اللمعة التاسعة والعشرون
رسالة التفكر الإيماني الرفيع
والمعرفة التوحيدية السامية
بِاسْمِهِ سُبْحَانَهُ
إخوتي!
إنَّ رسالة التفكر هذه جليلة القدر، وإن إطلاق الإمام علي رضي اللّٰه عنه عليها -من جهة- اسمَ الآية الكبرى يبين قيمتَها الرفيعة تماماً.
فهي رسالةُ معرفةٍ إيمانية وردت إلى القلب بعين اليقين، في أثناء أذكار الصلاة. وأثمرت كثيراً من الرسائل، وأصبحت غذاءً للعقل والفكر وعلاجاً لهما طوال ثلاثين سنة. فمن الأنسب أن تُدرَج ضمن "اللمعات" وأن يُطبع منها أربعون أو خمسون نسخة مستقلة.
سعيد النورسي
هذه اللمعة كُتبت في التجريد المطلق في سجن "أسكي شهر" قبل عشرين سنة.
بسم اللَّهِ الرحمن الرحيم
وبه نستعين
الحمد للّٰه رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد
وعلى آله وصحبه أجمعين.
إيضاح
لقد امتزج قلبي بعقلي منذ ثلاثة عشر عاماً ضمن انتهاج مسلك التفكر الذي يأمر به القرآنُ المعجزُ البيانِ كقوله تعالى: ﴿لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ﴾(البقرة:219) ﴿لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾ (الأعراف:176) ﴿أوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أنفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلا بِالْحَقِّ...﴾(الروم:8) ﴿لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾(الروم:21) وأمثالها من الآيات التي تحث على التفكر مثلما يحث عليه حثاً عظيماً الحديث الشريف كقوله r "تفكُّّر ساعةٍ خير من عبادة سنة"([2]).
ولقد تواردت في غضون هذه السنوات الثلاثين على عقلي وقلبي ضمن انتهاج مسلك التفكر، أنوارٌ عظيمة وحقائقُ متسلسلة طويلة. فوضعتُ بضعَ كلمات -من قبيل الإشارات- لا للدلالة على تلك الأنوار، بل للإشارة إلى وجودها ولتسهيل التفكر فيها وللمحافظة على انتظامها.
وكنت أُردّد بيني وبين نفسي تلك الكلمات لساناً بعبارات عربية في غاية الاختلاف. وعلى الرغم من تكراري لها آلاف المرات خلال هذه الفترة الطويلة وأنا أنتهج هذا التفكر لم يطرأ عليّ السأمُ ولم يعتر تذّوقَها النقصُ، ولم تنتفِ حاجةُ الروح إليها. لأن ذلك التفكر لمعاتٌ تلمعت من آيات القرآن الكريم فتمثلت فيه جلوةٌ من خصائص الآيات، تلك هي عدمُ الاستشعار بالسأم والملل والحفاظ على حلاوتها وطراوتها.
وقد رأيت في الآونة الأخيرة أن العقدة الحياتية القوية والأنوارَ الساطعة التي تحتويها أجزاء رسائل النور ما هي إلاّ لمعاتُ سلسلةِ ذلك التفكر، فنويتُ كتابة مجموعها في أخريات أيام عمري، على أمل تأثيرها في غيري مثلما أثّرت فيّ. وستكون لمجموعها قوة وقيمة أخرى وإن أدرجت أهم أجزائها في الرسائل.
ولما كان آخرُ المطاف في رحلة العمر غيرَ معيّن. وأن أوضاعي في سجن "أسكي شهر" قد بلغتْ حداً أشد من الموت بكثير، فقد كتبتُ تلك السلسلة من التفكر دون انتظار لآخر الحياة، ودون تغيير فيها، وبناءً على رغبةِ إخوة النور وإصرارهم بقصد استفادتهم. وجعلتُها في سبعة أبواب.
ولما كانت الأكثرية المطلقة من هذا النوع من الحقائق تخطر بالبال في أثناء أذكار الصلاة، وأن كل كلمة من كلمات الأذكار بمثابة منبع تلك الحقائق. كان ينبغي أن تُكتب على وفق ترتيبها وتسلسلها في أذكار الصلاة، أي (سبحان اللّٰه والحمد للّٰه واللّٰه أكبر ولا إله إلاّ اللّٰه) إلاّ أن ظروف السجن الانفراديِّ المضطربة آنذاك قد أخلّت بذلك الترتيب.
أما الآن فستكون الأبواب على النحو الآتي:
الباب الأول: في "سبحان اللّٰه"
والباب الثاني: في "الحمد للّٰه"
والباب الثالث: في "اللّٰه أكبر"
والباب الرابع: في "لا اله إلاّ اللّٰه".
وذلك لأن معظم الشافعية يذكرون: "لا إله إلاّ اللّٰه" ثلاثاً وثلاثين مرة بعد ذكرهم كلاًّ من سبحان اللّٰه، والحمد للّٰه، واللّٰه أكبر ثلاثاً وثلاثين مرة.
سعيد النورسي
الباب الأول
في "سبحان اللّٰه"
وهو ثلاثة فصول
الفصل الأول
فَسُبْحانَكَ يا مَنْ تُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ السَّماءُ بِكَلِمَاتِ نُجُومِهَا وَشُموُسِهَا وَأقمَارِهَا، بِرُمُوزِ حِكَمِهَا... وَيُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ الجَوُّ بِكَلِمَاتِ سَحاباتِهِ وَرُعُودِهَا وَبُرُوقِهَا وَأمطَارِهَا، بِإشاراتِ فَوَائِدِهَا... وَيُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ رَأسُ الأرض بِكَلِمَاتِ مَعَادِنِهَا وَنَبَاتَاتِهَا وَأشْجَارِهَا وَحَيْوَانَاتِهَا، بِدَلالاتِ انْتِظَامَاتِهَا... وَتُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ النَّبَاتَاتُ وَالأشْجَارُ بِكَلِمَاتِ أوْرَاقِهَا وَأزهَارِهَا وَثَمَرَاتِهَا، بَتَصْريحَاتِ مَنَافِعِهَا... وَتُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ الأزهَارُ وَالأثْمَارُ بِكَلِمَاتِ بُذُورِهَا وَأجْنِحَتِها وَنَوَاتَاتِهَا، بِعَجَائبِ صَنْعَتِهَا... وَتُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ النَّواتَاتُ وَالبُذُورُ بَألسِنَةِ سَنَابِلِهَا وكَلِمَاتِ حَبَّاتِهَا بالمُشَاهَدةِ... وَيُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ كُلُّ نَبَاتٍ بِغَايَةِ الوُضُوحِ وَالظُهُورِ عِنْدَ انْكِشافِ أكمَامِها وَتَبَسُّمِ بَنَاتِهَا بَأفْوَاهِ مُزَيَّنَاتِ أزاهيرِهَا وَمُنْتَظَمَاتِ سَنَابِلِهَا، بِكَلِمَاتِ مَوْزُونَاتِ بُذُورِهَا وَمَنْظُومَاتِ حَبّاتِهَا، بِلِسَانِ نِظامِهَا في ميزانِهَا في تَنْظِيمِها في تَوْزِيِنِهَا في صَنْعَتِهَا في صِبغَتِها في زِينَتِهَا في نُقُوشِهَا في رَوَائِحِهَا في طُعُومِهَا في ألوَانِهَا في أشْكَالِهَا،([3]) كَمَا تَصِفُ تَجَلِّيَاتِ صِفَاتِكَ وتُعَرِّفُ جَلَواتِ أسمائِكَ وَتُفَسِّرُ تَوَدُّدَكَ وَتُعَرُّفَكَ بِمَا يَتَقَطَّرُ مِنْ ظَرَافَةِ عُيُونِ أزاهيِرِهَا وَمِنْ طَرَاوَةِ أسْنَانِ سَنَابِلِهَا مِنْ رَشَحَاتِ لَمَعَاتِ جَلَوَاتِ تَوَدُّدِكَ وتَعَرُّفِكَ إلى عِبَادِكَ.
سُبْحانَكَ يَا وَدُودُ يا مَعْروُفُ مَا أحسَنَ صُنْعَكَ وَمَا أزيَنَهُ وَمَا أبْيَنَهُ وَمَا أتْقَنَهُ!
سُبْحَانَكَ يا مَن تُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ جَميعُ الأشجار بِكَمَالِ الصَّرَاحَةِ وَالبَيَانِ عِنْدَ انْفِتَاحِ أكمَامِهَا وَانْكِشافِ أزهَارِهَا، وتَزايُدِ أورَاقِهَا، وَتَكَامُلِ أثمَارِهَا، وَرَقْصِ بَنَاتِهَا، عَلى أيَادي أغْصَانِهَا، حَامِدَةً بأفْوَاهِ أوراقِهَا الخَضِرَةِ بِكَرَمِكَ، وَأزهَارِهَا المُتَبَسّمَةِ بِلُطْفِكَ، وَأثمَارِهَا الضَّاحِكَةِ بِرَحْمَتِكَ، بِألسِنَةِ نِظَامِهَا في ميزَانِهَا في تَنْظيِمِهَا في تَوْزينهَا في صَنْعَتِهَا في صِبْغَتِهَا في زِينَتِهَا في نُقُوشِهَا في طُعومِهَا في رَوَائحِهَا في ألوَانِهَا في أشكَالِهَا، في اختِلافِ لُحُومِهَا، في كَثْرَةِ تَنَوُّعِهَا، في عَجَائبِ([4]) خِلقَتِهَا، كَمَا تَصِفُ صِفَاتِكَ، وَتُعَرِّفُ أسْمَاءَكَ، وتُفَسِّرُ تَحَبُّبَكَ وَتَعَهُّدَكَ لِمَصْنُوعَاتِكَ بِمَا يَتَرَشَّحُ مِنْ شِفَاهِ ثِمَارِهَا مِنْ قَطَراتِ رَشَحَاتِ لَمَعَاتِ جَلَوَاتِ تَحَبُّبِكَ وتَعَهُّدِكَ لِمَخْلُوقَاتِكَ.
حَتّى كَأنَّ الشَّجَرَةَ المُزَهَّرَةَ قَصيِدَةٌ مَنْظُومَةٌ مُحَرَّرَةٌ، لِتُنْشِدَ للِصَّانعِ المَدَائِحَ المُبَهَّرَةَ.
أو فَتَحَتْ بِكَثْرَةٍ عُيُونَهَا المُبَصَّرَةَ لِتَنْظُرَ للفَاطِرِ العَجَائِبَ المُنَشَّرَةَ.
أوْ زَيَّنَتْ لِعيِدِهَا أعْضَاءهَا المُخَضَّرَةَ لِيَشْهَدَ سُلْطَانُهَا آثَارَهَا المُنَوَّرَة. وَتُشْهِرَ في المَشْهَرِ مُرَصَّعَاتِ الجَوْهَرِ. وَتُعْلِنَ للِبَشَرِ حِكْمَةَ خَلْقِ الشَجَرِ.
سُبْحَانَكَ مَا أحْسَنَ إحْسَانَكَ، مَا أبْيَنَ تِبْيَانَكَ، مَا أبْهَرَ بُرْهَانَكَ، ومَا أظْهَرَهُ ومَا أنْوَرَهُ! سُبْحَانَكَ مَا أعْجَبَ صَنْعَتَكَ!
تَلألُؤُ الضِّياءِ بدَلالَةِ حِكَمِهَا؛ مِنْ تَنْوِيرِكَ، تَشْهِيرِكَ.. تَمَوُّجُ الأعْصَارِ بِسِرّ وَظَائِفِهَا - خُصُوصَاً في نَقْلِ الكَلِمَاتِ- مِنْ تَصْرِيفِكَ، تَوْظِيفِكَ.. تَفَجُّرُ الأنْهَارِ بإشَارَةِ فَوَائِدِهَا مِنْ تَدْخِيرِكَ، تَسْخِيرِكَ.. تَزَيُّنُ الأحْجَارِ والحَدِيدِ بِرُمُوزِ خَوَاصِّهَا وَمَنَافِعِها - خُصُوصاً فِي نَقْلِ الأصْواتِ والمُخَابَرَاتِ - مِن تَدْبِيِرِكَ، تَصْوِيِرِكَ.. تَبَسُّمُ الأزهَارِ بِعَجَائِبِ حِكَمِهَا مِنْ تَحْسِينِكَ، تَزْيِينِكَ.. تَبَرُّجُ الأثْمَارِ بِدَلالَةِ فَوَائِدِهَا مِنْ إنْعَامِكَ، إكْرَامِكَ.. تَسَجُّعُ الأطْيَارِ بِإشَارَةِ انْتِظَامِ شَرائَطِ حَيَاتِهَا مِنْ إنطَاقِكَ إرفَاقِكَ.. تَهَزُّجُ الأمْطَارِ بِشَهَادَةِ فَوَائِدِهَا مِنْ تَنـزيِلِكَ، تَفْضِيِلكَ.. تَحَرُّكُ الأقْمَارِ بِشَهَادَةِ حِكَمِ حَرَكَاتِهَا مِنْ تَقْدِيرِكَ، تَدْبِيرِكَ، تَدْوِيرِكَ، تَنْوِيرِكَ.
سُبْحانَكَ مَا أنْوَرَ بُرهَانَكَ مَا أبْهَرَ سُلطَانَكَ!
الفصل الثاني
سُبْحَانَكَ لا أُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْكَ أنت كَمَا أثْنَيْتَ عَلى نَفْسِكَ في فُرْقَانِكَ، وَأثنَى عَلَيْكَ حَبِيبُكَ بِإذْنِكَ، وَأثنَتْ عَلَيْكَ جَمِيعُ مَصْنُوعَاتِكَ بإنْطَاقِكَ.
سُبْحَانَكَ مَا عَرَفْنَاكَ حَقَّ مَعْرِفَتِكَ يا مَعْروُفُ بِمُعْجِزَاتِ جَميعِ مَصنوُعَاتِكَ، وَبِتَوصِيفَاتِ جَميِعِ مَخْلُوقَاتِكَ، وَبِتَعْرِيِفَاتِ جَميِعِ مَوْجُوُداتِكَ.
سُبْحَانَكَ مَا ذَكَرْنَاكَ حَقَّ ذِكْرِكَ يَا مَذْكُورُ بِألسِنَةِ جَميعِ مَخلُوقَاتِكَ، وَبِأنفُسِ جَميعِ كَلِمَاتِ كِتَابِ كَائِنَاتِكَ، وَبِتَحيَّاتِ جَميعِ ذَويِ الحَيَاةِ مِنْ مَخْلُوقاتِكَ لَك، وَبِمَوْزُونَاتِ جَميعِ الأورَاقِ المُهْتَزَّةِ الذّاكِرَةِ في جَميعِ أشْجَارِكَ ونَبَاتَاتِكَ.
سُبْحَانَكَ مَا شَكَرْنَاكَ حَقَّ شُكْرِكَ يا مَشْكُورُ بِأثنِيَةِ جَميعِ إحْسَانَاتِكَ عَلى إحْسَانِكَ عَلى رؤوسِ الأشْهَادِ، وَبِإعْلانَاتِ جَميعِ نِعَمِكَ عَلى إنْعَامِكَ في سُوقِ الكَائنَاتِ وَبِمَنْظُومَاتِ جَميعِ ثَمَرَاتِ رَحْمَتِكَ وَنِعْمَتِكَ لَدى أنْظَارِ المَخْلُوقَاتِ، وبِتَحْمِيدَاتِ جَميعِ مَوْزُونَاتِ أزاهيرِكَ وَعَنَاقيدِكَ المُنَظَّمَةِ في خُيُوطِ الأشجار وَالنَبَاتَاتِ.
سُبْحَانَكَ مَا أعظمَ شَأنَكَ، وَمَا أزيَنَ بُرْهَانَكَ، وَمَا أظْهَرَهُ وَمَا أبْهَرهُ!
سُبْحَانَكَ مَا عَبَدْنَاكَ حَقَّ عِبَادَتِكَ يَا مَعْبُودَ جَميعِ المَلائِكَةِ وجَميعِ ذَوي الحَيَاةِ وجَميعِ العَنَاصِرِ والمَخْلُوقَاتِ، بِكَمَالِ الإطَاعَةِ والامْتِثَالِ والانتِظَامِ والاتِّفَاقِ والاشْتِيَاقِ.
سُبْحَانَكَ مَا سَبَّحْنَاكَ حَقَّ تَسْبِيحِكَ يا مَنْ ﴿تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأرْضُ وَمَن فِيهِنَّ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ﴾(الإسراء:44) .
سُبحَانَكَ تُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ السَّماءُ وَالأرضُ بِجَميعِ تَسْبيِحاتِ جَميعِ مَصْنوُعَاتِكَ، وَبِجَميعِ تَحْميِدَاتِ جَميعِ مَخْلُوُقَاتِكَ لَكَ.
سُبْحَانَكَ تُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ الأرض وَالسَّمَاءُ بِجَميعِ تَسْبيِحَاتِ جَميعِ أنْبيَائِكَ وَأولِيَائِكَ وَمَلائِكَتِكَ عَليْهِمْ صَلَوَاتُكَ وَتَسْليِمَاتُكَ.
سُبْحَانَكَ تُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ الكَائِنَاتُ بِجَميعِ تَسْبيِحَاتِ حَبيبِكَ الأكرم r. وَبِجَميعِ تَحْميِدَاتِ رَسُولِكَ الأعظم لَكَ، عَلَيهِ وَعَلى آلهِ أفْضَلُ صَلَوَاتِكَ وَأتَمُ تَسْليمَاتِكَ.
سُبْحَانَكَ يا مَنْ تُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ هذِهِ الكَائِناتُ بِأصْدِيَةِ تَسْبيحَاتِ مُحَمَّدٍ عَلَيهِ الصَلاةُ والسَّلامُ لَكَ؛ إذ هُوَ الَّذِي تتَمَوَّجُ أصْدِيَةُ تَسْبيحَاتِهِ لَكَ عَلى أمْوَاجِ الأعْصَارِ وأفْوَاجِ الأجْيَالِ... اللّٰهُمَّ فَأبِّدْ عَلى صَفَحَاتِ الكَائِنَاتِ وَأوْرَاقِ الأوْقَاتِ إِلَى قيَامِ العَرَصَاتِ أصْدِيَةَ تَسْبيحَاتِ مُحَمَّدٍ عَلَيهِ الصَلاةُ والتَسْليماتُ.
سُبْحَانَكَ يا مَنْ تُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ الدُنْيَا بِآثَارِ شَريِعَةِ مُحَمَّدٍ عَلَيهِ الصَلاةُ وَالسَّلامُ. اللّٰهُمَّ فَزَيِّنِ الدُّنيَا بِآثارِ دِيَانَةِ مُحَمَّدٍ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسّلامُ إلى يَوْمِ القِيَامِ.
سُبْحَانَكَ يا مَنْ تُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ الأرض سَاجِدَةً تَحتَ عرْشِ عَظَمَةِ قُدْرَتِكَ بِلِسَانِ مُحَمَّدِهَا عَلَيهِ الصَلاةُ وَالسَّلامْ... اللّٰهُمَّ فَأنْطِقِ الأرضَ بِأقْطَارِهَا بِلِسَانِ مُحَمَّدٍ عَلَيهِ الصَلاةُ والسَّلامُ إلى يَوْم البَعْثِ والقيَامِ.
سُبْحَانَكَ يَا مَنْ تُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ جَميعُ المُؤمِنينَ وَالمُؤْمِنَاتِ في جَميعِ الأمْكِنَةِ وَالأوْقَاتِ بِلِسانِ مُحَمَّدِهِمْ عَلَيهِ الصَلاةُ وَالسَّلامْ... اللّٰهُمَّ فَأنْطِقِ المُؤْمِنِينَ وَالمُؤمِنَاتِ إلى يَومِ القِيَامِ بِأصْدِيَةِ تَسْبيحَاتِ مُحَمَّدٍ لك عَلَيه الصَّلاةُ وَالسَّلامْ.
الفصل الثالث
ذُو الجَلال سُبْحَانَ اللّٰه الوَاحِدِ الأحَدِ المُتَقَدِّسِ المُتَنـزّهِ عَنِ الأضْدَادِ وَالأنْدَادِ وَالشُرَكَاءِ.
ذُو الجَلال سُبْحَانَ اللّٰه القَدِيِرِ الأزَليّ المُتَقَدِّسِ المُتَنـزّهِ عَنِ المُعينِ وَالوُزَرَاءِ.
ذُو الجَلال سُبْحَانَ اللّٰه القَدِيمِ الأزَليِّ المُتَقَدِّسِ المُتَنـزّهِ عَنْ مُشَابَهَةِ المُحْدثَاتِ الزَّائِلاتِ.
ذُو الجَلال سُبْحَانَ اللّٰه الوَاجِبِ وُجُوُدُهُ، المُمْتَنِعِ نَظيرُهُ، المُمكِنِ كُلُّ مَا سِوَاهُ، المُتَقَدِّسِ المُتَنـزّهِ عَنْ لَوَازِمِ ماهيَّاتِ المُمْكِنَاتِ.
ذُو الجَلال سُبْحَانَ اللّٰه الَّذي ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ﴾(الشورى:11) المُتَقَدِّسُ المُتَنـزّهُ عَمَّا تَتَصوَّرُهُ الأوْهَامُ القَاصِرَةُ الخَاطِئَةُ.
ذُو الجَلال سُبْحَانَ اللّٰه الَّذي ﴿لَهُ الْمَثَلُ الأعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾(الروم:27) المُتَقَدِّسِ المُتَنـزّهِ عَمَّا تَصِفُهُ العَقَائِدُ النَاقِصَةُ البَاطِلَةُ.
ذُو الجَلال سُبْحَانَ اللّٰه القَديِرِ المُطْلَقِ الغَنيِّ المُتَقَدِّسِ المُتَنـزّهِ عَنِ العَجْزِ والاحْتِياجِ.
ذُو الجَلال سُبْحَانَ اللّٰه الكاملِ المُطْلَقِ في ذاتِهِ وَصِفَاتِهِ وَأفْعالِهِ، المُتَقَدِّسِ المُتَنـزّهِ عَنِ القُصُورِ والنُّقْصَانِ، بِشَهَادَاتِ كَمَالاتِ الكائِنَاتِ. إذ مَجْمُوعُ مَا في الكائِنَاتِ مِن الكَمالِ وَالجَمَالِ ظِلٌّ ضَعيفٌ بِالنّسْبَةِ إلى كَمَالهِ سُبْحَانَهُ، بالحَدْسِ الصَّادِقِ وَبِالبُرْهَانِ القَاطِعِ وبالدَّليل الوَاضِحِ. إذ التَّنْويرُ لا يَكُونُ إلاّ مِنَ النُّورانِيِّ، وبِدَوَامِ تَجَلّي الجَمَالِ وَالكَمَالِ مَعَ تَفَانِي المَرَايا وسَيَّاليَّةِ المَظَاهِرِ، وبِإجْمَاعِ وَاتِّفَاقِ جَمَاعَةٍ كَثيرَةٍ مِنَ الأعَاظِمِ المُخْتَلِفِينَ في المَشَارِبِ والكَشْفِيَّاتِ المُتَّفِقِينَ عَلى ظِلّيَّةِ كَمَالاتِ الكَائِنَاتِ لأنْوَارِ كَمالِ الذَّاتِ الوَاجِبِ الوُجُودِ.
ذُو الجَلال سُبْحَانَ اللّٰه الأزَليِّ الأبدي السَّرْمَديِّ المُتَقَدِّسِ المُتَنـزّهِ عَنِ التَّغَيُّرِ والتَّبَدُّلِ اللاّزِمَيْنِ للمُحْدَثَاتِ المُتَجَدِّدَاتِ المُتكامِلاتِ.
ذُو الجَلال سُبْحَانَ اللّٰه خَالِقِ الكَوْنِ وَالمَكَانِ، المُتَقَدِّسِ المُتَنـزّهِ عَنِ التَّحَيُّز وَالتَّجَزُّؤِ اللاَّزِمَيْنِ للمَادّيَّاتِ وَالمُمْكِنَاتِ الكَثيِفَاتِ الكَثيِراتِ المُقَيَّدَاتِ المَحْدُودَاتِ.
ذُو الجَلال سُبْحَانَ اللّٰه القَديِمِ الباقِي المُتَقَدِّسِ المُتَنـزّهِ عَنِ الحُدُوثِ وَالزَّوَالِ.
ذُو الجَلال سُبْحَانَ اللّٰه الوَاجِبِ الوُجُودِ المُتَقَدِّسِ المُتَنـزّهِ عَنِ الوَلَدِ وَالوَالِدِ، وَعَنِ الحُلُول والاتّحَادِ، وَعَنِ الحَصْرِ وَالتَّحْدِيدِ، وَعَمَّا لا يَليِقُ بِجَنَابِهِ وَمَا لا يُنَاسِبُ وُجوُبَ وُجُودِهِ، وَعَمَّا لا يُوَافِقُ أزَلِيَّتَهُ وَأبَدِيَّتَهُ.
جَلَّ جَلالُهُ. وَلا إلهَ إلاّ هُوَ.
الباب الثاني
في " الحَمْدُ للّٰه.. "([5]) في هذا الباب تسع نقاط..
النقطة الأولى:
الحَمْدُ للّٰه عَلى نِعَمَةِ الإيمان المُزيلِ عَنَّا ظُلُمَاتِ الجِهَاتِ السِّتّ.
إذْ جِهةُ المَاضِي في حُكْمِ يَميننا مُظْلِمَةٌ وَمُوحِشَةٌ بِكَونِهَا مَزَاراً أكبَرَ. وبِنِعْمَةِ الإيمان تَزُولُ تِلكَ الظُّلْمَةُ وَيَنْكَشِفُ المَزَارُ الأكْبَرُ عَنْ مَجْلِسٍ مُنَوَّرٍ.
وَيَسَارُنَا الَّذي هُوَ الجِهَةُ المُسْتَقْبَلَةُ، مُظْلِمَةٌ وَمُوحِشَةٌ بِكَوْنِهَا قَبراً عَظيمَاً لَنَا. وبِنِعْمَةِ الإيمان تَنْكَشِفُ عَنْ جِنَانٍ مُزَيَّنَةٍ فيهَا ضِيافَاتٌ رَحْمَانيَّةٌ.
وَجِهَةُ الفَوقِ وَهُوَ عَالَمُ السَّمواتِ مُوحِشَةٌ مُدْهِشَةٌ بِنَظَر الفَلسَفَةِ. فَبِنِعْمَةِ الإيمان تتَكَشَّفُ تِلكَ الجِهَةُ عَنْ مَصابيِحَ مُتَبَسِّمَةٍ مُسَخَّرةٍ بِأمْرِ مَنْ زَيَّنَ وَجهَ السَّماءِ بِهَا، يُسْتَأنَسُ بِهَا وَلا يُتَوَحَّشُ مِنْهَا.
وَجِهَةُ التَّحْتِ وَهيَ عَالَمُ الأرض مُوحِشَةٌ بِوَضْعيَّتِهَا في نَفْسِهَا بِنَظَرِ الفَلسَفَةِ الضَّالَّةِ. فَبِنعْمَةِ الإيمان تَتكَشَّفُ عَنْ سَفينَةٍ رَبَّانيَةٍ مُسَخَّرَةٍ وَمَشْحُونَةٍ بِأنْوَاعِ اللَّذَائِذِ والمَطْعُومَاتِ؛ قَدْ أركَبَهَا صَانِعُهَا نَوعَ البَشَرِ وَجِنسَ الحَيَوَانِ للسِّياحَةِ في أطْرَافِ مَملَكَةِ الرَّحْمنِ.
وَجِهَةُ الأمَامِ الَّذي يَتَوَجَهُ إلى تِلكَ الجِهَةِ كُلُّ ذَوي الحَيَاةِ مُسْرِعَةً قَافِلَةً خَلفَ قَافِلَةٍ، تَغيبُ تِلكَ القَوافِلُ في ظُلُمَاتِ العَدَمِ بِلا رُجُوعٍ. وَبِنِعْمَةِ الإيمان تَتَكَشَّفُ تِلكَ السِياحَةُ عَنِ انتِقَالِ ذَوي الحيَاةِ مِنَ دَارِ الفَنَاءِ إلى دَارِ البَقاءِ، وَمِنْ مَكَانِ الخِدْمَةِ إلى مَوضِعِ أخْذِ الأُجْرَةِ، وَمِنْ مَحَلِّ الزَّحْمَةِ إلى مَقامِ الرَّحْمَةِ والاستِرَاحَةِ. وَأمَا سُرعَةُ ذَوي الحَيَاةِ في أمْوَاجِ المَوتِ، فَلَيْسَتْ سُقوُطاً وَمُصيبَةً، بل هِيَ صُعُودٌ باشتِيِاقٍ وَتَسَارُعٌ إلى سَعادَاتِهِمْ.
وَجِهَةُ الخَلْفِ أيضاً مُظْلِمَةٌ مُوحِشَةٌ. فَكُلُّ ذي شُعُورٍ يَتَحيَّرُ مُتَرَدِّداً ومُستَفْسِراً بـ"مِنْ أينَ؟ إلى أينَ؟". فلأنَّ الغَفْلَةَ لا تُعْطي لهُ جَوَابَاً، يَصيرُ التَرَدُّدُ والتَّحَيُّرُ ظُلُمَاتٍ في رُوحِهِ.. فَبِنِعْمَةِ الإيمان تَنْكَشِفُ تِلكَ الجِهَةُ عَنْ مَبْدَإ الإنسان وَوَظيفَتِهِ، وَبِأنَّ السُّلطَانَ الأزَليَّ أرسَلَهُمْ مُوَظَفينَ إلى دَارِ الامْتِحَانِ..
فَمِنْ هذِه الحَقيقَةِ يَكوُنُ "الحَمْدُ" عَلى نِعْمَةِ الإيمان المُزيلِ للِظُّلُمَاتِ عَنْ هذِه الجِهَاتِ السِّتِّ أيضاً نِعْمَةً عَظيمَةً تَسْتَلْزِمُ "الحَمْدَ". إذ بـ"الحَمْدِ" يُفْهَمُ دَرَجَةُ هذِهِ النِّعْمَةِ وَلَذَّتُهَا. فَالحَمْدُ للّٰه عَلى "الحَمْدُ ِللّٰه في تَسَلسُلٍ يَتَسَلسَلُ في دَوْرٍ دَائرٍ بِلا نِهَايَةٍ".
النقطة الثانية
الحَمْدُ للّٰه عَلى نِعْمَةِ الإيمان المُنَوِّرِ لَنَا الجِهَاتِ السِّتَّ. فَكما أن الإيمان بإزَالَتِهِ لِظُلُمَاتِ الجِهَاتِ السِّتِّ نِعْمَةٌ عَظيِمَةٌ مِنْ جِهَةِ دَفْعِ البَلايا؛ كَذَلِكَ أنَّ الإيمان لِتَنْوِيرِهِ للِجِهَاتِ السِّتِّ نِعْمَةٌ عَظيِمَةٌ أخرى مِنْ جِهَةِ جَلْبِ المَنَافِعِ. فَالإنسَانُ لعلاقَتهِ بِجَامِعيَّةِ فِطْرَتِهِ بِمَا في الجِهَاتِ السِّتِّ مِنَ المَوجُودَاتِ. وَبِنِعْمَةِ الإيمان يُمْكِنُ لِلإنسَانِ اِسْتِفَادَةٌ مِنْ جَميعِ الجِهَاتِ السِّتّ أينما يَتَوَجَّهُ. فَبِسِرِّ ﴿فَأيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللّٰهِ﴾(البقرة:115) تَتَنَوَّرُ لهُ تِلكَ الجِهَةُ بِمَسَافَتِهَا الطَّوِيلَةِ بِلاَ حَدٍّ. حَتَّى كأنَّ الإنسانَ المُؤْمِنَ لَهُ عُمْرٌ مَعْنَوِيٌّ يَمْتَدُّ مِنْ أوَلِ الدُّنيَا إلى آخِرِهَا، يَسْتَمِدُّ ذَلِكَ العُمْرُ من نُور حَيَاةٍ مُمْتَدَّةٍ من الأزَلِ إلى الأبَدِ. وحتى إنَّ الإنسانَ بسِرّ تَنْويرِ الإيمانِ لِجِهَاتِهِ يَخْرُجُ عَنْ مَضِيقِ الزَّمَانِ الحَاضِرِ وَالمَكَانِ الضَّيِّقِ إلى سَاحَةِ وُسْعَةِ العَالَم، ويَصيرُ العَالَمُ كَبَيتِهِ، والمَاضِي وَالمُسْتَقْبَلُ زَمَانَاً حَاضِراً لِرُوحِهِ وَقَلْبِهِ. وَهَكَذا فَقِسْ...
النقطة الثالثة
الحَمْدُ للّٰه عَلى الإيمان الحَاوي لِنُقطَتَي الاسْتِنَاد وَالاسْتِمْدَادِ.
نَعَمْ، بِسِرِّ غَايَةِ عَجْزِ البَشَرِ وَكَثرَةِ أعْدَائِهِ يَحتَاجُ البَشَرُ أشَدَّ احتِيَاجٍ إلى نُقطَةِ اسْتِنَادٍ يَلْتَجِئُ إليها لِدَفْعِ أعْدائِهِ الغَيْرِ([6]) المَحْدُودَةِ، وَبِغايَةِ فَقْرِ الإنسان مَعَ غَايَةِ كَثرَةِ حاجَاتِهِ وَآمَالِهِ يَحْتَاجُ أشَدَّ احتِيَاجٍ إلى نُقطَةِ اسْتِمدَادٍ يَستَمِدُّ مِنْهَا، وَيَسْألُ حَاجَاتِهِ بِهَا.
فَالإيمَانُ باللّٰه هُوَ نُقطَةُ اسْتِنَادٍ لِفِطرَةِ البَشَرِ. وَالإيمَانُ بِالآخِرَةِ هُوَ نُقطَةُ اِسْتِمدَادٍ لِوِجْدَانِهِ. فَمَنْ لَمْ يَعْرِفْ هَاتَينِ النُّقطَتَينِ يَتَوَحَّشُ عَلَيهِ قَلبُهُ وَرُوحُهُ، وَيُعَذِّبُهُ وِجدَانُهُ دائِماً. وَمَنْ اسْتَنَدَ بالإيمَانِ إلى النُقطَةِ الأولى، وَاسْتَمَدَّ مِنَ النُقطَةِ الثَّانِيَة، أحسَّ مِنْ أعماق رُوحِهِ لَذَائِذَ مَعْنَويَّةً وَأُنْسِيَةً مُسَلّيَةً وَاعْتِمَاداً يَطْمَئِنُّ بِهَا وِجْدَانُهُ.
النقطة الرابعة
الحَمْدُ للّٰه عَلى نُورِ الإيمان المُزيلِ للآلامِ عَنِ اللَّذَائِذِ المَشْرُوعَةِ بِإراءَةِ دَوَرَانِ الأمْثَالِ، وَالمُدِيمِ للنِّعَم بِإراءَةِ شَجَرَةِ الإنْعَامِ، وَالمُزيلِ آلامَ الفِرَاقِ بإراءةِ لَذَّةِ تَجَدُّدِ الأمثَالِ. يَعْنِي أنَّ في كُلِّ لَذَّةٍ آلاماً تَنشَأُ مِنْ زَوَالِهَا. فَبِنُورِ الإيمان يَزُولُ الزَّوَالُ، وَيَنقَلِبُ إلى تَجَدُّدِ الأمثَالِ. وَفي التَّجَدُّدِ لَذَّةٌ أُخرى..
فَكمَا أن الثَّمَرَةَ إذا لَمْ تُعْرَفْ شَجَرَتُهَا تَنْحَصِرُ النِّعْمَةُ في تِلكَ الثَّمَرَةِ. فَتَزُولُ بِأكْلِهَا. وَتُورِثُ تَأسُّفاً عَلى فَقْدِهَا، وإذا عُرِفَتْ شَجَرَتُها وَشُوهِدَتْ، يَزُولُ الألَمُ في زَوَالِهَا لِبَقَاءِ شَجَرَتِهَا الحَاضِرَةِ، وَتَبْديلِ الثَّمَرَةِ الفَانِيَةِ بِأمْثَالِهَا. وَكَذَا إنَّ مِنْ أشَدِّ حَالاتِ رُوحِ البَشَرِ هِيَ التَّألُّمَاتُ النَّاشِئَةُ مِنَ الفِرَاقَاتِ. فَبِنُورِ الإيمان تَفتَرِقُ الفِرَاقَاتُ وَتَنْعَدِمُ. بَل تَنْقَلِبُ بِتَجَدُّدِ الأمثَالِ الَّذي فيهِ لَذَّةٌ أخرى إذ "كُلُّ جَدَيدٍ لَذِيذٌ"...
النقطة الخامسة
الحَمْدُ للّٰه عَلى نُورِ الإيمان الَّذي يُصَوِّرُ مَا يُتَوَهَّمُ أعدَاءً وَأجَانِبَ وَامْوَاتاً مُوحِشينَ، وَأيْتَاماً باكين مِنَ المَوجُودَاتِ، أحْبَاباً وإخْوَانَاً وَأحْيَاءً مُؤنِسِينَ، وَعِبَاداً مُسَبِّحينَ ذَاكِرِينَ..
يَعْني أنَّ نَظَرَ الغَفلَةِ يَرى مَوجُودَاتِ العَالَمِ مُضِرِّينَ كَالأعْـداءِ وَيَتَوَحَّشُ مِنْ كُلِّ شـىءٍ، وَيَرَى الأشياء كَالأجانِبِ. إذ في نَظَرِ الضَّلالَةِ تَنْقَطِعُ عَـلاقَـةُ الأخُوَّةِ في كُلِّ الأزمِنَةِ المَاضِيَةِ وَالاسْتِقْبَاليَّةِ. وَمَا أخُوَّتُهُ وَعَلاقَتُهُ إلاّ في زَمَانٍ حَاضِرٍ صَغيرٍ قَليِلٍ. فَأُخُوَّةُ أهل الضَّلالَة كَدَقيَقةٍ في أُلُوفِ سَنَةٍ مِنَ الأجْنَبِيَّةِ. وَأخُوَّةُ أهل الإيمان تَمتَدُّ مِنْ مَبْدَإِ المَاضِي إلى
مُنتَهى الاسْتِقبَالِ. وَإنّ نَظَرَ الضَّلاَلَةِ يَرَى أجْرَامَ الكَائِنَاتِ أمْوَاتاً مُوحِشِينَ. وَنَظَرَ الإيمان يُشَاهِدُ أولئِكَ الأجْرَامَ أحْيَاءً مُؤنِسينَ يَتَكَلَّمُ كُلُّ جرْم بِلِسَانِ حالِهِ بِتَسْبيحَاتِ فاطِرِهِ. فَلَها رُوُحٌ وحَيَاةٌ مِنْ هذِهِ الجِهَةِ. فَلا تَكُونُ مُوحِشَةً مُدْهِشَةً، بلْ أنيسَةً مُؤنِسةً. وَإِنَّ نَظَرَ الضَّلالَةِ يَرَى ذَوي الحَيَاةِ العَاجِزينَ عَنْ مَطَالِبِهمْ لَيسَ لَهُمْ حَامٍ مُتَوَدِّدٌ وَصَاحِبٌ مُتَعَهِّدٌ. كَأنَّهُمْ أيتَامٌ يَبكُونَ مِنْ عَجْزِهِمْ وَحُزْنِهِمْ وَيَأسِهِمْ. وَنَظَرُ الإيمان يَقُولُ: إنَّ ذَوي الحَيَاةِ لَيسُوا أيتَاماً بَاكينَ، بَل هُمْ عِبَادٌ مُكَلَّفُونَ وَمَأمُورونَ مُوَظَّفُونَ وَذَاكِرونَ مُسَبِّحُونَ.
النقطة السادسة
الحَمْدُ للّٰهِ عَلى نُورِ الإيمان المُصَوِّرِ للدَّارَينِ كَسُفرَتَينِ مَمْلُوءتَينِ مِنَ النِّعَمِ يَستَفِيدُ مِنْهُمَا المُؤمِنُ بيَدِ الإيمان بأنوَاعِ حَوَاسِّهِ الظَاهِرةِ وَالبَاطِنَةِ، وَأقسَامِِ لَطَائِفِهِ المَعنَويَةِ وَالرُوحِيَةِ المُنْكَشِفَةِ بِضِيَاءِ الإيمَانِ.
نَعَمْ، إنَّ في نَظَرِ الضَّلالَةِ تتَصَاغَرُ دائِرَةُ اسْتِفَادَةِ ذَوي الحَيَاة إلى دائِرَةِ لَذَائِذهِ الْمَادِّيَّةِ المُنَغَّصَةِ بِزَوَالِهَا. وَبِنُورِ الإيمان تتَوَسَّعُ دَائِرَةُ الاسْتِفَادَةِ إلى دائِرَةٍ تُحيطُ بِالسَّمَاواتِ وَالأرضِ بَلْ بِالدُّنيَا وَالآخِرَةِ. فَالمُؤمِنُ يَرى الشَّمسَ كَسِراجٍ في بَيْتِهِ وَرَفيقاً في وَظيفَتِهِ وأنيِسَاً في سَفَرِهِ؛ وَتَكُونُ الشَّمْسُ نِعْمَةً مِنْ نِعَمِةٍ. وَمَنْ تَكُونُ الشَّمْسُ نِعْمَةً لَهُ تَكُونُ دائِرَةُ استِفَادَتِهِ وَسُفرَةُ نِعَمَتِهِ أوسَعَ مِنَ السَّمَاواتِ.
فَالقُرآنُ المُعْجِزُ البَيَانِ بِأمثَالِ ﴿وَسَخَّر لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ﴾(إبراهيم:33) و﴿سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي الأرْضِ﴾(الحج:65) يُشيِرُ ببَلاغَتِهِ إلى هذِهِ الإحسانَاتِ الخَارِقَةِ النَاشِئَةِ مِنَ الإيمَانِ.
النقطة السابعة
الحَمْدُ للّٰهِ عَلى اللّٰهِ. فَوُجُودُ الوَاجِبِ الوُجوُدِ نِعْمَةٌ لَيسَتْ فَوقَهَا نِعْمَةٌ لِكُلِّ أحد ولِكُلِّ مَوجُودٍ. وهذِهِ النِّعْمَةُ تَتََضَمَّنُ أنواع نِعَمٍ لا نِهَايَةَ لَهَا، وَأجْنَاسَ إحْسَانَاتٍ لا غَايَةَ لَهَا، وأصْنَافَ عَطيَّاتٍ لا حَدَّ لَهَا.
قد أُشير إلى قسم منها في أجزاء رسائل النور وبالخاصة "في الموقف الثالث من الرسالة الثانية والثلاثين". وكلُّ الرسائل الباحثة عن الإيمان باللّٰه من أجزاء رسائل النور تكشف الحجاب عن وجه هذه النعمة. فاكتفاءً بها نقتصر هنا.
الحَمْدُ للّٰه عَلى "رَحْمَانِيَّتِهِ" تَعَالى التي تَتَضَمَّنُ نِعَمَاً بِعَدَدِ مَنْ تَعَلَّقَ بِهِ الرَّحْمَةُ مِنْ ذَوي الحَياة. إذ في فِطرَةِ الإنسان بِسِرِّ جَامِعيَّتِهِ عَلاقَاتٌ بِكُلِّ ذَوي الحَيَاة تَحصُلُ لَهُ سَعَادَةٌ مَعْنَويَّةٌ بِسَبَبِ سَعَادَاتِهِمْ. وَفي فِطرَتِهِ تَأثُّرٌ بِآلامِهِمْ. فَالنِّعْمَةُ عَليهِم تَكُونُ نَوعَ نِعْمَةٍ لِذَلِكَ الإنسَانِ.
والحَمْدُ للّٰه عَلى "رَحِيمِيَّتِهِ" تَعَالى بِعَدَدِ الأطفال المُنْعَمِ عَلَيهِمْ بِشَفَقاتِ والِدَاتِهِمْ، إذ كما أَنّ كُلَّ مَنْ لَهُ فِطرَةٌ سَليمَةٌ يَتَألَّمُ وَيَتَوَجَّعُ مِنْ بُكَاءِ طِفلٍ جَائِـعٍ لاَ وَالِدَةَ لَهُ؛ كذَلِكَ يَتَنَعَّمُ بِتَعَطُّفِ الوَالِداتِ عَلَى أطفَالِهَا.
الحَمْدُ للّٰه عَلى "حَكيِميَّتِهِ" تَعَالى بِعَدَدِ دقَائِقِ جَميعِ أنواع حِكمَته في الكائنَاتِ، إذ كمَا تَتَنَعَّمُ نَفْسُ الإنسان بِجَلَوَاتِ رَحْمانِيَّتِهِ، وَيَتَنَعَّمُ قَلبُ الإنسان بِتَجَلِّيَاتِ رَحيِميَّتِهِ؛ كَذَلِكَ يَتَلَذَّذُ عَقلُ الإنسان بِلَطَائفِ حِكمَتِهِ.
الحَمْدُ للّٰه عَلى "حَفيِظيَّتِهِ" تَعَالى بِعَدَدِ تَجَلِّيَاتِ اسمِهِ "الوَارِثِ"، وَبِعَدَدِ جَميعِ مَا بَقيَ بَعدَ فَوَاتِ أُصُولِهَا وَآبائهَا وَصَواحِبِهَا، وَبِعَدَدِ مَوجُودَاتِ دَارِ الآخِرَةِ، وبِعَدَدِ آمَالِ البَشَرِ المَحْفُوظَةِ لأجل المُكافأةِ الأُخرَويَّةِ. إذ دَوَامُ النِّعْمَةِ أعظم نعمَةً مِنْ نَفسِ النِّعْمَةِ؛ وَبَقَاءُ اللَّذَّةِ لَذَّةٌ أعلى لَذَّةً مِنْ نَفسِ اللَّذَّةِ؛ والخُلودُ في الجَنَّةِ نِعْمَةٌ فَوْقَ نَفْسِ الْجَنَّةِ. وهَكَذا... فَحَفِيظِيَّتُهُ تَعَالى تَتَضَمَّنُ نِعَماً أكثر وَأزيَدَ وَأعلى مَنْ جَميعِ النِّعَمِ عَلى المَوجُوداتِ في جَميعِ الكائِنَاتِ.
وهكَذا، فَقِسْ عَلى اسمِ "الرَّحمن والرَّحيمِ وَالحَكيِمِ وَالحَفيِظِ" سائِرَ أسمائه الحُسْنى. فالحَمْدُ للّٰه عَلى كُلِّ اسم مِنْ أسمائه تَعَالى حَمداً بِلا نِهايَةٍ. لِمَا أنَّ في كُلِّ اسم منها نِعَمَاً بِلا نِهَايَةٍ.
الحَمْدُ للّٰه عَلى القُرآنِ الَّذي هُوَ تَرْجُمَانٌ لكُلِّ مَا مَضى مِنْ جَميعِ الإنْعَامَاتِ الَّتي لا نِهَايَةَ لَهَا حَمْداً بلا نِهَايَةٍ.
الحَمْدُ للّٰه عَلى مُحَمَّدٍ عَليهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ حَمْداً بِلا نِهَايَة. إذ هُوَ الوَسيلَةُ للإيمَانِ الَّذي فيهِ جَميعُ المَفَاتِيحِ لِجَميعِ خَزَائِنِ النِّعَمِ التي أشَرْنَا إليها في هذَا البَابِ الثَّاني آنفَاً.
الحَمْدُ للّٰه عَلى نِعْمَةِ الإسلامية الَّتي هيَ مَرضيَّاتُ رَبِّ العَالَمينَ، وفِهرِسْتَةٌ لأنْوَاعِ نِعَمِهِ المَادِّيَّةِ وَالمَعْنَويَّةِ، حَمْداً بِلا نِهَايَةٍ.
النقطة الثامنة
الحَمْدُ للّٰه الَّذي يَحْمَدُ لَهُ وَيُثنِي عَلَيهِ بِإظهَارِ أوصَافِ جَمَالِهِ وَكَمَالِهِ، هذَا الكِتَابُ الكَبيرُ المُسَمّى بـ"الكائِنَاتِ" بجَميعِ أبوَابِهِ وَفُصُولِهَا، وبِجَميع صَحائِفِهِ وَسُطُورِهَ، وَبِجَميع كَلِمَاتِهِ وَحُرُوفِه، كُلٌّ بِقَدَرِ نِسْبَتِهِ يَحْمَدُهُ تَعَالى وَيُسَبِّحُهُ بِإظهَارِ بَوَارقِ أوصَافِ جَلالِ نَقَّاشِهِ الأحَدِ الصَّمَدِ بِمَظهَرِيَّةِ كُلٍ بِقَدَرِ نِسْبَتِهِ ِلأضْوَاءِ أوْصَافِ جَمَالِ كَاتِبِهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، وَبِمَظْهَرِيَّةِ كُلٍّ بِقَدَرِ نِسْبَتِهِ لأنوارِ أوْصَافِ كمالِ مُنْشِئها ومُنْشئها القَديرُ العْليمُ العَزيزُ الحَكِيمُ، وَبِمِرآتيَّة كلٍّ بِقَدَرِ نِسْبَتِهِ لأشِعَّةِ تَجَلِّيَاتِ أسْماءِ مَنْ لَهُ الأسماء الحُسنى. جَلَّ جَلالُهُ ولا إلهَ إلاّ هُوَ.
النقطة التاسعة
الحَمْدُ -مِنَ اللّٰهِ باللّٰهِ عَلى اللّٰهِ- للّٰهِ بِعَدَدِ ضَرْبِ ذَرَّاتِ الكائِنَاتِ مِنْ أوَّلِ الدُّنيَا إلى آخِرِ الخِلقَةِ في عَاشِرَاتِ دَقائِقِ الأزمِنَةِ مِنَ الأزَلِ إلى الأبَدِ.
الحَمْدُ للّٰه عَلى "الحَمْدُ للّٰهِ" بِدَورٍ دائِرٍ في تَسَلسُل([7]) يَتَسَلسَلُ إلى مَا لا يَتَنَاهى.
الحَمْدُ للّٰه عَلى نِعْمَةِ القُرآنِ وَالإيمَانِ عَلَيَّ وَعَلى إخواني بِعَدَدِ ضَرْبِ ذَرَّاتِ وُجودِي في عَاشِرَاتِ دَقَائقِ عُمْري في الدُّنيَا، وَبَقَائِي وبَقائِهِمْ في الآخِرَةِ.
﴿سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إلاّ ما عَلَّمْتَنَا إنَّكَ أنتَ العَليمُ الحَكيِمُ﴾
﴿الْحَمْدُ لِلّٰهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أنْ هَدَانَا اللّٰهُ لَقَدْ جَاءتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ﴾ اللَّهُمَّ صَلِّ عَلى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ بِعَدَدِ حَسَنَاتِ أُمَّتِهِ وَعَلى آلهِ وَصَحْبِهِ وسَلَّمْ آمينَ.
وَالحَمْدُ للّٰه ربِّ العَالَمِينْ.
الباب الثالث
في مراتب
"اللّٰه أكبر"
سنذكر سبعاً من ثلاث وثلاثين مرتبة لهذا الباب، حيث قد ذُكر قسمٌ مهم من تلك المراتب في المقام الثاني من المكتوب العشرين، وفي نهاية الموقف الثاني من الكلمة الثانية والثلاثين، وفي بداية الموقف الثالث منها. فمن شاء أن يطلع على حقيقة هذه المراتب، فليراجع تلك الرسائل.
المرتبة الأولى
﴿وَقُلِ الْحَمْدُ لِلّٰهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَم يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُن لَّهُ وَلِيٌّ مِّنَ الذُّلَّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا﴾(الإسراء:111). لَبَّيكَ وَسَعْدَيكَ..
جلَّ جلالُه اللّٰه أكْبَرُ مِنْ كُلِّ شيء قُدرَةً وَعِلماً، إذ هُوَ الخَالِقُ البارئُ المُصَوِّرُ الَّذي صَنَعَ الإنسانَ بقُدرَتهِ كالكَائِنَاتِ، وَكَتَبَ الكَائِنَاتِ بقَلَمِ قَدَرِهِ كَمَا كَتَبَ الإنسانَ بذَلِكَ القَلَم. إذ ذاكَ العَالَمُ الكَبيرُ كَهَذَا العَالَمِ الصغيرِ مَصنُوعُ قُدرَتِهِ مَكتُوبُ قَدَرِهِ. إبدَاعُهُ لِذَاكَ صَيَّرَهُ مَسْجداً. إِيجَادُهُ لهذَا صَيَّرَهُ سَاجِداً. إنْشَاؤُهُ لِذَاكَ صَيَّرَ ذاكَ مُلكاً. بِنَاؤُهُ لِهذا صَيَّرَهُ مَمْلُوكاً. صَنْعَتُهُ في ذاكَ تَظَاهَرَتْ كِتَاباً. صِبْغَتُهُ في هَذا تَزَاهَرَتْ خِطابَاً. قُدرَتُهُ في ذاكَ تُظهِرُ حِشمَتَهُ. رَحْمَتُهُ في هَذا تَنظِمُ نِعْمَتَهُ. حِشمَتُهُ في ذاكَ تَشْهَدُ هُوَ الوَاحِدُ. نِعْمَتُهُ في هَذا تُعلِنُ هُوَ الأحَدُ. سِكَّتُهُ في ذَاك في الكُلِّ وَالأجْزَاءِ سُكونَاً حَرَكَةً. خاتَمُهُ في هَذا في الجِسمِ وَالأعْضاءِ حُجَيْرَةً ذَرَّةً.
فَانْظُرْ إلى آثَارهِ المُتَّسِقَةِ كيفَ تَرى كَالفَلَقِ سَخَاوَةً مُطْلَقَةً مَعَ انْتِظَام مُطْلَقٍ، في سُرْعَةٍ مُطْلَقَةٍ مَعَ اتِّزَانٍ مُطْلَقٍ، في سُهُولَةٍ مُطْلَقَةٍ مَعَ إتْقَانٍ مُطْلَقٍ، في وُسْعَةٍ مُطْلَقَةٍ مَعَ حُسْنِ صُنْعٍ مُطْلَقٍ، في بُعْدَةٍ مُطْلَقَةٍ مَعَ اتِّفَاقٍ مُطْلَقٍ، في خِلْطَةٍ مُطْلَقَةٍ مَعَ امْتِيَازٍ مُطْلَقٍ، في رُخْصَةٍ مُطْلَقَةٍ مَعَ غُلُوٍّ مُطْلَقٍ. فَهَذهِ الكَيْفِيَّةُ المَشْهُودَةُ شَاهِدَةٌ للعَاقِلِ المُحَقِّقِ، مُجْبِرَةٌ للأحْمَقِ المُنَافِقِ عَلى قَبُولِ الصَنْعَةِ وَالوَحْدَةِ للحَقِّ ذي القُدْرَةِ المُطْلَقَةِ، وَهُوَ العَليِمُ المُطْلَقُ.
وَفي الوَحْدَةِ سُهُولَةٌ مُطْلَقَةٌ، وَفي الكَثْرَةِ وَالشِّرْكَةِ صُعُوبَةٌ مُنغَلِقَةٌ:
إنْ أُسْنِدَ كُلُّ الأشياء للِوَاحِدِ، فَالكَائِنَاتُ كَالنَّخْلَةِ، وَالنَّخْلَةُ كَالثَّمَرَةِ سُهُولَةً في الابْتِدَاعِ. وَإنْ أُسْنِدَ للِكَثْرَةِ فَالنَّخْلةُ كَالكَائِنَاتِ، وَالثَّمَرَةُ كَالشَّجَرَاتِ صُعُوبَةً في الامْتِنَاع. إذ الوَاحِدُ بِالفَعْلِ الوَاحِدِ يُحَصِّلُ نَتِيجَةً ووَضْعيِةً للكَثيرِ بِلا كُلْفَةٍ ولا مُبَاشَرَةٍ؛ ولَوْ أُحِيلَتْ تِلْكَ الوَضْعيَّةُ وَالنَّتيجَةُ إلى الكَثرَةِ لا يمكن أن تَصِلَ إليها إلاّ بِتَكَلُّفَاتٍ وَمُبَاشَرَاتٍ وَمُشَاجَرَاتٍ كَالأمِيرِ مَعَ النَّفَرَاتِ، وَالبَانِي مَعَ الحَجَراتِ، وَالأرضِ مَعَ السَّيَّارَاتِ، والفَوَّارَةِ مَعَ القَطَرَاتِ، وَنُقطَةِ المَرْكَزِ مَعَ النُّقَطِ في الدَّائِرَةِ.
بِسِرِّ أنَّ في الوَحْدَةِ يَقُومُ الانتسَابُ مَقَامَ قُدْرَةٍ غَيْرِ مَحْدُودَةٍ. وَلا يَضْطَرُ السَّبَبُ لِحَمْلِ مَنَابعِ قُوَّتِهِ وَيَتَعَاظَمُ الأثَرُ بالنِّسْبَةِ إلى المُسْنَدِ إلَيهِ. وَفي الشِّرْكَةِ يَضْطَرُّ كُلُّ سَبَبٍ لِحَمْلِ مَنَابعِ قُوَّتِهِ؛ فَيَتَصاغَرُ الأثَرُ بِنِسْبَةِ جِرْمِهِ. وَمِنْ هُنَا غَلَبَتِ النَّمْلَةُ وَالذُّبَابَةُ عَلى الجَبابِرَةِ، وَحَمَلَتْ النَّوَاةُ الصَّغِيرَةُ شَجَرَةً عَظِيمة.
وَبِسِرِّ أنَّ في إسْنادِ كُلِّ الأشياء إلى الوَاحِدِ لا يَكُونُ الإيجَادُ مِنَ العَدَمِ المُطْلَقِ، بَلْ يَكُونُ الإيجَادُ عَيْنَ نَقلِ المَوجُودِ العِلمِيِّ إلى الوُجُودِ الخَارِجِيِّ، كَنَقْلِ الصُّورَةِ المُتَمَثِّلَةِ في المِرآةِ إلى الصَّحيِفَةِ الفُوطُوغْرافِيَّةِ لِتَثْبِيتِ وُجُودٍ خَارِجِيٍّ لَهَا بِكَمالِ السُّهُولَةِ، أو إظهارِ الخَطِّ المَكتُوبِ بِمِدَادٍ لا يُرى، بِواسِطةِ مَادَةٍ مُظهِرَةٍ للِكِتَابَةِ المَسْتُورَةِ. وَفي إسْنَادِ الأشياء إلى الأسباب وَالكَثْرَةِ يَلْزَمُ الإيجَادُ مِنَ العَدَمِ المُطْلَقِ، وَهُوَ إنْ لَمْ يَكُنْ مُحَالاً يَكُونُ أصْعَبَ الأشْيَاءِ. فَالسُهُولَةُ في الوَحْدَةِ واصِلَةٌ إلى دَرَجَةِ الوُجوبِ، وَالصُعُوبَةُ في الكَثْرَةِ وَاصِلَةٌ إلى دَرَجَةِ الامتِنَاعِ. وَبِحِكْمَةِ أنَّ في الوَحدَةِ يُمْكِنُ الإبْدَاعُ وَإيجَادُ "الأيْسِ مِنَ اللَّيْسِ" يَعْني إبْدَاعَ المَوْجُودِ مِنَ العَدَمِ الصِّرْفِ بِلا مُدَّةٍ وَلا مَادَّةٍ، وَإفراغَ الذَّرَّاتِ في القَالَبِ العِلْمِيِّ بلا كُلْفَةٍ وَلا خِلْطَةٍ. وَفي الشِّرْكَةِ وَالكَثْرَةِ لا يُمْكِنُ الإبْدَاعُ مِنَ العَدَمِ بِاتِّفَاقِ كُلِّ أهل العَقْلِ. فَلا بُدَّ لِوُجودِ ذي حَيَاةٍ جَمْعُ ذَرَّاتٍ مُنْتَشِرَةٍ في الأرض وَالعَناصِرِ؛ وَبِعَدَمِ القَالَبِ العِلْميِّ يَلْزَمُ لِمُحَافَظَةِ الذَّرَاتِ في جِسْمِ ذي الحيَاةِ وُجُودُ عِلْمٍ كُلِّيٍّ، وَإرادَةٍ مُطْلَقَةٍ في كُلِّ ذَرَّةٍ. وَمَعَ ذلِكَ إنَّ الشُّركاءَ مُسْتَغْنيةٌ عَنْهَا وَممْتَنِعَةٌ بالذَّاتِ وَتَحَكُّمِيَّةٌ مَحْضَةٌ، لا أمارة عَلَيْها وَلا إشارة إليها في شَيءٍ مِنَ المَوْجُودَاتِ. إذ خِلْقَةُ السَّمَاوَاتِ وَالأرضِ تَسْتَلْزِمُ قُدْرَةً كَامِلَةً غَيْرَ مُتَناهِيَةٍ بالضَّرُورَةِ. فَاسْتُغْنيَ عَنِ الشُّرَكَاءِ؛ وَإلاّ لَزِمَ تَحْديدُ وَانْتِهَاءُ قُدْرَةٍ كَامِلَةٍ غَيْرِ مُتَنَاهِيَةٍ في وَقْتِ عَدَمِ التَّناهِي بِقُوَّةٍ مُتَنَاهِيَةٍ بِلا ضَرَورَةٍ، مَعَ الضَّرُورَةِ في عَكْسِهِ؛ وَهُوَ مُحَالٌ في خَمْسَةِ أوْجُهٍ. فَامْتَنَعَتِ الشُّرَكَاءُ، مَعَ أنَّ الشُّرَكَاءَ المُمتَنِعَةَ بِتِلكَ الوُجوُهِ لا إشارة إلى وُجودِها، وَلا أمارة عَلى تَحُقُّقِهَا في شيءٍ مِنَ المَوجُودَاتِ.
فقد استفسرنا عن هذه المسألة في "الموقف الأول من الرسالة الثانية والثلاثين" من الذرات إلى السيارات وفي "الموقف الثاني" من السماوات إلى التشخصات الوجهية فأعطت جميعها جواب رد الشرك بإراءة سكة التوحيد.
فَكَمَا لا شُرَكَاءَ لَهُ؛ كَذَلِكَ لا مُعِينَ وَلا وُزَراءَ لَهُ. وَمَا الأسباب إلاّ حِجَابٌ رَقِيقٌ عَلى تَصَرُّفِ القُدْرَةِ الأزَلِيَّةِ، لَيْسَ لَهَا تَأثِيرٌ إيجادِيٌ في نَفسِ الأمرِ. إذ أشْرَفُ الأسباب وَأوْسَعُهَا إختِيَاراً هُوَ الإنسَانُ؛ مَعَ أنَّهُ لَيسَ في يَدِهِ مِنْ أظْهَرِ أفْعَالهِ الاختِيَاريَةِ كَـ"الأكْلِ وَالكَلامِ وَالفِكْرِ" مِنْ مِئَاتِ أجْزاءٍ إلاّ جُزْءٌ وَاحِدٌ مَشْكُوكٌ. فإذا كَانَ السَّبَبُ الأشْرَفُ وَالأوْسَعُ اختِيَاراً مَغْلُولَ الأيْدي عَنِ التَّصَرُّفِ الحَقيِقيِّ كَمَا تَرى؛ فَكَيفَ يمكن أن تَكُونَ البَهِيماتُ والجَمَاداتُ شَرِيكةً في الإيجَادِ وَالرُّبُوبِيَّةِ لخَالِقِ الأرض وَالسَّمَاواتِ. فَكَمَا لا يمكن أن يَكُونَ الظَّرْفُ الَّذي وَضَعَ السُّلطَانُ فيهِ الهَدِيَّةَ، أو المَندِيلُ الَّذي لَفَّ فيهِ العَطيَّةَ، أو النَّفَرُ الَّذي أرسَلَ عَلى يَدِهِ النِّعْمَةَ إليكَ، شُرَكَاءَ للِسُلْطَانِ في سَلْطَنَتِهِ؛ كَذَلِكَ لا يمكن أن يَكُونَ الأسباب المُرْسَلَةُ عَلى أيْديِهمُ النِّعَمُ إلينَا، وَالظُرُوفُ الَّتي هِيَ صَنَادِيقُ للِنِّعَمِ المُدَّخَّرَةِ لَنَا، والأسْبَابُ الَّتي التَفَّتْ عَلى عَطَايَا إلَهِيَّةٍ مُهْداةٍ إلَينَا، شُرَكَاءَ أعْواناً أو وَسَائِطَ مُؤَثِّرَةً.
المرتبة الثانية
جَلَّ جَلالُهُ اللّٰه أكبَرُ مِنْ كُلِّ شَيءٍ قُدْرَةً وَعِلْمَاً، إذ هُوَ الخَلاّقُ العَلِيمُ الصَّانِعُ الحَكِيمُ الرَّحمنُ الرَّحِيمُ الَّذي هذِهِ المَوجُودَاتُ الأرضِيَّةُ وَالأجْرَامُ العُلوِيَّةُ في بُسْتَانِ الكَائِنَاتِ مُعجِزَاتُ قُدْرَةِ خَلاّقٍ عَليِم بِالبَدَاهَةِ، وَهَذهِ النَبَاتَاتُ المُتَلَوِّنَة المُتَزَيِّنَةُ المَنْثُورَةُ، وَهَذِهِ الحَيْوَانَاتُ المُتَنَوِّعَةُ المُتَبَرِّجَةُ المَنْشُورَةُ في حَدِيقَةِ الأرض خَوَارِقُ صَنْعَةِ صانِعٍ حَكِيمٍ بِالضَّرُورَةِ، وَهَذهِ الأزْهَارُ المُتَبَسِّمَةُ وَالأثْمَارُ المُتَزَيِّنَةُ في جِنَانِ هذِهِ الحَديقَةِ هَدَايَا رَحْمَةِ رَحْمن رَحيِمٍ بالمُشَاهَدَةِ. تَشْهَدُ هاتِيكَ وَتُنَادي تَاكَ وتُعْلِنُ هذِهِ بِأنَّ خَلاَّقَ هَاتيكَ وَمُصَوِّرَ تَاكَ وَوَاهِبَ هذِهِ عَلى كُلِّ شيء قَديرٌ، وَبِكُلِّ شيء عَليمٌ، قَد وَسِعَ كُلَّ شَيءٍ رَحْمَةً وَعِلمَاً، تتَسَاوى بِالنِّسْبَةِ إلى قُدْرَتِهِ الذَّرَّاتُ وَالنُّجُومُ، وَالقَليلُ وَالكَثيرُ، والصَغيرُ وَالكَبيرُ، وَالمُتَنَاهِي وَغَيرُ المُتَنَاهِي. وَكُلُّ الوُقُوعَاتِ المَاضِيَةِ وَغَرَائِبِها مُعْجِزَاتُ صَنْعَةِ صانِع ٍحَكيمٍ تَشْهَدُ على أن ذَلِكَ الصَّانِعَ قَديرٌ عَلى كُلِّ الإمْكَانَاتِ الاسْتِقْبَالِيَّةِ وَعَجائِبِها، إذ هُوَ الخَلاّقُ العَليمُ وَالعَزيزُ الحَكيِمُ.
فَسُبْحانَ مَنْ جَعَلَ حَديقَةَ أرضِهِ مَشْهَرَ صَنْعَتِه، مَحْشرَ فِطْرَتِهِ، مَظْهَرَ قُدرَتِهِ، مَدَارَ حِكْمَتِهِ، مَزْهَرَ رَحْمَتِهِ، مَزْرَعَ جَنَّتِهِ، مَمَرَّ المَخْلُوقَاتِ، مَسِيلَ المَوجُودَاتِ، مَكيلَ المَصْنُوعَاتِ.
فَمُزَيَّنُ الحَيْوانَاتِ مُنَقَّشُ الطُّيوراتِ مُثَمَّرُ الشَّجَراتِ مُزَهَّرُ النَبَاتاتِ مُعْجِزَاتُ عِلمِهِ، خَوَارِقُ صُنْعِهِ، هَدايَا جُودِهِ، بَراهِينُ لُطْفِهِ.
تَبَسُّمُ الأزهَارِ مِنْ زينَةِ الأثْمَارِ، تَسَجُّعُ الأطيَارِ في نَسْمَةِ الأسْحَارِ، تَهَزُّجُ الأمطَارِ عَلى خُدُودِ الأزهَارِ، تَرَحُّمُ الوالِدَاتِ عَلى الأطفال الصِّغَارِ.. تَعَرُّفُ وَدُودٍ، تَوَدُّدِ رَحمن، تَرَحُّمُ حَنَّانٍ، تَحَنُّنُّ مَنَّانٍ للِجِنَّ وَالإنسَانِ وَالرُّوحِ وَالحَيوَانِ وَالمَلَكِ وَالجانِّ.
وَالبُذُورُ وَالأثْمَارُ، والحُبُوبُ وَالأزهَارُ، مُعجِزَاتُ الحِكمَةِ. خَوَارِقُ الصَّنْعَةِ. هَدَايا الرَّحْمَةِ. بَرَاهينُ الوَحْدَةِ. شَوَاهِدُ لُطْفِهِ في دارِ الآخِرَةِ. شَوَاهِدُ صَادِقَةٌ بأنَّ خَلاَّقَهَا عَلى كُلِّ شيء قَديرٌ. وَبِكُلِّ شيء عَلِيمٌ، قَدْ وَسِعَ كُلَّ شيء بِالرَّحْمَةِ وَالعِلْمِ وَالخَلْقِ وَالتَّدْبيرِ وَالصُّنْعِ وَالتَّصْوِيرِ. فَالشَّمسُ كَالبَذرَةِ، وَالنَّجْمُ كَالزَّهْرَةِ، وَالأرضُ كَالحَبَّةِ، لا تَثْقُلُ عَلَيهِ بِالخَلْقِ وَالتَّدْبيرِ، وَالصُّنعِ وَالتَّصْويرِ. فَالبُذُورُ وَالأثْمَارُ مَرَايا الوَحْدَةِ في أقطار الكَثْرَةِ، إشَاراتُ القَدَرِ، رُمُوزَاتُ القُدْرَةِ بِأنَّ تِلكَ الكَثْرَةَ مِنْ مَنْبَعِ الوَحْدَةِ، تَصْدُرُ شَاهِدَةً لِوَحْدَةِ الفَاطِرِ في الصُّنْعِ وَالتَصْويرِ. ثُمَّ إلى الوَحْدَةِ تَنْتَهي ذَاكِرَةً لِحِكمَةِ الصَّانِعِ في الخَلْقِ وَالتَّدْبيِرِ. وَتَلْوِيحاتُ الحِكْمَةِ بأنَّ خَالِقَ الكُلِّ بِكُلِّيَّةِ النَّظَرِ إلى الجُزْئيِّ يَنْظُرُ، ثَمَّ إلى جُزْئِهِ. إذْ إنْ كانَ ثَمَرَاً فَهُوَ المَقْصُودُ الأظهَرُ مِنْ خَلقِ هَذا الشَّجَرِ. فَالبَشَرُ ثَمَرٌ لِهَذِهِ الكَائِنَاتِ، فَهُوَ المَقْصُودُ الأظْهَرُ لِخَالِقِ المَوْجُودَاتِ. والقَلبُ كَالنَّوَاةِ، فَهُوَ المِرآةُ الأنْوَرُ لِصَانِعِ المَخْلُوقَاتِ. وَمِنْ هذِهِ الحِكْمَةِ فَالإنسَانُ الأصْغَرُ في هذِهِ الكَائِناتِِ هُوَ المَدَارُ الأظْهَرُ للنَّشْرِ وَالمحَشْرِ في هذِهِ المَوجُوداتِ، وَالتَّخْريبِ والتَّبْديلِ وَالتَّحويلِ وَالتَّجْديدِ لِهَذِهِ الكَائِناتِ.
اللّٰهُ أكبَرُ يَا كَبيرُ أنت الَّذي لا تَهدِي العُقُولُ لِكُنْهِ عَظَمَتِهِ.
كِه لا إلَهَ إلاّ هُوَ بَرَابَرْمي زَنَنْدْ هَرْ شيء
دَمَادَمْ جُو يَدَنْدْ: "ياحَقْ" سَرَاسَرْ كُوَيَدَنْدْ: "يا حَيّ"
المرتبة الثالثة ([8])
إيضاحها في رأس "الموقف الثالث" من "الرسالة الثانية والثلاثين".
اللّٰه أكْبَرُ مِنْ كُلِّ شيء قُدْرَة وَعِلماً، إذ هُوَ القَديرُ المُقَدِّرُ العَلِيمُ الحَكيِمُ المُصَوِّرُ الكَرِيمُ اللَّطِيفُ المُزَيِّنُ المُنْعِمُ الوَدُودُ المُتَعَرِّفُ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ المُتَحَنِّنُ الجَمِيلُ ذُو الجَمَالِ وَالكَمَالِ المُطْلَقِ النَّقَّاشُ الأزَليُّ الَّذي ما حَقَائِقُ هَذِهِ الكَائِناتِ كُلاً وَأجزَاءً وَصَحَائِفَ وَطَبَقاتٍ، وَما حَقائِقُ هذِهِ المَوجُودَاتِ كُلِّيَّا وَجُزئِيَّا ووُجُوداً وَبَقاءً: إلاّ خُطُوطُ قَلَمِ قَضَائِهِ وَقَدَرِهِ بِتَنْظِيمٍ وَتَقدِيرٍ وَعِلْمٍ وَحِكْمَةٍ... وَإلاّ نُقُوشُ بَركَارِ عِلْمِهِ وَحِكْمَتِهِ بِصُنْعٍ وَتَصويرٍ... وَإلاّ تَزْييناتُ يَدِ بَيْضاءِ صُنْعِهِ وَتَصويِرِهِ وَتَزْيِيِنِهِ وَتَنْوِيرِهِ بِلُطْفٍ وَكَرَمٍ... وَإلاّ أزاهيرُ لَطائِفِ لُطْفِهِ وَكَرَمِهِ وتَعَرُّفِهِ وَتَوَدُّدِهِ بِرَحْمَةٍ وَنِعْمَةٍ... وَإلاّ ثَمَرَاتُ فَيَّاضِ عَيْنِ رَحْمَتِهِ وَنِعْمَتِهِ وَتَرَحُّمِهِ وَتَحَنُّنِهِ بِجَمَالٍ وَكَمالٍ... وَإلاّ لَمَعَاتُ جَمالٍ سَرْمَديٍّ وَكَمالٍ دَيْمُومِيٍّ بِشَهَادَةِ تَفانِيَّةِ المَرايا وَسَيَّالِيَّةِ المَظاهِرِ، مَعَ دوام تَجَلي الجَمَالِ عَلى مَرِّ الفُصُولِ وَالعُصُورِ وَالأدْوَارِ، وَمَعَ دَوَامِ الإنْعَامِ عَلى مَرِّ الأنَامِ وَالأيَّامِ وَالأعْوَامِ.
نَعَمْ، تَفَاني المِرْآةِ زَوَالُ المَوجُودَاتِ مَعَ التَّجَلِّي الدَّائِم ِمَعَ الفَيضِ المُلازِمِ مِنْ أظْهَرِ الظَّوَاهِرِ مِنْ أبْهَرِ البَوَاهِرِ على أن الجَمالَ الظَّاهِرَ، أنَّ الكَمالَ الزَّاهِرَ ليسَا مُلْكَ المَظَاهِرِ مِنْ أفصَحِ تِبيانٍ، مِنْ أوضَحِ بُرْهَانٍ، للِجَمَالِ المُجَرَّدِ للإحسانِ المُجَدَّدِ للواجِبِ الوُجُودِ للِبَاقي الوَدُودِ.
نَعَمْ فَاْلأثَرُ المُكَمَّلُ يَدُلُّ بالبَدَاهَةِ على الفِعْلِ المُكَمَّلِ. ثُمَّ الفِعْلُ المُكَمَّلُ يَدُلُّ بِالضَّرُورَةِ عَلى الاسمِ المُكَمَّلِ وَالفَاعِلِ المُكَمَّلِ، ثم الاسمُ المُكمّلُ يَدُلُّ بِلا رَيبٍ عَلى الوَصْفِ المُكَمَّلِ، ثُمَّ الوَصفُ المُكَمَّلُ يَدُلُّ بِلا شَكٍ عَلى الشَّأنِ المُكَمَّلِ، ثُمَّ الشَّأنُ المُكَمَّلُ يَدُلُّ بِاليَقينِ عَلى كَمالِ الذَّاتِ بِمَا يَليقُ بِالذَاتِ وَهُوَ الحَقُّ اليَقينُ.
المرتبة الرابعة
جَلَّ جَلالُهُ اللّٰه أكبَرُ إذ هُوَ العَدْلُ العَادِلُ الحَكَمُ الحَاكِمُ الحَكِيمُ الأزَليُّ الَّذي أسس بُنْيَانَ شَجَرَةِ هذِهِ الكَائِنَاتِ في سِتَةِ أيام بِأُصُولِ مَشِيئَتِهِ وَحِكْمَتِهِ، وَفَصَّلَها بِدَساتِيرِ قَضائِهِ وَقَدَرِهِ، وَنَظَّمَها بِقَوَانينَ عادَتِهِ وَسُنَّتِهِ، وَزَيَّنَها بِنَواميسِ عِنَايَتِهِ وَرَحْمَتِهِ، وَنَوَّرَهَا بِجَلَواتِ أسمائه وَصِفَاتِهِ، بِشَهَادَاتِ انْتِظامَاتِ مَصنُوعَاتِهِ وَتَزَيُّنَاتِ مَوجُودَاتِهِ، وَتَشابُهِها وَتنَاسُبِها وَتَجَاوُبها وَتَعاوُنِها وَتَعانُقِها، وَإتْقانِ الصَّنعَةِ الشُّعُوريَّةِ في كُلِّ شَيءٍ عَلى مِقْدَارِ قَامَةِ قابِليَّتِهِ المُقَدَّرَةِ بِتَقْدِيرِ القَدَرِ.
فَالحِكمَةُ العَامَّةُ في تَنْظيماتِها.. وَالعِنَايَةُ التَّامَّةُ في تَزيِيِنَاتِها.. وَالرَّحمَةُ الوَاسِعَةُ في تَلطيفاتِها.. وَالأرزَاقُ وَالإعَاشَةُ الشَّامِلَةُ في تَربِيَتِها.. والحَيَاةُ العَجيبَةُ الصَّنعَةِ بِمَظْهَرِيَّتِها للِشُؤونِ الذَّاتِيَّةِ لِفَاطِرِها.. وَالمَحَاسِنُ القَصْدِيَّةُ في تَحْسينَاتِهَا.. وَدَوَامُ تَجَلِّي الجَمَالِ المُنْعَكِسِ مَعَ زَوالِهَا.. وَالعِشْقُ الصَّادِقُ في قَلْبِها لِمَعبُودِهَا.. وَالاِنْجِذَابُ الظَّاهِرُ في جَذْبَتِها.. وَاتِّفاقُ كُلِّ كُمَّلِهَا عَلى وَحْدَةِ فاطِرها.. وَالتَصَرُّفُ لِمَصالِحَ في أجزائِها.. وَالتَّدْبيرُ الحَكيمُ لِنَباتاتِها.. وَالتَّربِيَةُ الكَريمَةُ لِحَيواناتِهَا.. والاِنتِظامُ المُكَمَّلُ فِي تَغيُّراتِ أركَانِها.. وَالغاياتُ الجَسيمةُ في انتِظامِ كُلِّيَّتِها.. وَالحُدُوثُ دَفْعَةً مَعَ غايَةِ كَمَالِ حُسنِ صَنْعَتِها بِلا احتِياجٍ إلى مُدَّةٍ ومَادَّةٍ.. وَالتَّشَخُّصاتُ الحَكِيمَةُ مَعَ عَدَم ِتَحْديدِ تَرَدُّدِ إمْكاناتِها.. وَقَضاءُ حاجاتِها عَلى غَايَةِ كَثْرَتِها وَتَنَوُّعِها في أوقَاتِها اللاَّئِقةِ المُنَاسِبَةِ، مِنْ حَيثُ لا يُحتَسَبُ وَمِنْ حَيثُ لا يُشْعَرُ مَعَ قِصَرِ أيْدِيها عنْ أصغَرِ مَطالِبِها.. وَالقُوَّةُ المُطلَقَةُ في مَعْدِنِ ضَعْفِهَا.. وَالقُدْرَةُ المُطلَقَةُ في مَنبَعِ عَجْزِها.. وَالحَياةُ الظَاهِرَةُ في جُمُودِها.. وَالشُعُورُ المُحيطُ في جَهْلِها.. وَالانتِظامُ المُكَمَّلُ في تَغَيُّراتِها المُسْتَلزِمُ لِوُجُودِ المُغَيِّرِ الغَيرِ المُتَغَيِّر.. وَالاتِّفاقُ في تَسْبِيحَاتِها كَالدوائِرِ المُتَدَاخِلَةِ المُتَّحِدَةِ المَرْكَزِ.. وَالمَقْبُولِيَّةُ في دَعَوَاتِها الثَّلاثِ "بِلسانِ استِعدادها، وبِلسانِ احتِيَاجَاتِها الفِطريَّةِ، وبِلسانِ اضطِرارِها".. وَالمُناجاة وَالشُّهوداتُ وَالفُيُوضاتُ في عِبادَاتِهَا.. وَالاِنتظامُ في قَدَرَيها.. وَالاِطْمِئنَانُ بِذِكرِ فَاطِرِها.. وَكَونُ العِبَادَةِ فيها خَيْطَ الوُصْلَةِ بَينَ مُنْتَهاها وَمَبْدَئِها.. وسَببَ ظُهُورِ كَمَالِها وَلِتَحَقُّقِ مَقَاصِدِ صانِعِها..
وَهكَذا، بِسائِرِ شُؤوناتِها وَأحْوَالِها وَكَيفِيَّاتِها شاهِداتٌ بِأنَّها كُلَّها بِتَدبيِرِ مُدَبِّرٍ حَكيم واحِدٍ.. وفي تَربِيَةِ مُرَبٍ كَريم أحد صَمَدٍ.. وَكُلُّهَا خُدَّامُ سَيِّدٍ واحدٍ.. وتَحتَ تَصَرُّف متصرِّفٍ واحدٍ.. وَمَصدَرُهَا قُدْرَةُ واحِدٍ الَّذي تَظاهَرتْ وَتَكاثَرَتْ خَواتِيمُ وَحْدَتِهِ على كُلِّ مَكتُوبٍ مِنْ مَكتُوبَاتِهِ في كُلِّ صَفحَةٍ مِنْ صَفَحَاتِ مَوجُودَاتِهِ.
نَعَمْ، فَكُلُّ زَهرَةٍ وَثَمَرٍ، وَكُلُّ نَبَاتٍ وَشَجَرٍ، بَل كُلُّ حَيَوانٍ وَحَجَرٍ، بَل كُلُّ ذَرّ ٍ وَمَدَرٍ، في كُلِّ وادٍ وَجَبَلٍ، وكُلِّ بادٍ وقَفْرٍ خاتَمٌ بَيِّنُ النَّقشِ وَالأثَر، يُظْهِرُ لِدِقَّةِ النَّظرِ بِأنَّ ذاكَ الأثر هُوَ كاتِبُ ذاكَ المَكانِ بِالعِبَرِ؛ فَهُوَ كاتِبُ ظَهْرِ البَرِّ وَبَطْنِ البَحْرِ؛ فَهُوَ نَقَّاشُ الشَّمْسِ وَالقَمَرِ في صَحيفةِ السَّماوَاتِ ذاتِ العِبَرِ. جَلَّ جَلالُ نَقَّاشِها اللّٰه أكْبَرُ.
كِه لا إلهَ إلاّ هُو. بَرابَرْ مِى زَنَدْ عالَمْ
المرتبة الخامسة ([9])
اللّٰه أكبَرُ إذ هُوَ الخَلاّقُ القَديرُ المُصَوِّرُ البَصيرُ الَّذي هذِهِ الأجرام العُلويَّةُ والكَواكِبُ الدُّرِّيَّةُ نَيِّراتُ بَراهينِ أُلُوهيَّتِهِ وَعَظَمَتِهِ، وَشُعاعاتُ شَوَاهِدِ رُبُوبِيَّتِهِ وَعِزَّتِهِ؛ تَشْهَدُ وَتُنادي عَلى شَعْشَعَةِ سَلْطَنةِ رُبُوبِيَّتِهِ وَتُنَادي عَلى وُسْعَةِ حُكْمِهِ وَحِكْمَتِهِ، وعَلى حِشمَةِ عَظَمَةِ قُدْرَتِهِ. فَاسْتَمِعْ إلى آيةِ: ﴿أفَلَمْ يَنظُرُوا إِلَى السَّمَاء فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا..﴾(ق:6).
ثُمَّ انظُرْ إلى وَجْهِ السَّماءِ كيفَ تَرى سُكُوتاً في سُكُونة، حَرَكَةً في حِكْمَةٍ، تَلألُؤاً في حِشمَةٍ، تَبَسُّماً في زِينَةٍ مَعَ انتَظامِ الخِلقَةِ مَعَ اتِّزَانِ الصَّنْعَةِ.
تَشَعْشُعُ سِراجِها لِتَبديلِ المَوَاسِمِ، تَهَلهُلُ مِصْباحِها لِتَنويِرِ المَعَالَمِ، تَلألُؤُ نُجُومِها لِتَزيينِ العَوَالِم. تُعْلِنُ لأهلِ النُّهَى سَلْطَنَةً بلا انتِهَاءٍ لِتَدبيرِ هذَا العَالَمِ.
فَذَلِكَ الخَلاّقُ القَديرُ عَليمٌ بِكُلِّ شَيءٍ، وَمُريدٌ بِإرادَةٍ شَامِلَةٍ ما شاءَ كانَ، وَمَا لَمْ يَشأ لَمْ يَكُنْ. وَهُوَ قَدِيرٌ عَلى كُلِّ شَيءٍ بِقُدْرَةٍ مُطْلَقَةٍ مُحيطةٍ ذاتِيَّةٍ. وَكَما لا يُمكِنُ ولا يُتَصوَّرُ وُجُودُ هذِه الشَّمسِ في هذا اليَومِ بِلا ِضِياءٍ ولا حَرارةٍ؛ كذَلِكَ لا يُمْكِنُ ولا يُتَصوَّرُ وُجودُ إلهٍ خالِقٍ للِسَّماواتِ بِلا عِلْمٍ مُحيطٍ، وبِلا قُدرَةٍ مُطلَقَةٍ. فَهُوَ بِالضَرورَةِ عَليمٌ بِكُلِّ شَيءٍ بِعلم مُحيطٍ لازِم ذَاتيٍّ لِلذاتِ، يَلزَمُ تَعَلُّقُ ذلِكَ العِلمِ بِكُلِّ الأشياء، لا يمكن أن يَنْفَكَّ عَنْهُ شَيءٌ بِسِرِّ الحُضُورِ وَالشُّهُودِ وَالنُّفُوذِ وَالإحَاطَةِ النُّورانِيَّةِ.
فَما يُشَاهَدُ في جَميعِ المَوجُودَاتِ مِنَ الاِنْتِظامَاتِ المَوزُونَةِ، وَالاِتِّزَاناتِ المَنْظُومَةِ، وَالحِكَمِ العَامَّةِ، وَالعِنَايَاتِ التَّامَّةِ، وَالأقْدَارِ المُنْتَظَمَةِ، وَالأقْضِيَةِ المُثْمِرَةِ، وَالآجالِ المُعَيَّنَةِ، وَالأرزَاقِ المُقَنَّنَةِ، وَالإتْقاناتِ المُفَنَّنَةِ، وَالاِهتِمَامَاتِ المُزَيَّنَةِ، وَغَايَةِ كَمَالِ الاِمتِيازِ وَالاِتِّزانِ وَالاِنْتِظَامِ وَالإتْقانِ، وَالسُّهُولَةِ المُطلَقَةِ شَاهِدَاتٌ عَلى إحَاطَةِ عِلمِ عَلاّمِ الغُيُوبِ بِكُلِّ شَيءٍ.
وَأنَّ آية ﴿ألا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ﴾(الملك:14) تَدُلُّ على أن الوُجودَ في الشيء يَسْتَلزِمُ العِلمَ بِهِ. وَنُورَ الوُجودِ في الأشياء يَستَلزِمُ نُورَ العِلمِ فيها.
فَنِسبَةُ دَلالَةِ حُسنِ صَنْعَةِ الإنسان عَلى شُعُورِهِ، إلى نِسبَةِ دَلالَةِ خِلقَةِ الإنسان عَلى عِلمِ خالِقِهِ، كَنِسبَةِ لُمَيعَةِ نُجَيْمَةِ الذُّبَيْبَةِ في اللَّيلَةِ الدَّهمَاءِ إلى شَعشَعةِ الشَمْسِ في نِصفِ النَّهارِ عَلى وَجهِ الغَبْراءِ.
وَكَما أنَّهُ عَليمٌ بِكُلِّ شَيءٍ فهو مُريدٌ لكُلِّ شَيءٍ لا يمكن أن يَتَحَقَّقَ شَيءٌ بِدُونِ مَشِيئَتِهِ. وَكما أن القُدْرَةَ تُؤَثِّرُ، وَأنَّ العِلمَ يُمَيِّزُ؛ كَذَلكَ إنَّ الإرادةَ تُخَصِّصُ، ثُمَّ يَتَحَقَّقُ وُجودُ الأشيَاءِ.
فَالشَوَاهِدُ عَلى وُجودِ إرادَتِهِ تَعالى وَاختِيَارِهِ سُبحانَهُ بِعَدَدِ كَيفِيَّاتِ الأشياء وَأحْوالِهَا وَشُؤوناتِها.
نَعَمْ، فَتَنْظيمُ المَوجودَاتِ وَتَخْصيْصُها بِصِفاتِها مِنْ بِينِ الإمْكَانَاتِ الغَيْرِ المَحْدُودَةِ، وَمِنْ بَينِ الطُّرُقِ العَقيمَةِ، وَمِنْ بَينِ الاحتِمَالاتِ المُشَوَّشَةِ، وَتَحتَ أيدي السُّيُولِ المُتَشاكِسَةِ، بِهذا النِّظَامِ الأدَقِّ الأرَقِّ، وَتَوْزِينُهَا بِهذا المِيزانِ الحَسَّاسِ الجَسَّاسِ المَشْهُودَينِ؛ وَأنَّ خَلْقَ المَوجُوداتِ المُختَلِفَاتِ المُنتَظَماتِ الحَيَويَّةِ مِنَ البَسائِطِ الجَامِدَةِ -كَالإنسانِ بِجِهَازاتِهِ مِنَ النُّطفَةِ، وَالطَّيْرِ بِجوارِحِهِ مِنَ البَيضَةِ، وَالشَّجَرِ بأعْضَائِهِ المُتَنَوعَةِ مِنَ النَّوَاةِ- تَدُلُّ على أن تَخَصُّصَ كُلِّ شَيءٍ وَتَعَيُّنَهُ بإرادَتِهِ واختِيَارِهِ وَمَشِيئَتِهِ سُبْحَانَهُ. فَكما أنّ تَوافُقَ الأشياء مِنْ جِنْسٍ، وَالأفرَادِ مِنْ نَوعٍ في أسَاساتِ الأعْضاءِ، يَدُلُّ بالضَّرُورَةِ على أنّ صانِعَها واحِدٌ أحدٌ؛ كَذلكَ إنَّ تَمايُزَها في التَّشَخُّصاتِ الحَكيمَةِ المُشتَمِلَةِ عَلى عَلاماتٍ فارِقَةٍ مُنْتَظَمَةٍ، تَدُلُّ على أن ذلكَ الصَّانعَ الواحِدَ الأحدَ هُوَ فاعِلٌ مُختَارٌ مُرِيدٌ يَفعَلُ ما يَشاءُ وَيَحكُمُ ما يُريدُ جَلَّ جَلالُهُ.
وَكما أن ذلِكَ الخَلاّقَ العَليمَ المُريدَ عَليمٌ بِكُلِّ شَيء، وَمُرِيدٌ لِكُلِّ شَيء، لَهُ عِلمٌ مُحيطٌ، وَإرادةٌ شَامِلَةٌ، وَاختيَارٌ تَامٌّ؛ كَذلكَ لَهُ قُدرَةٌ كاملَةٌ ضَرُوريَّةٌ ذَاتِيَّةٌ ناشِئَةٌ مِنَ الذَّاتِ وَلازِمَةٌ للِذَّاتِ. فَمُحَالٌ تَداخُلُ ضِدِّها. وَإلاّ لَزِمَ جَمْعُ الضِّدَّيْنِ المُحالُ بالاتِفَاقِ.
فَلا مرَاتِبَ في تِلكَ القُدرةِ. فَتَتَساوى بِالنِّسبَةِ إليها الذَّرَّاتُ وَالنجُومُ، وَالقَليلُ وَالكثيرُ، وَالصَغيرُ والكَبيرُ، وَالجُزئيُّ وَالكُلِّيُّ، وَالجُزءُ وَالكُلُّ، وَالإنسانُ وَالعالَمُ، والنَّوَاةُ والشَّجَرُ:
بِسِرِّ النُّورَانيَّةِ وَالشَّفافِيَّةِ وَالمُقابَلَةِ وَالمُوَازَنَةِ وَالانتِظامِ وَالامتِثالِ... بِشَهادَةِ الانتِظامِ المُطلَقِ وَالاتِّزَانِ المُطلَقِ وَالامتِيَازِ المُطلَقِ في السُّرعَةِ وَالسُّهُولَةِ وَالكَثرَةِ المُطلَقَاتِ... بِسِرِّ إمدادِ الوَاحِديَّةِ ويُسرِ الوَحدَةِ وتَجَلِّي الأحَديَّةِ... بِحِكمَةِ الوُجوبِ وَالتَجَرُّدِ وَمُبَايَنَةِ الماهيَّةِ... بِسرِّ عَدَمِ التَّقَيُّدِ وَعَدَمِ التَّحَيُّزِ وَعَدَمِ التَّجَزُّؤ... بِحِكمَةِ انقِلابِ العَوَائِقِ وَالمَوَانِعِ إلى الوَسَائِلِ في التَسْهيلِ إنْ احْتيجَ إلَيهِ. وَالحَالُ أنَّهُ لا احتِيَاجَ، كأعْصابِ الإنسانِ، وَالخُطُوطِ الحَديديَّةِ لنَقلِ السَيَّالاتِ اللَّطيفَةِ... بِحِكمَةِ أنَّ الذَّرَّةَ وَالجُزءَ وَالجُزئيَّ وَالقَليلَ وَالصَغيرَ وَالإنسانَ وَالنَّواةَ ليسَتْ بِأقَلَّ جَزَالَةً مِنَ النَّجْمِ وَالنَّوعِ وَالكُلِّ وَالكُلِّيِّ وَالكَثيرِ وَالكَبيرِ وَالعَالَمِ وَالشَّجَرِ.
فَمَنْ خَلَقَ هؤُلاءِ لا يُسْتَبعَدُ مِنْهُ خَلقُ هذِهِ. إذ المُحاطاتُ كالأمثِلَةِ المَكتُوبَةِ المُصَغَّرَةِ، أو كالنُّقَطِ المَحلُوبَةِ المُعَصَّرَةِ. فَلابُدَّ بالضَرُورَةِ أنْ يَكونَ المُحيطُ في قَبضَةِ تَصَرُّفِ خالِقِ المُحَاطِ، لِيُدْرِجَ مِثالَ المُحيطِ في المُحَاطَاتِ بِدَسَاتيرِ عِلمِهِ، وَأنْ يَعْصِرَها مِنْهُ بِمَوازينِ حِكمَتِهِ. فَالقُدرَةُ الَّتي أبرَزَتْ هَاتيكَ الجُزئيَّاتِ لا يَتَعسَّرُ عَليها إبرَازُ تَاكَ الكُلِّيَّاتِ.
فَكما أن نُسخَةَ قُرآنِ الحِكمَةِ المَكتُوبَةَ عَلى الجَوهَرِ الفَردِ بِذَرَّاتِ الأثيرِ لَيسَتْ بِأقَلَّ جَزَالَةً مِنْ نُسْخَةِ قُرآنِ العَظَمَةِ المَكتُوبَةِ عَلى صَحَائِفِ السَّماواتِ بِمِدادِ النُّجُومِ وَالشُّموسِ؛ كذَلِكَ لَيسَتْ خِلقَةُ نَحْلَةٍ وَنَمْلَةٍ بِأقَلَّ جَزَالَةً مِنْ خِلقَةِ النَّخلَةِ والفيلِ، وَلا صَنْعَةُ وَردِ الزَّهْرَةِ بِأقَلَّ جَزَالَةً مِنْ صَنْعَةِ دُرِّيِّ نَجمِ الزُّهْرَةِ. وَهكَذا فَقِسْ.
فَكما أن غايَةَ كَمالِ السُّهُولَةِ في إيجادِ الأشياءِ أوقَعَتْ أهلَ الضَّلالَةِ في التِبَاسِ التَّشكيلِ بالتَّشَكُّلِ المُستَلزِمِ للِمُحَالاتِ الخُرَافيَّةِ الَّتي تَمُجُّها العُقُولُ، بَل تَتَنَفَّرُ عَنها الأوهَامُ؛ كذلِكَ أثْبَتَتْ بِالقَطعِ وَالضَرُورَةِ لأهلِ الحَقِّ وَالحَقيقَةِ تَساويَ السَّيَّاراتِ مَعَ الذَّرَّاتِ بالنِسبَةِ إلى قُدْرَةِ خالِقِ الكائِناتِ... جَلَّ جَلالُهُ وَعَظُمَ شأنُهُ وَلاَ إِلهَ إلاَّ هُوَ.
المرتبة السادسة ([10])
جَلَّ جَلالُهُ وَعَظُمَ شَأنُهُ اللّٰه أكبَرُ مِنْ كُلِّ شَيءِ قُدْرَةً وَعلمَاً، إذ هُوَ العَادِلُ الحَكيمُ القَادِرُ العَليمُ الوَاحِدُ الأحَدُ السُّلطَانُ الأزَليُّ الَّذي هذِهِ العَوَالِمُ كُلُّهَا في تَصَرُّفِ قَبْضَتَيْ نِظامِهِ وَميزَانِهِ وَتَنْظيمِهِ وَتَوزيِنِهِ وَعَدلِهِ وَحِكمَتِهِ وَعِلمِهِ وَقُدرَتِهِ، وَمَظهَرُ سِرِّ وَاحِدِيَّتِهِ وَأحَديَّتِهِ بِالحَدْسِ الشُّهُوديِّ بَل بِالمُشَاهَدَةِ. إذ لا خَارِجَ في الكَونِ مِنْ دَائِرَةِ النِّظَامِ وَالميزَانِ وَالتَّنظيمِ وَالتَّوزينِ؛ وَهُمَا بابانِ مِنَ "الإمامِ المُبينِ" و"الكِتَابِ المُبينِ". وَهُما عُنوَانانِ لِعِلمِ العَليمِ الحَكيمِ وَأمْرِهِ وَقُدْرَةِ العَزيزِ الرَّحيمِ وَإرادَتِهِ. فَذلكَ النِّظامُ مَعَ ذلكَ المِيزَانِ، في ذلكَ الكِتَابِ مَعَ ذلكَ الإمامِ بُرهَانانِ نَيِّرانِ لِمَنْ لَهُ في رَأسِهِ إذعَانٌ، وفي وَجهِهِ العَينَانِ، أنْ لا شَيءَ مِنَ الأشياء في الكَونِ وَالزَّمانِ يَخْرُجُ منْ قَبضَةِ تَصَرُّفِ رَحمنٍ، وَتَنْظيمِ حَنَّانٍ، وَتَزييِنِ مَنَّانٍ، وَتَوزينِ دَيَّانٍ.
الحَاصِلُ: أنَّ تَجَلِّيَ الاِسمِ "الأوَّلِ وَالأخِرِ" في الخَلاّقِيَّةِ، النَّاظِرَينِ إلى المَبدَأِ وَالمُنتَهى وَالأصلِ وَالنَسلِ وَالمَاضي وَالمُستَقبلِ وَالأمرِ وَالعِلمِ، مُشيرانِ إلى "الإمامِ المُبينِ". وَتَجَلِّيَ الاِسمِ "الظَّاهِرِ وَالباطِنِ" عَلى الأشياء في ضِمنِ الخَلاّقِيَّةِ يُشيرانِ إلى "الكِتابِ المُبينِ".
فَالكَائِناتُ كَشَجَرَةٍ عَظيمَةٍ، وَكُلُّ عالَمٍ مِنها أيضاً كَالشَّجَرةِ. فَنُمَثِّلُ شَجَرَةً جُزئِيَّةً لِخِلقَةِ الكائِناتِ وَأنواعِها وَعَوالِمِها. وهَذِهِ الشَّجَرَةُ الجُزئِيَّةُ لها أصلٌ وَمَبدَأٌ وَهُوَ النَّواةُ الَّتي تَنبُتُ عَليهَا، وَكَذا لها نَسلٌ يُديمُ وَظيفَتَها بَعدَ مَوتِها وَهُوَ النَّواةُ في ثَمَراتِها.
فَالمَبدَأُ وَالمُنتَهى مَظْهَرانِ لِتَجَلِّي الاِسمِ "الأوَّلِ وَالآخِرِ". فَكأنَّ المَبدأ وَالنَّواةَ الأصليَّةَ بِالانتِظامِ وَالحِكمَةِ، فِهرِستَةٌ وَتَعرِفَةٌ مُرَكَّبَةٌ مِنْ مَجمُوعِ دَساتيرِ تَشكُّلِ الشَّجَرةِ. وَالنَّواتَاتُ في ثَمَراتِها الَّتي في نِهاياتِها مَظهَرٌ لِتَجَلِّي الاِسمِ الآخِر.
فَتِلكَ النَّواتاتُ في الثَّمَراتِ بِكمَالِ الحِكمَةِ، كَأنَها صُنَيدِيقَاتٌ صَغيرَةٌ أُودِعَتْ فيها فِهرِستَةٌ وَتَعرِفَةٌ لتَشَكُّلِ ما يُشابِهُ تِلكَ الشَجَرةَ. وَكأنَّها كُتِبَ فيها بِقَلَمِ القَدَرِ دَساتيرُ تَشكُّلِ شَجَراتٍ آتِيَةٍ.
وَظاهِرُ الشَّجَرَةِ مَظْهَرٌ لِتَجَلِّي الاِسمِ "الظَّاهِرِ". فَظَاهِرُها بِكَمالِ الاِنتِظامِ وَالتَّزيينِ وَالحِكمَةِ، كَأنَها حُلَّةٌ مُنتَظَمَةٌ مُزَيَّنَةٌ مُرَصَّعَةٌ قَد قُدَّتْ عَلى مِقدارِ قَامَتِها بِكَمالِ الحِكمَةِ وَالعِنَايَةِ.
وَبَاطِنُ تِلكَ الشَّجَرَةِ مَظهَرٌ لِتَجَلِّي الاِسمِ "البَاطِنِ". فَبكَمالِ الانتِظامِ وَالتَّدبيرِ المُحَيِّرِ للِعُقُولِ، وَتَوزيعِ مَوَادِّ الحَياةِ إلى الأعَضاءِ المُختَلِفَةِ بِكَمالِ الانتِظامِ، كأنَّ باطِنَ تِلكَ الشَّجَرَةِ ماكِينَةٌ خَارِقَةٌ في غَايَةِ الاِنتَظامِ وَالاِتَّزَانِ.
فَكما أن أوَّلَها تَعرِفَةٌ عَجيبَةٌ، وآخِرَها فِهرِستَةٌ خارِقَةٌ تُشيرانِ إلى "الإمامِ المُبينِ"؛ كَذَلكَ إنَّ ظَاهِرَها كحُلَّةٍ عَجيبَةِ الصَنْعَةِ، وَباطِنَها كَمَاكينَةٍ في غَايَةِ الاِنتِظامِ، تُشيرَانِ إلى "الكِتَابِ المُبينِ".
فَكما أن القُوَّاتِ الحَافِظاتِ في الإنسان تُشيرُ إلى "اللَّوحِ المَحفُوظِ" وَتَدُلُّ عَلَيهِ؛ كَذلِكَ إنَّ النَّوَاتاتِ الأصليَّةَ وَالثَّمَراتِ تُشيرَانِ في كُلِّ شَجَرةٍ إلى "الإمامِ المُبينِ". وَالظَّاهِرُ وَالبَاطِنُ يَرمُزَانِ إلى "الكِتَابِ المُبينِ". فَقِسْ عَلى هذِهِ الشَّجَرَةِ الجُزئِيَّةِ شَجَرَةَ الأرض بِمَاضِيها وَمُستَقبَلِها، وَشَجَرةَ الكَائِناتِ بِأوائِلِها وَآتِيها، وَشَجَرةَ الإنسان بِأجْدَادِها وَأنسَالِها. وَهَكذا... جَلَّ جَلالُ خالِقِها وَلا إلَهَ إلاّ هُوَ.
يا كَبيرُ أنت الَّذي لا تَهدِي العُقُولُ لِوَصفِ عَظَمَتِهِ وَلا تَصِلُ الأفْكَارُ إلى كُنْهِ جَبَرُوتِهِ.
المرتبة السابعة
جَلَّ جَلالُهُ اللّٰه أكبَرُ مِنْ كُلِّ شَيءٍ قُدرَةً وَعِلماً. إذ هُوَ([11]) الخَلاّقُ الفَتَّاحُ الفَعَّالُ العَلاّمُ الوَهَّابُ الفَيَّاضُ شَمسُ الأزَلِ الَّذي هذِهِ الكَائِناتُ بِأنواعِها وَمَوجُودَاتِها ظِلالُ أنوَارهِ، وَآثارُ أفعَالِهِ، وَألوانُ نُقوشِ أنواع تَجَلِّياتِ أسمائِهِ، وخُطُوطُ قَلَمِ قَضائِهِ وَقَدَرِهِ، وَمَرَايَا تَجَلِّياتِ صِفَاتِهِ وَجَمَالِهِ وَجَلالِهِ وَكَمالِهِ..
بِإجمَاعِ الشَّاهِدِ الأزَليِّ بِجَميعِ كُتُبِهِ وَصُحُفِهِ وآياتِهِ التَكْويِنيَّةِ والقُرآنيَّةِ... وبإجمَاعِ الأرض مَعَ العَالَمِ بِافتِقَاراتِها وَاحتِيَاجاتِها في ذاتِها وَذَرَّاتِها مَعَ تَظاهُرِ الغَناءِ المُطلَقِ وَالثَّروَةِ المُطلَقَةِ عَلَيها... وبإجمَاعِ كُلِّ أهل الشُّهُودِ مِنْ ذَوي الأرواح النَّيِّرَةِ وَالقُلوبِ المُنَوَّرَةِ وَالعُقُولِ النُّورانيَّةِ مِنَ الأنبياء وَالأولِيَاءِ والأصفِيَاءِ بِجَميعِ تَحقيقَاتِهِمْ وَكُشُوفَاتِهِمْ وَفُيُوضاتِهِمْ وَمُنَاجَاتِهِمْ..
قَدْ اتَّفَقَ الكُلُّ مِنهُمْ، وَمِنَ الأرض وَالأجرَامِ العُلويَّةِ وَالسُّفليَّةِ بِما لا يُحَدُّ مِنْ شَهادَاتِهِمُ القَطعيَّةِ وَتَصدِيقاتِهِمُ اليَقينيَّةِ بِقُبولِ شَهَادَاتِ الآيات التَّكْوينيَّةِ والقُرآنيَّةِ وَشَهَادَاتِ الصُّحُفِ وَالكُتُبِ السَّماويَّةِ الَّتي هيَ شَهَادَةُ الوَاجِبِ الوُجُودِ على أن هذِهِ المَوجُودَاتِ آثارُ قُدرَتِهِ ومَكْتُوباتُ قَدَرِهِ وَمَرايا أسمائه وَتَمَثُّلاتُ أنوَارِهِ... جَلَّ جَلالُهُ وَلا إلَهَ إلاّ هُوَ.
الباب الرابع
فصلان
الفصل الأول
هذا الفصل يشير إلى ثلاثٍ وستين مرتبةً من مراتب معرفة اللّٰه وتوحيده سبحانه متخذاً وِرداً مهماً ومشهوراً لسيدنا الخضر عليه السلام كمبدأ وأساس لهذا الورد. علماً أن كل مرتبة من المراتب الثلاث والستين عبارة عن جملتين.
فكلمة "لا اله إلاّ اللّٰه" تثبت الوحدانية، كما أن الأسماء التي تبدأ بـ"هو" تثبت وجود واجب الوجود. فعندما تشير الجملة الأولى إلى الوحدانية، يخطر بالبال سؤال مقدَّر، كأن يقال: ومن هو الواحد؟ وكيف نعرفه؟ فيكون جوابه: هو الرحمن الرحيم.. مثلاً. أي أن آثار الشفقة والرحمة التي تملأ الكون كله تعرّف ذلك الرحمن وتدل عليه. وهكذا قس الباقي.
اللَّهُمَّ إنِّي أُقَدِّمُ إلَيكَ بَينَ يَدَيْ كُلِّ نِعْمَةٍ وَرَحمَةٍ وَحِكمَةٍ وَعِنايَةٍ، وبَينَ يَدَي كُلِّ حَيَاةٍ وَممَاتٍ وَحَيوَانٍ وَنَبَاتٍ، وَبينَ يَدَي كُلِّ زَهرَةٍ وَثَمَرةٍ وَحَبَّةٍ وَبَذرَةٍ، وَبَينَ يَدَي كُلِّ صَنْعَةٍ وصِبغَةٍ ونِظامٍ وَميزَانٍ، وبينَ يَدي كُلِّ تَنظيم وَتَوزيِنٍ وتَمييزٍ في كُلِّ المَوجُودَاتِ وَذَرَّاتِها، شَهادَةً نَشهَدُ ([12]) أنْ:
لآ إلهَ إلاّ اللّٰه هُوَ الحيُّ القَيومُ لآ إلهَ إلاّ اللّٰه هُوَ الباقِي الدَّيمُومُ
لآ إلهَ إلاّ اللّٰه وَحْدَهُ لا شَـرِيكَ لهُ لآ إلهَ إلاّ اللّٰه هُوَ العَزيزُ الجَبَّارُ
لآ إلهَ إلاّ اللّٰه هُوَ الحَكيم الغَفَّارُ لآ إلهَ إلاّ اللّٰه هُوَ الأول وَالآخِرُ
لآ إلهَ إلاّ اللّٰه هُوَ الظَّاهِرُ وَالبَاطِنُ لآ إلهَ إلاّ اللّٰه هُوَ السَّميعُ البَصيرُ
لآ إلهَ إلاّ اللّٰه هُوَ اللَّطيفُ الخَبيرُ لآ إلهَ إلاّ اللّٰه هُوَ الغَفُورُ الشَّكورُ
لآ إلهَ إلاّ اللّٰه هُوَ الخَلاّقُ القديرُ لآ إلهَ إلاّ اللّٰه هُوَ المُصَوِّرُ البَصيرُ
لآ إلهَ إلاّ اللّٰه هُوَ الجَوَادُ الكريمُ لآ إلهَ إلاّ اللّٰه هُوَ المُحيي العَليمُ
لآ إلهَ إلاّ اللّٰه هُوَ المُغني الكَريمُ لآ إلهَ إلاّ اللّٰه هُوَ المُدَبِّرُ الحَكيمُ
لآ إلهَ إلاّ اللّٰه هُوَ المُرَبِّي الرَّحيمُ لآ إلهَ إلاّ اللّٰه هُوَ العزيزُ الحَكيمُ
لآ إلهَ إلاّ اللّٰه هُوَ العلِّيُّ القَويُّ لآ إلهَ إلاّ اللّٰه هُوَ الوَليُّ الغنيُّ
لآ إلهَ إلاّ اللّٰه هُوَ الشَّهيدُ الرَّقيبُ لآ إلهَ إلاّ اللّٰه هُوَ القَريبُ المُجيبُ
لآ إلهَ إلاّ اللّٰه هُوَ الفَتاحُ العَليمُ لآ إلهَ إلاّ اللّٰه هُوَ الخَلاّقُ الحَكيمُ
لآ إلهَ إلاّ اللّٰه هُوَ الرَّزاقُ ذُو القُوَّةِ المَتينُ لآ إلهَ إلاّ اللّٰه هُوَ الأحَدُ الصَمَدُ
لآ إله إلاّ اللّٰه هو الباقي الأمْجَدُ لا الهَ إلاّ اللّٰه هُوَ الوَدُوُدُ المَجِيدُ
لآ إلهَ إلاّ اللّٰه هُوَ الفَعَّالُ لِما يريدُ لآ إلهَ إلاّ اللّٰه هُوَ المَلِكُ الوَارِثُ
لآ إلهَ إلاّ اللّٰه هُوَ البَاقي البَاعِثُ لآ إلهَ إلاّ اللّٰه هُوَ البَارىءُ المُصوِّرُ
لآ إلهَ إلاّ اللّٰه هُوَ اللَّطيفُ المُدَبِّرُ لآ إلهَ إلاّ اللّٰه هُوَ السَّيدُ الدَّيَّانُ
لآ إلهَ إلاّ اللّٰه هُوَ الحنَّانُ المَنَّانُ لآ إلهَ إلاّ اللّٰه هُوَ السُّبُّوحُ القُدُّوسُ
لآ إلهَ إلاّ اللّٰه هُوَ العَدْلُ الحَكمُ لآ إلهَ إلاّ اللّٰه هُوَ الفَرْدُ الصَّمَدُ
لآ إله َ إلاّ اللّٰه هُوَ النورُ الهادي..
لآ إلهَ إلاّ اللّٰه هُوَ المَعرُوفُ لِكُلِّ العارِفينَ ([13])
لآ إلهَ إلاّ اللّٰه هُوَ المَعبُودُ الحَقُّ لِكُلِّ العابِدينَ..
لآ إلهَ إلاّ اللّٰه هُوَ المَشكُورُ لِكُلِّ الشَّاكِرينَ
لآ إلهَ إلاّ اللّٰه هُوَ المَذْكُورُ لكُلِّ الذَّاكِرينَ..
لآ إلهَ إلاّ اللّٰه هُوَ المَحمُودُ لِكُلِّ الحَامدينَ
لآ إلهَ إلاّ اللّٰه هُوَ المَوجُودُ لِكُلِّ الطَّالبينَ..
لآ إلهَ إلاّ اللّٰه هُوَ المَوصُوفُ لِكُلِّ المُوَحِّدينَ
لآ إلهَ إلاّ اللّٰه هُوَ المَحبُوبُ الحقُّ لكُلِّ المُحِبِّينَ..
لآ إلهَ إلاّ اللّٰه هُوَ المَرغُوبُ لِكُلِّ المريدينَ
لآ إلهَ إلاّ اللّٰه هُوَ المَقصُودُ لكُلِّ المُنيبينَ ..
لآ إلهَ إلاّ اللّٰه هُوَ المَقصُودُ لِكُلِّ الجَنانِ
لآ إلـهَ إلاّ اللّٰه هُوَ المُوجِدُ لِكُلِّ الأنامِ..
لآ إلهَ إلاّ اللّٰه هُوَ المَوجُودُ في كُلِّ زَمانٍ
لآ إلـهَ إلاّ اللّٰه هُوَ المَعبُودُ في كُـلِّ مَكـانٍ..
لآ إلهَ إلاّ اللّٰه هُوَ المَذكُورُ بِكُلِّ لِسَانٍ
لآ إلهَ إلاّ اللّٰه هُوَ المَشكُورُ بِكُلِّ إحسَانٍ..
لآ إلهَ إلاّ اللّٰه هُوَ المُنْعِمُ بلا امتِنانٍ
لآ إلهَ إلاّ اللّٰه إيمـانـاً باللّٰهِ لآ إلهَ إلاّ اللّٰه أمانًا مِنَ اللّٰهِ
لآ إلهَ إلاّ اللّٰه أمانَةً عِنْدَ اللّٰه لآ إلهَ إلاّ اللّٰه حَقَّاً حَقَّا
لآ إلهَ إلاّ اللّٰه إذعَاناً وَصِدْقَاً لآ إلهَ إلاّ اللّٰه تَعَبُّداً وَرِقَّا
لآ إلهَ إلاّ اللّٰه المَلِكُ الحَقُّ المُبينُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللّٰه الصَادِقُ الوَعدِ الأمينُ
الفصل الثاني
إنَّ هذه السطور الخمسة أو الستة من التمجيد والتعظيم التي تعتبر فاتحةَ أوراد الصباح لدى معظم الأقطاب. وعلى الأخص الشيخ الكيلاني، قد أصبحت كنواةٍ لسلسلة فكرية طويلة. وانبتت سنبلاً معنوياً من قبيل الإشارة إلى تسع وتسعين مرتبة من مراتب المعرفة والتوحيد.
وقد ذُكرتْ هنا تسع وسبعون مرتبة من تلك المراتب التسع والتسعين، وهي تتوجه في كل فقرة من تلك الإشارات، إلى الذات الإلهية المقدسة بجهتين:
الأولى: أنها تشهد على اللّٰه سبحانه بالحال الحاضرة المشهودة، فيعبّر عن ذلك المعنى بعبارة "للّٰه شهيد".
الثانية: أنها تدلّ بعبارة "على اللّٰه دليل" على إشارة السلسلة التي تظهر بتعاقب الأمثال بعضها وراء بعض.
أصْبَحنا([14]) وَأصبَحَ المُلكُ للّٰه شَهيدٌ، وَالكبرِيَاءُ عَلى اللّٰه دَليلٌ.
وَالعَظَمَةُ للّٰه شَهيدٌ، وَالهَيبَةُ عَلى اللّٰه دَليلٌ.
وَالقُوَةُ للّٰه شَهيدٌ، وَالقُدرَةُ عَلى اللّٰه دَليلٌ.
وَالآلاءُ للّٰه شَهيدٌ،([15]) وَالإنعامُ الدَّائِمُ عَلى اللّٰه دَليلٌ.
وَالبَهَاءُ للّٰه شَهيدٌ، وَالجَمَالُ السَّرمَدُ عَلى اللّٰه دَليلٌ.
وَالجَلالُ للّٰه شَهيدٌ، وَالكَمالُ عَلى اللّٰه دَليلٌ.
وَالعَظَمُوتُ للّٰه شَهيدٌ، وَالجَبَروتُ عَلى اللّٰه دَليلٌ.
وَالرُبُوبيَّةُ للّٰه شَهيدٌ، وَالأُلُوهيَّةُ المُطلَقَةُ عَلى اللّٰه دَليلٌ.
وَالسَّلْطَنَةُ للّٰه شَهيدٌ، وَجُنُودُ السَّماواتِ وَالأرضِ عَلى اللّٰه دَليلٌ.
وَالأقضِيَةُ([16]) للّٰه شَهيدٌ، وَالتَقديرُ عَلى اللّٰه دَليلٌ.
وَالتَربيةُ للّٰه شَهيدٌ، وَالتَّدبيرُ عَلى اللّٰه دَليلٌ.
وَالتَصويرُ للّٰه شَهيدٌ، وَالتَّنظمُ عَلى اللّٰه دَليلٌ.
وَالتَّزيِينُ للّٰه شَهيدٌ، وَالتَّوزينُ عَلى اللّٰه دَليلٌ.
وَالاِتْقانُ([17]) للّٰه شَهيدٌ، وَالجُودُ عَلى اللّٰه دَليلٌ.
وَالخَلقُ للّٰه شَهيدٌ، وَالاِيجادُ الدَّائِمُ عَلى اللّٰه دَليلٌ.
وَالحكْمُ للّٰه شَهيدٌ، وَالأمرُ عَلى اللّٰه دَليلٌ.
وَالمَحاسِنُ للّٰه شَهيدٌ، وَاللَّطائِفُ عَلى اللّٰه دَليلٌ.
وَالمَحامِدُ للّٰه شَهيدٌ، وَالمَدائِحُ عَلى اللّٰه دَليلٌ.
وَالعِبادَاتُ للّٰه شَهيدٌ، وَالكَمالاتُ عَلى اللّٰه دَليلٌ.
وَالتَّحيَّاتُ ([18]) للّٰه شَهيدٌ، وَالبَركاتُ عَلى اللّٰه دليلٌ.
وَالصَّلَواتُ للّٰه شَهيدٌ، وَالطَّيِّبَاتُ عَلى اللّٰه دليلٌ.
وَالمَخلُوقَاتُ للّٰه شَهيدٌ، وَالخَوارِقُ الماضِيَةُ عَلى اللّٰه دَليلٌ.
وَالمَوجُودَاتُ للّٰه شَهيدٌ، وَالمُعجِزاتُ الآتِيَةُ عَلى اللّٰه دليلٌ.
وَالسَّماواتُ للّٰه شَهيدٌ، وَالعَرشُ عَلى اللّٰه دَليلٌ.
وَالشُّموسُ للّٰه شَهيدٌ، وَالأقمَارُ عَلى اللّٰه دَليلٌ.
وَالنُّجُومُ للّٰه شَهيدٌ، وَالسَيَّاراتُ عَلى اللّٰه دليلٌ.
وَالجَوُّ بِتَصرُّفاتِهِ وَأمطارِهِ للّٰه شَهيدٌ، وَالأرضُ عَلى اللّٰه دليلٌ.
يعني:
(وَالقُدرَةُ الظَّاهِرَةُ في الأرضِ، وَالحِكمَةُ الباهِرَةُ فيها، وَالصَنعَةُ المُكَمَّلَةُ فيها، وَالصِّبغَةُ المُتَزَيِّنَةُ فيها، وَالنِّعمَةُ المُتَنَوِّعَةُ فيها، وَالرَّحمَةُ الوَاسِعَةُ فيها عَلى اللّٰه دليلٌ).
وَالقُرآنُ بأُلُوفِ آياتِهِ للّٰه شَهيدٌ، وَمُحَمَّدٌ بآلافِ مُعجِزَاتِهِ عَلى اللّٰه دَليلٌ.
وَالبِحَارُ بِعَجائِبِها وَغَرائِبها للّٰه شَهيدٌ، وَالنبَاتاتُ بأوراقِها بأزهارِها بِأثمَارِها عَلى اللّٰه دليلٌ.
يعني:
(فالدَّلائِلُ المُتَزَيِّناتُ المُتَزَهِّراتُ المُثمِراتُ المُسَبِّحاتُ بِأوراقِها، وَالحامِداتُ بِأزهارِها، وَالمُكَبِّراتُ بِأثْمَارِها، عَلى اللّٰه دليلٌ)
وَالأشجَارُ بِأوراقِها المُسبِّحاتِ وَأزهارِها الحامِداتِ وَأثْمارِها المُكَبِّراتِ للّٰه شَهيدٌ. وَالحَيواناتُ المُكبِّراتُ، والحُوينَاتُ المُسبِّحَاتُ، وَالطُويراتُ الحامِداتُ، وَالطُّويراتُ الصَّافَّةُ المُهَلِّلاتُ عَلى اللّٰه دليلٌ.
والإنس وَالجِنُّ بِعِبَاداتِهم وَصَلَواتِهمْ في مَسجِدِ الكَائِناتِ للّٰه شَهيدٌ، وَالمَلَكُ وَالرُّوحُ في مَسجِدِ العَالَمِ بِتَسبيحاتِهِمْ وَعِباداتِهِمْ عَلى اللّٰه دليلٌ.
وَالصَّنْعَةُ للّٰه فَالمَدحُ للّٰه..
وَالصِّبْغَةُ للّٰه فَالثَّنَاءُ للّٰه..
وَالنِّعْمَةُ للّٰه فَالشُّكرُ للّٰه..
وَالرَّحمَةُ للّٰه.. فَالحَمدُ للّٰه ربِّ العَالَمينَ.
الباب الخامس
في مراتب ﴿حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ﴾.([19]) وَهُوَ خَمسُ نكت..
النكتة الأولى
فهذا الكلام دواء مجرَّب لمرض العجز البشري وسقم الفقر الإنساني
﴿حَسْبُنَا اللّٰهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ﴾([20])(آل عمران:173) إِذْ هُوَ الْمُوجِدُ الْمَوْجُودُ الْبَاقِي، فَلا بَأْسَ بِزَوَالِ الْمَوْجُودَاتِ، لِدَوَامِ الْوُجُودِ الْمَحْبُوبِ بِبَقَاءِ مُوجِدِهِ الْوَاجِبِ الْوُجُودِ .
وَهُوَ الصَّانِعُ الْفَاطِرُ الْبَاقِي، فَلا حُزْنَ عَلَى زَوَالِ الْمَصْنُوعِ، لِبَقَاءِ مَدَارِ الْمَحَبَّةِ فِي صَانِعِهِ.
وَهُوَ الْمَلِكُ الْمَالِكُ الْبَاقِي، فَلا تَأسُّفَ عَلَى زَوَالِ الْمُلْكِ الْمُتَجَدِّدِ فِي زَوَالٍ وَذَهَابٍ.
وَهُوَ الشَّاهِدُ الْعَالِمُ الْبَاقِي، فَلا تَحَسُّرَ عَلَى غَيْبُوبَةِ الْمَحْبُوبَاتِ مِنَ الدُّنْيَا، لِبَقَائِهَا فِي دَائِرَةِ عِلْمِ شَاهِدِهَا وَفِي نَظَرِهِ .
وَهُوَ الصَّاحِبُ الْفَاطِرُ الْبَاقِي، فَلا كَدَرَ عَلَى زَوَالِ المُسْتَحْسَناتِ، لِدَوَامِ مَنْشَأِ مَحَاسِنِهَا فِي أسْمَآءِ فَاطِرِهَا.
وَهُوَ الْوَارِثُ الْبَاعِثُ الْبَاقِي، فَلا تَلَهُّفَ عَلَى فِرَاقِ الأحباب، لِبَقَاءِ مَنْ يَرِثُهُمْ وَيَبْعَثُهُمْ.
وَهُوَ الْجَمِيلُ الْجَلِيلُ الْبَاقِي، فَلا تَحَزُّنَ عَلَى زَوَالِ الْجَمِيلاتِ الَّتِي هِيَ مَرَايَا لِلأسْمَآءِ الْجَمِيلاَتِ، لِبَقَاءِ الأسماءِ بِجَمَالِهَا بَعْدَ زَوَالِ الْمَرَايَا.
وَهُوَ الْمَعْبُودُ الْمَحْبُوبُ الْبَاقِي، فَلا تَألُّمَ مِنْ زَوَالِ الْمَحْبُوبَاتِ الْمَجَازِيَّةِ، لِبَقَاءِ الْمَحْبُوبِ الْحَقِيقيِّ.
وَهُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ الْوَدُودُ الرَّؤُوفُ الْبَاقِي، فَلا غَمَّ وَلا مَأيُوسِيَّةَ وَلا أهمية مِنْ زَوَالِ الْمُنْعِمِينَ الْمُشْفِقِينَ الظَّاهِرِينَ، لِبَقَاءِ مَنْ وَسِعَتْ رَحْمَتُهُ وَشَفَقَتُهُ كُلَّ شَئٍ.
وَهُوَ الْجَمِيلُ اللَّطِيفُ الْعَطُوفُ الْبَاقِي، فَلا حِرْقَةَ وَلا عِبْرَةَ بِزَوَالِ اللَّطِيفَاتِ الْمُشْفِقَاتِ لِبَقَاءِ مَنْ يَقُومُ مَقَامَ كُلِّهَا، وَلا يَقُومُ الْكُلُّ مَقَامَ تَجَلٍّ وَاحِدٍ مِنْ تَجَلِّيَاتِهِ؛ فَبَقَاؤهُ بِهَذِهِ الأوْصَافِ يَقُومُ مَقَامَ كُلِّ مَا فَنِيَ وَزََالَ مِنْ أنواع مَحْبُوبَاتِ كُلِّ أحدٍ مِنَ الدُّنْيَا. ﴿حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ﴾ نَعَمْ، حَسْبِي مِنْ بَقَاءِ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا بَقَاءُ مَالِكِهَا وَصَانِعِهَا وَفَاطِرِهَا.
النكتة الثانية
حَسْبِي([21]) مِنْ بَقَائِي أنَّ اللّٰه هُوَ إلَهِيَ الْبَاقِي، وَخَالِقِيَ([22]) الْبَاقِي، وَمُوجِديَ الْبَاقِي، وَفَاطِرِيَ الْبَاقِي، وَمَالِكِيَ الْبَاقِي، وَشَاهِدِيَ الْبَاقِي، وَمَعْبُودِيَ الْبَاقِي وبَاعِثِيَ الْبَاقِي، فَلا بَأْسَ وَلا حُزْنَ وَلا تَأسُّفَ وَلا تَحَسُّرَ عَلَى زَوَالِ وَجُودِي، لِبَقَاءِ مُوجِدِي، وَإيجَادِهِ بِأسْمَائِهِ. وَمَا فِي شَخْصِي مِنْ صِفَةٍ إلاّ وَهِيَ مِنْ شُعَاعِ اِسْمٍ مِنْ أسمائه الْبَاقِيَةِ؛ فَزَوَالُ تِلْكَ الصِّفَةِ وَفَنَاؤهَا لَيْسَ إعْدَاماً لَهَا، لأنها مَوْجُودَةٌ فِي دَائِرَةِ الْعِلْمِ وَبَاقِيَةٌ وَمَشْهُودَةٌ لِخَالِقِهَا.
وَكَذَا حَسْبِي مِنَ الْبَقَاءِ وَلَذَّتِهِ عِلْمِي وَإذْعَانِي وَشُعُورِي وَإيمَانِي بِأنَّهُ إلَهِيَ الْبَاقِي الْمُتَمَثِّلُ شُعَاعُ اِسْمِهِ الْبَاقِي فِي مِرْآةِ مَاهِيَّتِي؛ وَمَا حَقِيقَةُ ماهِيَّتِي إلاّ ظِلٌّ لِذلِكَ الاِسْمِ. فَبِسِرِّ تَمَثُّلِهِ فِي مِرْآةِ حَقِيقَتِي صَارَتْ نَفْسُ حَقِيقَتِي مَحْبُوبَةً، لا لِذاتِهَا بَلْ بِسِرِّ مَا فِيهَا وَبَقَاءُ مَا تَمَثَّلَ فِيهَا أنواع بَقَاءٍ لَهَا.
النكتة الثالثة ([23])
﴿حَسْبُنَا اللّٰهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ﴾ إذ هُوَ الْوَاجِبُ الْوُجُودِِ الَّذِي مَا هذِهِ الْمَوْجُودَاتُ السَّيَّالاتُ إلاّ مَظَاهِرُ لِتَجَدُّدِ تَجَلِّيَاتِ إيجَادِهِ وَوُجُودِهِ؛ بِهِ وَبِالاِنْتِسَابِ إليه وَبِمَعْرِفَتِهِ أنوار الْوُجُودِ بِلا حَدٍّ. وَبِدُونِهِ ظُلُمَاتُ الْعَدَمَاتِ وَآلامُ الْفِرَاقاتِ الْغَيْر الْمَحْدُودَاتِ.
وَمَا هذِهِ الْمَوْجُودَاتُ السَّيَّالَةُ إلاّ وَهِيَ مَرَايَا وَهِيَ مُتَجَدِّدَةٌ بِتَبَدُّلِ التَّعْيُّنَاتِ الاِعْتِبَارِيَّةِ فِي فَنَائِهَا وَزَوَالِهَا وَبَقَائِهَا بِسِتَّةِ وَجُوهٍ:
الأوَّلُ: بَقَاءُ مَعَانِيهَا الْجَمِيلَةِ وَهُوِيَّاتِهَا الْمِثَالِيَّةِ.
وَالثَّانِى: بَقَاءُ صُوَرِهَا فِي الألْوَاحِ الْمِثَالِيَّةِ.
والثَّالثُ: بَقَاءُ ثَمَراِتِها الأخْرَويَّةِ.
وَالرّابِعُ:بَقَاءُ تَسْبِيحَاتِهَا الرَّبَّانِيَّةِ الْمُتَمَثِّلَةِ لَهَا الَّتِي هِيَ نَوْعُ وَجُودٍ لَهَا.
وَالْخَامِسُ: بَقَاؤهَا فِي الْمَشَاهِدِ الْعِلْمِيَّةِ وَالْمَنَاظِرِ السَّرْمَدِيَّةِ.
والسَّادِسُ: بَقَاءُ أرْوَاحِهَا اِنْ كَانَتْ مِنْ ذَوِي الأرواح.([24]) وَمَا وَظِيفَتُهَا فِي كَيْفِيَّاتِهَا الْمُتَخَالِفَةِ فِي مَوْتِهَا وَفَنَائِهَا وَزَوَالِهَا وَعَدَمِهَا وَظُهُورِهَا وَاِنْطِفَائِهَا إلاّ إِظْهَارُ الْمُقْتَضِيَاتِ للأسْمَاءِ الإلَهِيَّةِ. فَمِنْ سِرِّ هذِهِ الْوَظِيفَةِ صَارَتِ الْمَوْجُودَاتُ كَسَيْلٍ فِي غَايَةِ السُّرْعَةِ تَتَمَوَّجُ مَوْتَاً وَحَيَاةً وَوُجُوداً وَعَدَمَاً، وَمِنْ هذِهِ الْوَظِيفَةِ تَتَظَاهَرُ الْفَعَّالِيَّةُ الدَّائِمَةُ وَالْخَلاَّقِيَّةُ الْمُسْتَمِرَّةُ. فَلا بُدَّ لِي وَلِكُلِّ أحد أنْ يَقُولَ: ﴿حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ﴾ يَعْنِي: حَسْبِي مِنَ الْوُجُودِ أنِّي أثَرٌ مِنْ آثَارِ وَاجِبِ الْوُجُودِ. كَفَانِي آنٌ سَيَّالٌ مِنْ هذا الْوُجُودِ المُنوَّرِ الْمَظهَرِ مِنْ مَلايينَ سَنَةٍ مِنَ الْوُجُودِ الْمُزَوَّرِ الأبْتَرِ.
نَعَمْ، بِسِرِّ الاِنْتِسَابِ الإيماني تَقُومُ دَقِيقَةٌ مِنَ الْوُجُودِ؛ مَقَامَ أُلُوفِ سَنَةٍ بِلا اِنْتِسَابِ إيمَانِيٍ، بَلْ تِلْكَ الدَّقِيقَةُ أتَمُّ وَأوْسَعُ بِمَرَاتِبَ مِنْ تِلْكَ الآلافِ سَنَةٍ.
وَكَذا حَسْبِي مِنَ الْوُجُودِ وَقِيمَتِهِ أنِّي صَنْعَةُ مَنْ هُوَ فِي السَّمَاءِ عَظَمَتُهُ، وَفِي الأرضِ آيَاتُهُ، وَخَلَقَ السَّمَاواتِ وَالأرْضَ فِي سِتَّةِ أيَّامٍ.
وَكَذا حَسْبِيَ مِنَ الْوُجُودِ وَكَمالِهِ أنَّي مَصْنُوعُ مَنْ زَيَّنَ وَنُوَّرَ السَّمَاءَ بِمَصَابِيحَ، وَزَيَّنَ وَبهَّر الأرضَ بأزاهيرَ.
وَكَذا حَسْبِي مِنَ الْفَخْرِ وَالشَّرَفِ أنِّي مَخْلُوقٌ وَمَمْلُوكٌ وَعَبْدٌ لِمَنْ هذِهِ الْكَائِنَاتُ بِجَمِيعِ كَمَالاتِهَا وَمَحَاسِنِهَا ظِلٌّ ضَعِيفٌ بِالنِّسْبَةِ إلى كَمَالِهِ وَجَمَالِهِ، وَمِنْ آيَاتِ كَمَالِهِ وَإشَاراتِ جَمَالِهِ.
وَكَذا حَسْبِي مِنْ كُلِّ شيء مَنْ يَدَّخِرُ مَا لا يُعَدُّ وَلا يُحصَى مِنْ نِعَمِهِ فِي صُنَيْدِقَاتٍ لَطِيفَةٍ هِيَ بَيْنَ "الْكَافِ وَالنُّونِ" فَيَدَّخِرُ بِقُدْرَتِهِ مَلايِينَ قِنْطَاراً فِي قَبْضَةٍ وَاحِدَةٍ فِيهَا صُنَيْدِقَاتٌ لَطِيفَةٌ تُسَمَّى بُذُوراً وَنَوايَا.
وَكَذا حَسْبِي مِنْ كُلِّ ذِي جَمَالٍ وَذِي إحْسَانٍ؛ الْجَمِيلُ الرَّحِيمُ الَّذِي مَا هذِهِ الْمَصْنُوعَاتُ الْجَمِيلاتُ إلاّ مَرايَا مُتَفَانِيَةٌ لِتَجَدُّدِ أنوار جَمَالِهِ بِمَرِّ الْفُصُولِ وَالْعُصُورِ وَالدُّهُورِ. وَهذِهِ النِّعَمُ الْمُتَوَاتِرَةُ وَالأثْمَارُ الْمُتَعَاقِبَةُ فِي الرَّبِيعِ وَالصَّيْفِ مَظَاهِرُ لِتَجَدُّدِ مَرَاتِبِ إنْعَامِهِ الدَّائِمِ عَلَى مَرِّ الأنَامِ وَالأيَّامِ وَالأعْوَامِ.
وَكَذا حَسْبِي مِنَ الْحَيَاةِ وَمَاهِيَّتِهَا أنِّي خَرِيطَةٌ وَفِهْرَسْتَةٌ وَفَذْلَكَةٌ وَمِيزَانٌ وَمِقْيَاسٌ لِجَلَوَاتِ أسْمَاءِ خَالِقِ الْمَوْتِ وَالْحَيَاةِ.
وَكَذا حَسْبِي مِنَ الْحَيَاةِ وَوَظِيفَتِهَا كَوْنِي كَكَلِمَةٍ مَكْتُوبَةٍ بِقَلَمِ الْقُدْرَةِ، وَمُفْهِمَةٍ دَالَّةٍ عَلَى أسْمَاءِ الْقَدِيرِ الْمُطْلَقِ الْحَيِّ الْقَيُّومِ بِمَظْهَرِيَّةِ حَيَاتِي لِلشُّؤونِ الذَّاتِيَّةِ لِفَاطِرِيَ الَّذِي لَهُ الأسماء الْحُسْنى.
وَكَذا حَسْبِي مِنَ الْحَيَاةِ وَحُقُوقِهَا إعْلانِي وَتَشْهِيرِي بَيْنَ إخواني الْمَخْلُوقَاتِ، وَإعْلانِي وإظْهَارِي لِنَظَرِ شُهُودِ خَالِقِ الْكَائِنَاتِ بِتَزَيُّنِي بِجَلَواتِ أسْماءِ خَالِقِيَ الَّذِي زَيَّنَنِي بِمُرَصَّعَاتِ حُلَّةِ وُجُودِي وَخِلْعَةِ فِطْرَتِي وَقِلادَةِ حَيَاتِي الْمُنْتَظَمَةِ الَّتِي فِيهَا مُزَيَّنَاتُ هَدَايَا رَحْمَتِهِ.
وَكَذا حَسْبِي مِنْ حُقُوقِ حَيَاتِي فَهْمِي لِتَحِيَّاتِ ذَوِي الْحَيَاةِ لِوَاهِبِ الْحَيَاةِ وَشُهُودِي لَهَا وَشَهَادَاتٌ عَلَيْهَا.
وَكَذا حَسْبِي مِنَ حُقُوقِ حَيَاتِى تَبَرُّجِي وَتَزَيُّنِي بِمُرَصَّعَاتِ جَوَاهِرِ إحْسَانِهِ بِشُعُورٍ إيمَانِىٍّ لِلعَرْضِ لِنَظَرِ شُهُودِ سُلْطَانِيَ الأزَلِيِّ.
وَكَذا حَسْبِي مِنَ الْحَيَاةِ وَلَذَّتِهَا عِلْمِي وَإذْعَانِي وَشُعُورِي وَإيمَانِي، بِأنِّي عَبْدُهُ وَمَصْنوعُهُ وَمَخْلُوقُهُ وَفَقِيرُهُ وَمُحْتَاجٌ إلَيْهِ؛ وَهُوَ خَالِقِي رَحِيمٌ بِي، كَرِيمٌ لَطِيفٌ مُنْعِمٌ عَلَىَّ، يُرَبِّينِي كَما يَلِيقُ بِحِكْمَتِهِ وَرَحْمَتِهِ.
وَكَذا حَسْبِي مِنَ الْحَيَاةِ وَقِيمَتِهَا مِقْيَاسِيَّتِي بِأمْثَالِ عَجْزِيَ الْمُطْلَقِ وَفَقْرِيَ الْمُطْلَقِ وَضَعْفِيَ الْمُطْلَقِ لِمَراتِبِ قُدْرَةِ الْقَدِيرِ الْمُطْلَقِ، وَدَرَجَاتِ رَحْمَةِ الرَّحِيمِ الْمُطْلَقِ، وَطَبَقَاتِ قُوَّةِ الْقَوِيِّ الْمُطْلَقِ.
وَكَذا حَسْبِي بِمَعْكِسِيَّتِي بِجُزْئِيَّاتِ صِفَاتِي مِنَ الْعِلْمِ والإرادة وَالْقُدْرَةِ الْجُزْئِيَّةِ لِفَهْمِ الصِّفَاتِ الْمُحِيطَةِ لِخَالِقِي. فَأفْهَمُ عِلْمَهُ الْمُحِيطَ بِمِيزَانِ عِلْمِي الْجُزْئِيِّ.
وَهَكَذا حَسْبِي مِنَ الْكَمَالِ؛ عِلْمِي بِأنَّ إلَهِي هُوَ الْكَامِلُ الْمُطْلَقُ. فَكُلُّ مَا فِي الْكَوْنِ مِنَ الْكَمَالِ مِنْ آيَاتِ كَمَالِهِ، وَإشَاراتٌ إلى كَمَالِهِ.
وَكَذا حَسْبِي مِنَ الْكَمَالِ فِي نَفسِي الإيمان بِاللّٰه. إذ الإيمان لِلْبَشَرِ مَنْبَعٌ لِكُلِّ كَمالاتِهِ.
وَكَذا حَسْبِي مِنْ كُلِّ شيء لأنْوَاعِ حَاجَاتِيَ الْمَطْلُوبَةِ بِأنْوَاعِ ألْسِنَةِ جِهَازاتِيَ الْمُخْتَلِفَةِ اِلَهِي وَرَبِّي وَخَالِقِي وَمُصَوِّرِيَ الَّذِي لَهُ الأسماء الْحُسْنَى الَّذِي هوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِي وَيُرَبِّينِي وَيُدَبِّرُنِي وَيُكَمِّلُنِي، جَلَّ جَلالُهُ وَعَمَّ نَوَالُهُ.
النكتة الرابعة
حَسْبِي لِكُلِّ مَطَالِبِي مَنْ فَتَحَ صُورَتِي وَصُورَةَ أمْثَالِي مِنْ ذَوِي الْحَيَاةِ فِي الْمَاءِ بِلَطِيفِ صُنْعِهِ وَلَطِيفِ قُدْرَتِهِ وَلَطِيفِ حِكْمَتِهِ وَلَطِيفِ رُبُوبِيَّتِهِ.
وَكَذا حَسْبِي لِكُلِّ مَقَاصِدِي مَنْ أنْشَأنِي وَشَقَّ سَمْعِي وَبَصَرِي، وَأدْرَجَ في جِسْمِي لِسَاناً وَجَناناً، وَأوْدَعَ فِيهَا وَفِي جِهَازاتِي؛ مَوَازِينَ حَسَّاسَّةً لا تُعَدُّ لِوَزْنِ مُدَّخَرَاتِ أنواع خَزَائِنِ رَحْمَتِهِ. وَكَذا أدْمَجَ فِي لِسَانِي وَجَنَانِى وَفِطْرَتِي آلاتٍ جَسَّاسَةً لا تُحْصَى لِفَهْمِ أنواع كُنُوزِ أسْمَائِهِ.
وَكَذا حَسْبِي مَنْ أدْرَجَ فِي شَخْصِيَ الصَّغِيرِ الْحَقِيرِ، وَأدْمَجَ فِي وُجُودِيَ الضَّعِيفِ الْفَقِيرِ هذِهِ الأعْضَاءَ وَالآلاتِ وَهذِهِ الْجَوَارِحَ وَالْجِهَازاتِ وَهذِهِ الْحَوَاسَّ وَالْحِسِّياتِ وَهذِهِ اللَّطَائِفَ وَالْمَعْنَوِياتِ؛ لإحْسَاسِ جَمِيعِ أنواع نِعَمِهِ، وَلإذاقَةِ أكثر تَجَلِّيَّاتِ أسمائه بِجَلِيلِ أُلُوهِيَّتِهِ وَجَمِيلِ رَحْمَتِهِ وَبِكَبِيرِ رُبُوبِيَّتِهِ وَكَرِيمِ رَأْفَتِهِ وَبِعَظِيمِ قُدْرَتِهِ وَلَطِيفِ حِكْمَتِهِ.
النكتة الخامسة
لابُدَّ لِي وَلِكُلِّ أحد أنْ يَقُولَ حَالاً وَقَالاً وَمُتَشَكِّراً وَمُفْتَخِراً: حَسْبِي مَنْ خَلَقَنِي، وَأخْرَجَنِي مِنْ ظُلْمَةِ الْعَدَمِ، وَأنْعَمَ عَلَيَّ بِنُورِ الْوُجُودِ.
وَكَذا حَسْبِي مَنْ جَعَلَنِي حَيَّاً، فَأنْعَمَ عَلَيَّ نِعْمَةَ الْحَيَاةِ الَّتِي تُعْطِي لِصَاحِبِهَا كُلَّ شيء، وَتُمِدُّ يَدَ صَاحِبِهَا إلى كُلِّ شَيءٍ.
وَكَذا حَسْبِي مَنْ جَعَلَنِي إنْسَاناً، فَأنْعَمَ عَلَيَّ بِنِعْمَةِ الإنسانية الَّتِي صَيَّرَتِ الإنسان عَالَمَاً صَغِيراً أكْبَر مَعْنَىً مِنَ الْعَالَمِ الْكَبِيرِ.
وَكَذا حَسْبِي مَنْ جَعَلَنِي مُؤْمِناً، فَأنْعَمَ عَلَيَّ نِعْمَةَ الإيمان الَّذِي يُصَيِّرُ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ كَسُفْرَتَيْنِ مَمْلُوئَتَيْنِ مِنَ النِّعَمِ يُقَدِّمُهُمَا إلى الْمُؤْمِنِ بِيَدِ الإيمَانِ.
وَكَذا حَسْبِي مَنْ جَعَلَنِي مِنْ أُمَّةِ حَبِيبِهِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ، فَأنْعَمَ عَلَيَّ بِمَا فِي الإيمان مِنَ الْمَحَبَّةِ وَالْمَحْبُوبِيَّةِ الإلَهِيَّةِ، الَّتِي هِيَ مِنْ أعْلَى مَرَاتِبِ الْكَمَالاتِ الْبَشَرِيَّةِ.. وَبِتِلْكَ الْمَحَبَّةِ الإيمانية تَمْتَدُّ أيَادِي اِسْتِفَادَةِ الْمُؤْمِنِ إلى مَا لا يَتَنَاهى مِنْ مُشْتَمَلاتِ دَائِرَةِ الإمكان وَالْوُجُوبِ.
وَكَذا حَسْبِي مَنْ فَضَّلَنِي جِنْساً وَنَوْعاً وَدِيناً وَإيمَاناً عَلَى كَثِيرٍ مِنْ مَخْلُوقاتِهِ، فَلَمْ يَجْعَلِنِي جَامِداً وَلا حَيَواناً وَلا ضَالاً. فَلَهُ الْحَمْدُ وَلَهُ الشُّكْرُ.
وَكَذا حَسْبِي مَنْ جَعَلَنِي مَظْهَراً جَامِعاً لِتَجَلِّيَّاتِ أسْمَائِهِ، وَأنْعَمَ عَلَيَّ بِنِعْمَةٍ لا تَسَعُهَا الْكَائِنَاتُ بِسِرِّ حَدِيثِ "لا يَسَعُنِي أرْضِي وَلا سَمَائِي وَيَسَعُنِي قَلْبُ عَبْدِيَ الْمُؤْمِنِ"([25]) يَعْنِي أنَّ الْمَاهِيَّةَ الإنسانية مَظْهَرٌ جَامِعٌ لِجَمِيعِ تَجَلِّيَاتِ الأسماء الْمُتَجَلِّيَةِ فِي جَمِيعِ الْكَائِنَاتِ.
وَكَذا حَسْبِي مَنِ اشْتَرى مُلْكَهُ الَّذِي عِنْدِي مِنِّي لِيَحْفَظَهُ لِي، ثُمَّ يُعِيدَهُ إلَيَّ، وَأعْطانا ثَمَنَهُ الْجَنَّةَ. فَلَهُ الشُّكْرُ وَلَهُ الْحَمْدُ بِعَدَدِ ضَرْبِ ذَرَّاتِ وُجُودِي فِي ذَرَّاتِ الْكَائِنَاتِ.
حَسْـبي رَبِّـي جَـلَّ اللّٰه نُورْ مُحَمَّدْ صَلَّى اللّٰه
لا اِلَهَ إلاّ اللّٰه
حَسْبِـي رَبِّـي جَـلَّ اللّٰه سِرُّ قَـلْبِي ذِكْرُ اللّٰه
ذِكْـرُ أحْمَدْ صَـلَّـى اللّٰه
لا اِلَهَ إلاّ اللّٰه
الباب السادس
في "لا حَولَ ولا قُوَّةَ إلاّ باللّٰه العَلِيِّ العَظيمِ"([26])
وهذه الكلمة الطيبة المباركة خامسة من الخمس الباقيات الصالحات المشهورات التي هي: "سبحان اللّٰه. والحمد للّٰه، ولا إله إلاّ اللّٰه، واللّٰه أكبر، ولا حول ولا قوة إلاّ باللّٰه العليّ العظيم".
إلهي وَسَيِّدي وَمَالِكي! لِي فَقرٌ بِلا نِهايَةٍ، مَعَ أنَّ حاجَاتي وَمَطالِبي لا تُعَدُّ وَلا تُحصى، وَتَقصُرُ يَدي عَنْ أدنى مَطالِبي. فَلا حَولَ وَلا قُوَّةَ إلاّ بِكَ يا رَبِّيَ الرَّحيمِ! وَيا خالِقي الكَريم! يا حَسيبُ يا وَكيلُ يا كافي.
إلَهي! اختيَاري كَشَعرَةٍ ضَعيفَةٍ، وَآمالي لا تُحصَى. فَأعْجَزُ دائِمَاً عَمَّا لا أستَغني عَنه أبَداً. فَلا حَولَ وَلا قُوَّةَ إلاّ بِكَ يا غَنيُّ يا كَريمُ يا كَفيلُ يا وَكيلُ يا حَسيبُ يا كَافي.
إلهَي وَسَيِّدي وَمَالِكي! اقتِداري كَذَرَّةٍ ضَعيفَةٍ، مَعَ أنَّ الأعداء وَالعِلَلَ وَالأوهامَ وَالأهوالَ والآلامَ وَالأسقَامَ وَالظُّلُماتِ وَالضَّلالَ وَالأسفَارَ الطِّوالَ ما لا تُحصى. فَلا حَولَ عَنها، وَلا قُوَّةَ عَلى مُقابَلَتِها إلاّ بِكَ يا قَوِيُّ يا قَديرُ يا قَريبُ يا مُجيبُ يا حَفيظُ يا وَكيلُ.
إلَهي! حَياتِي كَشُعلَةٍ تَنطَفئُ كَأمثَالِي. وَآمالي لا تُحصَى. فَلا حَولَ عَنْ طَلَبِ تِلكَ الآمَالِ، وَلا قُوَّةَ عَلى تَحصِيلِها إلاّ بِكَ يا حَيُّ يا قَيُّومُ يا حَسيبُ يا كافِي يا وَكيلُ يَا وافي.
إلَهي! عُمري كَدَقيقَةٍ تَنْقَضي كَأقرانِي؛ مَعَ أنَّ مَقَاصِدي وَمَطَالِبي لا تُعَدُّ وَلا تُحصَى. فَلا حَولَ عَنها وَلا قُوَّةَ عَليها إلاّ بِكَ يا أزَليُّ يا أبَدِيُّ يا حَسيبُ يا كافي يا وَكيلُ يا وَافي.
إلَهي! شُعُوري كَلَمْعَةٍ تَزُولُ؛ مَعَ أنَّ ما يَلزَمُ مُحافَظَتُهُ مِنْ أنوار مَعرِفَتِكَ، وَما يَلزَمُ التَّحَفُّظُ مِنْهُ مِنَ الظُّلُماتِ وَالضَّلالاتِ لا تُعَدُّ وَلا تُحصَى. فَلا حَولَ عَنْ تِلكَ الظُّلُماتِ وَالضَّلالاتِ وَلا قُوَّةَ عَلى هاتيِكَ الأنوار وَالهِداياتِ إلاّ بِكَ يا عَليمٌ يا خَبيرُ يا حَسيبُ يا كافي يا حَفيظُ يا وَكيلُ.
إلَهي! لِي نَفسٌ هَلُوعٌ وَقَلبٌ جَزُوعٌ وَصَبرٌ ضَعيفٌ وَجِسمٌ نَحيفٌ وَبَدَنٌ عَليلٌ ذَليلٌ، مَعَ أنَّ المَحمُولَ عَلَيَّ مِنَ الأحمَالِ المَادِّيَّةِ والمَعْنَويَّةِ ثَقيلٌ ثَقيلٌ. فَلا حَولَ عَنْ تِلكَ الأحمَالِ وَلا قُوَّةَ عَلى حَملها إلاّ بِكَ يا رَبِّي الرَّحيمُ يا خالِقي الكَريمُ يا حَسيبُ يا كَافي يا وَكِيْلُ يا وَافي.
إلَهي! لِي مِنَ الزَّمَانِ آنٌ يَسيلُ في سَيْلٍ وَاسِعٍ سَريع الجَرَيانِ؛ وَلِيَ مِنَ المَكانِ مِقدارُ القَبرِ مَعَ عَلاقَتي بِسائِرِ الأمكِنَةِ وَالأزمِنَةِ. فَلا حَولَ عَنِ العَلاقَةِ بِهَا، وَلا قُوَّةَ عَلى الوُصُولِ إلى ما فيها إلاّ بِكَ يا رَبَّ الأمْكِنَةِ وَالأكوَانِ، وَيا رَبَّ الدُّهُورِ وَالأزمَانِ يا حَسيبُ يا كَافي يا كَفيلُ يا وَافي.
إلَهي! لِي عَجْزٌ بِلا نِهايَةٍ وَضَعفٌ بِلا غَايَةٍ، مَعَ أنَّ أعدَائي وَما يُؤلِمُني وَما أخَافُ مِنهُ وَما يُهَدِّدُني مِنَ البَلايَا وَالآفاتِ ما لا تُحصَى. فَلا حَولَ عَنْ هَجَماتِها وَلا قُوَّةَ عَلى دَفعِها إلاّ بِكَ يا قَويُّ يا قَديرُ يا قَريبُ يا رَقيبُ يا كَفيلُ يا وَكيلُ يا حَفيظُ يا كَافي.
إلَهي! لِي فَقْرٌ بِلا غايَةٍ وَفَاقَةٌ بِلا نِهايَةٍ؛ مَعَ أنَّ حاجاتي وَمَطالِبي وَوَظائِفي ما لا تُحصَى. فَلا حَولَ عنها وَلا قُوَّةَ عَليها إلاّ بِكَ يا غَنيُّ يا كَريمُ يا مُغني يا رَحيمُ.
إلَهي تَبَرَّأتُ إلَيكَ مِنْ حَولي وَقُوَّتي، وَالتَجأتُ إلى حَولِكَ وَقُوَّتِكَ فَلا تَكِلني إلى حَولي وَقُوَّتي. وَارحَمْ عَجزي وَضَعفي وَفَقري وَفَاقَتي. فَقَد ضاقَ صَدري، وَضاعَ عُمري، وَفَني صَبري، وَتَاهَ فِكري، وَأنتَ العَالِمُ بِسِرِّي وَجَهري، وَأنتَ المَالِكُ لِنَفعي وَضَرِّي، وَأنتَ القَادِرُ عَلى تَفريجِ كَربي وَتَيسِيرِ عُسري. فَفَرِّجْ كُلَّ كَربَتي وَيَسِّرْ عَلَيَّ وَعَلى إخواني كُلَّ عَسيرٍ.
إلَهي! لا حَولَ عَنِ الزَّمانِ الآتي، وَعَنِ أهوالِهِ مَعَ سَوقٍ إلَيهِ؛ وَلا قُوَّةَ عَلى الماضي وَلَذَائِذِهِ مَعَ عَلاقَةٍ بِهِ إلاّ بِكَ يا أزَلِيُّ يا أبَديُّ.
إلَهي! لا حَولَ عَنِ الزَّوالِ الَّذي أخَافُ وَلا أخلَصُ مِنهُ؛ وَلا قُوَّةَ عَلى إعَادَةِ ما فَاتَ مِنْ حَياتيَ الَّتي أتَحَسَّرُها، وَلا أصِلُ إليها إلاّ بِكَ يا سَرمَدِيُّ يا باقي.
إلَهي! لا حَولَ عَنْ ظُلمَةِ العَدَمِ؛ وَلا قُوَّةَ عَلى نُورِ الوُجوُدِ إلاّ بِكَ يا مُوجِدُ يا مَوجُودُ يا قَديمُ.
إلَهي! لا حَولَ عَنِ المَضارِّ اللاّحِقَةِ بِالحَياةِ؛ وَلا قُوَّةَ عَلى المَسارِّ اللاّزِمَةِ للِحَياةِ إلاّ بِكَ يا مُدَبِّرُ يا حَكيمُ.
إلَهي! لا حَولَ عَنِ الآلامِ الهَاجِمَةِ عَلى ذي الشُّعُورِ؛ وَلا قُوَّةَ عَلى اللَّذائِذِ المَطلُوبَةِ لِذي الحِسِّ إلاّ بِكَ يا مُرَبِّي يا كَريمُ.
إلَهي! لا حَولَ عَنِ المَساوي العَارِضَةِ لِذَوي العُقُولِ؛ وَلا قُوَّةَ عَلى المَحَاسِنِ المُزَيِّنَةِ لِذَوي الهِمَمِ إلاّ بِكَ يا مُحسِنُ يا كَريمُ.
إلَهي! لا حَولَ عَنِ النِّقَمِ لأهلِ العِصيَانِ؛ وَلا قُوَّةَ عَلى النِّعَمِ لأهلِ الطَّاعَاتِ إلاّ بِكَ يا غَفُورُ يا مُنْعِمُ.
إلَهي! لا حَولَ عَنِ الأحزَانِ؛ وَلا قُوَّةَ عَلى الأفراح إلاّ بِكَ. فَإنَّكَ أنت الَّذي أضْحَكَ وَأبْكى يا جَميلُ يا جَليلُ.
إلَهي! لا حَولَ عَنِ العِلَلِ، وَلا قُوَّةَ عَلى العَافِيَةِ إلاّ بِكَ يا شافي يا مُعَافي.
إلَهي! لا حَولَ عَنِ الآلامِ؛ وَلا قُوَّةَ عَلى الآمالِ إلاّ بِكَ يا مُنجي يا مُغيثُ.
إلَهي! لا حَولَ عَنِ الظُّلُماتِ؛ وَلا قُوَّةَ عَلى الأنوار إلاّ بِكَ يا نُورُ يا هادي.
إلَهي لا حَولَ عَنِ الشُّرورِ مُطلَقاً؛ وَلا قُوَّةَ عَلى الخَيراتِ أصلاً إلاّ بِكَ يا مَنْ بيَدِهِ الخَيرُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيءٍ قديرٌ، وَبِعِبَادِهِ بَصيرٌ، وَبِحَوايِجِ مَخلُوقَاتِهِ خَبيرٌ.
إلَهي! لا حَولَ عَنِ المَعاصي إلاّ بِعِصمَتِكَ؛ وَلا قُوَّةَ عَلى الطَّاعَةِ إلاّ بِتَوفيقِكَ يا مُوَفِّقُ يا مُعينُ.
إلَهي! لِي عَلاقَاتٌ شَديدَةٌ مَعَ نَوعيَ الإنسانيِّ، مَعَ أنَّ آية ﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ﴾(آل عمران:185) تُهَدِّدُني وَتُطفِئُ آمالي المُتَعَلِّقَةِ بِنَوعي وَجِنسي، وَتَنْعِي عَلَيَّ بِمَوتِهما. فَلا حَولَ عَنْ ذاكَ الحُزنِ الأليمِ النَّاشِئ مِنْ ذلكَ المَوتِ وَالنَّعِي، وَلا قُوَّةَ عَلى تَسَلٍّ يَملأُ مَحَلَّ مازالَ عَنْ قَلبي وَروحي إلاّ بِكَ. فَأنتَ الَّذي تَكفي عَنْ كُلِّ شَيءٍ، وَلا يَكفي عَنكَ كُلُّ شَيء.
إلَهي! لِي عَلاقاتٌ شَدِيدَةٌ مَعَ دُنيَايَ الَّتي كَبيْتِي وَمَنـزلي؛ مَعَ أنَّ آيةَ ﴿كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ % وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإكْرَامِ﴾(الرحمن:26-27) تُعلِنُ خَرابِيَّةَ بَيتي هذَا، وَزَوَالَ مَحبُوبَاتي الَّلاتي ساكَنْتُهُمْ في ذلكَ البَيتِ المُنهَدِمِ؛ وَلا حَولَ عَنْ هذِهِ المُصيبَةِ الهائِلَةِ، وَعَنِ الفِراقَاتِ مِنَ الأحباب الآفِلَةِ؛ وَلا قُوَّةَ عَلى ما يُسَلِّيني عَنها، وَيَقُومُ مَقَامَها إلاّ بِكَ يا مَنْ يَقُومُ جَلوَةٌ مِنْ تَجَلِّياتِ رَحمَتِهِ مَقَامَ كُلِّ ما فارَقَني.
إلَهي لِي عَلاقَاتٌ([27]) بِجامِعيَّةِ ما هِيَّتي، وَغايَةِ كَثرَةِ جِهازاتي الَّتي أنْعَمْتَها عَلَيَّ، وَاحتياجاتٌ شَديدَةٌ إلى الكائِناتِ وَانوَاعِها؛ مَعَ أنَّ آيةَ ﴿كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾(القصص:88) تُهَدِّدُني وَتَقطَعُ عَلاقَاتي الكَثيرَةَ مِنَ الأشيَاءِ. وَبِانقِطاعِ كَلِّ عَلاقَةٍ يَتَولَّدُ جُرْحٌ وَألَمٌ مَعنَويٌّ في رُوحي. وَلا حَولَ عَنْ تِلكَ الجُرُوحاتِ الغَيرِ المَحدُودَةِ؛ وَلا قُوَّةَ عَلى أدويَتِها إلاّ بِكَ يا مَنْ يكفي لِكُلِّ شَيءٍ، وَلا يَكفي عَنْ شَيءٍ واحِدٍ مِنْ تَوَجُّهِ رَحمَتِهِ كُلُّ الأشيَاءِ، وَيا مَنْ إذا كَانَ لشيء كَانَ لَهُ كُلُّ شيء ومَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ لا يَكُونُ لَهُ شَيءٌ مِنَ الأشيَاءِ.
إلَهي! لِي عَلاقاتٌ شَديدَةٌ وَابتِلاءٌ وَمَفتُونِيَّةٌ مَعَ شَخصيَّتي الجِسمانيَّةِ، حَتَّى كَأنَّ جسمي عَمُودٌ في نَظَري الظَّاهِريِّ لِسَقفِ جَميعِ آمالي وَمَطَالِبي؛ وَفِيَّ عِشقٌ شَديدٌ لِلبَقاءِ؛ مَعَ أنَّ جِسمي لَيسَ مِنْ حَديدٍ وَلا حَجَرٍ لِيَدُومَ في الجُملَةِ، بل مِنْ لَحمٍ وَدَمٍ وَعَظمٍ عَلى جَناحِ التَّفَرُّقِ في كُلِّ آنٍ؛ وَمَعَ أنَّ حَياتي كَجِسمي مَحدودةُ الطَّرَفَينِ، سَتُختَمُ بِخَاتَمِ المَوتِ عَنْ قَريبٍ؛ مَعَ أنِّي قَد اشتَعَلَ الرَّأسُ شَيباً مِنِّي، وَقد ضَرَبَ السَّقَمُ ظَهري وَصَدري، فَأنا في قَلَقٍ وَضَجَر وَاضطِرابٍ وَتَألُّم وَتَحَزُّنٍ شَديدٍ مِنْ هذِهِ الكَيفيَّةِ. فَلا حَولَ عَنْ هذِهِ الحَالَةِ الهَائِلَةِ؛ وَلا قُوَّةَ عَلى ما يُسَلِّيني عَمَّا يَحزُنُني، وَعَلى ما يُعَوِّضُني ما يَضيعُ مِنِّي، وَعَلى ما يَقُومُ مَقَامَ ما يَفُوتُ مِنِّي إلاّ بِكَ يا رَبِّيَ الباقي، وَالباقي ببَقَائِهِ وَإبقائِهِ مَنْ تَمَسَّكَ بِاسم ٍ مِنْ أسمائه الباقِيَةِ.
إلَهي! لِي وَلِكُلِّ ذي حَياةٍ خَوفٌ شَديدٌ مِنَ المَوتِ وَالزَّوالِ اللَّذَينِ لا مَفَرَّ مِنهُما؛ وَلِي مَحَبَّةٌ شَديدةٌ لِلحَياةِ وَالعُمْرِ اللَّذينِ لا دَوامَ لَهُما؛ مَعَ أنَّ تَسارُعَ المَوتِ إلى أجسامِنا بِهُجُومِ الآجالِ لا يُبقي لِي وَلا لأحَدٍ أمَلاً مِنَ الآمالِ الدُّنيَويَّةِ إلاّ وَيَقطَعُها، وَلا لَذَّةً إلاّ وَيَهْدِمُها. فَلا حَولَ عَنْ تِلكَ البَلِيَّةِ الهائِلَةِ وَلا قُوَّةَ عَلى ما يُسَلِّينَا عَنها إلاّ بِكَ يا خَالِقَ المَوتِ وَالحَياةِ! وَيا مَنْ لَهُ الحَياةُ السَّرمَدِيَّةُ، الَّذي مَنْ تَمَسَّكَ بِهِ وَتَوجَّهَ إليه وَيَعرِفُهُ وَيُحِبُّهُ؛ تَدُومُ حَياتُهُ وَيَكُونُ المَوتُ لَهُ تَجَدُّدَ حَياةٍ وَتَبديلَ مَكانٍ. فإذًا فَلا حُزنَ لَهُ وَلا ألَمَ عَليهِ بِسِرِّ ﴿ألا إِنَّ أوْلِيَاء اللّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾(يونس:62).
إلَهي! لِي لأجْلِ نَوعي وَجِنسي عَلاقَاتٌ بِتَألُّماتٍ وَتَمَنِّياتٍ بِالسَّماوَاتِ وَالأرضِ وَبِأحوَالِها. فَلا قُوَّةَ لي بِوَجهٍ مِنَ الوُجُوهِ عَلى إسماعِ أمري لَهُما، وَتَبليغِ أمَلي لِتِلكَ الأجرامِ، وَلا حَولَ عَنْ هذا الاِبتِلاءِ وَالعَلاقَةِ إلاّ بِكَ يا رَبَّ السَّماوَاتِ وَالأرضِ! وَيا مَنْ سَخَّرَهُما لِعِبادِهِ الصَّالِحينَ.
إلَهي! لِي وَلِكُلِّ ذي عَقلٍ عَلاقَاتٌ مَعَ الأزمِنَةِ الماضِيَةِ وَالأوقاتِ الاستِقبَاليَّةِ؛ مَعَ أنَّنا قَدِ انْحَبَسْنَا في زَمانٍ حاضِرٍ ضَيّقٍ لا تَصلُ أيدِينا إلى أدنى زَمانٍ ماضٍ وَمُستَقبَلٍ لِجلبٍ مِنْ ذاكَ ما يُفرِّحُنا، أو لِدَفْع ٍ مِنْ هذا ما يُحزِنُنا. فَلا حَولَ عَنْ هذِهِ الحالَةِ، وَلا قُوَّةَ عَلى تَحويلِها إلى أحسَنِ الحالِ إلاّ بِكَ يا رَبَّ الدُّهُورِ وَالأزمَانِ.
إلَهي! لِي في فِطرَتي وَلِكُلِّ أحد في فِطرَتِهِمْ آمالٌ أبدية وَمَطالِبُ سَرمَديَّةٌ تَمْتَدُّ إلى أبَدِ الآبادِ. إذ قَد أوْدَعْتَ في فِطرَتِنَا استِعداداً عَجيباً جامِعاً، فيهِ احتياجٌ وَمَحَبَّةٌ لا يُشبِعُهُما الدُنيا وَما فيها، وَلا يَرضى ذلِكَ الاِحتِياجُ وَتِلكَ المَحَبَّةُ إلاّ بِالجَنَّةِ الباقِيَةِ؛ ولا يَطمَئِنُّ ذلِكَ الاِستِعدادُ إلاّ بِدارِ السَّعادَةِ الأبَديَّةِ. يا رَبَّ الدُّنيا وَالآخِرَةِ وَيا رَبَّ الجَنَّةِ وَدَارِ القَرارِ.([28])
الباب السابع
في شّهادة: نَشهَدُ أنْ لآ اِلَهَ إلاّ اللّٰه وَأنَّ مُحَمَّداً رَسُولُ اللّٰه
المقام الأول
اللّٰهُمَّ يا رَبَّ مُحَمَّدٍ المُختَارِ، ويا ربَّ الجَنَّةِ وَالنَّارِ، وَيا ربَّ النَبيّينَ وَالأخْيارِ، يَا ربَّ الصِّدِّيقينَ وَالأبرَارِ، يا ربَّ الصِغَارِ وَالكِبَارِ، يا رَبَّ الحُبُوبِ وَالأثمَارِ، يا ربَّ الأنْهَارِ وَالأشجَارِ، يَا ربَّ الصَّحارَى وَالقِفارِ، يا ربَّ العَبيدِ وَالأحرارِ، يا ربَّ اللَّيلِ وَالنَّهارِ.
أمسَينَا وَأصبَحنا نُشهِدُكَ وَنُشهِدُ جَميعَ صِفَاتِكَ المُتَقَدِّسَةِ.. وَنُشهِدُ جَميعَ أسمَائِكَ الحُسنى.. وَنُشهِدُ جَميعَ مَلئِكَتِكَ العُليَا.. ونُشْهِدُ جميعَ مَخْلوقَاتِكَ الشَّتَّى.. وَنُشهِدُ جَميعَ أنبِيَائِكَ العُظمى. وَجَميعَ أولِيَائِكَ الكُبرى. وَجَميعَ أصْفِيائِكَ العُليَا.. وَنُشهِدُ جَميعَ آياتِكَ التَّكوينيَّةِ الَّتي لا تُعَدُّ وَلا تُحصى.. وَنُشهِدُ جَميعَ مَصنُوعَاتِكَ المُزيَّناتِ المُوزونَاتِ المَنْظُومَاتِ المُتَمَاثِلاتِ.. وَنُشهِدُ جَميعَ ذَرَّاتِ الكائِناتِ العاجِزاتِ. الجَامِداتِ الجَاهِلاتِ والحَامِلَةِ -بِحولِكَ وَطَولِكَ وَأمرِكَ وَإذنِكَ- عَجائِبَ الوَظائِفِ المُنتَظَمَاتِ.. ونُشهِدُ جَميعَ مُرَكباتِ الذَّراتِ الغَيرِ المَحدودَاتِ المُتَنَوعاتِ المُنتَظَمَاتِ المُتقَنَاتِ المَصنُوعاتِ مِنْ البسائِطِ الجَامِداتِ.. وَنُشهِدُ جَميعَ تَرَكُّباتِ الموجُوداتِ النَّاميَاتِ المُختَلِطَةِ مَوَادُّ حَيَاتِها في غَايَةِ الاختِلاطِ، وَالمُتَمَيِّزَةِ دَفعَةً في غَايةِ الامتيَازِ.. وَنُشهِدُ حَبيبَكَ الأكرم سُلطَانَ الأنبياء وَالأوليَاءِ أفضَلَ المَخلُوقَاتِ ذا المُعجِزَاتِ الباهِرَةِ عَليهِ وعَلى آلِهِ أفضلُ الصَّلَواتِ وَالتَّسليمَاتِ.. وَنُشهِدُ فُرقانَكَ الحَكيمَ ذَا الآيات البَيِّنَاتِ، وَالبَرَاهينِ النَّيّراتِ، وَالدَلائِلِ الوَاضِحَاتِ، وَالأنوارِ السَّاطِعاتِ: بِأنَّا كُلَّنا نَشهَدُ بِأنَّكَ أنتَ اللّٰهُ الوَاجِبُ الوُجودِ الوَاحِدُ الأحَدُ الْفَرْدُ الصَّمَدُ الحيُّ القَيُّومُ العَليمُ الحَكيمُ القَديرُ المُريدُ السَّميعُ البَصيرُ الرَّحمنُ الرَّحيمُ العَدلُ الحَكَمُ المُقتَدِرُ المُتَكَلِّمُ، لَكَ الأسماء الحُسنى.. وَكَذا نَشهَدُ أنْ لا إلهَ إلاّ أنت وَحدَكَ لا شَريكَ لَكَ، وَأنَّكَ عَلى كُلِّ شَيءٍ قَديرٌ، وَبِكُلِّ شَيءٍ عَليمٌ.. وَكَذا نَشهَدُ بِكُلِّ ما مَرَّ، وَمَعَ كُلِّ مَا مَرَّ بِأنَّ مُحَمَّداً عَبدُكَ وَنَبيُكَ وَصَفِيُّكَ وَخَليلُكَ، وَجَمَالُ مُلكِكَ، وَمَليكُ صُنْعِكَ، وَعَينُ عِنَايَتِكَ، وَشَمسُ هِدَايَتِكَ، وَلِسانُ مَحَبَّتِكَ، وَمِثالُ رَحمَتِكَ، وَنُورُ خَلقِكَ، وَشَرَفُ مَوجُودَاتِكَ،([29]) وَكَشَّافُ طِلسِمِ كائِنَاتِكَ، وَدلاّلُ سَلطَنَةِ رُبُوبِيَتِكَ، وَمُعَرِّفُ كُنُوزِ أسمَائِكَ، وَمُعَلِّمُ أوامِرِكَ لِعِبادِكَ وَمُفَسِرُ آياتِ كِتابِ كَائِنَاتِكَ، ومَدَارُ شُهودِكَ وَاِشهَادِكَ، وَمِرآةُ مُحَبَّتِكَ لِجَمَالِكَ وَأسمائِكَ، وَمَحَبَّتِكَ لِصنعَتِكَ وَمَصنُوعَاتِكَ، وَلمِحَاسِنِ مَخلُوقَاتِكَ، وَحَبيبُكَ وَرَسُولُكَ الَّذي أرسَلتَهُ رَحْمَةً للِعالَمينَ، وَلِبَيانِ مَحَاسِنِ كَمالاتِ سَلطَنَةِ رُبُوبيَّتِكَ بِحِكمَةِ صَنعَةِ صِبغَةِ نُقُوشِ قَصرِ العَالَمينَ، وَلِتَعريفِ كُنُوزِ أسمائِكَ بِإشاراتِ حِكَمِيَّاتِ كَلمَاتِ آياتِ سُطُورِ كِتَابِ العالَمينَ، وَلِبَيانِ مَرضِيَّاتِكَ يا رَبَّ السَّماواتِ وَالأرضينَ، عَلَيهِ وَعَلى آلِهِ وَأصحَابِهِ وَإخوانِهِ ألفُ ألفِ صَلاةٍ وَسَلام ٍ في كُلِّ آنٍ وَزَمانٍ.
اللّٰهُمَّ يا حَفيظُ يا حَافِظُ يا خَيرَ الحافظينَ نَستَودِعُ حِفظَكَ وَحِمَايَتكَ وَرَحمَتَكَ هذِهِ الشَّهاداتِ الَّتي أنعَمتَها عَلينا. فَاحفَظهَا إلى يَومِ الحَشرِ وَالميزَانِ آمين. وَالحَمدُ للّٰه رَبِّ العَالَمينَ.
المقام الثاني
الحَمْدُ للّٰه الَّذي([30]) دَلَّ عَلى وُجوبِ وُجوُدِهِ، وَدَلَّ النَّاسَ عَلى أوصَافِ جَلالِهِ وَجَمَالِهِ وكَمالِهِ، وشَهِدَ على أنَّهُ وَاحِدٌ فَردٌ صَمَدٌ: الشَّاهِدُ الصَّادِقُ، والبُرْهانُ المُصَدَّقُ، النَّاطِقُ المُحَقِقُ، سَيِّدُ الأنبياء وَالمُرسَلينَ، الحَاوي لِسرِّ إجمَاعِهِمْ وَتَصديقِهِمْ وَمُعجِزاتِهِمْ، وَإمامُ الأولياء وَالصِدّيقينَ، الحَاوي لِسِرِّ اتِفَاقِهِمْ وَتَحقيقِهِمْ وَكَرامَاتِهِمْ، ذُو الاِرهاصَاتِ الخَارِقَةِ وَالمُعجِزاتِ البَاهِرةِ وَالبَراهينِ القاطِعَةِ الواضِحَةِ، ذُو الأخلاق العَاليَةِ في ذاتِهِ، وَالخِصالِ الغَاليَةِ في وَظيفَتِهِ، وَالسَّجَايا السَّامِيَةِ في شَريعَتِهِ، مَهبَطُ الوَحيِ الرَّبَاني بِإجمَاعِ المُنـزِلِ بِتَوفيقٍ لَهُ، وَالمُنـزَلِ بِإعجَازِهِ، وَالمُنـزَلِ عَلَيهِ بِقُوَّةِ إيمَانِهِ، وَالمُنـزَلِ إليهم بِكُشُوفِهِمْ وَتَحقيقَاتِهمْ، سَيَّارُ عَالَمِ الغَيبِ وَالمَلَكوتِ، مُشاهِدُ الأرواح وَمُصَاحِبُ المَلائِكَةِ مُرشِدُ الجِنِّ وَالإنسِ، وَأنْوَرُ ثَمَراتِ شَجَرَةِ الخِلقَةِ، سِراجُ الحقِّ، بُرهَانُ الحَقيقَةِ، لِسانُ المحَبَّةِ، مِثالُ الرَّحمَةِ. كاشِفُ طِلسِمِ الكائِنَاتِ، حَلاّلُ مُعَمَّى الخِلقَةِ، دَلاّلُ سَلطَنَةِ الرُّبُوبيَّةِ، مَدارُ ظُهورِ مَقَاصِدِ خالِقِ الكائِناتِ في خَلقِ المَوجُوداتِ، ووَاسِطَةُ تَظاهُرِ كَمالاتِ الكائِناتِ، المُرمِزُ بِشَخصيَّتِهِ المَعنَويَّةِ إلى أنَهُ نُصْبَ عَينِ فَاطِرِ الكَونِ في خَلقِ الكائِناتِ "يَعني أنَّ الصَّانِعَ نَظَرَ إليه وَخَلَقَ لأجلِهِ وَلأمثالِهِ هَذا العَالَمَ" ذُو الدّينِ والشَّريعَةِ وَالإسلاميَةِ الَّتي هي بِدَساتيرِها أنمُوذَجُ دَساتيرِ السَّعادَةِ في الدَّارَينِ، كَأنَّ ذلِكَ الدّينَ فِهرِستةٌ أُخرِجَتْ مِنْ كِتَابِ الكائِناتِ، فَكأنَّ القُرآنَ المُنـزَلَ عَليهِ قِراءَةٌ لآياتِ الكائِناتِ، المُشيرُ دِينُهُ الحَقُّ إلى أنَّهُ نِظامُ نَاظِم الكونِ. فَنَاظِمُ هذِهِ الكائِناتِ بِهذا النِّظامِ الأتَمِّ الأكمَلِ هُوَ نَاظِمُ ذلكَ الدّينِ الجَامِعِ بِهذا النّظمِ الأحسَنِ الأجمَلِ، سَيِّدُنا نَحنُ مَعَاشِرَ بَني آدَمَ، وَمُهدينَا إلى الإيمان نَحنُ مَعَاشِرَ المَؤمِنينَ مُحَمَّدٌ عَليهِ وَعَلى آلِهِ أفضَلُ الصَّلَواتِ وَأتَمُّ التَّسْليماتِ ما دَامَتِ الأرض وَالسَّماواتُ. فإن ذلِكَ الشَّاهِدَ يَشهَدُ عَنِ الغَيبِ في عالَمِ الشَّهادَةِ عَلى رُؤوسِ الأشهَادِ بِطَورِ المُشَاهِدِ.
نَعَمْ، يُشَاهَدُ أنَّهُ يُشاهِدُ ثُمَّ يَشهَدُ مُنادِياً لأجيَالِ البَشَرِ خَلفَ الأعصَارِ وَالأقطارِ بِأعلى صَوتِهِ.
نَعَمْ، فَهذا صَدى صَوتِهِ يُسمَعُ مِنْ أعماق الماضي إلى شَواهِقِ الاستِقبَالِ وبِجميعِ قُوَّتِهِ.
نَعَمْ، فَقَد استَولى عَلى نِصفِ الأرضِ، وَانصَبَغَ بِصبغِهِ السَّماويِّ خُمُسُ بَني آدَمَ، وَدَامَتْ سَلطَنَتُهُ المَعنَويَّةُ ألفاً وَثَلَثمائة وَخَمسينَ سَنَةً في كُلِّ زَمانٍ، يَحكُمُ ظَاهِراً وَباطِنَاً عَلى ثَلثَمائة وَخَمسينَ مِليُوناً مِنْ رَعِيَّتِهَ الصَّادِقَةِ المُطيعَةِ بِانقيَادِ نُفوسِهِمْ وَقُلُوبِهِمْ وَأروَاحِهِمْ وَعُقُولِهِمْ لأوَامِرِ سَيِّدِهِمْ وَسُلطَانِهِمْ، وَبِغايَةِ جِدِّيَّتِهِ بِشَهاداتِ قُوَّةِ دَساتيرِهِِ المُسَمَّرَةِ عَلى صُخُورِ الدُّهُورِ وَعَلى جِبَاهِ الأقطَارِ، وَبِغَايَةِ وُثُوقِهِ بِشَهادَةِ زُهدِهِ واستِغنائِهِ عَنِ الدُّنيَا، وبغاية اطمئنانه ووُثُوقِه بشهادَةِ سَيرهِ وِبِغايَةِ قُوَّةِ إيمَانِهِ بِشَهادَةِ أنَّهُ أعْبَدُ وَأتقى مِنَ الكُلِّ بِاتِّفاقِ الكُلِّ، شَهادَة ً جازِمَة ً مُكَرَّرَة ً بـ:
"فَاعلَمْ أنَهُ لا إلَهَ إلاّ اللّٰه" الَّذي دَلَّ عَلى وُجُوبِ وُجودِهِ، وَصَرَّحَ بِأوصَافِ جَلالِهِ وَجَمالِهِ وَكَمالِهِ، وَشَهِدَ أنَّهُ واحِدٌ أحد فَردٌ صَمَدٌ، الفُرقانُ الحَكيمُ الحَاوي لِسِرِّ إجماعِ كُلِّ كُتُبِ الأنبياء وَالأولِيَاءِ وَالمُوَحِّدِينَ المُختَلِفينَ في المَشَارِبِ والمَسَالِكِ المُتَّفِقَةِ قُلُوبُ هَؤُلاءِ وَعُقولُ أولئك بِحَقائق كُتُبِهِمْ عَلى تَصديقِ أساساتِ القُرآنِ المُنَوَّرِ جِهاتُهُ السِّتُّ؛ إذ عَلى ظَهرِهِ سِكَّةُ الإعجَازِ، وَفي بَطنِهِ حَقائِقُ الإيمَانِ، وَتَحتَهُ بَرَاهينُ الإذعَانِ، وَهَدَفُهُ سَعَادَةُ الدَّارَينِ، وَنُقطَةُ استِنَادِهِ مَحضُ الوَحيِ الرَّبَّانيِّ بِإجمَاعِ المُنـزِلِ بِآياتِهِ، وَالمُنـزَلِ بِإعجَازِهِ، وَالمُنـزَلِ عَليهِ بِقُوَّةِ إيمَانِهِ وَأَمْنيَّتِهِ، وَكَمالِ تَسليمِيَّتِهِ وَصَفوَتِهِ، وَوضعِيَّتِهِ المعلُومَةِ عِندَ نـزولِهِ، مَجمَعُ الحَقائِقِ بِاليَقينِ، وَمَنبَعُ أنوار الإيمان بِالبَداهَةِ، المُوصِلُ إلى السَّعادَاتِ بِاليَقينِ. ذُو الأثمَارِ الكَامِلينِ بِالمُشَاهَدَةِ، مَقبُولُ المَلَكِ والإنس وَالجَانّ بِالحَدسِ الصَّادِقِ مِنْ تَفاريقِ الأمارَاتِ، المُؤيَّدُ بِالدَلائِلِ العَقليَّةِ بِاتِّفاقِ العُقَلاءِ الكاملينَ، وَالمُصَدَّقُ بالفِطرَةِ السَّليمَةِ بِشَهادَةِ اطمِئنانِ الوِجدَانِ بِهِ، المُعجِزَةُ الأبدية بالمُشَاهَدَةِ، ذُو البَصَرِ المُطلَقِ يَرى الأشياء بِكَمالِ الوُضُوحِ، يَرى الغَائِبَ البَعيدَ كَالحَاضِرِ القَريبِ. ذُو الاِنبِساطِ المُطلَقِ يُعَلِّمُ المَلأ الأعلى مِنَ المُقَرَّبينَ بِدَرْسٍ، وَيُعَلِّمُ أطفَالَ البَشَرِ بِعينِ ذَلِكَ الدَّرسِ، وَيَشمَلُ تَعليمُهُ وتَعليمَاتُهُ طَبَقاتِ ذَوي الشُعُورِ مِنْ أعلى الأعَالي إلى أبسَطِ البَسائِطِ. لِسانُ الغَيبِ في عَالَمِ الشَّهادَةِ، شَهادَةً جَازِمَةً مُكَرَّرَةً بـ"لآ إلَهَ إلاّ هُوَ" و"فَاعْلَمْ أنَّهُ لآ إلَهَ إلاّ اللّٰه".
[1]() كتب الأستاذ النورسي هذه الرسالة باللغة العربية، سوى المقدمات والهوامش التي كتبها بالتركية، واستنسخها المستنسخون مع ضبط الحروف ووضع الحركات تسهيلاً لقراءتها قراءة صحيحة، ولاسيما لغير قراء العربية. وقد احتفظنا بالنص كما هو مع ترجمة المقدمات والهوامش.
[2]() انظر: أبو الشيخ، العظمة 1/200؛ ابن أبي عاصم، الزهد 139؛ البيهقي، شعب الإيمان 1/135؛ أبو نعيم، حلية الأولياء 1/209؛ العجلوني، كشف الخفاء 1/371.
[3]() إن اثنى عشر مشهداً وحجاباً، مشهداً فوق مشهد، برهاناً ضمن برهان، دليلاً خلال دليل؛ تنبعث كلها من زهرة واحدة بنغمات متنوعة ولمعات متباينة فتُرِي القلبَ المصوِّرَ الأزلي، وتلفت عين العقل إليه. (المؤلف).
[4]() هذه الدلائل الخمسة عشر، الدليل ضمن الدليل، والبرهان داخل البرهان تشير إلى الصانع الجليل. (المؤلف).
[5]() لما كان الشكر أهم أسس رسائل النور بعد التفكر، وأن أكثر مراتب الشكر والحمد وحقائقهما قد أُوضحت إيضاحاً كاملاً في أجزاء رسائل النور؛ لذا يذكر هنا بعضُ مراتب الحمد الذي يقابل نعمة الإيمان ذكراً مختصراً جداً، اكتفاءً بتلك المراتب المذكورة. فإن للحمد مراتبَ حسب مراتب نعمة الإيمان. (المؤلف).
[6]() جاء في المصباح المنير للفيومي، في مادة (غير) ما نصّه: "... وقوله تعالى: ﴿غير المغضوب عليهم﴾ إنما وصف بها المعرفةَ، لأنها أشبَهَتِ المعرفةَ بإضافتها إلى المعرفة، فعوملت معاملتها. ومن هنا اجترأ بعضُهم فأدخل عليها الألف واللام، لأنها لمّا شابهت المعرفة، بإضافتها إلى المعرفة، جاز أن يدخُلها ما يعقب الإضافة، وهو الألف واللام...".
[7]() الدور والتسلسل محالان في دائرة الممكنات. لأنهما يقتضيان عدم التناهي، ودائرة الممكنات متناهية فلا تسع غير المتناهي. أما الحمد المتعلق بدائرة الوجوب فهو غير متناهٍ. فيدخل بالدور والتسلسل في دائرة غير متناهية فيتمكن فيها وتسعه. (المؤلف).
[8]() هذه المرتبة الثالثة تأخذ بعين الاعتبار زهرة جزئية وحسناء جميلة، فالربيع الزاهر كتلك الزهرة والجنة العظيمة مثلها؛ إذ هما مظهران من مظاهر تلك المرتبة، كما أن العالم إنسانٌ جميل وعظيم، وكذا الحور العين والروحانيات وجنس الحيوان وصنف الإنسان.. كل منها كأنه في هيئة إنسان جميل يعكس بصفحاته هذه الأسماء التي تعكسها هذه المرتبة. (المؤلف).
[9]() لقد وضحت هذه المرتبة في ذيل الموقف الأول من "الكلمة الثانية والثلاثين"، وفي المقام الثاني من "المكتوب العشرين". (المؤلف).
[10]() لو كتبت هذه المرتبة السادسة كسائر المراتب لطالت جداً، لأن "الإمام المبين" و"الكتاب المبين" لا يمكن بيانهما باختصار، وحيث إننا ذكرنا نبذة منهما في "الكلمة الثلاثين" فقد أجملنا هنا، إلاّ أننا أسردنا بعض الإيضاحات أثناء الدرس. (المؤلف).
[11]() يمكن الانتقال إلى المسمى ذي الجلال والإكرام إذا ما نظر بمنظار هذه الأسماء المباركة إلى مظاهر الأفعال والآثار الإلهية وراء هذه الموجودات. (المؤلف).
[12]() في هذه الشهادات حكمان: أحدهما يدل على الوحدانية، وهو قوله: "لا اله إلاّ اللّٰه" والآخر، يثبت وجود ذلك الواحد، وهو الأسماء التي تبدأ بـ"هو". فكلما ورد ضمير "هو" فهو جواب لسؤال مقدّر. وكأنه يقال: كيف نعرف ذلك الإله الواحد؟ فيجيبه مثلاً بقول: "هو السميع البصير" فيقول في هذا: إن هناك مَن يرى ويسمع حاجات هذه الموجودات وادعيتها فيخلق ما تطلبه ويفعل ما تريده. وهكذا مثل هذه الآثار، تثبت الأفعال الإلهية، وتلك الأفعال تثبت أسماءً كالسميع والبصير، وتدل تلك الأسماء على وجود موصوفاتها. فجميع هذه الجمل تسير على هذا المنوال، فتثبت بالآثار الأفعال، وبالأفعال الأسماءَ، وبالأسماء وجودَ واجب الوجود. (المؤلف).
[13]() وفحوى هذه الفقرة والتي تليها من الفقرات، الآتي:
إن كنت تريد معرفة ذلك، فانظر! إن ما عرفه جميع العارفين الذين أتوا في نوع البشر، بدلائلهم المختلفة وطرقهم المتباينة هو "معروف" واحد. فذلك المعروف هو الإله الواحد، فيظهر، وجود من يعرفه أهل المعرفة الذين لا يحصيهم العدّ بوجوه لا تعد ولا تحصى، وضوحاً ظاهراً كالشمس: وكذا إن العابدين الذين لا يحصرهم العدّ في نوع البشر لعبادتهم معبوداً واحداً وجنيهم الثمرات المعنوية إزاء تلك العبادات، وحظوتهم بالمناجاة والفيوضات، يدل على وجود ذلك المعبود بتواتر مضاعف. وهكذا فقس على سائر الفقرات. (المؤلف).
[14]() أصبحنا: أي دخلنا الصباح (صباحاً) ومُلك هذا الصباح شاهد للّٰه أيضاً.
وفي الباب نكتتان:
النكتة الأولى: إن كل شيء بوجوده الحاضر يشهد على وجود اللّٰه ووحدانيته، كما أن تبدّلَه المنظم وذهابه كي يفسح المجال لمن يأتي بعده من أمثاله، وإبرازَه سلسلة عظيمة تحت صورة التجدّد.. كل ذلك دليل على وجود وجوده تعالى وعلى وحدانيته.
والحاصل: يدل بفقرة "شهيد" على الحالة الراهنة. وبجملة "دليل" يدل على السلسلة المتشكلة نتيجة تركّب أمثالها المتعاقبة.
النكتة الثانية: من المعلوم حسب القاعدة النحوية أن يقال: "الآلاء على اللّٰه شهيدة" ولكن عدل عن ذلك إلى اللفظ المذكر "شهيد" ليدل على أن كل فرد يشهد بذلك. ولو قيل: "شهيدة" لأفاد معنى الجماعة. ويقال: "الربوبية على اللّٰه شهيد" مثلاً، لأن المراد من الربوبية هو أن أنواع التربية والتدبير التي أوجدها اللّٰه بربويته، تشهد بذلك، إذ الربوبية نفسها لا تشاهَد، بينما تشاهَد أنواع التربية والتدبير التي هي آثارها. فقيل: "شهيد" ليجعل كل شيء مشهود. فلو قيل "شهيدة" لكان راجعاً إلى الربوبية نفسها.
وكذلك النكتة في الآية الكريمة ﴿إِنَّ رَحْمَتَ اللّٰهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ﴾(الأعراف:56) فمع أن الرحمة مؤنثة لم يُعبِّر عنها بـ"قريبة" وانما عُبّر بـ"قريب" لأن المراد: ليس إفادة قرب تلك الرحمة العالية الكلية التي هي كالشمس فقط. بدل إفادة قرب الإحسانات الخاصة أيضاً والتي هي بمثابة أشعة تلك الشمس. فيُري لكل محسن إحسان قريب. ولفظ "الإحسان" مذكر. فمن حقه اذن أن يخبر عنه بـ"قريب". كما أن الآية تفيد: ﴿إِنَّ رَحْمَتَ اللّٰهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ﴾ برحمته لذا لم يقل "قريبة". (المؤلف).
[15]() في أمثال هذا كان ينبغي أن يقال "شهيد" غير أنه استعمل اللفظ المذكر للنكتة المذكورة في كلمة "قريب" بدل "قريبة" في قوله تعالى ﴿إِنَّ رَحْمَتَ اللّٰهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ﴾. ولئن جاء في بعض الأماكن جمعاً، إلاّ أنه ورد بلفظ "شهيد" المذكر لأن المراد كل واحد. (المؤلف).
[16]() الأقضية: كما أن الحالة الحاضرة والمقادير المخصوصة والمنتظمة للجزئيات تشهد على وجود الفاطر الحكيم، فإن زوال الأمور الكلية وزوال الجزئيات الذي يتم بتقديرٍ وبمقدارٍ منتظم -والذي عبّر عنه بـ"التقدير"- يدل كذلك على وجود ذلك الفاطر الحكيم. وكأن الانتظامات المقتضية تشهد على أن مناوبة الحياة والموت وتجلي القدر والتقدير المنتظم في مناوبة الإحياء والإماتة، كلها تدل على وجوده سبحانه. فمثلاً "التربية" تعني إدارة وجود الشيء ضمن شرائطه. و"التدبير" يعني تغيير ذلك. فلكل منهما دلالة مختلفة. وتستطيع أن تقيس سائر الفقرات على هذا. (المؤلف).
[17]() الإتقان: هو الصنع باهتمام وجودة.
واللطائف: أريد بها صور المحاسن المعنوية والمثالية بزوال صورها المشهودة. أو المراد بها: محاسن تلك السلسلة المتعاقبة.
المحامد: المراد أنواع الحمد الحاضرة.
والمدائح: هي الأثنية الثابتة الدائمة، وكأنها أثنية منبعثة من سلسلة الأمثال المحيطة بالمحامد الماضية والمستقبلة.
الكمالات: تعني الكمالات التي تستلزم المعبودية. أي حتى إذا ذهب العابدون بعباداتهم فإن الكمالات التي تقتضي المعبودية باقية. وهي -أي الكمالات- تسوق إلى العبادة بدلاً عن السلاسل الماضية. (المؤلف).
[18]() التحيات: أي أن جميع ذوي الحياة من حيث اظهارها آثار حياتها ضمن دائرة المراد الإلهي إظهاراً منتظماً، ترحّب وتهنئ صنعة صانعها الجليل. بمثل ما اذا صنع شخص ماكنة خارقةً بديعة ركّب على رأسها أجهزة لتسجيل الصوت والتصوير، وتعمل بنفسها، فتتحدث وتكتب وتخابر بصورة ذاتية، وعملت تلك الماكنة على الوجه الذي يريده صانعها وأعطت نتائجها الحسنة. فكما ان الناظر إلى تلك الماكنة يبارك ويهنئ ذلك الرجل قائلاً: ما شاء اللّٰه! بارك اللّٰه! ويمنحه هدايا معنوية. كذلك أجهزة تلك الماكنة بإظهارها النتائج المقصودة منها وإظهار آثارها على أكمل وجه، إنما تشكر وتقدر وتحيي صانعها بلسان حالها، وتقدّم التهاني والتبريك بقولها.. ما شاء اللّٰه معنىً.
وهكذا ففي رأس كل ذي حياة آلات وأجهزة كبيرة ومختلفة كأجهزة تسجيل الأصوات والتقاط الصور والبرقيات والهواتف. وهي بإظهارها ما في خلقها من مقاصد ونتائج على أكمل وجه وأتمه، إنما تعلن عن تسبيحاتٍ لصانعها وعن كمال صنعته التي تعبّر عنها بـ"التحيات" باستحساناتها وتهليلاتها وتكبيراتها وهداياها المعنوية.
أما نحن فبقولنا "التحيات" إنما نتذكر تلك التحيات ونقدمها إلى الحضرة الإلهية تعبيراً عن أنفسنا، واللسان بحد ذاته جهاز من تلك الأجهزة فأولى النتائج المطلوبة منها أن يكون مترجماً لهذه التحيات. (المؤلف).
[19]() قبل ثلاثة عشر عاماً ألقيت نظرة على الدنيا من على قمة تل "يوشع" الشاهق.. وكنت كسائر الناس مفتوناً بطبقات الموجودات المتداخلة ومحاسنها. كما كنت مشدوداً إليها بحب شديد؛ مع أنني شاهدت بعقلي انحدارها إلى الفناء والزوال بشكل ظاهر وواضح جداً. فأحسست ألماً وفراقاً؛ بل أحسست ظلمة آتية من فراقات لا حد لها. فأغاثتني -فجأةً- آية ﴿حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ﴾ بمراتبها الثلاثة والثلاثين. فبدأتُ أقرؤها بشكل رمزيّ على نحو ما سيذكر.
ان كل جملة من الجمل السبع المباركة التي كنت أواظب عليها بين المغرب والعشاء ستكون لمعة ضمن لمعات "المكتوب الحادي والثلاثين". وقد دخلتْ خمسُ جمل منها وبقيت هاتان الجملتان. لذا بقي مكانُ اللمعة الرابعة واللمعة الخامسة فارغاً. وستكون إحدى الجمل حول مراتب ﴿حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ﴾. أما الأخرى فحول مراتب "لا حول ولاقوّة الاّ باللّٰه العليّ العظيم". ولما كانت مراتب هاتين الجملتين المباركتين عبارة عن الذكر والفكر أكثر من كونها علماً، فقد ذُكرت في الباب الخامس بالعربية. (المؤلف).
[20]() لقد رأيت في وقت ما أنواراً ومقامات كثيرة لهذه الجملة المباركة. فأنقذتني من ورطاتٍ وظلمات رهيبة. وكنت قد وضعت إشارات على تلك الأحوال والمقامات: فتارة في صورة فقرة مختصرة جداً، وأخرى بكلمات معدودات لأجل تذكير نفسي. أما تلك الفقرة الأولى، فكنت كلما فكرت في موت ذوي الحياة بموت وفناء الدنيا الضخمة التي هي محبوبتي كما هي محبوبة للآخرين، وجدت أن ضماد آلامي وهمومي العميقة هو: "حَسبُنا اللّٰه وَنِعْمَ الوَكيلُ". والجمل التي في البداية تسير حسب هذا السرّ. (المؤلف).
[21]() مثلما رأيت جلوات الأسماء الباقية للباقي ذي الجلال وراء فناء الدنيا وزوال الآفاق، فشعرت بسلوان تام، كذلك نظرت إلى شخصي، فإذا بمختلفِ طبقات الموجودات النفسية العديدة والصفات الشخصية وحقائقها التي افتتنت بها في شخصي تجري بسرعة نحو الزوالِ والفناء، فبحثت في تلك الفانيات عن البقاء بسرّ ما غرز في فطرة الإنسان من عشق البقاء، فوجدت جلوة أسماءِ خالقي الباقي، ورأيت في زوال كلّ صفة من صفاتي جلوةً باقية من جلوات اسمٍ من الأسماء المتمثلة فيها. عند ذلك أدركت إدراكاً قاطعاً أن عشق البقاء الكامنَ في فطرة الإنسان محبة متشعبة عن المحبة الآلهية.
بيد أن الإنسان يتحرّى محبوبه بشكل خطأ؛ فبينما يلزم عليه حبُ المتمثَّل في المرآة والبحثُ عنه، يبدأ بحب المرآة أو حب كيفية التمثل فيها والتي تعد بمثابة الزينة لها. فيعبد "أنا" بدلاً من أن يعبد "هو". ولكن يدرك خطأه بعد زواله.
إنّ القلب وماهية الإنسان مرآة ذات شعور، تحس ما يتمثل فيها بشعور، وتحبه بعشق البقاء. (المؤلف).
[22]() إن حرف "الياء" التي تتكرر في الكلمات الثمانية، ضمير متكلم تبين نفسَها. (المؤلف).
[23]() كنت أفكر منذ أمد بعيد أن أشير إشارة عابرة مجملة إلى مراتبِ حقيقةٍ هامةٍ؛ تمّ إيضاحها بخمسة رموز وخمس إشارات في "المكتوب الرابع والعشرين" الذي يكشف عن طلسم الفعّالية الدائمة التي هي من أهم مُعَمَّيات الكون والتي تجري بصفة دائمة في خضم الموت والحياة والفناء والزوال. أما الفناء والزوال والعدم فمسائل تعبّر عن عناوينَ لأنواع مختلفة من الوجود، وتثمر كثيراً من أنماطها، وإن الشيء الآيل إلى الزوال يترك وراءه أضراباً كثيرة من الوجود. وإن موت ذي حياة وزواله يثمر وجودات كثيرة، يتركها وراءه ثم يذهب. نعم، إن الشيء الفاني يظل باقياً من جهات متعددة. فالحبة تموت بالبِلىَ والتعفّن، ولكنها تترك مكانها سنبلة جامعة لمائة حبة. وهكذا، وبناء على هذا السر فالخوف من الموت والعدم، والتأسف على الزوال ليس أمراً في موضعه. (المؤلف).
[24]() كما برهن على بقائها بالقطع والضرورة ببراهين باهرة في "الكلمة التاسعة والعشرين". وإن لم يكن من ذوي الأرواح، تبقى قوانينُ حقيقتها وخلقتها ونواميسُ ماهيتها ودساتير تشكلها. فإن ذلك القانون والناموس والدستور روح أمريّ لذلك الفرد ولنوعه. كما أن شجرة التينة تموت وتنعدم ويبقى روحها الأمري الذي هو قوانين تشكله ويدوم في نُوَيّته الصغيرة؛ فذلك الروح الأمري لا يموت بل يتجدد عليه الصور، بل تدوم ماهيته للحياة. إذ ماهيتها ظل لاسم من الأسماء الحسنى الباقية، فتبقى تلك الماهية تحت شعاع الاسم الباقي، وتبقى هويته أيضا في كثير من الألواح المثالية. فلا يكون العدم إلاّ عنواناً لانتقال وجود زائل إلى أنواع من وجود دائم. (المؤلف).
[25]() انظر: أحمد بن حنبل، الزهد 81؛ الغزالي، إحياء علوم الدين 3/15؛ الديلمي، المسند 3/174؛ الزركشي، التذكرة في الأحاديث المشتهرة 135؛ السخاوي، المقاصد الحسنة 990؛ العجلوني، كشف الخفاء 2/255.. قال ابن حجر الهيتمي في الفتاوى الحديثية: وذكرُ جماعةٍ له من الصوفية لا يريدون حقيقة ظاهره من الاتحاد والحلول لأن كلاً منهما كفر، وصالحو الصوفية أعرف الناس باللّٰه وما يجب له وما يستحيل عليه، وإنما يريدون بذلك أنّ قلب المؤمن يسع الإيمان باللّٰه ومحبته ومعرفته. أ هـ.
[26]() لقد أوضحنا في رسائل كثيرة؛ بأن في فطرة الإنسان عجزاً بلا حدود وفقراً بلا نهاية، مع أن له أعداءً لا حد لهم ومطالب لا تنتهي. والإنسان من أجل هذا العجز والفقر محتاج فطرةً إلى الالتجاء إلى قدير رحيم. فكما أن الجملة الأولى من آية: ﴿حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ﴾ ترشد إلى مرهم للعجز وملجأً تجاه كل أعدائه؛ وأن الجملة الثانية ﴿نعم الوكيل﴾، دواء لفقره ووسيلة إلى تحقيق جميع مطالبه؛ وكذلك جملة "لا حول ولا قوة الاّ باللّٰه العلي العظيم" دواء للعجز والفقر البشريين كجملة ﴿حسبنا اللّٰه﴾ تماماً، ولكنه في صورة أخرى، فكلمة "لا حول" تفيد أن نقطة استناده تجاه أعدائه، بتبرؤه من قوته ملجئا إلى القدرة الإلهية وتفيد كلمة "لا قوة" ان الوسيلة لقضاء مطالبه وحاجاته هي التوكل مع الاعتماد على القدرة الإلهية.
ولقد أحسست بمراتب كثيرة لجملة "لا حول ولا قوة.." هذه في نفسي بتجارب كثيرة. فوضعت كلمات مختصرة إشارة إلى تلك المراتب فألاحظ تلك المراتب بوساطة تلك الإشارات. وسوف يذكر في هذا الباب من الكلمات التي ترمز إلى قسم من تلك المراتب بعينها. (المؤلف).
[27]() لقد أشيرت إلى مراتب "لا حول ولا قوة.." هذه وإلى حقائقها، بإشارات فقط. أما البراهين والدلائل فلم تذكر، لأن المئات بل الآلاف من براهين الوحدانية ودلائل الربوبية المذكورة في الأبواب السابقة هي دلائل على حقائق "لا حول ولا قوة..." بصفة عامة. فلذلك لم تذكر أدلة مستقلة أخرى. (المؤلف).
[28]() كان من المقرر أن تكتب عشرون مرتبة من مراتب "لا حول ولا قوة.." في البداية. وقد أخرتها على أمل كتابتها في الختام. ولما بلغنا الختام تأخّرت حاليا. لأن هذه الأدلة لو وضّحت لطالت كثيراً، وإن كُتبتْ بإشارات تخصني فحسب لكانت الاستفادة منها قليلة. لذا أُرجِئَتْ إلى وقت آخر. (المؤلف).
[29]() إن كل كلمة في هذه الشهادة الثانية تومئ إلى برهان صادق حق من البراهين الحقة للنبوة الأحمدية، كما تشير إلى وظيفة من وظائف النبوة، وإلى مقام من المقامات المحمدية، مثلما كل فقرة في الشهادة الأولى تدل على كثير من براهين الوحدانية، فكأن كلاً من تلك الكلمات والفقرات شاهدة لي، وتشهد معي، وأنا بنيتي أقلب شهاداتها التي هي بلسان الحال إلى لسان المقال، فنشهد معاً. (المؤلف).
[30]() إن إيضاح هذا المقام هو في آخر "المكتوب التاسع عشر" وهو رسالة المعجزات الأحمدية، وإن كل قيد وكل كلمة فيه يشير إلى دليل من دلائل الرسالة الأحمدية كما أنه يومئ إلى البراهين الدّالة على أن القرآن الحكيم هو كلام اللّٰه.
ولقد ذكر النبي r والقرآن الكريم هنا، على أن كل واحد منهما دليل سامٍ للغاية على وحدانية اللّٰه سبحانه وتعالى. (المؤلف).
