناً بمثل هذه الأفكار المسمومة ومعرّضاً لاغتيال إيماني بهذه الدروس الإلحادية الضارة إلى درجة أنني انسقت في تيار هذه الأفكار وبدأت أنشرها حوالي والعياذ باللّٰه، إذا بي أقرأ بعض "رسائل النور" التي تستمد نورها من القرآن الكريم والتي تعرض حقائق الإيمان وحقائق الإسلام ببراهين ساطعة وأدلة خارقة وتبرهن على أن الدين الإسلامي كان دائماً وسيلة لسعادة الإنسان ولسلامته وانه شمس معنوية لن تنطفئ ولا يمكن إطفاء نورها، وإذا بهذه الرسائل تطرد كل الأفكار المسمومة وتنشر في قلبي الإيمان، وفي
ظل هذا الفرح الغامر والسعادة اللانهائية عرضت حالي على الأستاذ "بديع الزمان" مؤلف هذه الرسائل والشخص المشفق الوفي والرائد الحقيقي وكيف أنني نجوت من حياة الغفلة والضلالة ورسوت على شاطئ الإيمان والنور، وكيف أن "رسائل النور" التي تكسبنا الإيمان الحقيقي تعد شمس الهداية لجميع الناس في هذا العصر ووسيلة سعادة لهم. وأنه بقيامه بتأليف هذه الرسائل ووضع نفسه في مثل هذه المهمة المقدسة إنما يقوم بخدمة إيمانية عظمى، وأنه بذلك يُعدّ نعمة إلهية كبيرة للبشرية جمعاء ولاسيما لأهل الإيمان، وأعلنت له عن أسفي الشديد وعن ألمي البالغ وعن نفوري الشديد لما تقدم به بعض العصابات الخفية من أتباع "الدجال السفياني" من اعتداءات شنيعة على القرآن وعلى الإسلام وكيف أنهم -كما ذكرت آنفا- يزيّنون الإلحاد لأبناء هذه الأمة الإسلامية البطلة ويحاولون هدم الأسس الإسلامية الإلهية المقدسة التي ترتبط بها الملايين من الناس ويسعون إلى هدم سعادتهم الأبدية. وأبديت له أسفي البالغ ونفوري الشديد من هؤلاء المجانين الذين يصفقون لهؤلاء المفسدين ويهللون لتخريباتهم الظالمة والدنيئة. وخاطبت أصدقائي في الدراسة الذين داخلهم الشك قائلاً: هلموا لنتخلص من أهواء النفس هذه، ولنركع أمام حقائق القرآن، ولنسرع إلى مدرسة النور المرشدة في هذا العصر إلى طريق السعادة ولنترك أكاذيب هؤلاء السفهاء الكذابين .. هذه الأكاذيب التي سمعناها أشهراً وسنين وصفقنا لها والتي قدموها لنا وكأنها هي الحقيقة نفسها ولنجعل "بديع الزمان سعيد النورسي" أستاذاً لنا ونتمسك بدروسه بكل قلوبنا لكي نخرج من الظلمات إلى النور.. أليس هذا الخطاب نابعاً من الفرحة التي استمدها من إيمانه ومن حب القرآن والإسلام والتمسك والاعتصام بهما ومن الحب الكبير الذي يُكنّه لأمته ومن الرغبة في أن يكتسب كل شخص إيماناً حقيقياً لكي ينال السعادة اللانهائية؟.
فهل الانتساب إلى اللّٰه والنظر إلى الإسلام كأسمى دين وكمنبع للفضيلة وبشارة للسعادة وإعلان ذلك يُعدّ جُرماً؟.
في هذا الزمان بدأ هجوم هدَّام ومدمر على الإسلام وعلى القرآن من جميع الجهات وبدأت الافتراءات تكال للقرآن وللنبي محمد صلى الله عليه وسلم ومحاولة النيل من تلك الذات السامية الرفيعة، في حين تسمح بالكتب التي تنفث سموم الإلحاد والانسلاخ من الدين والأخلاق، وتكال المدح والثناء لشقاة من أعداء للإسلام تافهين عصاة للّٰه
وتذكر أعمالهم غير المشروعة المبتدعة بالإعجاب والتقدير، وتهمل سمو القرآن وعلوه ورفعة شأن الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم وأحقيتهما، علماً أن "رسائل النور" تبين وجود اللّٰه تعالى وتبين أن موجودات هذا الكون بأجمعها تشهد على وحدانية خالقها وأنه واجب الوجود وأن الإنسان بما جهزه اللّٰه من عقل وفكر أفضل مرآة لأسماء اللّٰه الحسنى، لذا يُعدّ سلطاناً على سائر المخلوقات، ولو انتسب الإنسان إلى اللّٰه وصان نفسه من الضلالة ومن السفاهة ومن كبائر الآثام لاستحق مرتبة ضيف كريم في أعلى عليين وتنعم بنعيم الجنة الخالدة الأبدية، أما إن كفر بخالقه ووقع في الضلالة وفي الغفلة وأشرك به وعصاه فإنه يكون أضل من الحيوان ويستحق مرتبة أسفل سافلين في عذاب خالد في جهنم، وأن القرآن كلام اللّٰه الذي لا تتغير أحكامه ولا تتبدل أوامره وأن الإسلام يأخذ بأيدينا إلى أفضل مدنية، وأن السعادة الحقيقية والدائمة لا يمكن أن تتحقق للبشرية إلاّ باتباع أوامر القرآن والانتساب إليه.. هذه هي الأمور التي أوضحتها "رسائل النور" وبرهنت عليها بشكل قاطع، ومن هنا تستمد "رسائل النور" مكانتها السامية لأنها تقتبس من معجزات القرآن ومن النور الإلهي.. فهل الإيمان بهذا ونشره والإعلان عنه يُعدّ جُرماً؟
والغريب أن قراءة الروايات والأساطير التي تكتب لإلهاب الشهوات الفانية غير المشروعة ونشر الكتب التي تضر بسلامة الأمة وسلامة الوطن، والتي تهاجم الإسلام، ومن ثم مدح هذه الكتب وتقريظها والثناء عليها.. كل هذا مسموح به ولا يعد ذنباً، ولكن قيامنا بقراءة واستنساخ "رسائل النور" التي تعرّفنا بشمس الإسلام -التي اهتدت بها مئات الملايين من الناس ووجدت فيها السعادة الحقيقية- وتدعو إليها وتعرفنا بها وتبشر بالحقائق الإيمانية ومدح هذه الرسائل والثناء عليها -مع أننا عاجزون عن إيفاء حقها من الثناء- يعدّ ذنباً وجُرماً. فهل هناك إنسان يحمل في قلبه ذرة من الإيمان وذرة من الحرص على سلامة هذا البلد وهذه الأمة يستطيع أن يعد هذا ذنباً؟!
حكام الجزاء المحترمون!
إنَّ هذه الدعوى المعروضة على مقامكم الرفيع هي في الحقيقة دعوى الإيمان والقرآن، ودعوى السعادة الأبدية والخلاص لملايين الناس. إنَّ جميع الأنبياء والرسل عليهم السلام وعلى رأسهم رسولنا الأكرم صلى الله عليه وسلم وجميع الأولياء وأهل الحقيقة وجميع
أجدادنا المؤمنين الذين رحلوا إلى الدار الآخرة لهم علاقة من الناحية المعنوية بهذه الدعوى العظيمة. وأنتم اليوم تملكون في أيديكم فرصة اكتساب محبة أولئك الملايين من أهل الحقيقة ودعاءهم وشفاعتهم. وأن الحقيقة السامية المسماة بـ"رسائل النور" أمامكم. فهل المراتب والمقامات الدنيوية الفانية والسفلية هي غايتها؟ أم أن غايتها هي نيل رضى اللّٰه تعالى الذي هو السعادة العظمى والفرحة الكبرى والهناء التي ما بعدها هناء؟ أوَ تحفز كلماتها الإنسان إلى الأخلاق الرديئة والهابطة أم تجهزهم بالإيمان وتجملهم بالفضيلة وبالأخلاق السامية؟ أنتم تجدون "رسائل النور" أمامكم وهى منبثقة من الإعجاز المعنوي للقرآن المبين الذي هو نور إلهي. فما دام اكتساب الإيمان، والانتقال بهذا الإيمان في الدنيا إلى سعادة الدار الآخرة أهم غاية للإنسان، ومادامت "رسائل النور" تقدم -بفيض من القرآن- الحقائق الإيمانية وتقرب مئات الآلاف من قرائها ومستنسخيها إلى هذا الهدف، فلا مناص أمام عدالتكم السامية وحُبكم للحقيقة إلاّ فهم الوجه القرآني، والوجه الحقيقي لـ"رسائل النور" وتقدير قيمتها الحقيقية، ومعرفة أن طلاب النور لا يسعون إلا لنيل رضى اللّٰه تعالى وأنه لا هدف لهم سواه .
حكام الجزاء المحترمون!
إنَّ أستاذنا العزيز "بديع الزمان" الذي ارتقى إلى أعلى مرتبة للفضيلة وللأخلاق الكريمة يحاول بكل ما يملك من شفقة ورحمة وحنان إنقاذ الإنسان من الظلام الفكري الدامس ومن السجن الأبدي، وهو الذي تحمّل جميع صنوف الألم والعذاب في سبيل المهمة الملقاة على عاتقه لنشر الحقائق القرآنية.. أستاذنا هذا يُرمى في السجون دون وجه حق وخلافاً للعدالة مع كونه مريضاً وشيخاً كبيراً ووحيداً دون أهل، مع أن غايته تنحصر فقط في إنقاذ إيمان الناس بما يملكه من علم كبير وذكاء خارق وإيمان رفيع وعبودية كبيرة. وأن قلب الإنسان ليتفطر ألماً مما قاساه هذا الشيخ المبارك المحب لخير الإنسانية في سجن "آفيون" من البرد القارس ومن الآلام الكبيرة والمضايقات العديدة مع أنه في الخامسة والسبعين من العمر، لذا فإننا ننتظر من عدالتكم السامية المرتبطة بالحقائق ومن حُبكم وتعلقكم بحب الإنسانية تجلي الشفقة والرحمة للعدالة.
مصطفى صونغور
* * *
دفاع محمد فيضي(*)
إلى محكمة "آفيون" للجنايات الكبرى:
لقد عدَّ المدعي العام كوني سكرتيراً لأستاذي "سعيد النورسي" ومتعلقا تعلقاً شديداً به وبـ"رسائل النور" وقيامي بخدمة كبيرة في هذا المجال.. لقد عدّ ذلك تهمة تستوجب مساءلتي. وأنا أقول إزاء هذا بأنني أقبل هذه التهمة بكل ما أوتيت من قوة وأنني أفتخر بها، ذلك لأنني فطرتُ على حب العلم والشوق إليه، والدليل على ذلك أنه عندما قاموا بتفتيش منـزلي في حادثة "دنيزلي" وجدوا فيه خمسمائة وثمانين من الكتب العلمية والعربية وسجلوها رسمياً، ومع أنني شخص فقير وفي مقتبل العمر ومعرفتي باللغة العربية لا تزال ناقصة، فإن عشقي للعلم ورغبتي الشديدة في التعلم هي التي دفعتني إلى اقتناء هذه الكتب المتنوعة التي لا توجد عند واحد بالألف من الناس.
فطرتي العلمية هذه كانت تدفعني للبحث عن أستاذ وعن مرشد حقيقي وحمداً للّٰه حمداً لانهاية له، إذ دلني على بُغيَتي عن قرب، فيما كنت أحسبه بعيداً. أجل إنَّ حياة أستاذي "سعيد النورسي" تشهد أنَّ غايته الوحيدة هي الشوق العلمي واستحصال العلوم الإسلامية. وقد تأكدت من مشاهدتي ومن قراءتي لتاريخ حياته -وهو كتاب مطبوع- ومن المعلومات التي استقيتها من طلابه القدماء أن رغبتي الفطرية في العلم موجودة لدى أستاذي بشكل خارق للعادة إلى درجة أنه ما زال يحتفظ بصفة طالب العلم -خلافا لجميع العلماء المتخرجين من المدارس الإسلامية القديمة- مما جعله قادراً على تحمل جميع البلايا والمصائب. ولأن أهل السياسة لم يفهموا الأحوال العجيبة لأستاذي فقد سعوا لربط هذه الأحوال بنوع من السياسة التي لا علاقة له بها، حتى إنهم ألقوه في غياهب السجون. ولكن اللّٰه تعالى جعل هذا العشق العلمي الموجود لديه مفتاحاً للحقائق القرآنية، فظهرت "رسائل النور" التي أذهلت جميع العلماء والفلاسفة. في هذه الأثناء وجدت أستاذي في مدينة "قسطموني" بجانبي أنا الذي كنت أبحث عنه طوال حياتي بما فطرتُ عليه من حب العلم، وأنا أعدَّ هذا إحساناً إلهياً سأظل أشكر اللّٰه تعالى عليه حتى آخر عمري.
ولكي يحتفظ أستاذي بعزة العلم ومكانته فإنه لا يقبل -ولم يكن يقبل في السابق أيضاً- الصدقات والهدايا وما شابههما، ويمنع طلابه من ذلك أيضاً. ولم يحنِ رأسه لأحد. ومن أوضاعه غير الاعتيادية أنه لم يرض في الحرب وهو في الخط الأمامي من جبهة القتال الدخول إلى الخندق حفاظاً على العزة العلمية، وأنه وقف أمام ثلاثة من القواد المرعبين([36]) موقف الأستاذ المحافظ على عزته العلمية دون أن يبالي بغضبهم، بل أسكتهم. ولما كنت أعلم أن أستاذي هذا حافظ على شرف هذه الأمة وهذا الوطن وعلى شرف علماء الأمة التركية وضحى في سبيل ذلك بكل شيء فقد قبلته أستاذاً حقيقياً لي، ولو افترضنا فرضاً محالاً وقلنا أن له مائة نقيصة، لكان علينا أن ننظر نظرة التسامح إليها، وألا نعترض عليه.
ولقد قدّره الوطنيون -باسم الوطن وباسم الأمة- في عهد المشروطية وكذلك الحال في العهد الجمهوري. ومثال تقديرهم لخدمات الأستاذ الجليلة للعلم هو: قيام حكومة الاتحاد والترقي بتخصيص تسعة عشر ألف ليرة ذهبية لمدرسة أستاذي "مدرسة الزهراء" في مدينة "وان" والتي أرادها أن تكون نظيرة "الأزهر"، ومع أن أساسها أُرسي إلاّ أن بدء الحرب العالمية الأولى أدى إلى تأجيل بنائها، وقبل أربع وعشرين سنة قامت الحكومة الجمهورية -بعد موافقة وتأييد مائة وستين نائباً- بتخصيص مائة وخمسين ألف ليرة لبناء دار فنون الأستاذ (مدرسة الزهراء)، وقيام هذا الأستاذ الكريم وحده بمحاولة إنشاء جامعة كجامعة الأزهر التي تعاون في إنشائها آلاف العلماء، واقترابه جداً من تحقيق هذا الهدف يحتم على جميع الوطنيين وعلى جميع محبي الأمة مع جميع علماء الدين تقدير هذا الأستاذ والثناء عليه، ولأننا قد ظفرنا بمثل هذا الأستاذ، فنحن مستعدون لتحمل جميع المشاق والمصاعب.
إنني أكنّ لعلاّمة الزمان هذا أخلصَ آيات التقدير والاحترام لأنه استطاع بفيوضاته العلمية وبحقائق آثاره السامية التي تناهز المائة والثلاثين كتاباً مساعدتي في المضي في طريق العلم والإيمان وسأظل أحمل له هذا التقدير إلى الأبد إن شاء اللّٰه.
ومع أن التحريات استمرت لمدة أشهر لإثبات التهمة الموجهة إليّ من قبل الادعاء العام حول "استغلال الدين والمشاعر الدينية لغرض إنشاء جمعية سرية مخلة بأمن الدولة" إلاّ أن هذه التحقيقات لم تسفر عن شيء، ذلك لأن مثل هذه الجمعية لاوجود
لها، ولا توجد لنا أية علاقة بأية جمعية. إن علاقتنا الوحيدة هي مع "رسائل النور" التي دخلت في امتحان صعب في مواجهة قوانين الحكومة الجمهورية، ولكنها حصلت على البراءة من قبل المحاكم ذات الصلاحية، وعلى الاحترام والتوقير من قبل الهيئات المتخصصة، وهذه العلاقة لا تعدّ خيانة للوطن وللأمة بل هي علاقة علمية نافعة للوطن وللأُمة. ولا يوجد أي هدف وأية نيَّة أخرى خارج هذا، وبناءً على ذلك ولكون موضوع براءتنا وإخلاصنا ظاهراً تماماً فإننا نطالب محكمتكم العادلة السامية بإصدار قرار براءتنا مثلما فعلت محكمة "دنيزلي" فتحقق بذلك تجلي العدالة.
محمد فيضي باموقجي
الموقوف في سجن آفيون
من قسطموني
* * *
دفاع أحمد فيضي(*)
إلى محكمة "آفيون" للجنايات الكبرى:
أيها الحكام المحترمون! أ ليس من حق المؤمن ومن واجبه الالتقاء بعالم ديني وقراءة كتبه المتعلقة بحقائق الدين واستنساخ هذه الكتب والإسراع إلى نجدة إخوانه في الدين في سبيل خدمة دينه وقرآنه ورسوله صلى الله عليه وسلم ؟ وهل هناك أية مادة قانونية تمنعنا من أداء هذه الخدمة الدينية؟ وهل يُعَدُّ ذنباً قيام بعض الجهات بنقد التيارات الكافرة والتيارات غير الأخلاقية؟ نحن طبقة متدينة من الشعب لا شائبة فيها ولا علاقة لها مع السياسة ولا مع إدارة الدولة.
إنَّ حمل حُسن ظن تجاه شخص ما وتقديره يُعدّ قناعة شخصية، ونحن نعتقد بأن "بديع الزمان" أكبر عالم ديني في زماننا هذا، ونراه رجل حق وحقيقة قام بإيضاح حقائق الدين دون أي نفاق أو تملق لأحد. أما إطلاقنا عليه صفة المجاهد فنابع من خدماته الدينية ودفاعه ضد التيارات الهدامة للإيمان وللإخفاق التي تهدد بلدنا
مستنداً في ذلك إلى الحقائق القرآنية الراسخة. وليس بمقدور أحد أن يؤاخذنا على قناعاتنا الوجدانية. ونحن في بلد يسمح بحرية العقيدة، لذا فنحن غير مضطرين إلى إعطاء الحساب لأحد.
أما بخصوص موضوع الأشخاص الذين سيظهرون في آخر الزمان حسب ما ورد في الحديث النبوي فأقول:
إننا لم نخترع هذه المواضيع من عندنا، ذلك لأنها موجودة في الدين فالرسول صلى الله عليه وسلم يقول في بعض أحاديثه بأن عمر الأمة المحمدية لن تزيد كثيراً عن الألف وخمسمائة سنة.([37]) وهذه الأحاديث تصف كثيراً من الحوادث التاريخية المهمة في حياة الأمة المحمدية وفي حياة الدنيا بأسرها، وذلك تحت عنوان "علامات القيامة". وهي تنبه الأمة المحمدية وتحذرها من شرورها، وتقول بأن الذين يقعون في هذه الشرور عن غفلة أو عن جهل سيقعون في الشقاوة وفي الهلاك الأبدي، وهناك أدلة دينية لا حد لها حول هذه الأمور. نحن أناس آمنا باللّٰه وبرسوله وبالقرآن. إذن فاستناداً إلى هذا الإيمان واستناداً إلى صدق الرسول صلى الله عليه وسلم أفلا نعمل على خلاص أنفسنا من الهلاك الأبدي؟ أفلا نبصر ما يجري حوالينا؟ ألا نشرح هذا استناداً إلى الحقائق الدينية ونتساءل: "أ جاء هذا الزمان الخطر؟ أ نحن هذا الجيل المشرف على هذه المهالك والمخاطر؟ أنتجاهل البراهين الساطعة الموجودة أمامنا ونتجاهل الحقائق الثابتة والحقائق العلمية التي تثبت لنا الوجود الإلهي ونترك ديننا وننساق وراء التيار الذي يعد الإلحاد من أكبر أركان المدنية الأوروبية؟.. وإن فعلنا ذلك فمن ينقذنا من الهلاك الأبدي؟ أ نتجاهل هذا ولا نفكر فيه؟ أ يمكن لمن يعتقد بأنه لا يوجد شيء فوق القرآن وفوق الحقائق القرآنية أن يرمي بنفسه إلى الهلاك الأبدي خوفاً من عقوبات فانية؟ وهل يمكن أن يهتم ببعض القيم الفانية؟ وهل يتخلى عن وظيفته في إيفاء الخدمة للّٰه ولرسوله ولدينه؟.. هذه هي في الحقيقة العوامل الحقيقية التي تربطنا بـ"بديع الزمان"، فهل هناك منبع ديني آخر نزيل به عطش أرواحنا إلى حاجتها الأزلية؟".
يوصينا المدعي العام المحترم بقراءة الكتب العربية والعلمية التي تزخر بها المكتبات والتي لا تتماشى مع روح عصرنا الحالي. وقد لا يعجب المدعي العام المحترم -ومن يفكرون مثله- بالخزينة العلمية المتمثلة بمجموعة "رسائل النور" وبالحقائق العالية
والسامية التي تحويها هذه الرسائل. قد لا تعجبه هذه الرسائل وقد ينتقدها. وهذا شيء راجع إليه وهو حُرٌّ في ذلك. ولكنه لا يستطيع التدخل في حُبنا أو تفضيلنا لهذا الكتاب أو ذاك، فنحن نحب "رسائل النور" ونرى أنها كتاب دين حقيقي لا نفاق فيه وأنها تفسير للقرآن الكريم. إنَّ مقاييس التفضيل والترجيح مسألة تقدير وجداني وقلبي لا يستطيع أحد أن يتدخل فيه. أجل.. إننا نعتقد بأن مؤلف "رسائل النور" يعطي درس الحقيقة نفسها، وأن إنكار المدعي العام لهذا وعدم قبوله لا يضعف اعتقادنا هذا ولا يهزه، ونحن لا نتقبل "رسائل النور" من أجل كرامتها الكونية بل من أجل ظهور الكرامة العلمية الكاملة التي تتحدى الأوساط العلمية في دروس النور. ومع أن تحصيل مؤلفها العلمي لم يتجاوز ثلاثة أشهر. فإنه يفيض علماً وينشر هذا العلم، وهو يستخدم في خوارق علمه وفي أكثر المسائل العلمية تعقيداً منطقاً عالياً حيَّر أكبر المفكرين وأذهلهم، ويستخدم أسلوباً جذاباً رائعاً ومشوقاً فياضاً بالحرارة نابضاً بالعشق وبالعواطف الجياشة وذلك بلغة تعلمها بعد منتصف عمره، حتى لتبدو كتاباته وكأنها بحر إيمان وخزينة توحيد ومحيط حكمة، فهل تستطيعون أن تدلونا على بديع زمان ثانٍ؟ أنتم تستكثرون علينا أن نعد تمثال الفضيلة هذا أستاذاً لنا وهو الذي لم يلتفت إلى بريق جميع الظواهر الفانية ولم يسمح لنفسه التنـزل إلى أية منافع مهما كبرت ولا إلى الأمور التي تلوث الإنسان مهما كانت نداءات هذه الأمور قوية، ولم ينتظر أو يتوسل من أحد شيئاً ولم يقبل ما عُرض عليه، وأعطى أفضل مثال للعفة وللنـزاهة، وصبر على جميع أنواع المكاره والمضايقات ونذر نفسه لإظهار الحقيقة وإظهار الأنوار القرآنية والمعارف المحمدية.
أما أمام آلام البلد والأمة فقد كان قلبه الرحيم يبكي ألماً وشفقة. وعلى الرغم من كل أنواع الغدر والإهانة التي تعرض لها فإنه لم يتخل عن إيفاء وظيفته لإسعاد مَنْ حواليه، فعلى الرغم من شيخوخته ومن بؤسه فإنه بذل جهوداً مضنية وناضل بكل قوة في سبيل اللّٰه تعالى لإنقاذ الناس من غيابة الجهل ومن لجة الإلحاد. وفي هذا الوقت الذي ضاعت فيه المقاييس الأخلاقية فإننا نراه -بجانب كرامته العلمية المذكورة أعلاه- مثالاً للتضحية والإيثار ومثالاً للاستقامة وللنـزاهة وأنموذجاً يحتذى للكمال ومحراباً للفضيلة. أ ترون هذا إفراطاً منا؟
إذن فإن هذه هي نظرتنا نحو "بديع الزمان" ونحو مؤلفاته، فهل ارتباطنا به الناشئ عن إيماننا، وهل اشتراكنا مع آيات القرآن الكريم ومع الأحاديث النبوية الشريفة في تقبيح الكفر والانحدار الأخلاقي يجعلنا ملوثين بأوضار السياسة الفانية؟ وهل يمكن إطلاق صفة الإفساد على أعمال إصلاح نفوس بريئة لقسم من أبناء هذا البلد الذين لم تتيسر لهم منذ خمسة وعشرين عاماً تعلم حقائق الدين؟ وهل إنقاذهم من الهلاك الأبدي وإبلاغهم عن اللّٰه وعن رسوله صلى الله عليه وسلم وعن القرآن إفساد لهم؟
أيها الحكام المحترمون!
نحن لسنا أرباب السياسة أبداً، لأننا نرى أن السياسة تحمل آلاف البلايا والمخاطر والمسؤوليات لأمثالنا ممن هم خارج مسلك السياسة. ونحن أصلاً لا نعير أي اهتمام بالمظاهر الفانية، لأننا لا ننظر إلى الدنيا إلاَّ من وجهها الخيّر المؤدي إلى رضى اللّٰه، لذا فإننا نعترض بشدة على اتهامنا بالجري وراء السياسة ومعارضة الدولة. ولو كان هذا هو قصدنا وهدفنا إذن لكانت هناك أقل ظاهرة وعلامة على هذا في ظرف هذه السنوات البالغة خمساً وعشرين سنة. أجل نحن نحمل صفة معارضة، ولكنها معارضة ضد السقوط الأخلاقي وضد الإلحاد، وهذه المعارضة ناشئة عن اشتراكنا -بالضرورة- مع القرآن الكريم في شدة توبيخه وصرامة بيانه في هذه المواضيع. فإذا لم يكن بياننا للأسباب الموجبة التي شرحناها والنابعة عن الإخلاص وعن النية الصافية وعن الحقيقة كافياً لإقناعكم فاصدروا أي عقاب ترغبون فيه بحقنا، ولكن لا تنسوا أبداً أن سيدنا عيسى عليه السلام الذي ينتسب إليه الآن ستمائة مليون نصراني قد حكم عليه من قبل رجال الحكم في ذلك العهد بالإعدام كأي لص عادي مع أن قلبه كان يخفق لسعادة الإنسانية ولتبليغ الأمانة الملقاة على عاتقه.
إنَّ كلامنا الحر هذا يدفعكم لإصدار عقوبة ضدنا ولكننا سنستقبل هذه العقوبة وهذا الحُكم بكل فخر، وكل ما سنفعله هو أن نرفع يد الضراعة إلى قاضي الحاجات هاتفين: ﴿حَسْبُنَا اللّٰهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ﴾.
احمد فيضي قول
من ناحية اورتاقلار
الموقوف في سجن آفيون
* * *
دفاع جيلان
إلى محكمة "آفيون" للجنايات الكبرى:
إنَّ مقام الإدعاء العام الذي استهوَل الأمر وجعل من الحَبَّة قُبَّة خصّني بحصة كبيرة من التُهم المزعومة الموجهة إلى "رسائل النور" وقدمني بصورة رجل سياسي خطر ورجل تآمر لأنني قمت بخدمة أستاذي و"رسائل النور"، تلك الخدمة التي أفتخر بها في الحقيقة، وأنا أقول ردَّاً على هذا:
إنني على علاقة وثيقة بأستاذي "بديع الزمان" الذي استفدت فائدة كبيرة من قراءة كتبه الدينية والإيمانية والأخلاقية إلى درجة أنني مستعد بتضحية نفسي وحياتي رخيصة في هذه السبيل. ولكن هذه العلاقة لم تكن -كما زعم المدعي العام- علاقة ضارة بالوطن وبالأمة، ولا كانت في سبيل تحريض الشعب ضد الدولة، بل هي علاقة وثقى لا تنفصم أبداً لأنها من أجل إنقاذ أنفسنا من الإعدام الأبدي للقبر -الذي لا يمكن لأحد أن يجد منه مهرباً- وإنقاذ إيمان أمثالي من إخواني في الدين في هذا الزمن الخطر وتزكية أخلاقهم وجعلهم أعضاءً نافعين لهذا الوطن ولهذه الأمة.
إنني من القريبين إليه، فقد خدمته على فترات متقطعة أربع سنوات وأنا فخور بذلك. وطوال هذه المدة لم أشاهد منه إلاّ الفضيلة الخالصة، ولم أسمع منه كلمة واحدة حول كونه مهدياً أو مجدداً. إنَّ مئات الآلاف من "رسائل النور" ومئات الآلاف من طلبة النور الذين أنقذوا إيمانهم بقراءتها يشهدون على كمال تواضعه. فأستاذي المبارك هذا يرى نفسه طالباً من طلبة النور ويقدم نفسه على هذا الأساس.
من اليسير ملاحظة ومشاهدة ذلك بسهولة من قراءة الرسائل الموجودة بين أيديكم ولاسيما رسالة "الإخلاص" الموجودة ضمن مجموعة "عصا موسى" إذ يقول فيها: "إن الحقائق الباقية هي كالشمس وكالألماس، لا تُبنى على الأشخاص ولا يمكن لأشخاص فانين أن يتملّكوها" وهو يكرر هذا في كثير من رسائله وخطاباته. وليس من شأن العقل السليم أن يحكم أنه يدّعى الفخر والتباهي بنفسه أو أنه مهدي ومجدد. وإذا ما قرأتم الرسائل والمكاتيب بدقة وبإنصاف لعلمتم ولتأكدتم أنه علاّمة
زمانه هذا الذي قلما يجود الدهر بمثله في العلم بالدين ولم يقابل بنظيره كمنقذ للإيمان منذ عصور، فهو ذو عطاء وبركة للوطن والأمة تفوق ما يقدمه جيش كامل من المنافع وبخاصة في عصر انتقلت إلينا الشرارات الحمراء للبلشفية تريد التهام بلادنا.
فيا أسفى أنني لم أحظ بالتتلمذ على يديه وعلى هذه المؤلفات القيمة منذ نعومة أظفاري.
هيئةَ المحكمة الموقرة!
لقد شاهدت في نفسي منافع جليلة لا تعد ولا تحصى من قراءة "رسائل النور"، لذا قمت بطبع رسالة "مرشد الشباب" في مدينة "أسكي شهر" وبإذن رسمي، وذلك لكي يستفيد أمثالي من أبناء هذا الوطن، أي قمت بخدمة وطنية سامية وأنا أرغب أن أسألكم:
لقد قمت وأنا الشخص الفقير لرحمة اللّٰه تعالى بطبع "رسائل النور" التي تعد تفسيراً حقيقياً للقرآن الكريم وبعيدة عن أي تجريح أو طعن من الآخرين، أي قمت بخدمة إيمانية. فهل من الحق وهل من العدل أن أقابل بمثل هذه المعاملة الخشنة في الوقت الذي كان من المفروض ومن الضروري أن أقابل بالتقدير؟.
إنني اطلب من محكمتكم العادلة أن تصدر حكمها بإعطاء الحرية لنشر "رسائل النور" التي هي غذاء أرواحنا وسبب نجاتنا ومفتاح سعادتنا الأبدية، وإذا كان قسم مما ذكرته وعددته أعلاه يعدّ في نظركم ذنباً أو جُرماً فإنني أود أن أبين لكم بأنني سأتقبل بصدرٍ رحبٍ أية عقوبة تصدرونها مهما كانت شديدة.
جيلان جالشقان
من أميرداغ
الموقوف في سجن آفيون
* * *
دفاع مصطفى عثمان(*)
إلى محكمة "آفيون" للجنايات الكبرى:
ردّاً على التهمة الموجهة إليّ حول اشتراكي بفعاليات "بديع الزمان سعيد النورسي" المزعومة في تشكيل جمعية سرية واستغلال المشاعر الدينية للإخلال بأمن الدولة وقيامه ضد النظام القائم أقول ما يلي:
1- أجل، لقد قمت -مثل طلاب النور- بالحصول على "رسائل النور" وقراءتها لكي أتعلم الأخلاق القرآنية التي هي شعار التربية المدنية والدينية اللائقة بالشرف التاريخي لأُمتنا التركية المسلمة، وأحفظ ديني وإيماني من تأثير الإيديولوجيات الأجنبية وأكون عضواً نافعاً لوطني وأمتي. لقد حلَّ الفساد والرذيلة محل الأخلاق التي عرف به أجدادنا الذين سجلوا مآثرهم في التاريخ، وبدأ هذا الفساد يستشري وينتشر ويفسد الحياة الاجتماعية إلى درجة أن أصحاب الخُلق السيء أنفسهم أصبحوا يتقززون من مثل هذا السقوط الأخلاقي المنتشر، الذي أقلق الرأي العام وأصبح حديث المجالس في كل بيت وحديث الصحف والمجلات التي تعد لسان الرأي العام والمعبر عنه، ثم إن هذه الأحوال المؤلمة في انتشار سريع وقد أخذت طابع البلاء العام.. في مثل هذه المرحلة استطاعت "رسائل النور" أن تنقذني من السقوط الأخلاقي مثلما إنقذت جميع قرائها المسلمين. لقد أعطيت هذه الرسائل لمن طلبها مني بإصرار -بعد أن عرف أنني قرأتها- وذلك لكي يستفيدوا من تهذيبها للأخلاق، وبعملي هذا ساعدت على إنقاذ كثير من الأفراد الذين كانوا على وشك الانحدار الأخلاقي وعلى وشك أن يكونوا أعضاء مضرين بالوطن والأمة. فاستطاعت "رسائل النور" بتعليماتها وبتلقيناتها إنقاذ هؤلاء وجعلهم أفراداً مفيدين للبشرية وتحصنهم أمام الوباء الشيوعي الأحمر الذي بدأ ينتشر في بلدنا والذي بدأ العالم يرتجف منه رُعباً، إذن فإن "بديع الزمان" يُعدّ مجاهداً معنوياً يستحق التقدير والتبجيل. أما السلاح النوراني والفعال لهذا الجهاد فهو "رسائل النور" التي استطاعت في ظرف عشرين سنة أن تحوّل عشرين ألفاً من الأفراد -وربما أكثر- إلى أفراد مفيدين للوطن وللأمة، فكيف يكون حثي
على قراءة الرسائل ذنباً، وكيف يكون تأليف "رسائل النور" تهمة في حق مؤلفها؟.. أسأل هذا من ضمائركم.
2- أما ما ادَّعاه المدعي العام حول كون ذلك الحديث "موضوعاً" فهو حُكمٌ غير علمي، لأن ذلك الحديث "صحيح" ووارد في كتب الأحاديث وعلماء الحديث يقبلونه. ففي عهد المشروطية -أي قبل عهد الحرية- تقدم اليابانيون والكنيسة الإنجليزية الانكليكانية بأسئلة إلى علماء ذلك العهد، فقدم علماء استانبول بهذه الأسئلة إلى "بديع الزمان" الذي أدرج تأويل هذا الحديث ضمن الرسالة التي أصبح اسمها الآن "الشعاع الخامس". وأن قبول هؤلاء العلماء الأعلام بهذه الأجوبة وعدم اعتراضهم عليها يدل على صحة الحديث.
وليس هذا الجزء فقط من "رسائل النور"، بل إن جميع الحقائق الواردة فيها وجميع دروسها، قوية جداً بحيث لا يستطيع عالم إسلامي حقيقي الاعتراض عليها، لذا نرى أن جميع العلماء الحقيقيين في هذا البلد -ومنذ عهد المشروطية- وعلى رأسهم رئاسة الشؤون الدينية اضطروا إلى تقدير هذه الرسائل وتوقيرها. لذا لا يمكن أن تُطمس حقائقها وبراهينها القوية من قبل فرد أو فردين ممن لا نصيب لهم من العلم الحقيقي، ولا يملكون من العلم إلا اسمه. بل سيكون هذا أمراً مضحكاً.
إنَّ "رسائل النور" تُقرأ بكل تقدير في جميع أرجاء الوطن ومن قبل كافة طبقات الشعب لإنقاذ حياتهم الأبدية وإيمانهم ولأن منافعها المادية والمعنوية ظاهرة وجليلة، لذلك فإن آلافاً من المواطنين الذين استفادوا وأعجبوا بحقائق القرآن وحقائق الإيمان يحملون عاطفة العرفان بالجميل والامتنان العميق لمؤلف هذه الرسائل.. فهل قيام بعض هؤلاء بكتابة رسائل إلى المؤلف -انطلاقاً من العرفان بجميله- وفهم الحديث الشريف الذي هو موضوع الاتهام استناداً إلى الحقائق التي لا يمكن أن تُرد، والنظر إليه وكأنه قد تحقق في هذا الوطن بناءً على بعض الأفعال والآثار.. وبيان تمنياتهم بألاّ يقع وطننا في أحضان الفوضى وفي أحضان هذا الخطر الأحمر، تعد خيانة للنظام القائم؟ وهل هي نقد للانقلاب؟ ومع أن هذا العالم المُبجل دخل عدة محاكم بسبب هذه الافتراءات وصدرت قراراتها بتبرئته، إلا أنه لا يزال متهماً بنفس التُّهم السابقة ويسجن في سجن انفرادي ويقدم للمحاكمة، مع أنه شخص منـزوٍ ومتقدم في العمر وشخص وحيد، أما
نحن فقد عدت مساعينا العلمية ومحاولاتنا لإنقاذ إيماننا دليلاً على أننا نحاول الإخلال بأمن الدولة، ونحن نتساءل من محكمتكم: "أي وجدان وضمير عادل يستطيع إصدار مثل هذا القرار؟". ندع ذلك لضمائركم..
3- ولنأتِ إلى سبب التهمة الأخرى القائلة بأننا "نحمل صور بديع الزمان وكأنها صور مقدسة ونجمع خطاباته، ونرسل له الرسائل" لنقول رداً على هذا:
إنَّ من حقي -كأي فرد آخر- أن أبعث له الرسائل وبطاقات التهنئة وأن أصادق محبيه وأن أحمل صورته.. ليس فقط صورته البسيطة، بل لو زينت صورته بإطار من الجواهر أو الذهب لكان شيئاً زهيداً بجانب ما أسداه إليّ هذا العلامة الكبير من فضل، فقد أنقذ حياتي المعنوية والأبدية من الإعدام، وجعلني أتذوق السعادة في حياتي المادية، وأصبح بمؤلفاته وسيلة لإنقاذ إيمان آلاف الأفراد الآخرين مثلي. هذا من حقي، ولا أظن أنه يُشكل ذنباً، وفي الختام أقول:
إن رجال الأمن في ولايتين وفي أقضية عدة يشهدون بان طلبة النور -الذين أنقذوا أنفسهم من الأخلاق السفيهة بقراءة "رسائل النور" وأنقذوا غيرهم كذلك- قد خدموا طوال سنين عديدة هذا الوطن وهذه الأمة خدمة جليلة لا يستطيع إيفاءها الآلاف من رجال الأمن، لذا فإنهم بدلاً من أن يروا التقدير والمديح، فقد أُسيءَ فهمهم وعوملوا وكأنهم عملاء للأجانب، فقد اعتُقلنا وقُدِّمنا للمحاكم وتعطلت مصالحنا وأشغالنا، وتُركت عوائلنا وأطفالنا في وضعٍ بائس، فأية ديمقراطية ترضى لعوائلنا هذا الوضع المفجع ولأطفالنا البكاء، وضمير أي حاكم عادل يرضى بهذا؟.. أسأل هذا من محكمتكم ومن ضمائركم.
لذا فإنني أسأل باسم محكمتكم المحترمة وباسم الأمة التركية المجيدة وباسم مجلسه العادل الذي تعملون في ظله أن تصدروا قراركم بحرية نشر "رسائل النور" التي لا يمكن أبداً إنكار فوائدها ومنافعها الجمة وأن تصدروا قراركم أيضاً ببراءتنا.
مصطفى عثمان
من صفرانبولو
الموقوف في سجن آفيون
* * *
دفاع حفظي بيرام([38])
إلى محكمة "آفيون" للجنايات الكبرى
إنَّ التهم الموجهة إليّ هي قيامي بقراءة مؤلفات العالم الإسلامي "بديع الزمان" المتهم باستغلال المشاعر الدينية للإخلال بأمن الدولة، علماً بأن هذه المؤلفات قيِّمة وذات نفع كبير للامة وللبلد. وهي تعطي دروساً مفيدة جداً عن الحقائق القرآنية والإيمانية. وكذلك قيامي بإعطاء بعض هذه المؤلفات إلى عدد من أصدقائي -نزولاً عند طلبهم- بعد أن اكتشفتُ مدى استفادتي منها من الناحية الدينية والأخلاقية، وذلك اتباعاً لشعارنا في السعي لنيل الثواب والأجر بنشر هذه التربية الدينية والأخلاقية، وكذلك قيام بعض معارفي بإرسال رسائل صداقة أو رسائل علمية إلى عنواني. هذه هي المعاذير التي تم الاستناد إليها لجعلي في الذنب مع الموما إليه.
إنني أعترض على إيراد هذه المسائل كسبب للاتهام:
1- إنني لا أعتقد أن قيامي بقراءة "رسائل النور" بقصد التعلم وللحفاظ على ديني وإيماني، ولا قيامي بإعطاء هذه الرسائل إلى بعضهم بقصد التعلم ذنباً أو جريمة، ذلك لأن هذه الرسائل مرت من محاكم عديدة وبُرئت من قبلها وأعيدت إلى مؤلفها، وهي رسائل حازت على تقدير وعلماء البلدان الإسلامية وعلماء بلادنا، وهي لا تحتوي على أفكار فاسدة كما زعم المدعي العام، فكل رسالة من هذه الرسائل تفسير مهم للقرآن الكريم من بدايتها وحتى نهايتها، وهي تدعو الناس إلى السمو الخلقي وإلى الفضيلة وتعطي دروساً إسلامية وتربية دينية بشكل مؤثر فتكون سبباً لحفظ الأمم من السقوط في الهاوية، لذا فهي ليست كتباً مفيدة لهذه الأمة ولهذا البلد وحده، بل هي أيضاً مفيدة للإنسانية جميعها من الناحية المعنوية. ذلك لأنه ما من أحد سجل حادثة ضارة للوطن أو للامة أو ضد إدارة الدولة اشترك فيها طالب من طلاب النور في أي مكان أبداً، ولم يسجل رجال الأمن والشرطة أية حادثة من هذا
القبيل ضدهم. ثم لا توجد هناك جمعية سرية لكي تكون قراءة "رسائل النور" قراءة سرية، ذلك لأن طلاب النور لا علاقة لهم بأية جمعية، علمية كانت أم سياسية. ظاهرة كانت أم سرية، حتى إن "بديع الزمان" ومعه العديد من طلاب النور قُدموا إلى محكمة الجنايات الكبرى في "دنيزلي" قبل عدة سنوات وبنفس هذه التهم، وقامت المحكمة ببحث دقيق وتحقيق عميق ثم اضطرت إلى إصدار قرارها بتبرئة الجميع وتبرئة "رسائل النور" كذلك.
ولا أدري كيف تُعد قراءة مؤلفات مؤلف صدر القرار بتبرئته وتبرئة كتبه.. كيف يعد ذلك دليلاً على جُرم كبير مثل جُرم الإخلال بأمن الدولة والسعي ضد النظام القائم، وكيف تكون سبباً للاتهام؟ وما هي درجة العدالة في هذا الأمر؟ أُحيل هذا السؤال إلى ضمائركم.
2- ثم هناك رسالة أخرى أُرسلت إليّ وأنا في السجن من قضاء "بايزيد" من شخص لا أعرفه، وأصبحت هذه الرسالة سبباً لاتهامي. إنني لم أرَ هذه الرسالة، ولا أدري محتوياتها، فإن كانت إحدى "رسائل النور" فإني أقبل بها. اسألوا عنها لكي أجيبكم عن اتهامي هذا. وقد ورد في كلمة المدعي العام شيء حول المهدوية. ولم أسمع هذا إلاّ منه. أما أستاذي فهو بريء من هذه الادعاءات. فهذا الأمر لم يُرد لا في حديثه ولا في رسائله، وقد اعتاد في كل مناسبة التنبيه على طلابه بضرورة ابتعادهم عن تعظيمه أو إبداء احترام مفرط أو إعطاء رتبة عالية له. ونحن على يقين بأنه أفضل علماء عصره وأنه بريء من حُب الشهرة ومن حُب الجاه، فهو عالم أصيل.
السجين
حفظي بيرام
* * *
دفاع مصطفى آجت(*)
إلى محكمة "آفيون" الكبرى للجنايات:
أُجيب عن الاتهام الموهوم الذي اتهم به الادعاء العام أستاذي "بديع الزمان":
إنَّ خدماتي لأستاذي ولـ"رسائل النور" ليست إلاّ قطرة من بحر اللطف والإحسان الذي قوبلتُ به. فأنا لست نادماً قطعاً بهذا الانتساب. فكما يُضحّى بقطع زجاجية في سبيل كسب خزينة الألماس الثمينة جداً. فإنني مستعد في كل وقت لأُضحي بحياتي في سبيل "رسائل النور" التي هي وسيلة لإنقاذ حياتي الأبدية. فلقد تحققت منافع أخروية ودنيوية لـ"رسائل النور"، لذا فإن التخلي عن تلك المنافع الجليلة وإبداء الفتور تجاه "رسائل النور" وأستاذي المحترم، لئلا يصيب الحياة الدنيوية المضطربة القصيرة ضرر من سجن تافه ومضايقات لا تلبث أن تزول.. إنني أعدّ هذا التخلي إهانة عظيمة لأستاذي علاّمة الزمان، ولغايته الوحيدة الجليلة التي هي خدمة الإيمان والقرآن. فأنا لا أريد قطعاً أن أخالف أوامره ولا أن أحيد عن إذنه.
هيئة الحكام المحترمين!
لِمَ تستهولون كوني طالباً -مع فقري- لعالم عظيم يجاهد البلشفية التي تحاول بث سمومها في وطننا العزيز. إنَّ هذا بلا شك يثبت أن الثروة التي يمتلكها النور تفوق كثيراً ثروة الدنيا بأسرها، فأطلقوا يد أستاذي و"رسائل النور" كي ينقذ ملايين الشباب من الأمة التركية، ليصبحوا أبناء نافعين للبلاد.
نعم، إنَّ حاجتنا نحن شباب الأمة التركية إلى "رسائل النور" أكثر بكثير من حاجة المختنق إلى الهواء العليل، ومن حاجة من يعيش في الظلام الدامس إلى النور الواضح، ومن حاجة الجائع العطشان التائه في الصحراء إلى الماء السلسبيل والغذاء النافع، بل من حاجة الغريق إلى النجاة.
إنه لا يتلاءم مع شرف العدالة إهدار وإفناء حياة "بديع الزمان" الذي كسب حُسن ظننا المفرط وتوجهنا نحوه وارتباطنا الوثيق به، وإفناء ضعفاء أصبحوا طلاباً له بنية خالصة.
الموقوف في السجن
مصطفى آجت من أميرداغ
* * *
دفاع خليل جاليشقان([39])
إلى محكمة "آفيون" للجنايات الكبرى:
هيئة المحكمة الموقرة!
في لائحة الاتهام التي قدمها المدعي العام عدّ خدمتي لأستاذي كذنب كبير اقترفته. إن أستاذي الذي قَدِم إلى بلدتنا ضيفاً سنة 1944م وهو مقيم فيها منذ أربع سنوات.. إن أستاذي هذا قد ترك ومنذ أربعين سنة كل لذائد الحياة ومتاعها وراحتها ونذر نفسه لخدمة الإيمان والإسلام، ولاسيما لإنقاذ السعادة الأبدية للمسلمين في وطننا، ولوضع سد أمام الأفكار الضارة لدين هذه الأمة التركية المسلمة كالأفكار البلشفية التي لها أضرار مادية ومعنوية بليغة والأفكار الضارة الأخرى للوطن وللأُمة وذلك بوساطة الدروس الإيمانية والأخلاقية لـ"رسائل النور" التي اعترف بفضلها جميع العلماء. فهل قيامي -وأنا فخور بذلك- بخدمة أستاذي بين حين وآخر طوال ثلاث سنوات يعد ذنباً؟ ثم إنهم يرون أن تركي لمهنتي كخياط في سبيل هذه الخدمة ذنباً كذلك. ولئن ضحيت بحياتي في سبيل أستاذي وفي سبيل "رسائل النور" -التي أرشدتنا إلى الحق وإلى الحقيقة والتي هي تفسير حقيقي للقرآن الكريم- فهل أعدّ مذنباً وخائناً للوطن؟.. أسأل هذا منكم.
رئيس المحكمة الموقر!
لقد قرأت بعض "رسائل النور" واستنسخت بعضها. وبدأت بحمد اللّٰه تعالى حمداً كبيراً بالاستفادة من هذه الرسائل، إذ كان قلبي منذ البداية متعلقاً تعلقاً كبيراً بالعلم ومشتاقاً له. ومع أنني مرتبط بهذه الرسائل عن قرب إلا أنني لم أجد فيها لا تحريضاً للشعب ضد الحكومة ولا دعوة لتأسيس جمعية سرية تقوم بإخلال الأمن ولم أسمع من أستاذي أي شيء حول دعوى المهدوية أو دعوى التجديد ولا أي تحريض ضد الأمن. إنَّ الهدف الوحيد والخدمة الوحيدة لـ"رسائل النور" ولأستاذنا ولنا نحن طلبة النور هي إيفاء خدمة مقدسة للإسلام ولاسيما إيفاء خدمة مقدسة للأُمة التركية المسلمة من ناحية الإيمان والأخلاق. لذا فمن الضروري ومن الواجب عدم التعرض لـ"رسائل النور" ولطلابها من جراء خدماتهم هذه. هذا هو هدفنا، وهذه هي غايتنا وليس شيئاً آخر، وأن إيفاءنا هذه الوظائف هو في سبيل الحصول على رضى اللّٰه تعالى. ومن الطبيعي أننا لا يمكن أن نؤدي هذه المهمة المقدسة في سبيل الدنيا وفي سبيل متاعها ومنافعها، ولا نتنـزل أصلاً لهذا. إن طلبة النور الطاهرين لا يشغل قلوبهم أهداف وغايات دنيوية، لأن قلوبهم مشغولة بالإيمان وبأمور الآخرة، لذا فإنه لم يخطر ببالنا أبداً ما اتهمنا به المدعي العام من القيام بتشكيل جمعية سرية، ولا نتحمل مثل هذا الاتهام.
هيئة المحكمة الموقرة!
إننا نعتقد بأنكم اقتنعتم بماهية أهدافنا وغايتنا نحن طلاب النور واقتنعتم بعدم وجود أية علاقة لنا بالتهم التي أوردها المدعي العام، لذا فإننا نطلب من محكمتكم الموقرة ومن ضمائركم أن تعيدوا لنا كتبنا وتسمحوا بكونها حرة وتصدروا قراركم ببراءتنا.
خليل جالشقان
من أميرداغ
الموقوف في سجن آفيون
* * *
دفاع مصطفى كول(*)
إلى محكمة "آفيون" للجنايات الكبرى:
إنني لست عضواً في جمعية سرية، كما إن أستاذي "بديع الزمان" لم يشكل مثل هذه الجمعية، إذ قام على الدوام بإعطائنا دروساً حول الحقائق القرآنية وحظَّر علينا وبشدة أن تكون لنا أية علاقة بالسياسة. إنني فقط طالب للأستاذ الكبير "سعيد النورسي"، وأنا متعلق به وبـ"رسائل النور" من أعماق قلبي وروحي وأنا مستعد لأية عقوبة في سبيل "رسائل النور" وفي سبيل أستاذي. لقد أنقذ أستاذي بـ"رسائل النور" إيماني وحياتي الأخروية، فغايته تنحصر في إنقاذ جميع المسلمين وجميع مواطنينا من الإلحاد لكي ينالوا السعادة الأبدية. لقد ظهر بوضوح في جميع المحاكم بأنه لا توجد لنا أية علاقة بأي هدف سياسي، ومع أن هذه هي الحقيقة فلا نزال نُقَدم للمحاكم من دون سبب ومن دون وجه حق، ونحن نفهم من هذا أنهم يريدون تحطيم وحدتنا وتساندنا، مع أن تساندنا وتعاوننا لا يهدف أية غاية دنيوية أو سياسية. وكل ما في الأمر أننا نوقر أستاذنا توقيراً كبيراً، لأن كل من يقرأ "رسائل النور" يكتسب إيماناً قوياً وإسلاماً قوياً وخلقاً وكمالاً عاليين.
ونحن لا نملك إلاّ أن نكنّ لأستاذنا حُباً شديداً، وأنا مرتبط بمثل هذا الأستاذ وبمثل طلاب "رسائل النور" هؤلاء بكل جوارحي، ولا يمكن لهذا الارتباط أن ينفصم أو ينقطع وإن شُنقت. إننا مع جميع أخواني أبرياء، ونحن نطالب وبكل قوتنا بحرية "رسائل النور"، وأنا أطالب بتبرئة أستاذنا الكبير وتبرئة إخواني الأبرياء من طلبة النور وتبرئتي كذلك.
مصطفى كول
من إسبارطة
* * *
دفاع إبراهيم فاقازلي(*)
إلى محكمة "آفيون" للجنايات الكبرى:
أيها الحكام المحترمون!
إنَّ التهمة الموجهة إلينا باطلة أولاً، وتتعلق بالدنيا، فهي سياسية. ولاشك أنكم -أيها الحكام المحترمون- قد عرفتم من نظرتكم الأولى لنا بأننا لسنا من الذين يعملون في ميدان السياسة، ولو قام المئات من ذوي الصلاحية بتوكيد هذه التهمة السمجة والغريبة عنا، ولو كان عقلي أكبر بمئات المرات من عقلي الحالي لكان التأثير المعنوي الذي تركته لدي "رسائل النور" ومؤلفه الموقر كافياً لي لكي أهجر لذة السياسة الموقتة والفانية وأهرب بكل كياني ووجودي إلى الطريق المؤدي إلى الآخرة وإلى الطريق المؤدي إلى النجاة من جهنم. إنَّ علاقتنا سواءً أكانت مع مؤلف "رسائل النور" المبجل واحترامنا له أو قراءتنا لـ"رسائل النور" واستنساخها أو علاقتنا وارتباطنا مع طلاب النور.. هذه العلاقات كلها علاقات أخروية، وقد أقرت محكمة "دنيزلي" للجنايات الكبرى ومحكمة التمييز العليا هذا الأمر وصادقت عليه. وأن الأفكار التي استلهمناها من "رسائل النور" تدعونا بألاّ نفرط في هذه العلاقة النورانية وألاّ نستبدلها بأي عرض دنيوي ومادي. وسيبقى إيماننا هذا معنا حتى آخر لحظة من أعمارنا.
هيئة المحكمة الموقرة!
ما دمنا قد جُمعنا ها هنا بسبب هذه التهمة المذهلة، فإنني أرى أن ضميري وحُبي لبلدي يحتمان عليَّ أن أُبين لكم هذه الحقيقة المهمة. لقد شاهدت في أوساطنا وفي البيئة التي أعيش فيها مدى الإصلاحات الكبيرة التي أنجزتها "رسائل النور"، وشاهد الناس هذا كذلك، ففي أثناء ما يزيد عن عشر سنوات عرف العديد من الأفراد -وأنا منهم- الطريق إلى بيوتهم والاهتمام بعوائلهم، وتركوا الأمور الشائنة وعرفوا طَعم السعادة العائلية. وآباء هؤلاء وأمهاتهم يرفعون الآن أيديهم بالدعاء لمَنْ كان السبب
لمثل هذا التحول، وتستطيعون أن تسمعوا المزيد حول هذا الأمر من أهالي ولايتنا وما يجاورها. وعندما دخلت "رسائل النور" إلى سجن "دنيزلي" كان تأثيرها في المسجونين إيجابياً جداً، ولا يزال هذا التأثير الإيجابي أحاديث الناس. وكذلك عندما دخلت إلى سجن "آفيون" رأيت كل سجين أتحدث معه يدعو لطلاب النور بالخير ويذكر لي الفرق الكبير بين أحوالهم السابقة وأحوالهم الحالية.. هذه حقائق ملموسة وموجودة أمام جميع الأنظار. والحقيقة إنني أستغرب جداً كيف يمكن أن يقال أنني أشتغل في ساحة السياسة لمجرد أنني قمت بإرسال خطابات محبة إلى مؤلف "رسائل النور" المحترم؟ هذه الرسائل التي كانت مفيدة لي ولجميع أبناء جنسي من الناحية الأخلاقية والاجتماعية ومن ناحية الحياة الأخروية لكونها تفسيراً حقيقياً للقرآن الكريم، أو لأنني قمت بإرسال رسائل محبة إسلامية ورسائل سلوان إلى بعض مواطنيي!.. وأنا أقول وسط هذه الدهشة والاستغراب بأنه لا يمكن أن يكون هذا العمل موضع تهمة أو ذنب. والاحتمال الوارد هنا هو أن أعداء القرآن الكريم -وبالتالي "رسائل النور"- المتخفين هم الذين نفثوا الأوهام والظنون والخوف منا، في نفوس موظفي جهاز العدل وجهاز الأمن لكي يُلقوا بنا في غياهب السجون، ولكن سيعرف الحكام المحترمون هذه الحقائق دون شك وسيضعون أيديهم على ضمائرهم لكي يصدروا قراراتهم العادلة التي لها ثواب كبير عند اللّٰه تعالى.
وسيجعلون الأمة التركية المسلمة التي تنتظر هذه القرارات بكل اهتمام في جميع أرجاء هذا الوطن.. ممتنة وشاكرة لهم.
إبراهيم فاقازلي
الموقوف في سجن آفيون
* * *
[1]() مجموعة تضم رسالة المعجزات القرآنية والمعجزات الاحمدية ورسالة الحشر.
[2]() الآية الكريمة: ﴿لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ﴾ و ﴿فَلأُمِّهِ السُّدُسُ﴾.
[3]() المقصود مصطفى كمال.
[4]() إعلان الحرية: المقصود منه الإعلان الثاني للدستور، أي المشروطية الثانية وتم ذلك سنة 1908 من قبل السلطان عبد الحميد الثاني.
[5]() في تلك الفترة كانت هناك حكومتان: حكومة الخلافة في استانبول تحت الاحتلال الإنكليزي. وحكومة منشقة في أنقرة برئاسة مصطفى كمال تقاتل دول الاحتلال. وكان الأستاذ النورسي في إستانبول آنذاك فنشر هناك هذه الرسالة الموجهة ضد احتلال الإنكليز ودحض سياستهم، وكان لها وقع كبير آنذاك.
[6]() واقعة بتليس :عصيان قامت به العشائر الكردية المحيطة بمدينة بتليس ضد حكم الاتحاد والترقي قبيل الحرب العالمية الأولى.
[7]() حوادث 31مارت: هي حركة تمرد في الجيش عام 1909م تسببت في اندلاعها جماعة الاتحاد والترقي واتهموا السلطان عبد الحميد بإثارتها كمبرر لعزله، مع أن السلطان نفى هذا الاتهام وطلب تشكيل لجنة تتقصى الحقائق إلا أن الاتحاديين رفضوا ذلك وعزلوا السلطان.
[8]() لأجل تقديم الشكر للّه تجاه نعمة الراديو، وهى نعمة إلهية عظمى، فقد قلت: "إن ذلك يكون بتلاوة القرآن الكريم من الراديو كي يُسمع ذلك الصوت الندي إلى العالم اجمع فيكون الهواء بذلك قارئاً للقرآن الكريم" (المؤلف).
[9](1) إن أساس «رسائل النور» وهدفها هو إظهار الحقيقة القرآنية والعمل من أجل «الإيمان التحقيقي»؛ لذا فقد حصلت على قرار بالتبرئة عن تهمة تشكيل طريقة صوفية من ثلاث محاكم. ثم إنه ما من شخص ادعى خلال عشرين سنة أن «سعيداً أعطاني إذناً بالدخول والانتساب إلى طريقة صوفية». ثم إنه لا يجوز أن يكون انتساب أكثرية أجداد هذه الأمة منذ ألف عام إلى مسلك معين سبباً في اتهامه أو تحميله مسؤولية ما. ثم إن المنافقين المتسترين يلصقون اسم «الطريقة» على حقيقة الإسلام. فلا يُتهم كل من يتصدى للدفاع عن دين هذه الأمة بأنه صاحب «طريقة». أما تهمة الجمعية، فالذي عندنا هو أخوة إسلامية هدفها أخوة أخروية، وليست جمعية سياسية، لذا فقد أصدرت محاكم ثلاث قراراتها بالتبرئة أيضاً من هذه التهمة. (المؤلف).
[10]() نسخة من القران الكريم بخط اليد تبين الوجه الجميل للإعجاز في توافقات لفظ الجلالة.
[11]() إن وجود النصارى واليهود في الحكومات الإسلامية، وكذلك وجود المسلمين في الحكومات النصرانية والمجوسية يدل على أنه لا يمكن من الناحية القانونية التعرض لأي شخص معارض لم يتعرض بسوء إلى إدارة الدولة أو إلى أمنها بشكل فعلي لأن الاحتمالات والإمكانات لا يمكن أن تكون مدار مسؤولية، وإلا استلزم تقديم الجميع للمحاكم على أساس احتمال قيامهم باقتراف الجرائم. (المؤلف).
[12]() انظر: أبو نعيم، حلية الأولياء 4/ 139-140؛الذهبي، ميزان الاعتدال 2/353؛ السيوطي، تاريخ الخلفاء ص 184-185.
[13]() أورد الإدعاء العام اتهاماً نتيجة سوء فهم فيما ورد من كرامة "رسائل النور" التي تجلى بعضها كصفعات تأديبية. إذ زعموا أننا نقول أن البلايا والزلازل التي حدثت في أثناء الهجوم على طلاب النور وعلى "رسائل النور" إنما هي صفعات من "رسائل النور"... حاشا ثم حاشا، نحن لم نقل ولم نكتب هذا، بل ذكرنا في مواضع عدة مع إيراد الأدلة، أن "رسائل النور" بمثابة صدقات مقبولة، لذا فهي وسيلة لدفع البلايا، فعندما يتم الهجوم على "رسائل النور" تبهت الأنوار وتجد المصائب الفرصة سانحة للظهور. أجل إن مئات الحوادث والوقائع وشهادة وتصديق الآلاف من طلاب النور ترينا استحالة وجود المصادفة في توافق تلك الحوادث كما أظهرنا ذلك جزئياً في المحاكم فإننا نؤمن بشكل قاطع بأن هذه التوافقات دليل على قبول "رسائل النور" ودليل على الكرم الإلهي وهو نوع من الكرامة المهداة من القرآن الكريم إلى "رسائل النور". (المؤلف).
[14]() وذلك بموجب قانون الأزياء الذي سنّه مصطفى كمال وأجبر الناس على لبس القبعات.
[15]() أي عدم لبس القبعة.
[16]() المقصود هو عبد المجيد.
[17]() في الخطأ الثمانين من الأخطاء المائة التي وقع فيها المدعي العام، نراه يقول: «إن التأويل الوارد في الشعاع الخامس يُعدّ خطأً» وجوابي على ذلك هو: وردت في «الشعاع الخامس» الجملة التالية: «أحد التأويلات -واللّٰه أعلم- هو هذا التأويل» ومعنى هذه الجملة: «أن من الممكن أن يكون هذا هو معنى هذا الحديث الشريف». لذا فلا يمكن من الناحية المنطقية تكذيب هذه الجملة، إلاّ عند إثبات استحالتها.
ثانياً: منذ عشرين عاماً، بل منذ أربعين عاماً لم يقم أحد بردّ التأويلات التي أوردناها رداً منطقياً وعلمياً سواء أكانوا من معارضي أو ممن يحاولون معارضة «رسائل النور»، ولم يقل أحد من أولئك العلماء المعارضين «إن هذه التأويلات فيها نظر»، بل صدّقوها مع ألوف من علماء طلاب النور، لذا فإنني أحيل إلى مقامكم تقدير مدى البعد عن الإنصاف عندما يردّ هذا التأويل شخص لا يعرف حتى عدد السور الموجودة في القرآن الكريم.
والخلاصة: إن معنى التأويل لحديث شريف أو لآية كريمة هو: أنه معنى واحد محتمل من عدة معاني محتملة وممكنة. (المؤلف).
[18]() ذكر لي الأخ "محمد فرنجي" وقال: كنت أزور الأستاذ مراراً، وكان يقول في أكثر من مرة: لقد رضيت بدخول جهنم لأجل إنقاذ إيمان شخص واحد. وكرر القول نفسه لدى زيارتي الأخيرة له. فوقع في نفسي شيء، إذ كيف يدخل جهنم من كان سبباً لهداية أناس كثيرين جداً؟. وإذا بالأستاذ يعتدل في فراشه ويشير إلي بيده ويقول: ليس خالداً.. ليس خالداً.. بل مثلما يدخل أحدهم جهنم من جراء ذنب ثم يدخل إلى الجنة.
[19]() المقصود المدعي العام.
[20]() انظر: كنـز العمال 14/ 271 برقم 33436 ومسند الفردوس 3/ 447، مجمع الزوائد 5/186 جمع الفوائد 1/ 849 ؛ الديلمي، المسند 3/447؛ الطبراني، المعجم الكبير 23/420.
[21]() حدث هذا الزلزال في 18/9/1948 ضحوة يوم الجمعة. باسم طلاب النور في سجن آفيون
(خليل مصطفى، محمد فيضى، خسرو).
[22]() رئيس الوزراء في ذلك الوقت.
[23]() عن سفينة ان الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (الخلافة بعدي في أمتى ثلاثون سنة، ثم ملك بعد ذلك) رواه احمد والترمذي وابو يعلى في مسنده وابن حبان في صحيحه. وانظر: ابن كثير، تفسير القرآن 3/302؛ ابن حجر، فتح الباري 8/77.
[24]() أيتها الهيئة غير المنصفة: كيف يكون إذن الردّ الحاسم؟. باسم طلاب النور.. خسرو.
[25]() جماعة الاتحاديين: هم جماعة الاتحاد والترقي الذين هرب قادتهم إلى الخارج بعد اندحار الدولة العثمانية في الحرب العالمية الأولى أمام قوات الحلفاء. أما جماعة "الائتلاف" فهم جماعة سياسية ظهرت بعيد انتهاء الحرب وكانوا خصوماً للاتحاديين.
[26]() وهي المحكمة العسكرية العرفية التي عقدت برئاسة خورشيد باشا المعروف بقسوته، والتي انعقدت بعد حوادث 31مارت المذكورة أعلاه وأصدرت قرارات عديدة بالإعدام وكان الأستاذ النورسي ضمن المتهمين المقدمين إلى المحكمة.
[27]() جيش الحركة: هو الجيش الذي وجهه الاتحاديون من مدينة «سلانيك» حيث كانت مركز قوتهم بقيادة «محمود شوكت باشا» لقمع العصيان الذي حدث في 31 مارت وإعادة سلطة الاتحاديين.
[28]() المقصود: سجن "آفيون" حيث دخله الأستاذ النورسي وطلاب النور سنة 1948.
[29]() كتب هذه العريضة محامو الأستاذ وبإذنه وأُرسلت إلى الدوائر العليا المذكورة.- (صونغور).
[30]() المقصود العصيان الذي دب في صفوف المسجونين في سجن "آفيون" ولم يشترك فيه طلاب النور قط. (المؤلف).
[31]() ﴿وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ﴾ الآية (20) سورة الغاشية.
[32]() انظر : البخاري، فضل ليلة القدر 3؛ مسلم، الصيام، فضل ليلة القدر برقم 1165 - 1167.
[33]() سمح بالسفر إلى الحج لأول مرة في تركيا في سنة 1947.
[34]() المقصود عدم قيام الأستاذ النورسي للقائد الروسي.
[35]() على الرغم من أن أستاذنا لم يأمرنا بإدخال هذه الفقرة التي كتبتها الجريدة فإنها أدرجت هنا لأنها تتضمن عبراً غالية وتستجيش المشاعر وتثير الاهتمام. (خسرو)
[36]() المقصود: القائد خورشيد باشا في المحكمة، والقائد الروسي نيقولا نيقولافيج، ومصطفى كمال.
[37]() اشارة الى الحديث النبوي (اني لأرجو أن لا تعجز أمتي عند ربها أن يؤخرهم نصف يوم).
[38]() وهو الذي وهب ابنه «حسني» منذ صباه ليخدم ويتتلمذ عليه فكان مثالاً للوفاء والإخلاص..
[39]() عائلة جالشقان قدمت خدمات جليلة لرسائل النور، ولازموا خدمة الأستاذ النورسى عند إقامته الجبرية في أميرداغ ومنهم "خليل جاليشقان" ووالده "عثمان" من السابقين في خدمة النور. توفي سنة 1965 عن خمس وثلاثين من العمر. رحمة اللّٰه رحمة واسعة.
