اللمعة الثامنة والعشرون
هذه اللمعة عبارة عن فقرات مختصرة كتبتُها لبعث السلوان إلى قلوب إخواني الذين كانوا معي، حينما كنت ممنوعاً عن التكلم والاختلاط مع الآخرين في سجن "أسكي شهر".
محاورة لطيفة
مع سليمان رشدي(*) الذي هو رمز الوفاء والإخلاص، المتميز بنقاء السريرة.
عندما يقترب زمن تسريح الذباب من مهمة الحياة وذلك في موسم الخريف، يستعمل بعض من يقصد نفعه بالذات مبيداً لمكافحة الذباب ليحولوا دون أن يمسهم شيء من الإزعاج. فمسَّ ذلك رقة قلبي وأثّر فيَّ كثيراً. علماً أن الذباب([1]) قد تكاثر أكثر من قبلُ على الرغم من استعمال المبيد القاتل. وكان في غرفتي في السجن حبلٌ لنشر الملابس لأجل تنشيفها فكانت تلك الطويرات الصغيرة جداً تتراصف على ذلك الحبل مساءً تراصفاً جميلاً منتظماً. فقلت لرشدي: لا تتعرض لهذه الطويرات الصغيرة، انشر الملابس في مكان آخر. فردّ عليّ بجدّ: إننا بحاجة إلى هذا الحبل، فلتجد الذِّبَّان لها موضعاً آخر!
وعلى كل حال، ولمناسبة المحاورة اللطيفة التي جرت بيننا انفتح بابُ البحث عن الذباب والنحل وما شابههما من الحشرات الكثيرة، فدار الكلام حولها.
فقلت له: إنَّ مثل هذه الأنواع من الحيوانات التي تتكاثر نسَخُها بكثرة هائلة، لها وظائفُ مهمة. فالكتاب يُطبع طبعات كثيرة نظراً لقيمته. بمعنى أن جنس الذباب له وظيفةٌ مهمة وقيمة كبيرة حيث يُكثر الفاطرُ الحكيم من نسخ تلك الرسائل القَدَرية وكلمات القدرة الإلهية.
نعم، إنَّ هذه الطائفة من الذباب التي تنظّف وجهَها وعينَيها وجناحيها كل حين، وكأنها تتوضأ، تشكّل موضوعاً مهماً للآية الكريمة: ﴿يَا أيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَن يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ﴾(الحج:73).
بمعنى أن الأسباب وما يدّعيه أهلُ الضلالة من ألوهية من دون اللّٰه لو اجتمعت على خلق ذبابة واحدة لعجَزت. أي إنّ خلقَ الذباب معجزةٌ ربانية وآيةٌ تكوينية عظيمة، بحيث لو اجتمعت الأسباب كلها لَمَا خَلقت مثلَ تلك الآية الربانية ولا استطاعت أن تعارضها ولا أن تقلدَها قطعاً. فتلك المعجزة قهرت نمرودَ، ودافعتْ عن حكمةِ خلقها دفاعاً فاق ألفَ اعتراض، لمّا شكى موسى عليه السلام من إزعاجاتها قائلاً: يا رب لِمَ أكثرتَ من نسل هذه المخلوقات المزعجة.. أُجيب إلهاماً: لقد اعترضتَ مرة على الذِبان، وهي كثيراً ما تسأل: يا رب إن هذا الإنسان الكبير ذا الرأس الضخم لا يذكرك إلاّ بلسان واحد بل يغفل أحياناً عن ذكرك، فلو خلقتَ من رأسه فحسب مخلوقاتٍ من أمثالنا لكانت ألوفُ المخلوقات ذاكرةً لك.
وفضلاً عن هذا فإن الذباب يرعى النظافةَ أيمّا رعاية، إذ ينظف وجهَه وعينيه باستمرار ويمسح على أجنحته دوماً ويؤدي كل ذلك كمن يتوضأ. إذن لهذه الطائفة وظائفُ مهمة وجليلة بلا شك، إلاّ أن نظرَ الحكمة البشرية وعلمَها قاصرٌ لم يحط بعدُ بتلك الوظائف.
نعم، إنَّ اللّٰه سبحانه وتعالى قد خلق قسماً من الحيوانات مفترسةً آكلة للحوم، وكأنها موظفات صحيّات ومأمورات للتنظيف تؤدي وظيفتها في غاية الإتقان، بتنظيفها وجهَ البحر وجمعِها لجثث ملايين الحيوانات البحرية يومياً، وإنقاذ وجه البحر من المناظر القذرة.([2]) فإن لم توفِ هذه الحيوانات بوظيفتها الصحية حق الوفاء وعلى أجمل وجه لما تلألأ وجهُ البحر كالمرآة الساطعة، ولكان البحر يورث الكآبة والحزن.
وكذا فإنه سبحانه قد خلق حيوانات مفترسة وطيوراً جارحة بمثابة مأمورات للنظافة والأمور الصحية، تقوم بتنظيف وجه الأرض يومياً من جثثِ مليارات من الحيوانات البرية والطيور وإنقاذها من التعفن، وإنقاذ ذوي الحياة من ذلك المنظر الكئيب الأليم. حيث تستطيع تلك الحيوانات أن تتحسس مواضعَ تلك الجثث الخفية والبعيدة من مسافة تبلغ حوالي ست ساعات، وذلك بسَوق من إلهام رباني، فتنطلق إلى تلك المواضع وتزيل الجثث. فلولا هذه الموظفات الصحيات البرية وهي تؤدي وظائفها على أفضل وجه لكان وجهُ الأرض في حالة يرثى لها.
نعم، إنَّ الرزق الحلال للحيوانات الوحشية المفترسة هو لحوم الحيوانات الميتة، وحرام عليها لحوم الحيوانات الحية، بل لها جزاء إن أكلتْ منها. فالحديث الشريف: "حتى يقتصّ الجمّاءُ من القَرناء"([3]) يدل على أن الحيوانات التي تبقى أرواحُها رغم فناء أجسادِها لها جزاءٌ وثواب يناسبها في دار البقاء. فعلى هذا يصح القول: إن لحومَ الحيوانات الحية حرام على المفترسات.
وكذا النمل موظف بجمع شتات القطع الصغيرة للنعم الإلهية وصيانتها من التلف والامتهان لئلا تُداس تحت الأقدام، فضلاً عن جمعه جثث الحيوانات الصغيرة وكأنه موظف صحي.
وكذا الذبان لها وظائف -أهم مما ذكر- فهذه الحشرات مأمورة بتنظيف ما لا يراه الإنسان من جراثيم مَرَضية وتطهيرِ المواد السامة. فهي ليست ناقلة للجراثيم، بل على العكس، هي تُهلك تلك الجراثيم المضرة وتمحوها بمصّها لها وأكلِها، وتحيلُ تلك المواد السامة إلى مواد أخرى. فتحُول دون سريان كثير من الأمراض، وتُوقِفها عند حدّها.
والدليل على أن الذبان موظفات صحيات، ومأمورات تنظيف وكيمياوياتٌ حاذقات، وأن لوجودها حكمة إلهية واسعة.. هو كثرتها المتناهية، إذ المواد النافعة والثمينة يكثّر منها.
أيها الإنسان الذي يقصد نفع ذاته وحده! انظر إلى فائدة واحدة للذباب تعود إليك فحسب مما سوى فوائده ومنافعه للحياة. وتخلّ عن عدائك له. فكما أنه يورثك الأُنس والسلوان في الاغتراب والوحدة والانفراد، كذلك يوقظك من نوم الغفلة وغمرات تشتت الفكر، فيذكّرك بوظائف إنسانية كالحركة والنشاط والنظافة الدائمة بوضوئه وصلاته وتنظيفه وجهه وعيونه، كما هو مشاهد.
وكذا النحل -وهي صنف من الذباب- تُطعمك العسلَ الذي هو ألذّ غذاء وألطفه، وهي الملهَمة بالوحي الإلهي كما نص عليه القرآن الكريم. فعليك أن توليها حبَّك.
إنَّ العداء للذباب لا معنى له، بل هو ظلم وإجحاف بحق تلك الحيوانات التي تعاون الإنسان وتسعى لصداقته وتتحمل أذاه. وإنما يجوز مكافحة المضرة منها فحسب، وذلك دفعاً لأضرارها، كدفع ضرر الذئاب عن الأغنام.
فيا ترى أليس من المحتمل أن يكون البعوضُ والبرغوث المسلطان علينا حَجّامات فطرية، أي موظفات بمصّ الدم الفاسد الجاري في الأوردة وقت الحر وزيادة الدم أكثر من حاجة الجسم؟.. سبحان من تحيّر في صُنعه العقول..
كنت يوماً في جدال مع نفسي، إذ اغترّتْ بما أنعم اللّٰه عليها، وتوهمت أنها مالكةٌ لها، وبدأت بالفخر والمدح. فقلت لها: "إنكِ لا تملكين شيئاً بل هو أمانة". فتركت الغرورَ والفخر. ولكنها تكاسلت قائلة: لِمَ أرعى ما ليس لي؟ وماذا عليّ لو ضاع؟. وفجأة رأيت ذبابةً وقفت على يدي وبدأت بتنظيف وجهها وعينها وجناحيها وهي أمانات لديها تنظيفاً على أجمل ما يكون، مثلما ينظف الجندي سلاحه وملابسه التي سلّمْتها له الدولةُ، فقلت لنفسي: "انظري إلى هذه الذبابة"، فنظرتْ وتعلّمت منها درساً بليغاً. وهكذا أصبح الذبابُ أستاذاً لنفسي الكسلانة.
إنَّ فضلات الذباب لا ضرر لها من حيث الطب، بل قد تكون شراباً حلواً (وغذاءً لحشرات أخرى)([4]) إذ ليس من المستبعد عن الحكمة الإلهية، بل من شأنها أن تجعل من الذباب مكائنَ تصفيةٍ وأجهزةَ استحالةٍ، نظراً لأكلها أُلوفَ الأصناف من موادَّ هي منشأ الجراثيم والسموم.
نعم، إنَّ من طوائف الذباب -مما سوى النحل- طائفةً تأكل المواد المتعفنة المختلفة([5]) فتقطر دوماً قطرات من موادَّ حلوة بدلاً من فضلاتها -كنـزول المنّ على أوراق الأشجار- فتثبت أنها مكائن استحالة.
وهكذا يتبين أمام الأنظار مدى عظمة أُمَّة الذباب الصغير هذا، ومدى عظمة وظائفها. وكأنها تقول بلسان الحال: لا تنظروا إلى صغر أجسامنا بل إلى عِظَم وظائفنا. وقولوا: سبحان اللّٰه.
الحروف القرآنية([6])
﴿إِنَّمَا أمْرُهُ إِذَا أرَادَ شَيْئًا أنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾(يس:82)
يُفهم من إشارة هذه الآية الكريمة: أنَّ الخلق يتم بالأمر ، وأن خزائن القدرة الإلهية بين الكاف والنون. ولهذا السر الدقيق وجوهٌ كثيرة، وقد ذُكر بعضُها في الرسائل.
أما الآن فنحاول أن نفهم هذا السر وفق مثالٍ مادي محسوس لأجل تقريب الأحاديث النبوية الواردة حول خواص الحروف القرآنية ومزاياها وتأثيراتها المادية -ولاسيما الحروف المقطّعة في أوائل السور- إلى نظر هذا العصر المادي.
وذلك أنَّ للخالق الجليل ذي العرش العظيم سبحانه وتعالى أربعةَ عروشٍ إلهية، هي محاورُ لتدبير أمور المخلوقات الموجودة على كرة الأرض، التي هي بمثابة مركز معنوي للعالم وقلبِ الكائنات وقبلتِها.
أحدها: هو عرش الحفظ والحياة وهو التراب، المُظهِر لتجلي اسم الحفيظ والمحيي.
ثانيها: هو عرش الفضل والرحمة وهو عنصر الماء.
ثالثها: هو عرش العلم والحكمة وهو عنصر النور.
رابعها: هو عرش الأمر والإرادة وهو عنصر الهواء.
إننا نشاهد بأبصارنا ظهورَ المعادن التي تدور عليها حاجات غير محدودة حيوانية وإنسانية، وظهورَ ما لا يحد من النباتات المختلفة، من تراب بسيط. كما نشاهد ظهور ما لا يحد من معجزات الصنعة الإلهية ولاسيما من نطف الحيوانات التي هي سائلٌ شبيه بالماء، ظهورَها في الأحياء المختلفة من الماء .. أي ظهور تلك الكثرة الكاثرة والأنواع المختلفة من عنصر بسيط (التراب، الماء)، وبانتظام تام وكتابتها على صحيفة بسيطة على صورة نقوش بديعة لا تحد، مما يدلنا على أن "النور والهواء" أيضاً -كهذين العرشين- مظاهر لمعجزات عجيبة لقلم عِلم المصوّر الأزلي العليم الجليل وقلمِ إرادته وأمره كالعرشين السابقين، رغم بساطتهما.
سندع حالياً عنصر النور. ولمناسبة مسألتنا نحاول كشف الحجاب عما يستر عجائبَ الأمر والإرادة وغرائبهما في عنصر الهواء الذي يمثّل عرش الأمر والإرادة بالنسبة إلى كرة الأرض.
وذلك كما أننا نزرع الحروف والكلمات بالهواء الذي في أفواهنا، وإذا بها تتسنبل وتثمر، أي إن الكلمة تُصبح حبةً في آن واحد كأنها بلا زمان وتتسنبل في الهواء الخارجي هواءً حاوياً على ما لا يحد من الكلمة نفسها، صغيرها وكبيرها. كذلك ننظر إلى عنصر الهواء فنرى أنه مطيعٌ ومنقاد لأمر ﴿كن فيكون﴾ ومسخَّر له إلى حدّ عظيم حتى كأن كلَّ ذرة من ذراته جنديٌ لجيش منظم متأهب لتلقي الأمر في كل آن، ويُظهر الطاعةَ والامتثال للإرادة المتجلية في أمر "كن" بلا زمان، سواء في ذلك أبعدُ الذرات وأقربُها.
مثلاً: إنَّ الخطاب الذي يلقيه إنسان من الإذاعة يُسمَع في كل مكان في الأرض في الوقت نفسه وكأنه بلا زمان -بشرط وجود الراديوات- مما يبين مدى امتثال كل ذرة من ذرات الهواء لتجلي أمر ﴿كن فيكون﴾ امتثالاً كاملاً.
فالأمر كذلك في الحروف التي هي غير مستقرة في الهواء، يمكن أن تصبح بكيفياتها القدسية مظاهرَ لتأثيرات خارجية ولخواصَّ مادية كثيرة حسب سر الامتثال هذا. فتشاهَد فيها خاصيةٌ، كأنها تَقلِب المعنويات إلى ماديات وتحوِّل الغيبَ إلى شهادة.
وهكذا، بمثل هذه الأَمَارة، فإن أمارات أخرى لا تحد تُظهِر لنا أن الحروفَ التي هي موجودات هوائية، ولاسيما الحروف المقدسة والحروف القرآنية وبخاصة حروف الشفرات الإلهية وهي المقطّعات التي في أوائل السور، تَسمع الأوامرَ وتمتثلها امتثالاً في غاية الانتظام والشعور التام والحساسية الكاملة وبلا حاجة إلى زمان. فلا شك أن هذا يحمل المرءَ على التسليم بالخواص المادية والمزايا الخارقة المرويّة للحروف التي في ذرات الهواء ومن حيث القدسية، والتي ينعكس فيها تجلي الإرادة الأزلية وجلوةٌ من أمر ﴿كن فيكون﴾.
وهكذا فإن تعابير القرآن الكريم التي تبين أحياناً أثرَ القدرة كأنها صادرةٌ من صفة الإرادة وصفة الكلام مبنية على هذا السر. فتلك التعابير القرآنية تدل على أن الموجودات تُخلَق في منتهى السرعة ومسخّرةٌ ومنقادة انقياداً تاماً للأوامر حتى لكأنَّ الأمرَ يُنفِّذ حُكمَه كالقدرة. أي إن الحروف الآتية من الأمر التكويني تؤثر في وجود الأشياء وكأنها قوةٌ مادية، ويَظهر الأمر التكويني كأنه القدرةُ نفسها والإرادةُ نفسها. نعم، إنَّ هذه الموجودات الخفية التي وجودُها المادي هوائي وهي في غاية الخفاء، حتى كأنها موجودات نصف معنوية ونصف مادية، تشاهَد فيها آثارُ الأمر والإرادة بحيث يشبه الأمرُ التكويني القدرةَ بعينها، بل يصبح القدرةَ نفسَها.
وهكذا، لأجل جلب الأنظار والحث على التدبّر في موجودات كأنها برزخ بين المعنويات والماديات يقول القرآن الكريم: ﴿إِنَّمَا أمْرُهُ إِذَا أرَادَ شَيْئًا أنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾(يس:82). لذا فمن المعقول جداً أن تكون الحروف المقطّعة التي في أوائل السور أمثال: ﴿الٓمٓ﴾، ﴿طٓسٓ﴾، ﴿حٓمٓ﴾، وماشابهها من الشفرات الإلهية، عُقَداً وأزراراً حرفية تستطيع أن تَهُزَّ أوتارَ العلاقات الدقيقة الخفية بين ذرات الهواء بلا زمان، بل من شأن تلك الحروف ومن وظائفها أن تؤديَ مخابرات قدسية -كاللاسلكي المعنوي- من الأرض إلى العرش.
نعم، إنَّ كل ذرة بل كل ذرات الهواء المنتشرة في أقطار العالم تمتثل الأوامر وتنقلها عبر اللاسلكي والهاتف والبرقية، فضلاً عن نقلها سائرَ السيالات اللطيفة كالكهرباء، فلقد شاهدتُ بالحدس القطعي بل بالمشاهدة الحقة إحدى وظائفها -مما سوى المذكورة- في أزاهير اللوز، وهي أن الأشجار المنتشرة في أقطار الأرض كأنها جيش منظم يستلم الأمر نفسه في آن واحد. فبمجرد هبوبِ نسيم رقيق تستلم الأمر من تلك الذرات، وتظهر وضعاً معيناً. مما أورثتني تلك الحالةُ يقيناً تاماً وقناعة كاملة بأن قيام الهواء في سطح الأرض كخادم أمين نشط فعال، يخدم ضيوفَ الرحمن الرحيم الذين يسكنون سطح الأرض، يبلّغ في الوقت نفسه أوامرَ الرحمن بذراته الشبيهة باللاسلكي إلى النباتات والحيوانات، بحيث تكون ذراتُه كلُّها في حكم خُدّام الأمر وشبيهةً بلاقطات اللاسلكي والهاتف. وفي الوقت نفسه يؤدي بأمر "كن" مهماتٍ جليلة ووظائف منتظمة كثيرة، من أمثال تشكيل الحروف في الفم بعد خروجه منه، وتهويةِ الأنفاس واسترواح النفوس، أي بعد أدائه وظيفةَ تنقية الدم الباعث على الحياة، وإشعال الحرارة الغريزية التي هي وقود الحياة، ثم يخرج الهواء من الفم ويكون مبعثَ نطق الحروف وانطلاقها.. وهكذا تجري وظائفُ كثيرة بأمر ﴿كن فيكون﴾.
فبناءً على خاصية الهواء هذه، فإن الحروف التي هي موجودات هوائية كلما اكتسبت قداسةً، أي اتخذت أوضاعَ البث والالتقاط يصبح لها حظٌ وافر من تلك الخاصية.
لذا فلكون حروف القرآن في حُكم العُقد، وحروف المقطعات في حكم المركز لرؤوس تلك المناسبات الخفية، وفي حكم عقَدها وأزرارها الحساسة، يكون وجودُها الهوائي مالكاً لهذه الخاصية، كما أن وجودَها الذهني، بل وجودُها النقشي أيضاً لهما خاصية من تلك الخاصية، أي يمكن بقراءة تلك الحروف وبكتابتها كسبُ الشفاء -كالدواء المادي- والحصول على مقاصد أخرى.
سعيد النورسي
الكلمات الإلهية
بسم اللَّهِ الرحمن الرحيم
﴿قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي
وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا﴾(الكهف:109)
إنَّ هذه الآية اللطيفة بحرٌ واسع رفيع زاخرٌ باللآلئ والدرر، ينبغي لكتابة جواهرها النفيسة كتابةُ مجلد ضخم، لذا نعلّقها إلى وقت آخر بمشيئة اللّٰه. ولقد تراءى لي من بعيد شعاعٌ صَدَر من نكتة من نكاتها الدقيقة، فلَفتَ نظر فكري إليه بعد أذكار الصلاة التي أَعدُّها أفضلَ وقت لخطور الحقائق. إلاّ أنني لم أتمكن من تسجيل تلك النكتة في حينه، فتباعد ذلك الشعاعُ كلما مرّ الزمان، فنذكر هنا بضعَ كلماتٍ لتخط حوله دوائر لاقتناص جلوة منها قبل أن يغيب كلياً ويتوارى عن الأنظار.
الكلمة الأولى:
إنَّ الكلام الأزلي صفة إلهية -كالعلم والقدرة- لذا فهو غيرُ محدد وغير متناهٍ، والذي لا نهاية له لا ينفد ولو كان البحر مداداً له.
الكلمة الثانية:
إنَّ أظهرَ شيء للإشعار بوجود شخص ما هو تكلُّمَه، فهو أقوى أثرٍ للدلالة عليه؛ إذ سماعُ كلام صادر من شخص ما، يثبت وجودَه إثباتاً يفوق ألف دليل، بل بدرجة الشهود. لذا فإن هذه الآية تقول بمعناها الإشاري:
لو كان البحر مداداً لِعدّ الكلام الإلهي الدالِّ على وجوده سبحانه وتعالى، وكانت الأشجار أقلاماً تَكتب ذلك العدد، ما نفد كلامُ اللّٰه. بمعنى أن ما يدل على الأحد الصمد -دلالةَ الكلام على المتكلم- لا يعدّ ولا يحصى ولا حدّ له، حتى لو كانت البحار مداداً له.
الكلمة الثالثة:
لما كان القرآن الكريم يرشد جميع الطبقات البشرية إلى حقائق الإيمان، يكرر -ظاهراً- الحقيقةَ الواحدة بمقتضى تقريرها في القلوب وتثبيتها في أفكار العامة وإقناعهم.
لذا فهذه الآية الكريمة جوابٌ ضمني لأهل العلم وعلماء اليهود من أهل الكتاب في ذلك الوقت على اعتراضهم المُجحف الظالم ظلماً بيّناً على أُمية الرسول العظيم r وعلى قلة علمه.
فالآية تقول: إنّ تكرار المسائل الجليلة التي لكل منها قيمةُ ألف مسألة وتتضمن ألوفاً من الحقائق -كما هي في مسائل الأركان الإيمانية- تكراراً معجزاً وبأساليب شتى، وإن تكرار حقيقة واحدة وهي تتضمن كثيراً جداً من النتائج من حيث الفوائد المتنوعة، لإقرارها في قلوب الناس كافة ولاسيما العوام.. هذا التكرار الذي تقتضيه حِكمٌ كثيرة -كالتقرير والإقناع والتحقيق- لا يعدّ حصراً للكلام ولا هو نابع من قصور الذهن ولا من قلة البضاعة وقصر الباع، بل لو كانت البحارُ مداداً، وذوو الشعور كتّاباً والنباتاتُ أقلاماً، بل حتى الذرات لو كانت رؤوسَ أقلام وقامت كلُّها بعدّ كلمات الكلام الإلهي الأزلي، ما نفدت أيضاً، لأنّ كل ما ذُكِر من أمورٍ هي متناهيةٌ، وكلماتُ اللّه غير متناهية، وهي منبع القرآن الكريم المتوجه إلى عالم الشهادة من عالم الغيب مخاطباً الجن والإنس والملائكة والروحانيين، فيرنّ في أسماع كل فرد منهم. ولا غرو فهو النازل من خزينة الكلام الإلهي الذي لا ينفد.
الكلمة الرابعة:
من المعلوم أنَّ صدور كلامٍ مما لا يُتوقع منه الكلام، يمنح الكلامَ أهمية ويدفع إلى سماعه، ولاسيما الأصداء الشبيهة بالكلام، الصادرة من الأجسام الضخمة كالسحاب وجوّ السماء، فإنها تحمل كلَّ أحدٍ على سماعها باهتمام بالغ، وبخاصة النغمات التي يطلقها جهازٌ ضخم ضخامةَ الجبل فإنها تجلب الأسماع إليها أكثر. ولاسيما الصدى السماوي القرآني الذي يبث -بالراديو- فترنّ به السماوات العلى حتى تسمع هامة الكرة الأرضية برمّتها. فتصبح ذراتُ الهواء بمثابة لاقطات تلك الحروف القرآنية ومراكز بثّها. فتكون الذراتُ بمثابة المرايا العاكسة للأنوار، والآذانِ الصاغية للأصداء، والألسنة الذاكرة لها، وكأنها نهاياتُ إبَر لجهاز حاكٍ عظيم تخرج الأصوات.
فالآية تبين -رمزاً- مدى أهمية الحروف القرآنية ومدى قيمتِها ومزاياها وكونها نابضةً بالحياة، فتقول بمعناها الإشاري: إنَّ القرآن الكريم الذي هو كلام اللّٰه، حيٌّ يتدفق بالحيوية، رفيعٌ سام إلى حدّ لا ينفد عدد الأسماع التي تنصت إليه ولا عدد الكلمات المقدسة التي تدخل تلك الأسماع.. لا تنفد تلك الأعداد حتى لو كانت البحار مداداً والملائكة كتّاباً لها والذرات نقاطاً والنباتات والشعور أقلاماً.
نعم، لا تنفد، لأنَّ اللّٰه -سبحانه- الذي يُكثر في الهواء عدد ما لا روحَ فيه ولا حياة من كلام الإنسان الضعيف، إلى الملايين، فكيف بعدد كل كلمة من كلام رب السماوات والأرض الذي لا شريك له والمتوجّه إلى جميع ذوي الشعور في السماوات والأرضين.
الكلمة الخامسة: عبارة عن حرفين:
الحرف الأول: كما أن لصفة الكلام كلماتٍ، كذلك لصفة القدرة كلماتٌ مجسمة. ولصفة العلم كلمات قَدَرية حكيمة وهي الموجودات ولاسيما الأحياء ولاسيما المخلوقات الصغيرة، فكلٌّ منها كلمةٌ ربانية بحيث تشير إلى المتكلم الأزلي إشارةً أقوى من الكلام. فهذه الآية الكريمة تومئ إلى هذا المعنى: إنَّ إحصاء عدد تلك المخلوقات لا ينفد حتى لو كانت البحارُ مداداً له.
الحرف الثاني: إنَّ جميع أنواع الإلهام الآتي إلى الملائكة والإنسان وحتى إلى الحيوانات، نوعٌ من كلام إلهي. فلا شك أنَّ كلمات هذا الكلام غير متناهية. فإن الآية الكريمة تخبرنا عن مدى كثرةِ ولانهائيةِ عددِ كلمات الإلهام والأمرِ الإلهي الذي يستلهمه دوماً ما لا يعدّ ولا يحصى من جنود رب السماوات والأرض.
والعلم عند اللّٰه.. ولا يعلم الغيب إلاّ اللّٰه.
إنزال الحديد
بسم اللَّهِ الرحمن الرحيم
﴿وَأنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ﴾(الحديد:25)
جواب مهم جداً ومختصر عن سؤال يخصّ هذه الآية الكريمة، طرحَه رجل له أهميته وعلى علم واسع، وألزم به بعضَ العلماء.
سؤال:
يقال: إنَّ الحديد يخرج من الأرض ولا ينـزل من السماء حتى يقال: ﴿أنزلنا﴾. فلِمَ لم يقل القرآن الكريم: "أخرجنا" بدلاً عن ﴿أنزلنا﴾ الذي لا يوافق الواقع ظاهراً؟
الجواب: إنَّ القرآن الكريم قد قال كلمة ﴿أنزلنا﴾ لأجل التنبيه إلى جهة النعمة العظيمة التي ينطوي عليها الحديد والتي لها أهميتُها في الحياة. فالقرآن الكريم لا يلفت الأنظار إلى مادة الحديد نفسِها ليقولَ "أخرجنا" بل يقول ﴿أنزلنا﴾ للتنبيه إلى النعمة العظيمة التي في الحديد وإلى مدى حاجة البشر إليه. وحيث إنَّ جهةَ النعمة لا تخرج من الأسفل إلى الأعلى بل تأتى من خزينة الرحمة، وخزينةُ الرحمة بلا شك عاليةٌ وفي مرتبة رفيعة معنىً، فلابد أن النعمة تنـزل من الأعلى إلى الأسفل، وأن مرتبة البشر المحتاجِ إليها في الأسفل، وأن الإنعامَ هو فوق الحاجة. ولهذا فالتعبير الحق الصائب لورود النعمة من جهة الرحمة إسعافاً لحاجة البشر هو: ﴿أنزلنا﴾ وليس "أخرجنا".
ولما كان الإخراجُ التدريجي يتم بيد البشر، فإن كلمة "الإخراج" لا يُشعر جهة النعمة ولا يجعلها محسوسةً بأنظار الغافلين.
نعم، لو كانت مادة الحديد هي المرادة، فالتعبير يكون "الإخراج" باعتبار المكان المادي. ولكن صفات الحديد، والنعمة التي هي المعنى المقصود هنا، معنويتان؛ لذا لا يتوجه هذا المعنى إلى المكان المادي، بل إلى المرتبة المعنوية.
فالنعمة الآتية من خزينة الرحمة التي هي إحدى تجلياتِ مراتبِ سموِّ الرحمن ورفعته غير المتناهية تُرسَل من أعلى مقامٍ إلى أسفلِ مرتبةٍ بلا شك؛ لذا فالتعبير الحق لهذا هو: ﴿أنزلنا﴾. والقرآن الكريم ينبّه البشر بهذا التعبير إلى أن الحديد نعمة إلهية عظيمة.
نعم، إنَّ الحديد هو منشأُ جميع الصناعات البشرية ومنبعُ جميع رقيّها ومحور قوتها، فلأجل التذكير بهذه النعمة العظمى يذكر القرآن بكل عظمة وهيبة وفي مقام الامتنان والإنعام قائلاً: ﴿وَأنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ﴾ كما يعبّر عن أعظم معجزة لسيدنا داود عليه السلام بقوله تعالى: ﴿وَألَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ﴾(سبأ:10). أي إنه يبين أن تليين الحديد معجزة عظيمة ونعمة عظيمة لنبي عظيم.
ثانياً: إن "الأعلى" و"الأسفل" تعبيران نسبيان، فيكون الأعلى والأسفل بالنسبة إلى مركز الكرة الأرضية. حتى إنَّ الذي هو أسفل بالنسبة إلينا هو الأعلى بالنسبة لقارة أمريكا. بمعنى أن المواد الآتية من المركز إلى سطح الأرض تتغير أوضاعُها بالنسبة إلى مَن هم على سطح الأرض.
فالقرآن المعجز البيان يقول بلسان الإعجاز: "إنَّ للحديد منافعَ كثيرة وفوائد واسعة، بحيث إنه ليس مادة اعتيادية تخرج من مخزن الأرض التي هي مسكن الإنسان، وليس هو معدناً فطرياً يستعمل في الحاجات كيفما اتفق. بل هو نعمةٌ عظيمة أنزلَها خالق الكون بصفته المهيبة ﴿رب السماوات والأرض﴾ أنزلها من خزينة الرحمة وهيأها في المصنع العظيم للكون، ليكون مداراً لحاجات سكنة الأرض". فعبّر عنه بالإنزال قائلاً ﴿وَأنزَلْنَا الْحَدِيدَ﴾ لأجل بيان المنافع العامة التي ينطوي عليها الحديد وفوائِده الشاملة، كما للحركة والحرارة والضياء الآتي من السماء فوائدُ، تلك التي ترسل من مصنع الكون. فالحديد لا يخرج من المخازن الضيقة لكرة الأرض، بل هو في خزينة الرحمة التي هي في قصر الكون العظيم، ثم أُرسل إلى الأرض ووُضِع في مخزنها كيما يمكن استخراجه من ذلك المخزن حسب حاجة العصور تدريجياً.
فلا يريد القرآن الكريم أن يبين استخراج الحديد هذا تدريجياً من هذا المخزن الصغير ﴿الأرض﴾. بل يريد أن يبين أن تلك النعمة العظمى قد أنزلت من الخزينة الكبرى للكون مع كرة الأرض، وذلك لإظهار أن الحديد أكثر ضرورةً لخزينة الأرض. بحيث إن الخالق الجليل عندما فَصَل الأرضَ عن الشمس أنزل معها الحديد ليحقق أكثر حاجات البشر ويضمنها. فالقرآن الحكيم يقول بإعجازٍ ما معناه: أَنجِزوا بهذا الحديد أعمالَكم واسعوا للاستفادة منه بإخراجه من باطن الأرض.
وهذه الآية الجليلة تبين نوعين من النعم التي هي محور لدفع الأعداء وجلب المنافع. ولقد شوهد تحققُ منافعِ الحديد المهمة للبشرية قبل نزول القرآن، إلاّ أن القرآن يبين أن الحديد سيكون في المستقبل في صورٍ تُحيِّر العقولَ سيراً في البحر والهواء والأرض حتى إنه يسخّر الأرض ويظهر قوة خارقة تهدد بالموت، وذلك بقوله تعالى: ﴿فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ﴾ مُظهراً لمعة إعجاز في إخبار غيبي.
* * *
عندما تطرق البحث عن النكتة السابقة انفتح الكلامُ حول هدهد سليمان. فيسأل أحدُ إخواننا الذي يلح في السؤال:([7]) إن الهدهد يصف الخالق الكريم سبحانه بقوله: ﴿يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ﴾(النمل:25) فما سبب ذكره في هذا المقام الجليل هذا الوصف الرقيق بالنسبة إلى الأوصاف الجليلة؟.
الجواب: إنَّ إحدى مزايا الكلام البليغ هو أن يُشعر الكلامُ صنعةَ المتكلم التي ينشغل بها. فهدهد سليمان الذي يمثل عريف الطيور والحيوانات كالبدوي العارف الذي يكشف بالفراسة الشبيهة بالكرامة مواضع الماء الخفية في صحراء جزيرة العرب الشحيحة بالماء. فهو طيرٌ ميمون مأمور بإيجاد الماء ويعمل عمل المهندس لدى سيدنا سليمان عليه السلام، فلذلك يُثبت -بمقياسِ صنعتِه الدقيقة- كونَ اللّٰه معبوداً ومسجوداً له، بإخراجه سبحانه ما خبئ في السماوات والأرض، فيعرّف إثباته هذا بصنعته الدقيقة.
ألا ما أحسنَ رؤيةَ الهدهد! إذ ليس من مقتضى فطرة ما تحت التراب من المعادن والنوى والبذور التي لا تحصى، أَنْ تَخرج من الأسفل إلى الأعلى. لأنَّ الأجسام الثقيلة التي لا روح لها ولا اختيار لا تصعد بنفسها إلى الأعلى، وإنما تسقط من الأعلى إلى الأسفل. فإخراج جسم مخفي تحت التراب، من الأسفل إلى الأعلى ونفض التراب الثقيل الجسيم مِنْ على كاهله الجامد لابد أن يكون بقدرة خارقة لا بذاته. فأدرك الهدهد أخفى براهين كون اللّٰه تعالى معبوداً ومسجوداً له وكشفَها بعارفيته ووجَد أهم تلك البراهين بصنعته، والقرآن الحكيم منح إعجازاً بالتعبير عنه.
* * *
إنزال الأنعام
بسم اللَّهِ الرحمن الرحيم
﴿وَأنزَلَ لَكُم مِّنْ الأنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أزْوَاجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِن بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاثٍ﴾(الزمر:6)
إنَّ هذه الآية الكريمة تتضمن النكتة نفسها التي بينّاها في الآية الكريمة: ﴿وَأنزَلْنَا الْحَدِيدَ﴾ فهي تؤيدها وتتأيد بها في الوقت نفسه.
نعم، إنَّ القرآن الكريم يقول في سورة الزمر: ﴿وَأنزَلَ لَكُم مِّنْ الأنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أزْوَاجٍ﴾ ولا يقول: "وخلق لكم من الأنعام ثمانية أزواج" وذلك للإفادة بأن ثمانية أزواج من الحيوانات المباركة قد أُنزلت لكم وأُرسلت إليكم من خزينة الرحمة الإلهية وكأنها مرسَلةٌ من الجنة، لأن تلك الحيوانات المباركة نعمةٌ بجميع جهاتها للبشرية كافة. فمن أشعارها وأوبارها يستفيد البدُو في حَلِّهم وترحالهم، ومنها تُنسج الملابس، ومن لحومها تُهيأ ألذّ المأكولات، ومن ألبانها تُستخرج أطيب الأطعمة، ومن جلودها تُصنع الأحذية والنعال وغيرُها من المواد النافعة، حتى إن روثَها يكون رزقاً للنباتات وَوَقوداً للإنسان. فكأن تلك الحيوانات المباركة قد تجسّمت وأصبحت النعمةَ بعينها والرحمة بنفسها. ولهذا أُطلق عليها اسم "الأنعام" مثلما أطلق على المطر اسم "الرحمة". فكأن الرحمةَ قد تجسمت مطراً والنعمةَ تجسدت في صور شتى من أشكال المعزى والضأن والبقر والجاموس والإبل. وعلى الرغم من أن موادها الجسمانية تُخلق في الأرض، فإن صفة النعمة ومعنى الرحمة قد غلبتا واستحوذتا على مادتها، فعبّر القرآن عنها بـ"أنزلنا" الذي يفيد أن الخالق قد أنزل هذه الحيوانات المباركة من خزينة الرحمة مباشرة، أي أنَّ الخالق الرحيم قد أرسلها من مرتبة رحمته الرفيعة، ومن جنته المعنوية العالية، هديةً إلى وجه الأرض بلا وساطة.
نعم، تُدرج أحياناً صنعةٌ تقدّر بخمس ليرات في مادة لا تساوي خمسةَ قروش، فلا تؤخذ مادةُ الشيء بنظر الاعتبار، بل تُعطى الأهمية للصنعة الموجودة عليها، كالصنعة الربانية العظيمة الموجودة في الجرم الصغير للذباب. وأحياناً تكون صنعةٌ زهيدة في مادة ثمينة، فالحُكم عندئذٍ للمادة.
على غرار هذا المثال: فإن مادةً جسمانيةً قد تحمِل من معاني الرحمة ومعاني النعمة الكثيرة بحيث تفوق مائةَ مرة في الأهمية على مادتها، حتى لَكأن مادةَ ذلك الشيء تختفي وتنـزوي أمامَ عِظَم أهمية النعمة والرحمة، لذا فالحُكم هنا يتوجه إلى حيث النعمة.
وكما تُخفي المنافعُ العظيمة للحديد وفوائدُه الكثيرة مادتَه المادية، فإن النعمة الموجودة في كل جزء من أجزاء هذه الحيوانات المباركة المذكورة كأنها قد قُلبت مادتها الجسمانية إلى نعمة، فأُخذت صفاتُها المعنوية بنظر الاعتبار دون مادتها الجسمانية. لذا عُبِّرَ عنها في الآية الكريمة ﴿وأنزل ... وأنزلنا﴾.
نعم، إن عبارة ﴿وأنزل.. وأنزلنا﴾ كما تفيد النكات السابقة من حيث الحقيقة فإنها تفيد أيضاً معنىً بلاغياً مهماً إفادة معجزة. وذلك: أنَّ منحَ الحديد خواصَّ مميزة -كوجوده في كل مكان، وسهولةِ تليينه كالعجين- نعمةٌ إلهية. حيث يمكن الحصول عليه واستعمالُه في كل عمل رغم صلابته واختفائه ووجوده في الأعماق فطرةً، لذا فإن التعبير بـ﴿وَأنزَلْنَا الْحَدِيدَ﴾ إنما يبين هذا المعنى أي كأنَّ الحديد نعمةٌ من النعم الفطرية السماوية التي يمكن الحصول عليها بيُسر، وكأن مادة الحديد تنـزل من مصنع علوي رفيع وتسلَّم بيد الإنسان بسهولة.
وكذلك الحيوانات الضخمة كالبقر والجاموس والإبل وغيرها من المخلوقات الجسيمة، مسخّرةٌ وذليلة ومطيعة ومنقادة حتى لصبي صغير، إذ تسلّم قيادها له وتطيعه. لذا فالتعبير بـ﴿وَأنزَلَ لَكُم مِّنْ الأنْعَامِ﴾ يفيد أن هذه الحيوانات المباركة ليست حيوانات دنيوية يُستوحَش منها وتلحق بنا الضرر كالبعوض والحية والعقرب والذئب والسبع وما شابهها من الضواري المفترسة، بل كأنها حيوانات آتية من جنة معنوية، لها منافع جليلة، ولا يأتي منها ضرر، بل كأنها تنـزل من الأعلى، أي من خزينة الرحمة.
ولعل المقصود من قول بعض المفسرين: إن هذه الحيوانات قد أُنزلت من الجنة ناشئ من هذا المعنى المذكور.([8])
إن كتابة صحيفة كاملة حول إيضاح ما في حرف واحد من القرآن الكريم من مسائل ونكات لا تعدّ إطناباً، فليس إذن من الإسراف في شيء كتابتنا ثلاث صفحات لبيان نكات العبارة القرآنية "أنزلنا". بل قد يكون أحياناً حرف واحد من القرآن الكريم مفتاحاً لخزينة معنوية عظيمة.
* * *
دستور
إنَّ طلاب النور لا يتحرَّون عن نورٍ خارج دائرة رسائل النور، وما ينبغي لهم. ولو تحرّى أحدٌ منهم فلا يجد إلاّ مصباحاً بدلاً من شمس معنوية تضيء من نافذة رسائل النور، بل قد يفقد الشمس.
ثم إنَّ ما في دائرة رسائل النور من مشرب الخلة ومسلك الأخوة، هذا المشرب الخالص والمسلك القوي الذي يُكسب الفردَ الواحد أرواحاً كثيرة ويُظهر سراً من أسرار الأخوة التي ورثها الصحابةُ الكرام من نور النبوة، هذا المشرب لا يدع حاجةً إلى البحث عن المرشد الوالد في الخارج -مع إضرارٍ به بثلاث جهات- بل يوجِد له بدلاً من الوالد المرشد الواحد، إخواناً كباراً كثيرين. فلا شك أنَّ ما تسبغه أنواعُ الشفقة النابعة من قلوب إخوة كبار، يزيل شفقة الوالد الواحد.
نعم، إنَّ الذي اتخذ لنفسه شيخاً قبل دخوله الدائرة يمكنه أن يحافظ على رابطته بشيخه ومرشده ضمن الدائرة أيضاً، ولكن مَنْ لم يكن له شيخ بعد الدخول في الدائرة، ليس له أن يتخذ شيخاً إلاّ ضمن الدائرة.
ثم إنَّ ما في درس رسائل النور للحقائق من علم الحقيقة الذي يمنح فيضَ الولاية الكبرى النابعة من سر الوراثة النبوية، لا يدع حاجة إلى الانتماء إلى الطرق الصوفية خارجَ الدائرة، إلاّ من فهم الطريقة على غير وجهها وكأنها رؤىً جميلة وخيالات وأنوار وأذواق، ويرغب في الحصول على أذواق الدنيا وهوساتها مما سوى فضائل الآخرة، ويطلب مقام المرجعية كعبَدة النفس. إنَّ هذه الدنيا دارُ حكمة. والأجر والثواب فيها على قدر المشقات والتكاليف، وهي ليست دارَ مكافأة وجزاء. ولهذا لا يهتم أهلُ الحقيقة بالأذواق والأنوار التي في الكشف والكرامات، بل قد يفرّون منها ويريدون سترها.
ثم إنَّ دائرة رسائل النور دائرةٌ واسعة جداً، وطلابها كثيرون جداً، فلا تعاقِب الذين يهربون منها، ولا تهتم بهم. وربما لا تُدخلهم ضمن دائرتها مرة أخرى. لأنَّ الإنسان يملك قلباً واحداً والقلب الواحد لا يمكن أن يكون في داخل الدائرة وخارجها معاً.
ثم إنَّ الراغبين في إرشاد الآخرين ممن هم خارج دائرة النور، عليهم ألاّ ينشغلوا بطلاب النور لأن احتمال خسرانهم بثلاث جهات وارد. فالطلاب الذين هم في دائرة التقوى ليسوا بحاجة إلى الإرشاد، علماً أن في الخارج الكثيرين من تاركي الصلاة، فتركُ أولئك والانشغالُ بهؤلاء المتقين ليس من الإرشاد في شيء. فإن كان ممن يحب هؤلاء الطلاب فليَدخل أولاً ضمن الدائرة، وليكن لهم أخاً، وإن كان ذا مزايا وفضائل فليكن لهم أخاً كبيراً.
ولقد تبيّن في هذه الحادثة أن للانتساب إلى رسائل النور أهميةً عظيمة وثمناً غالياً جداً، فالراشد الذي بذل هذه التضحيات وجاهد الإلحاد باسم العالم الإسلامي لا يترك هذا المسلك الذي هو أثمنُ من الألماس ولا يستطيع أن يدخل مسالك أخرى غيره.
سعيد النورسي
* * *
فقرة
كتبت في سجن "أسكي شهر"
إخوتي!
لقد دافعتُ دفاعات عديدة عن طلاب النور بما يليق بهم من دفاع، وسأقولها بإذن اللّٰه في المحكمة وبأعلى صوتي، وسأُسمع صوتَ رسائل النور ومنـزلة طلابها إلى الدنيا بأسرها. إلاّ أنني أنبهكم إلى ما يأتي:
إنَّ شرط الحفاظ على ما في دفاعي من قيمة، هو عدم هجر رسائل النور بمضايقات هذه الحادثة وأمثالِها، وعدم استياء الأخ من أستاذه، وعدم النفور من إخوانه مما يسببه الضيقُ والضجر، وعدم تتبع عورات الآخرين وتقصيراتهم.
إنكم تذكرون ما أثبتناه في رسالة القدر: إنَّ في الظلم النازل بالإنسان جهتين وحكمين.
الجهة الأولى: للإنسان.
والأخرى: للقدر الإلهي.
ففي الحادثة الواحدة يظلم الإنسانُ فيما يعدلُ القدَر وهو العادل.
فعلينا أن نفكر -في قضيتنا هذه- في عدالة القدر الإلهي والحكمة الإلهية أكثرَ مما نفكر في ظلم الإنسان.
نعم، إنَّ القدر قد دعا طلاب النور إلى هذا المجلس. وإن حكمة ظهور الجهاد المعنوي قد ساقتهم إلى هذه المدرسة اليوسفية التي هي حقاً ضجرة وخانقة، فصار ظلمُ الإنسان وسيلة لذلك.
ولهذا، إياكم أن يقول بعضكم لبعض: "لو لم أفعل كذا لما اعتقلت".
سعيد النورسي
* * *
شرف الرسائل الرفيع
إخواني !
لقد أُخطر إلى قلبي: كما أنَّ "المثنوي الرومي" قد أصبح مرآةً لحقيقة واحدة من الحقائق السبع المُفاضة من نور شمس القرآن الكريم، فاكتسب منـزلةً سامية وشرفاً رفيعاً حتى أصبح مرشداً خالداً لكثير من أهل القلب فضلاً عن المولويين. كذلك رسائل النور ستنال بإذن اللّٰه شرفاً رفيعاً سامياً بسبع جهات، وستكون لدى أهل الحقيقة بمثل مرشدةٍ خالدة رائدة باقية بسبعة أضعاف "المثنوي الرومي". لأنها تمثّل الأنوار السبعة لنور شمس القرآن الكريم والألوان السبعة المتنوعة في ضيائها، تمثلها دفعةً واحدة في مرآتها.
سعيد النورسي
* * *
لطمة رحمة
إخوتي!
لقد أدركت أنَّ التي نزلت بنا -مع الأسف- هي لطمةُ رحمة. أدركتُها منذ حوالي ثلاثة أيام وبقناعة تامة. حتى إنني فهمت إشارةً من الإشارات الكثيرة للآية الكريمة الواردة بحق العاصين للّٰه، فهمتُها كأنها متوجهةٌ إلينا. وتلك الآية الكريمة هي: ﴿فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ... أخَذْنَاهُم ﴾([9]) أي لمّا نسيَ الذين ذُكّروا بالنصائح، ولم يعملوا بمقتضاها.. أخذناهم بالمصيبة والبلاء.
نعم، لقد كُتّبنا ([10]) مؤخراً رسالةَ تخصّ سرَّ الإخلاص، وكانت حقاً رسالة رفيعة سامية، ودستوراً أخوياً نورانياً، بحيث إن الحوادث والمصائب التي لا يمكن الصمودُ تجاهها إلاّ بعشرة آلاف شخص، يمكن مقاومتُها -بسر ذلك الإخلاص- بعشرة أشخاص فقط. ولكن أقولها آسفاً: إننا لم نستطع -وفي المقدمة أنا- أن نعملَ بموجب ذلك التنبيه المعنوي، فأخذتْنا هذه الآية الكريمة -بمعناها الإشاري- فابتليَ قسمٌ منا بلطمةِ تأديب ورحمة، بينما لم تكن لطمةَ تأديب لقسم آخر بل مدارَ سلوان لهم، وليكسبوا بها لأنفسهم الثواب.
نعم، إنني لكوني ممنوعاً عن الاختلاط منذ ثلاثة شهور لم أستطع أن أطلع على أحوال إخواني إلاّ منذ ثلاثة أيام، فلقد صدر -ما لا يخطر ببالي قط- ممن كنتُ أحسبهم من أخلص إخواني أعمالٌ منافية لسر الإخلاص. ففهمتُ من ذلك أن معنىً إشارياً للآية الكريمة: ﴿فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ... أخَذْنَاهُم﴾ يتوجه إلينا من بعيد.
إنَّ هذه الآية الكريمة التي نزلت بحق أهل الضلال مبعثَ عذاب لهم، هي لطمةُ رحمة وتأديب لنا؛ لتربية النفوس وتكفير الذنوب وتزييد الدرجات. والدليل على أننا لم نقدّر قيمةَ ما نملك من نعمة إلهية حقّ قدرِها هو أننا لم نقنع بخدمتنا القدسية برسائل النور المتضمنة لأقدس جهاد معنوي، ونالت الولاية الكبرى بفيض الوراثة النبوية وهى مدار سرّ المشرب الذي تحلى به الصحابة الكرام. وأن الشغف بالطرق الصوفية التي نفعُها قليل لنا في الوقت الحاضر، واحتمال إلحاقها الضررَ بوضعنا الحالي ممكن، قد سُدّ أمامَه بتنبيهي الشديد عليه.. وإلاّ لأفسدَ ذلك الهوى وحدتَنا، وأدّى إلى تشتت الأفكار الذي يُنـزل قيمة الترابط والتساند من ألف ومائة وأحد عشر الناشئة من اتحاد أربعة آحاد، ينـزلها إلى قيمة أربعة فحسب، وأدّى إلى تنافر القلوب الذي يبدّد قوتنا إزاء هذه الحادثة الثقيلة ويجعلها أثراً بعد عين.
أورد الشيخ سعدي الشيرازي(*) صاحب كتاب "كلستان" ما مضمونه:
"لقد رأيت أحد المتقين من أهل القلب في زاوية "التكية" يزاول السير والسلوك، ولكن بعد مضيّ بضعة أيام شاهدتُه في المدرسة بين طلاب العلوم الشرعية، فسألته: لِمَ تركت الزاوية التي تفيض الأنوار وأتيت إلى هذه المدرسة؟ قال: هؤلاء النجباء ذوو الهمم العالية يسعون لإنقاذ الآخرين مع إنقاذهم لأنفسهم؛ بينما أولئك يسعون لإنقاذ أنفسهم وحدَها إن وفّقوا لها. فالنجابة وعلو الهمة لدى هؤلاء والفضيلة والهمة عندهم، ولأجل هذا جئت إلى هنا". هكذا سجل الشيخ سعدي خلاصة هذه الحادثة في كتابه "گلستان".
فلئن رُجّحت المسائل البسيطة للنحو والصرف التي يقرؤها الطلاب مثل:" نَصَرَ، نَصَرا، نصَرُوا.." على الأوراد التي تُذكر في الزوايا، فكيف برسائل النور الحاوية على الحقائق الإيمانية المقدسة في "آمنت باللّٰه وملائكته وكتبه ورسله وباليوم الآخر". ففي الوقت الذي تُرشد رسائل النور إلى تلك الحقائق بأوضح صورة وأكثرِها قطعية وثبوتاً حتى لأعتى المعاندين المكابرين من الزنادقة وأشد الفلاسفة تمرداً، وتُلزمهم الحجة، كم يكون على خطأ من يترك هذه السبيل أو يعطلها أو لا يقنع بها ويَدخل الزوايا المغلقة دون استئذانٍ من الرسائل تبعاً لهواه! ويبين في الوقت نفسه مدى كوننا مستحقين لهذه الصفعة، صفعة الرحمة والتأديب.
سعيد النورسي
* * *
تنبيه
حكايتان صغيرتان
الحكاية الأولى: عندما كنت أسيراً في شمالي روسيا قبل خمسة أعوام([11]) في قاعة مصنع كبير، مع تسعين من ضباطنا، كانت المناقشات تحتد والأصوات تتعالى نتيجة الضجر وضيق المكان. وكنت أهدّئهم حيث كانوا جميعاً يحترمونني. ثم عينتُ خمساً من الضباط لإقرار الهدوء وقلت لهم: "إذا سمعتم الضوضاء في أية ناحية أسرعوا إليها، وعاونوا الجهة غير المحقة". وحقاً لقد انتهت الضوضاء نتيجة هذا العمل. فسألوني: لِمَ قلت: عاونوا غير المُحق؟ وقد أجبتهم حينها: إنَّ غير المحق، هو غير منصف، لا يدع درهماً من راحته لأربعين درهماً من راحة الجميع. أما المحق فيكون ذا إنصاف يضحي براحته التي تعدل درهماً، لراحة صديقه التي تعدل أربعين درهماً. وبتخلّيه عن راحته هذه، تسكن الضوضاءُ وينتهي الصخب ويعم الهدوء. فيرتاح الضباط التسعون الساكنون في هذه القاعة. ولكن إذا مدّ المُحقّ بقوة يزداد الصخب أكثر. ففي مثل هذه الحياة الاجتماعية تؤخذ المصلحة العامة بنظر الاعتبار.
فيا إخوتي! لا يستاء بعضُكم من بعض قائلاً: إن أخي هذا لم ينصفني أو أجحف بحقي.. فهذا خطأ جسيم في هذه الحياة وفي اجتماعنا هذا. فلئن أضرّك صاحبُك بدرهم من الضرر، فإنك باستيائك منه وهجرك إياه تلحق أربعين درهماً من الأضرار. بل يحتمل إلحاق أربعين ليرة من الأضرار برسائل النور. ولكن -وللّٰه الحمد- فإن دفاعاتنا الحقة القوية والصائبة جداً قد حالت دون أخذِ أصدقائنا إلى الاستجواب وأخذ إفادتهم المكررة، فانقطع دابرُ الفاسد. وإلاّ لكان الاستياء الذي وقع بين الإخوة يُلحق بنا أضراراً جسيمة. كسقوط قشة في العين أو سقوط شرارة في البارود.
الحكاية الثانية: كان لعجوز ثمانيةُ أبناء. أعطت لكل منهم رغيفاً دون أن تستبقي لها شيئاً. ثم أرجعَ كلٌّ منهم نصفَ رغيفه إليها، فأصبح لديها أربعة أرغفة، بينما لدى كل منهم نصف رغيف.
إخوتي! إنني أشعر في نفسي بنصف ما يتألم به كلٌّ منكم من آلام معنوية وأنتم تبلغون الأربعين، إنني لا أبالي بآلامي الشخصية. ولكن اضطررت يوماً فقلت: "أهذا عقاب لخطأي وأُعاقب به"- فتحرّيت عن الحالات السابقة. فشاهدت أنه ليس لدي شيء من تهييج هذه المصيبة وإثارتها، بل كنت أتخذ منتهى الحذر لأتجنّبها. بمعنى أن هذه المصيبة قضاءٌ إلهي نازل بنا.. فلقد دُبّرت ضدّنا منذ سنة من قبَل المفسدين، فما كان بطوقنا تجنُبُها، فلقد حمّلونا تبعاتها فلا مناص لنا مهما كنا نفعل. فللّٰه الحمد والمنة أن هوّنَ من شدة المصيبة من المائة إلى الواحد.
بناءً على هذه الحقيقة: فلا تَمنّوا عليّ بقولكم: إننا نعاقَب بهذه المصيبة من جرائك. بل سامحوني وادعوا لي. ولا ينتقدنّ بعضُكم بعضاً. ولا تقولوا: لو لم تفعل كذا لما حدث كذا.. فمثلاً إن اعتراف أحد إخواننا عن عدد من أصحاب التواقيع (على الرسائل) أنقذ الكثيرين. فهوّن من شأن الخطة المرسومة في أذهان المفسدين الذين يستعظمون القضية. فليس في هذا ضرر، بل فيه نفع عام عظيم. لأنها أصبحت وسيلة لإنقاذ الكثيرين من الأبرياء.
سعيد النورسي
نكتتان
الفقرات التالية عبارة عن نكتتين:
الأولى: تخص الأخلاق، كتبت لمناسبة ظهور حالات غير مريحة في سجن "أسكي شهر" من جراء انقباض النفوس.
الثانية: نكتة لطيفة لآية كريمة لطيفة مشهورة إلاّ أنها ظلت مستورة.
النكتة الأولى:
إنَّ من كمال اللّٰه سبحانه وسعة رحمته وطلاقة عدالته أن أدرج ثواباً ضمن أعمال البر، وأخفى عقاباً معجلاً في أعمال الفساد والسيئات. فقد أدرج طي الحسنات لذائذَ وجدانية معنوية بما يذكّر بنعَم الآخرة، وأدرج في ثنايا السيئات أعذبةً معنوية بما يحسس بعذاب الآخرة الأليم.
فمثلاً: إن إفشاء المحبة والسلام في صفوف المؤمنين، إنما هو حسنةٌ كريمة للمؤمن، فله ضمن هذه الحسنة لذة معنوية وذوق وجدانيّ وانشراح قلبيّ ممَّا يذكّر بثواب الآخرة المادي. ومن يتفقد قلبَه يشعر بهذا الذوق.
ومثلاً: إنَّ بث الخصومةَ والعداء بين المؤمنين إنما هو سيئةٌ قبيحة. فهذه السيئة تنطوي على عذاب وجداني وأيّ عذاب، بحيث يأخذ بخناق القلب والروح معاً، فكل من يملك روحاً حساسةً وهمة عالية يشعر بهذا العذاب.
ولقد مررتُ بنفسي -طوال حياتي- بأكثر من مائة تجربة على هذا النوع من السيئات. فكنت كلما حملتُ عداءً على أخ مؤمن تجرعتُ عذاب تلك العداوة، حتى لم يبق لي ريب من أن هذا العذاب إنما هو عقاب معجّل لسيئتي التي ارتكبتُها. فأُعاقَب عليها وأُعذب بها.
ومثلاً: إن توقير الجديرين بالاحترام والتوقير وإبداء العطف والرحمة لمن يستحقهما عملٌ صالح وحسنة للمؤمن. ففي هذه الحسنة تكمن لذةٌ عظيمة ومتعة وجدانية إلى حدٍ قد تسوق صاحبَها إلى التضحية حتى بحياته. فإن شئت فانظر إلى اللذة التي تكسبها الوالدات من بذل شفقتهن لأولادهن، حتى إن الوالدة تمضي في سبيل تلك الرأفة والشفقة إلى الجود بنفسها. بل ترى هذه الحقيقة واضحة حتى في عالم الحيوان، فالدجاجة تهاجم الأسد دفاعاً عن فراخها. إذن ففي الاحترام والرأفة أجرةٌ معجلة. يشعر بهذه اللذة أولئك الذين يملكون أرواحاً عالية ونفوساً أبيّة شهمة.
ومثلاً: إنَّ في الحرص والإسراف عقوبةً معنوية معجلة وجزاءً قلبياً، إذ يجعل صاحبه ثملاً من كثرة الشكوى والقلق، فترى العقوبةَ نفسها بل أشد منها في الحسد والتنافس والغيرة، حتى إن الحسد يحرق صاحبَه قبل غيره. وتنقلب الآية في التوكل والقناعة إذ فيهما ثواب وأيّ ثواب بحيث إنه يزيل آثار المصائب وأوضار الفاقة والحاجة.
ومثلاً: إنَّ الغرور والتكبر حملٌ ثقيل مقيت على كاهل الإنسان، حيث إنه يتعذب من رؤيته استثقال الآخرين له في الوقت الذي ينتظر منهم احترامَه.
نعم، إن الاحترام والطاعة توهَب ولا تطلب.
ومثلاً: إنَّ في التواضع وترك الغرور والكبر لذةً عاجلة ومكافأة آنية يخلص المتواضعَ من عبء ثقيل وهو التصنع والرياء.
ومثلا: إنَّ في سوء الظن وسوء التأويل جزاءً معجلاً في هذه الدنيا. حتى غدت "مَن دَقّ دُقّ" قاعدة مطّردة. فالذي يسيء الظَّنَّ بالناس يتعرض حتماً لسوء ظنهم. والذي يؤول تصرفات إخوانه المؤمنين تأويلاً سيئاً، لا محالة سيتعرض للجزاء نفسه في وقت قريب.
وهكذا فقس على هذا المنوال جميعَ الخصال الحسنة والذميمة.
نسأل اللّٰه الرحيم أن يرزق الذين يتذوقون طعوم الإعجاز القرآني المعنوي المنبعث من رسائل النور في زماننا هذا ذوقَ تلك اللذائذ المعنوية المذكورة، فلا تقرب إليهم بإذن اللّٰه الأخلاق الذميمة.
النكتة الثانية:
﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإنسَ إلاَّ لِيَعْبُدُونِ % مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ
وَمَا أُرِيدُ أن يُطْعِمُونِ % إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ﴾(الذاريات:56-58)
إنَّ ظاهر معنى هذه الآية الكريمة لا يبين الأسلوب الرفيع المنسجم مع بلاغة القرآن المعجزة، مثلما جاء في أغلب التفاسير. لذا كان يشغل فكري في كثير من الأحيان. فنبين ثلاثة أوجه إجمالاً، من بين المعاني الجميلة الرفيعة التي وردت من فيض القرآن الكريم.
الوجه الأول:
إنَّ اللّٰه سبحانه يسند أحياناً إلى نفسه ما يمكن أن يعود إلى رسوله الكريم r من حالات، وذلك تكريماً له وتشريفاً. فها هنا كذلك، إذ المعنى المراد من الآية الكريمة المتصدرة، لابد أن يكون الإطعام والإرزاق الذي يعود إلى الرسول r، أي إنَّ رسولي في أدائه مهمة الرسالة وتبليغه العبودية للّٰه، لا يريد منكم أجراً ولا أجرة ولا جزاءً ولا إطعاماً.. وإلاّ إن لم يكن المراد هذا المعنى لكان إعلاماً لمعلوم في منتهى البداهة، مما لا ينسجم وبلاغةَ القرآن المعجزة.
الوجه الثاني:
الإنسان مُغرمٌ بالرزق كثيراً، ويتوهم أن السعي إلى الرزق يمنعه عن العبودية، فلأجل دفع هذا التوهم، ولكي لا يُتخَذ ذريعةً لترك العبادة تقول الآية الكريمة: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإنسَ إلاَّ لِيَعْبُدُونِ﴾ وتَحصر الغايةَ من الخلق في العبودية للّٰه، وأن السعي إلى الرزق -من حيث الأمر الإلهي- عبوديةٌ للّٰه أيضاً.
أما إحضارُ الرزق لمخلوقاتي ولأنفسكم وأهليكم وحتى رزقُ حيواناتكم فأنا الكفيل به. فأنتم لم تُخلَقوا له، فكل ما يخص الرزق والإطعام يخصني أنا وأنا الرزاق ذو القوة المتين، فلا تحتجّوا بهذا فتتركوا العبادة، فأنا الذي أُرسل رزقَ مَن يتعلق بكم من عبادي..
ولو لم يكن هذا المعنى هو المراد، لكان من قبيل إعلام المعلوم، لأن رزقَ اللّٰه سبحانه وتعالى وإطعامَه محال بدهي ومعلوم واضح. وهـناك قاعدة مقررة في علم البلاغة تفيد:
إن كان معنى الكلام معلوماً وبديهياً، فلا يكون هذا المعنى مراداً، بل المراد لازمهُ أو تابعٌ من توابعه.
فمثلاً: إن قلتَ لأحدهم وهو حافظ للقرآن الكريم: أنت حافظ. فهذا الكلام إعلامٌ بما هو معلوم لديه، فإذن المراد منه هو: إنني أعلم أنك حافظ للقرآن، أي أُعلِمُه بما لا يعلمه، وهو علمي أنه حافظ للقرآن.
فبناءً على هذه القاعدة يكون معنى الآية التي هي كنايةٌ عن نفي رزق اللّٰه وإطعامه هو:
إنكم لم تُخلَقوا لإيصال الرزق إلى مخلوقاتي التي تعهّدت أنا برزقهم. فالرزق أنا به زعيم. فواجبُكم الأساس هو العبودية، والسعي على وفق أوامري للحصول على الرزق، هو بذاته نوع من العبادة.
الوجه الثالث:
إنَّ المعنى الظاهري للآية الكريمة: ﴿لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ﴾ في سورة الإخلاص، معلومٌ وبدهي. فيكون المقصود لازماً من لوازم ذلك المعنى. أي إن الذين لهم والدة وولد لا يكونون إلهاً قطعاً.
فيقضي سبحانه وتعالى بقوله:﴿لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ﴾ الذي هو بدهي ومعلوم ويعني أنه أزلي وأبدي، لأجل نفي الألوهية عن سيدنا عيسى وعزير عليهما السلام والملائكة والنجوم والمعبودات الباطلة.
فكما أن هذه الآية هكذا فهنا أيضاً يكون معنى الآية الكريمة: ﴿مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أن يُطْعِمُونِ﴾ أنَّ كل ما يُرزَق ويُطعَم وله استعداد للرزق والإطعام لا يمكن أن يكون إلهاً. فلا تليق الألوهيةُ بمن هو محتاج إلى الرزق والإطعام.
سعيد النورسي
* * *
حول "القيلولة"
﴿أوْ هُمْ قَآئِلُونَ﴾
لقد اهتم "رأفت" بمعنى كلمة "قائلون" الواردة في الآية الكريمة: ﴿أوْ هُمْ قَآئِلُونَ﴾(الأعراف:4)
فكُتب هذا البحث لمناسبة استفساره عنها، ولئلا يعطّل قلمَه الألماسي، بما يصيبه من انحلال في الجسم بسبب نومه بعد صلاة الفجر كالآخرين معه في السجن.
النوم على أنواع ثلاثة:
الأول: الغيلولة: وهي النوم بعد الفجر حتى انتهاء وقت الكراهة. هذا النوم مخالفٌ للسنة المطهرة؛ إذ يورث نقصان الرزق، وزوال بركته، كما هو وارد في الحديث الشريف. حيث إن أفضل وقت لتهيئة مقدمات السعي لكسب الرزق هو في الجو اللطيف، عقب الفجر، ولكن بعد مضيه يطرأ على الإنسان خمول وانحلال، مما يضرّ بسعيه في ذلك اليوم، وبدوره يضر بالرزق، كما يسبب زوال بركته، وقد ثبت هذا بتجارب كثيرة.
الثاني: الفيلولة: وهي النوم بعد صلاة العصر حتى المغرب، هذا النوم يسبب نقصانَ العمر، أي يتناقص عمر الإنسان مادياً في اليوم الذي يشوبه النوم المورث للغفلة؛ إذ يبدو ذلك اليوم قصيراً ناقصاً مثلما يكون قضاءُ وقت العصر بالنوم في حكم عدم رؤيةِ نتائجِ معنويةٍ لذلك اليوم، تلك النتائج التي تتظاهر على الأغلب في ذلك الوقت. فيكون الإنسان كأنه لم يعش ذلك اليوم.
الثالث: القيلولة: وهي سنة نبوية شريفة، ويبدأ وقتُها من الضحى إلى ما بعد الظهر بقليل. ومع كون هذا النوم من السنة المطهرة([12]) فانه يُعين على قيام الليل، وقد رسّخ هذه السنة النبوية ما اعتاد عليه أهلُ الجزيرة العربية من تعطيل نسبي للأعمال عند اشتداد الحر من الظهر حسب محيطهم. وهذا النوم يطيل العمرَ ويزيد الرزق؛ لأنَّ نصف ساعة من القيلولة يعادل ساعتين من نوم الليل، أي إنه يزيد عمرَ يومه ساعةً ونصفَ الساعة. وينقذ ساعةً ونصف الساعة أيضاً من النوم الذي هو صنو الموت، ويحييها بتزييد وقت عمله كسباً للرزق، فيطيل زمن السعي والعمل.
سعيد النورسي
* * *
وهذه خاطرة جميلة
حينما كنت اقرأ جملة "ألفُ ألفِ صلاةٍ وألف ألف سلام عليك يا رسول اللّٰه" عقب الصلاة، تراءت لي من بعيد خاطرةٌ لطيفة انكشفت من تلك الصلوات، إلاّ أنني لم أتمكن من اقتناصها كاملة، ولكن سأشير إلى بعض جمَلها:
رأيت أن عالَم الليل شبيهٌ بمنـزل جديد يُفتح لدار الدنيا.. دخلت ذلك العالم في صلاة العشاء، ومن انبساطٍ فوق العادة للخيال وبحكم ارتباط ماهية الإنسان مع الدنيا قاطبة رأيت أنَّ هذه الدنيا العظيمة قد أصبحت في ذلك الليل منـزلا صغيراً جداً حتى لا يكاد يُرى ما فيه من بَشر وذوي حياة. ورأيت -خيالاً- أنْ ليس هناك من ينوّر ذلك المنـزل إلاّ الشخصية المعنوية للرسول r حتى امتلأت أرجاؤه بهجة وأنساً وسروراً.
وكما يبدأ الشخصُ بالسلام عند دخوله المنـزل، كذلك وجدت في نفسي شوقاً هائلاً ورغبة جياشة إلى القول: ألف ألف سلام عليك يا رسول اللّٰه..([13]) ومن هنا وجدت نفسي كأنني أُسلّم عليه بعدد الإنس والجن وأعبر بسلامي هذا عن تجديد البيعة له والرضى برسالته وقبولها منه وإطاعة القوانين التي أتى بها، والتسليم لأوامره وسلامته من بلايانا. أي كأنني أقدم هذا السلام -ناطقاً بتلك المعاني- باسم كل فرد من أفراد عالمي وهم ذوو الشعور من جن وإنس، وجميع المخلوقات.
وكذا فإن ما جاء به من النور العظيم والهدية الغالية ينور عالمي الخاص هذا كما ينور العالم الخاص لكل أحد في هذه الدنيا، فيحوّل عالَمنا إلى عالم زاخر بالنعم. فقلت تجاه هذه النعمة الهائلة: "اللّٰهم أنزل ألفَ صلاة عليه" علّها تكون شكراناً وعرفانا للجميل على ذلك النور الحبيب والهدية الغالية، إذ إننا لا نستطيع أن نردّ جميلَه وإحسانه إلينا أبداً، فأظهَرنا تضرُّعنا إلى اللّٰه جل وعلا بالدعاء والتوسل كي يُنـزل من خزائن رحمته رحمةً عليه بعدد أهل السماوات جميعاً.. هكذا أحسست خيالاً.
فهو r يطلب صلاةً بمعنى "الرحمة" من حيث إنه "عبد" ومتوجه من الخلق إلى الحق سبحانه. ويستحق "السلام" من حيث إنه "رسول" من الحق سبحانه إلى الخلق.
وكما أننا نرفع إليه سلاماً بعدد الإنس والجن، ونجدد له البيعة العامة بعددها أيضاً، فإنه r يستحق أيضاً صلاة من خزائن الرحمة الإلهية بعدد أهل السماوات، وباسم كل واحد منهم؛ ذلك لأن النور الذي جاء به هو الذي يظهر كمال كل شيء في الوجود، ويُبرز قيمةَ كل موجود، وتُشاهَد به الوظيفة الربانية لكل مخلوق، وتتجلى به المقاصد الإلهية من كل مصنوع. لذلك لو كان لكل شيء لسانٌ لكان يردد قولاً كما يردد حالاً: الصلاة والسلام عليك يا رسول اللّٰه.. فنحن بدورنا نقول بدلاً عن المخلوقات كافة:
- ألفُ ألف صلاة وألفُ ألف سلام عليك يا رسول اللّٰه بعدد الإنس والجن وبعدد الملك والنجوم.
فَيَكْفِيكَ أنَّ اللّٰهَ صَلّٰى بِنَفْسِهِ وَأمْلاَكَهُ صَلَّتْ عَلَيْهِ وَسَلَّمَتْ
سعيد النورسي
* * *
حول "وحدة الوجود"
أخي العزيز!
تطلبون شيئاً من الإيضاح حول "وحدة الوجود" ففي إحدى لمعات "المكتوب الحادي والثلاثين" جوابٌ شاف وقوي واضح إزاء رأي "محي الدين بن عربي" في هذه المسألة.
أما هنا فنكتفي بهذا القدر ونقول: إنَّ تلقين مسألة "وحدة الوجود" في الوقت الحاضر للناس يضرّهم ضرراً بالغاً، إذ كما أن التشبيهات والتمثيلات،([14]) إذا خرجت من أيدي الخواص ودخلت أيدي العوام وسرَت من يد العلم إلى يد الجهل تُتلقى حقائق؛ كذلك حقائقُ وحدة الوجود وأمثالُها من الحقائق العالية، إذا ما دخلت بين العوام الغافلين السارحين في تأثير الأسباب، يتلقونها "طبيعة" وتولد ثلاث مضار مهمة.
الضرر الأول:
إنَّ مشرب وحدة الوجود، مع أنه في حكم إنكار وجود الكائنات إزاء وجود اللّٰه سبحانه، إلا أنه كلما دخل بين العوام يمضي بهم إلى أن يصل في فكر الغافلين منهم ولاسيما الملوّثين بالماديات إلى إنكار الألوهية إزاء الكون والماديات.
الضرر الثاني:
إنَّ مشرب وحدة الوجود، يَردّ رداً شديداً ربوبيةَ ما سوى اللّٰه تعالى، حتى إنه ينكر ما سواه تعالى ويرفع الثنائية، فلا يرى وجوداً مستقلاً للنفس الأمارة ولا لأي شيء كان، ولكن في هذا الزمان، الذي استولت فيه مفاهيم الطبيعة وتفرعنت نفوسٌ أمارة وبخاصة مَن له استعداد ليتخذ نفسه معبوداً من دون اللّٰه، ونفخ الغرور والأنانية في أوداجه، فضلا عن نسيان الخالق والآخرة إلى حد ما. فتلقينُ هؤلاء بوحدة الوجود يطغي نفوسَهم حتى لا يسعها شيء، والعياذ باللّٰه.
الضرر الثالث:
إنه يورث أفكاراً وتصورات لا تليق بوجوب وجود الذات الجليلة، المنـزّهة المبرأة المتعالية المقدسة عن التغير والتبدل والتجزؤ والتحيز، ولا تلائم تنـزّهه وتقدسه سبحانه بحال، فيكون بذلك سبباً لتلقينات باطلة.
نعم، إنَّ من يتكلم عن وحدة الوجود عليه أن يَعرُج -فكراً- من الثرى إلى الثريا تاركاً الكائنات وراءه ظهرياً، محدقاً بنظره إلى العرش الأعلى، عادّاً الكائناتِ معدومةً في حالة الاستغراق، فيمكنه أن يرى بقوة الإيمان أن كل شيء من الواحد الأحد سبحانه مباشرة. وإلاّ فإن من يقف وراء الكائنات وينظر إليها ويرى الأسباب أمامه وينظر من الأرض، فإنه يحتمل أن يغرق في تأثير الأسباب ويقع في مستنقع الطبيعة، بينما الذي يعرج فكراً إلى العرش كجلال الدين الرومي(*) يستطيع أن يقول: "افتح سمعَك فإنك تستطيع أن تسمع من كل أحد -كأنه حاكٍ فطري- ما تسمعه من الحق تعالى". وإلاّ فمن لا يستطيع العروجَ مثله إلى هذه المرتبة الرفيعة، ولا يرى الموجودات من الفرش إلى العرش على صورة مرايا (لتجلياته) إن قلت له: "اصغ إلى كل أحد تسمع منه كلام اللّٰه"، فإنه يبتلى بتصورات باطلة مخالفة للحقيقة كمن يهوي معنىً من العرش إلى الفرش.
﴿قُلِ اللّٰهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ﴾(الأنعام:91).
ما للتراب ولرب الأرباب.
سبحان من تقدس عن الأشباه ذاتُه، وتنـزّهت عن مشابهة الأمثال صفاته، وشَهِد على ربوبيته آياته جل جلاله ولا إله إلاّ هو.
سعيد النورسي
* * *
جواب عن سؤال
لا يسعني الوقت الكافي لعقد موازنة بين أفكار كل من "مصطفى صبري"(*) و"موسى باكوف"(*) إلا أنني أكتفي بالقول الآتي:
إن أحدهما قد أفرط والآخر يفرط. فمع أن مصطفى صبري محقّ في دفاعاته بالنسبة إلى موسى باكوف إلاّ أنه ليس له حق تزييف شخص محي الدين بن عربي الذي هو خارقةٌ من خوارق العلوم الإسلامية.
نعم، إن محي الدين بن عربي مهتدٍ ومقبولٌ ولكنه ليس بمرشدٍ ولا هادٍ وقدوةٍ في جميع كتاباته، إذ يمضي غالباً دون ميزان في الحقائق، فيخالف القواعد الثابتة لأهل السنة، ويفيد بعضُ أقواله -ظاهراً- الضلالةَ غير أنه بريء من الضلالة، إذ الكلام قد يبدو كفراً بظاهره، إلاّ أن قائلَه لا يكون كافراً.
فمصطفى صبري لم يراع هذه النقاط بنظر الاعتبار ففرّط في بعض النقاط لتعصبه لقواعد أهل السنة. أما موسى باكوف فهو يخطئ كثيراً بأفكاره التي تماشي التمدن والمنحازة شديداً للتجدد. إذ يحرّف بعضَ الحقائق الإسلامية بتأويلات خاطئة ويتخذ شخصاً مردوداً كأبي العلاء المعري في مستوىً أعلى من علماء الإسلام المحققين، وقد غالى كثيراً لانحيازه الشديد إلى تلك المسائل التي خالف فيها محي الدين أهلَ السنة والتي تنسجم مع أفكاره.
ولقد قال محي الدين: "تَحرم مطالعةُ كتبَنا على من ليس منا" أي على من لا يعرف مقامَنا. نعم، إن قراءة كتب محي الدين ولاسيما مسائله التي تبحث في وحدة الوجود مضرة في هذا الزمان.
سعيد النورسي
عندما كنت أنظر من نافذة السجن، إلى ضحكات البشرية المبكية، في مهرجان الليل البهيج، أنظر إليها من خلال عدسة التفكر في المستقبل والقلق عليه، انكشف أمام نظر خيالي هذا الوضع، الذي أبينه:
مثلما تشاهَد في السينما أوضاعُ الحياة لمن هم الآن راقدون في القبر، فكأنني شاهدت أمامي الجنائز المتحركة لمن سيكونون في المستقبل القريب من أصحاب القبور.. بكيت على أولئك الضاحكين الآن، فانتابني شعورٌ بالوحشة والألم. راجعت عقلي، وسألت عن الحقيقة قائلاً: ما هذا الخيال؟ قالت الحقيقة: إن خمسةً من كل خمسين من هؤلاء البائسين الضاحكين الآن والذين يمرحون في نشوة وبهجة سيكونون كهولاً بعد خمسين عاماً، وقد انحنَت منهم الظهور وناهز العمرُ السبعين، والخمسةَ والأربعين الباقية يَرِمُّون في القبور. فتلك الوجوه الملاح، وتلك الضحكات البهيجة، تنقلب إلى أضدادها. وحسب قاعدة "كل آتٍ قريب" فإن مشاهدة ما سيأتي كأنه آتٍ الآن تنطوي على حقيقة، فما شاهدته إذن ليس خيالاً.
فما دامت ضحكاتُ الدنيا المتسمة بالغفلة مؤقتةً ومعرّضة إلى الزوال، وهي تستر مثل هذه الأحوال المؤلمة المبكية. فلابد أن ما يسرّ قلبَ الإنسان البائس العاشق للخلود، ويفرح روحَه الولهان بعشق البقاء، هو ذلك اللّهو البريء والمتعة النـزيهة وأفراح ومسرات تخلد بثوابه، ضمن نطاق الشرع، مع أداء الشكر باطمئنان القلب وحضوره بعيداً عن الغفلة. ولئلا تقوى الغفلةُ في النفوس في الأعياد، وتدفع الإنسان إلى الخروج عن دائرة الشرع، ورد في الأحاديث الشريفة ترغيب قوي وكثير في الشكر وذكرِ اللّٰه في تلك الأيام. وذلك لتنقلب نِعَم الفرح والسرور إلى شكرٍ يديم تلك النعمة ويزيدها، إذ الشكر يزيد النعم ويزيل الغفلة.
سعيد النورسي
النفس الأمارة بالسوء
نكتة من نكات الآية الكريمة: ﴿إِنَّ النَّفْسَ لأمَّارَةٌ بِالسُّوءِ﴾(يوسف:53) والحديثِ الشريف: "أعدى عدوِّك نفسُك التي بين جنبيك".([15])
نعم، إنَّ الذي يحب نفسَه الأمارة بالسوء -غير المزكّاة- ويعجب بها، هو في الحقيقة لا يحب أحداً غيرها، وحتى لو أبدى للغير حباً فلا يحبه من صميم قلبه، بل ربما يحبه لمنافعه، ولِمَا يتوقع منه من متاع. فهو في محاولة دائمة لتحبيب نفسه للآخرين وفي سعي متواصل لإثارة إعجابهم به، يصرف كل قصورٍ عن نفسه فلا يحمّلها أيّ نقص كان، بل يدافع دفاعَ المحامي المخلص لإبراء ساحتها، ويمدحها بمبالغات بل بأكاذيب لينـزّهها عن كل عيب أو قصور، حتى يقربُّها إلى التقديس، بل يبلغ به الأمر أن يكون مصداق الآية الكريمة: ﴿مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ ﴾(الفرقان:43) عندها تتوالى عليه صفعاتُ هذه الآية الكريمة -حسب درجته- فينقلب مدحُه إلى إعراض الناس عنه، ويتحول تحبيب نفسه إليهم إلى استثقالهم له، فيجد عكس ما كان يروم، فضلاً عن أنه يضيّع الإخلاص، لما يخلط من رياء وتصنّع في أعماله الأخروية، فيكون مغلوباً على أمره أمام شهواته وهواه ومشاعره، تلك التي لا تبصر العقبى ولا تفكر في النتائج والمغرمة بالتلذذ الآني. بل قد تبرِّر له أهواؤه الضالة أموراً يرتكبها لأجل متعة لا تدوم ساعة يفضي به أن يلقى في السجن لسنة كاملة، وقد يقاسي عشر سنوات من الجزاء العادل لأجل تسكين روح الثأر لديه وشهوة الغرور التي لا تستغرق دقيقة واحدة. فيكون مثله كمثل ذلك الطفل الأبله الذي لا يقدر قيمة جزء المصحف الشريف الذي يتلوه ويدرسه فيبيعه بقطعة حلوى رخيصة، إذ يصرف حسناته التي هي أغلى من الألماس ويبدلّها بما يشبه -في تفاهتها- قطعَ الزجاج، تلك هي حسياته وهواه وغروره. فيخسر خسارة جسيمة فيما كان ينبغي له أن يربح ربحاً عظيماً.
اللّٰهم احفظنا من شر النفس والشيطان ومن شر الجن والإنس.
سؤال
كيف يكون البقاءُ في سجن جهنم بقاءً خالداً جزاءً عادلاً لكفرٍ في زمن قصير؟
الجواب: إنَّ القتل الذي يحصل في دقيقة واحدة يعاقب عليه بسبع ملايين وثمانمائة وأربع وثمانين ألفاً من الدقائق -على اعتبار أن السنة ثلاثمائة وخمسة وستون يوماً- فإن كان هذا قانوناً عدلاً، فالذي يقضي عشرين سنة من عمره في أحضان الكفر ويموت عليه يستحق جزاءً بمقتضى هذا القانون العادل للبشر سجناً يدوم سبعة وخمسين ترليوناً وواحداً ومائتي مليارٍ ومائتي مليونٍ من السنين، باعتبار أن دقيقة من الكفر تعادل ألفَ قتل ويمكن أن يُفهَم من هذا وجهَ الانسجام مع عدالة قوله تعالى: ﴿خَالِدِينَ فِيهَا﴾(البيّنة:8).
إنَّ سر العلاقة بين العددين المتباعدين جداً بعضهما عن بعض، هو أن الكفر والقتل تخريب وتعدّ على الآخرين، ولهما تأثير في الآخرين، فالقتلُ الذي يحصل في دقيقة واحدة يسلب خمس عشرة سنة في الأقل من حياة المقتول، حسب ظاهر الحال، لذا يسجن القاتل بدلاً منه، فدقيقة واحدة في الكفر الذي هو إنكارٌ لألف اسم واسم من الأسماء الحسنى وتزييف لنقوشها البديعة.. واعتداءٌ على حقوق الكائنات.. وإنكار لكمالاتها.. وتكذيب لدلائل الوحدانية التي لا تحد وردّ لشهاداتها.. تلقي بالكافر في أسفل سافلين لأكثر من ألف سنة، فتسجنه في قوله تعالى: ﴿خَالِدِينَ ….﴾
سعيد النورسي
* * *
توافق لطيف ذو مغزى
إن المادة "163" من القانون التي يُتهم بموجبها طلابُ النور، ويُطالَب بها إنزال العقوبة عليهم، هذا الرقم يتوافق مع عدد النواب الذين وافقوا على لائحة البرلمان الخاصة بمنح مائة وخمسين ألف ليرة لبناء مدرسة مؤلِّف رسائل النور، وقد كانوا (163) نائباً من بين (200) نائباً في مجلس الأمة التركي.
هذا التوافق يقول معنىً: إن تواقيع (163) نائباً من نواب حكومة الجمهورية على وجه التقدير والإعجاب بخدمته يُبطل حكم المادة "163" بحقه.
وكذا من بين التوافقات اللطيفة ذات المغزى أنه كان القبض على مؤلف رسائل النور وطلابه واعتقالهم في 27/نيسان/1935 بينما كان قرار المحكمة بحقهم في 19/آب/1935 أي بعد (115) يوماً. هذا الرقم يتوافق مع عدد كتب رسائل النور وهو (115) كتاباً يضم (128) رسالة.
كما أنه يوافق عدد المتهمين المائة وخمسة عشر من طلاب النور الذين استُجوبوا واتهموا.
فهذا التوافق يدل على أن المصيبة التي ابتلي بها مؤلف رسائل النور وطلابها إنما تُنظّم بيدٍ من العناية (الإلهية).([16])
* * *
النكتة الثامنة والعشرون
من اللمعة الثامنة والعشرين
بسم اللَّهِ الرحمن الرحيم
﴿لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْملأِ الأعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِن كُلِّ جَانِبٍ % دُحُورًا وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ % إِلا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ﴾(الصافات:8-10)
﴿وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِّلشَّيَاطِينِ﴾(الملك:5)
سنبين نكتةً مهمة من نكات هذه الآيات الكريمة وأمثالها من الآيات لمناسبة اعتراض يرِد من أهل الضلالة على وجه النقد.
تفيد هذه الآيات الكريمة أنَّ جواسيسَ الجن والشياطين يسترقون السمعَ إلى إخبار السماوات ويجلبون منها الأخبار الغيبية إلى الكهان والماديين، والذين يعملون في تحضير الأرواح. فحيل بين هذه الأخبار وبين التجسس الدائمي لأولئك الجواسيس ورُجموا بالشهب أزيد مما كان في تلك الفترة من بداية الوحي، وذلك لئلا يلتبس شيء على الوحي.
نبين جواباً في غاية الاختصار عن سؤال في غاية الأهمية وهو ذو ثلاث شعب.
سؤال: يفهم من أمثال هذه الآيات الكريمة المتصدرة أنه -لأجل استراق السمع وتلقّي الخبر الغيبي حتى في الحوادث الجزئية بل أحياناً في حوادث شخصية- تقتحم جواسيس الشياطين مملكة السماوات التي هي في غاية البعد، لكأن تلك الحادثةَ الجزئية هي موضعُ بحث في كل جزء من أجزاء تلك المملكة الواسعة، ويمكن لأي شيطان كان، ومن أي مكان دخل إلى السماوات التنصّتُ ولو بصورة مرقعة إلى ذلك الخبر وجلبُه هكذا إلى الأرض. هذا المعنى الذي يُفهم من الآيات الكريمة لا يَقبل به العقل والحكمة. ثم إنَّ قسماً من الأنبياء وهم أهل الرسالة، والأولياء وهم أهل الكرامة تسلموا ثمار الجنة التي هي فوق السماوات العلى -بنص الآية- وكأنهم يأخذونها من مكان قريب، وأحياناً يشاهدون الجنة من قريب. هذه المسألة تعني نهاية البُعد في نهاية القُرب بحيث لا يسعها عقلُ هذا العصر.
ثم إن حالة من أحوال جزئية لشخص جزئي يكون موضعَ ذكرِ وكلام لدى الملأ الأعلى في السماوات العلى الواسعة جداً، هذه المسألة لا توافق إدارة الكون التي تسير في منتهى الحكمة.
علماً أن هذه المسائل الثلاث تعد من الحقائق الإسلامية.
الجواب: أولاً: إن الآية الكريمة: ﴿وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِّلشَّيَاطِينِ﴾ تفيد أن جواسيس الشياطين التي تحاول الصعود إلى السماوات للتجسس تُطرد بنجوم السماوات.
فقد بُحثت هذه المسألة بحثاً جيداً في "الكلمة الخامسة عشرة"، وأُثبتت إثباتاً يُقنع حتى أعتى الماديين، بل يلجِئهم إلى السكوت والقبول، وذلك بسبع مقدمات قاطعة هي بمثابة سبع مراتب للصعود إلى فهم الآية الكريمة.
ثانياً: نشير إلى هذه الحقائق الإسلامية الثلاث التي يُظن أنها بعيدة (عن العقل) بتمثيل، وذلك لتقريبها إلى الأذهان القاصرة الضيقة:
هب أن الدائرةَ العسكرية لحكومةٍ تقع في شرقي البلاد، ودائرتَها العدلية في الغرب ودائرةَ المعارف في الشمال ودائرة الشؤون الدينية (المشيخة) في الجنوب، ودائرة الموظفين الإداريين في الوسط وهكذا. فعلى الرغم من البُعد بين دوائر هذه الحكومة، فإن كل دائرة لو استَخبرت الأوضاع فيما بينها بالتلفون أو التلغراف ارتباطاً تاماً، عندها تكون البلادُ كلها كأنها دائرةٌ واحدة هي دائرة العدل، أو الدائرة العسكرية أو الدينية، أو الإدارية وهكذا.
مثال آخر: يحدث أحياناً أن دولاً متعددة ذاتَ عواصمَ مختلفةٍ، تشترك معاً في مملكة واحدة، بسلطات متباينة، من حيث مصالحها الاستعمارية فيها، أو لوجود امتيازات خاصة بها، أو من حيث المعاملات التجارية وغيرها. فكل حكومة عندئذ ترتبط بعلاقة مع تلك الرعية من حيث امتيازاتها، فعلى الرغم من أنها رعيةٌ واحدة وأمةٌ واحدة، فإن معاملات تلك الحكومات المتباينة -التي هي في غاية البعد- تتماسّ وتتقارب كلٌّ منها مع الأخرى في البيت الواحد بل تشترك في كل إنسان. حتى تُشاهد مسائلها الجزئية في الدوائر الجزئية وهي نقاط التّماس والتقارب، ولا تؤخذ كلُّ مسألة جزئية من الدائرة الكلية. ولكن عندما تُبحث تلك المسائل الجزئية، تُبحث كأنها أُخذت من الدائرة الكلية وذلك لارتباطها بالقوانين الكلية لتلك الدائرة. وتعطى لها صورة كأنها مسألة أصبحت موضع بحث في تلك الدائرة الكلية.
وهكذا ففي ضوء هذين المثالين:
إن مملكة السماوات التي هي في غاية البعد، من حيث العاصمة والمركز، فإن لها هواتفَ معنوية تمتد منها إلى قلوب الناس في مملكة الأرض. فضلاً عن أن عالَم السماوات لا يشرف على العالم الجسماني وحده بل يتضمن عالم الأرواح وعالم الملكوت؛ لذا فعالمُ السماوات يحيط بجهةٍ بعالم الشهادة تحت ستار.
وكذلك الجنة التي هي من العوالم الباقية، وهي دارُ البقاء، فمع أنها في غاية البعد، إلاّ أن دائرة تصرفاتها تمتد امتداداً نورانياً وتنتشر إلى كل جهة تحت ستار عالم الشهادة.
فكما أن حواسَّ الإنسان التي أودعها الصانع الحكيم الجليل بحكمته وبقدرته في رأس الإنسان، فعلى الرغم من أن مراكزها مختلفة، فإن كلاً منها تسيطر على الجسم كله، وتأخذه ضمن دائرة تصرفها. كذلك الكون الذي هو إنسان أكبر يضم ألوف العوالم الشبيهة بالدوائر المتداخلة. فالأحوال الجارية في تلك العوالم والحوادثُ التي تقع فيها تكون موضعَ النظر من حيث جزئياتها وكلياتها، وخصوصياتها وعظمتها. بمعنى أن الجزئيات تُشاهَد في الأماكن الجزئية والقريبة، بينما الكليات والأمور العظيمة تُرى في المقامات الكلية والعظيمة.
ولكن قد تستولي حادثةٌ جزئية خصوصية على عالم عظيم فأينما يُلقى السمع تُسمع تلك الحادثة. وأحياناً تحشّد الجنود الهائلة إظهاراً للعظمة والهيئة وليس لقوة العدو. فمثلاً: إن حادثةَ الرسالة المحمدية، ونزول الوحي القرآني، لكونها حادثةً جليلة، فإن عالم السماوات كله، بل حتى كل زاوية من زواياه متأهب، وقد صفّت فيه الحراس، في تلك البروج العظيمة، من تلك السماوات العالية الرفيعة والبعيدة بعداً عظيماً. ويقذفون من النجوم المجانيق طرداً لجواسيسِ الشياطينِ ودفعاً بهم عن السماوات. فالآية الكريمة عندما تُبرز المسألة هكذا برجم الشياطين بكثرة هائلة والقذفِ بالشهب ولاسيما في بداية الوحي في ذلك الوقت، تبين إشارةً ربانيةً إلى الإعلان عن درجة عظمة الوحي القرآني وشعشعة سلطانه، وإلى درجة أحقيته وصوابه والذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. وهكذا يترجم القرآنُ الكريم ذلك الإعلانَ الكوني العظيم ويشير إلى تلك الإشارات السماوية.
نعم، إنَّ إظهار هذه الإشارات العظيمة السماوية، وإبرازَ مبارزة الشياطين للملائكة، مع إمكان طردِ جواسيس الشياطين بنفخٍ من مَلَك، إنما هو لإظهار عظمة الوحي القرآني وعلوه ورفعته. ثم إنَّ هذا البيان القرآني المهيب، وإظهار الحشود السماوية العظيمة، ليس تعبيراً عن أن للجن والشياطين قوةً واقتداراً بحيث تسوق أهلَ السماوات إلى المبارزة والمدافعة معهم، بل هي إشارةٌ إلى أنه لا دخل للشياطين والجن في أي موضع من مواضع هذا الطريق الطويل الممتد من قلب الرسول الأعظم r إلى عالم السماوات إلى العرش الأعظم.
وبهذا يعبّر القرآن الكريم عن أن الوحي القرآني حقيقةٌ جليلة حقيقٌ أن يكون موضع ذكر وبحث لدى الملأ الأعلى والملائكة كلهم في تلك السماوات الهائلة، بحيث يضطر الشياطين إلى الصعود إلى السماوات لينالوا شيئاً من أخبارها فيُرجَمون ولا ينالون شيئاً فيشير القرآن الكريم بهذا الرجم إلى أن الوحي القرآني النازل على قلب محمد r، وجبرائيل عليه السلام الذي نزل إلى مجلسه والحقائقَ الغيبية المشهودة لنظره، سليمة، صائبة، صحيحة، لا تدخل فيها شبهةٌ قط وفي أية جهة منها قط. وهكذا يعبّر القرآن الكريم عن هذه المسألة بإعجازه البليغ.
أما مشاهدة الجنة في أقرب الأماكن وقطف الثمار منها أحياناً، مع كونها بعيدة كل البعد عنا وكونها من عالم البقاء، فبدلالة التمثيلين السابقين يُفهم أنَّ هذا العالمَ الفاني، عالمَ الشهادة، حجابٌ لعالم الغيب وعالم البقاء. إنه يمكن رؤية الجنة في كل جهة مع أن مركزها العظيم في مكان بعيد جداً، وذلك بوساطة مرآة عالم المثال. ويمكن أيضاً بوساطة الإيمان البالغ درجةَ حقِّ اليقين أن تكون للجنّة دوائر ومستعمرات -لا مشاحة في الأمثال- في هذا العالم الفاني ويمكن أن تكون هناك مخابرات واتصالات معها بالأرواح الرفيعة وبهاتف القلب ويمكن أن تَرِدَ منها الثمار.
أما انشغال دائرةٍ كلية بحادثة شخصية جزئية، أي ما ورد في التفاسير من أن الشياطين يصعدون إلى السماوات ويسترقون السمع هناك ويأتون بأخبار غيبية ملفقة للكهان، فينبغي أن تكون حقيقته هكذا: إنه لا صعود إلى عاصمة عالم السماوات لتلقي ذلك الخبر الجزئي، بل هو صعود إلى بعض المواقع الجزئية في جو الهواء -الذي يشمله معنى السماوات- والذي فيه مواضعُ بمثابة مخافر -ولا مشاحة في الأمثال- للسماوات، وتقع علاقاتٌ في هذه المواقع الجزئية مع مملكة الأرض. فالشياطين يسترقون السمعَ في تلك المواقع الجزئية لِتلقّي الأحداث الجزئية، حتى إن قلب الإنسان هو أحدُ تلك المقامات حيث يبارز فيه ملَكُ الإلهام الشيطانَ الخاص.
أما حقائق القرآن والإيمان وحوادث الرسول r، فمهما كانت جزئية فهي بمثابةِ أعظمِ حادثة وأجلّها في دائرة السماوات وفي العرش الأعظم. حتى كأنها تنشر في الصحف المعنوية للمقدرات الإلهية الكونية -ولا مشاحة في الأمثال- بحيث يُذكر عنها ويَبحث مسائلها في كل زاوية من زوايا السماوات، حيث إنه -ابتداءً من قلب الرسول الكريم r وانتهاءً إلى دائرة العرش الأعظم- مصونٌ من أيّ تدخل كان من الشياطين.
فإن القرآن مع بيانه لهذا إنما يعبّر بتلك الآيات الجليلة أنه لا حيلة ولا وسيلة للشيطان لتلقيّ أخبار السماوات إلاّ استراق السمع.
فيبين القرآن بهذا بياناً معجزاً بليغاً: بأنه ما أعظمَ الوحي القرآني وما أعظمَ قدرَه! وما أصدق نبوة محمد r وما أصوبَها! حتى لا يمكن الدنو إليهما بأية شبهة كانت وبأي شكل من الأشكال.
سعيد النورسي
[1]() الذباب: يطلق على كل حشرة طائرة (ج) أذبة وذبان.
[2]() نعم، إن سمكة واحدة تضع ألوفاً من البويضات، فتخرج منها ألوفاً من الصغار وأحياناً تخرج من مبيضها مليوناً من البويضات، فتكون مواليد الأسماك متناسبة مع وفياتها، كي يمكن أن تحافظ على التوازن في البحر. ومن ألطاف تجليات الرحمن الإلهية أن تتفاوت أجسام الوالدات تفاوتاً كبيراً مع أجسام صغارها، فلا تستطيع أن تقود صغارها أينما ذهبت، حيث لا يمكنها الدخول في أماكن تدخلها الصغار، فيولّد الحكيم الرحيم سبحانه قائداً صغيراً من بين الصغيرات ويسخّرها في وظيفة الوالدات. (المؤلف).
[3]() عن أبي هريرة رضي اللّٰه عنه أن رسول اللّٰه r قال: "لتؤدُّن الحقوق إلى أهلها يوم القيامة، حتى يقادَ للشاة الجلحاء من الشاة القرناء". الترمذي، السنن 4/614؛ ابن حبان، الصحيح 16/363؛ أحمد بن حنبل، المسند 2/323. ومعنى الجلحاء: أي التي لا قرن لها.
[4]() كما في حشرة المن.
[5]() إن طائفة صغيرة جداً من الذباب تُخلق على هيئة كتلة سوداء، على أغصان اللوز والمشمش، في أواخر الربيع، وتبقى ملتصقة بالغصن، وتسيلُ منها -بدلاً من الفضلات- قطراتٌ شبيهة بالعسل فتتجمع حولها أنواع الذباب الأخرى وتمصها. وطائفة أخرى من الذباب تستخدم في تلقيح بعض أزاهير النباتات والأشجار المثمرة، كالتين. وطائفة أخرى للذباب، هي اليراع، المتلمعة ليلاً، وهي أعجوبة تلفت الأنظار وتدعو إلى التدبر والتأمل، كما أن قسماً منها تتلمع لمعان الذهب. ولا ينبغي أن ننسى البعوض والزنابير المجندات الحاملات للرماح. فلو لم تكن زمام هذه الذبان بيد الخالق الرحيم، وأغارت على الأحياء والإنسان لأفنت نوع الإنسان كما قتلت نمرود، ولفسّرت لنا المعنى الإشاري للآية الكريمة ﴿وان يسلبهم الذباب شيئاً لا يستنقذوه﴾. ولهذا فإن جنس الذباب الذي يضم مائة من الطوائف المالكة للمزايا والخواص المذكورة، لها أهميتها التي أهّلتها لتكون موضوع الآية الكريمة ﴿يَا أيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ..﴾. (المؤلف).
[6]() هذه العناوين الصغيرة وضعت من قبلنا.
[7]() هو "رأفت" الغيورُ في طرح الأسئلة والمتكاسل في كتابة الرسائل. (المؤلف).
[8]() لقد قال بعض المفسرين : إن مبادئ هذه الحيوانات قد أتت من السماوات. ومرادهم في ذلك: أن بقاء هذه الحيوانات المسماة بالأنعام، إنما هو بالرزق، وأن أرزاقها هي الأعشاب والنباتات، ورزق الأعشاب آت من المطر، والمطر باعث على الحياة ورحمة نازلة من السماء، فالرزق آت من السماوات. والآية الكريمة ﴿وفي السماء رزقكم﴾ (الذاريات:22) تشير إلى هذا المعنى. إذ لما كانت إدامة أجسام الحيوانات المتجددة هي بالمطر النازل من السماوات، فإن التعبير بـ﴿أنزلنا﴾ هو في موضعه اللائق. (المؤلف).
[9]() نص الآية الكريمة: ﴿فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُواْ بِمَا أُوتُواْ أخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ﴾(الأنعام:44).
[10]() يقول "النورسي" كُتِّبنا بالبناء للمجهول ولم يقل "كَتَبنا" للمعلوم وكأنه يشير بذلك إلى أن رسالة "الإخلاص" إنْ هي إلا فيوضات قرآنية أُمليتْ عليه، ومن هنا تأتي أهميتها.
[11]() المقصود سنة 1916م.
[12]() انظر: البخاري، الاستئذان 16، 39، 41، الجمعة 40، 41، الحرث 21، الأطعمة 17؛ مسلم، الفضائل 84، الجمعة 30؛ أبو داود، الجمعة 218.
[13]() ذلك لأن الرحمة النازلة على الرسول الكريم r هي متوجهة لحاجة الأمة قاطبة في زمن أبدي، لذا فالصلاة غير المتناهية التي تهدى إليه منسجمة جداً. فلو دخل شخص بيتاً خالياً مظلماً موحشاً كالدنيا المظلمة الموحشة بالغفلة كم سيأخذه الرعب والدهشة والاضطراب؟ ولكن كم يسرّه ويؤنسه ويفرحه وينوره لو رأى أن شخصاً قد تصدر ذلك البيت يعرّفه بجميع ما فيه؟ فما بالك لو كان هذا الشخص هو الحبيب المحبوب والأنيس المأنوس، وهو الرسول العظيم r، متصدر بيت العالم، يعرّف لنا المالكَ الرحيمَ الكريمَ بما فيه -أي بيت العالم- من أشياء... قس هكذا لكي تقدّر بنفسك قيمة الصلوات عليه ولذتها. (المؤلف).
[14]() كالملكين العظيمين المسميين بالثور والحوت، انقلبا بسر التشبيه عند العوام إلى صورة ثور ضخم وحوت كبير. (المؤلف).
[15]() "أعدى عدوك نفسك التي بين جنبيك"، (البيهقي، الزهد 2/156؛ الديلمي 3/408؛ العجلوني، كشف الخفاء 1/160).
[16]() إنه جدير بالملاحظة أنه بدأ القبض على قسم من طلاب النور واعتقلوا في 25/نيسان/1935 وكان عدد الذين اتهموا بقرار المحكمة (117) شخصاً حيث كرر اسم اثنين منهم. فيتوافق بهذا عدد الطلاب (117) طالباً مع عدد أيام الاعتقال البالغ (117) يوماً اعتباراً من اعتقال ذلك القسم من الطلاب إلى يوم قرار المحكمة. فيمزج هذا التوافق لطافة أخرى إلى لطافة التوافقات السابقة. (المؤلف).
