[ميزان دقيق في محاورة]

محاورة خطرت على الـقلب،كتبتها

لتقويم الإفراط لدى قسم من إخوتي

 طلاب النور، لتعديل حسن ظنهم بي

بما يفوق حدي بكثير

قبل حوالي خمسين سنة جرت بيني وبين أخي الكبير "الملا عبد الله " رحمه الله هذه المحاورة، سأوردها لكم:

كان أخي المرحوم من خواص مريدي الشيخ ضياء الدين(*) قدس سره. وهو من الأولياء الصالحين. وأهلُ الطرق الصوفية لا يرون بأساً في الإفراط في حب مرشدهم والمبالغة في حسن الظن بهم، بل يرضون بهذا الإفراط والمبالغة، لذا قال لي أخي ذات يوم: "إن الشيخ ضياء الدين على علم واسع جداً واطلاع على ما يجري في الكون، بمثل اطلاع القطب الأعظم"، ثم سرَد الكثير من الأمثلة على خوارق أعماله وعلو مقامه.. كل ذلك ليغريني بالانتساب إليه والارتباط به.

ولكني قلت له: "يا أخي الكريم، أنت تغالي، فلو قابلتُ الشيخ ضياء الدين نفسَه لألزمته الحجة في كثير من المسائل، وإنك لا تحبه حباً حقيقياً مثلي، لأنك يا أخي الكريم تحب ضياء الدين الذي تتخيله في ذهنك على صورة قطب أعظم له علم بما في الكون. فأنت مرتبط معه بهذا العنوان وتحبه لأجل هذه الصفة، فلو رُفع الحجاب وبانت حقيقته، لزالت محبتك له أو قلّت كثيراً؛ أما أنا -يا أخي- فأُحب ذلك الشخص الصالح والولي المبارك حباً شديداً بمثل حبك له، بل أوقره توقيراً يليق به وأجلّه وأحترمه كثيراً، لأنه مرشد عظيم لأهل الإيمان في طريق الحقيقة المستهدية بالسنة النبوية الشريفة. فليكن مقامه الحقيقي ما يكون، فأنا مستعد لأن أضحي بروحي لأجل خدمته الإيمانَ. فلو أُميط اللثام عن مقامه الحقيقي فلا أتراجع ولا أتخلى عنه ولا أقلل من محبتي له، بل أوثق الارتباط به أكثر، وأُوليه محبة أعظم وأبالغ في توقيره. فأنا إذن يا أخي الكريم أُحب ضياء الدين كما هو وعلى حقيقته؛ أما أنت فتحب ضياء الدين الذي في خيالك".([1])

ولما كان أخي المرحوم عالماً منصفا حقاً، فقد رضي بوجهة نظري وقبلها وقدرها.

فيا إخوتي، أيها السعداء المحظوظون الذين يضحون بأنفسهم في سبيل الله. إن مبالغتكم في حسن الظن بشخصي، وإن كان لا يضركم بالذات، إلا أن أمثالكم ممن ينشدون الحق ويرون الحقيقة، ينبغي لهم أن ينظروا إلى الشخص من زاوية خدمته للقرآن الكريم ومدى إنجازه لمهامه نحوه، فلو كُشف النقاب وظهرت أمامكم هويتي الملطخة بالتقصيرات من قمة رأسي إلى أخمص قدمي لأشفقتم عليّ ولتألمتم لحالي. ولكن لئلا أنفّركم من محبة الأخوة التي تربطنا، ولئلا تندموا عليها فلا تربطوا أنفسكم بما تتصورونه من مقامات تُضفونها عليّ، وهي فوق حدي بكثير. فأنا لست سوى أخ لكم لا غير، وليس في طوقي ادعاء الإرشاد والتوجيه ولا الأستاذية عليكم.. وكل ما في الأمر هو أنى زميلكم في تلقي درس الإيمان. فلا تنتظروا مني همّة ومددا بل أنا المحتاج إلى معاونتكم وهممكم وأرجو دعواتكم المشفقة على تقصيراتي.

ولقد أنعم الله علينا جميعا -بفضله وكرمه- واستخدَمنا في أقدس خدمة وأجلّها وأنفعها لأهل الإيمان.. تلك هي خدمة القرآن. وندَبنا للقيام بها على وفق تقسيم الأعمال فيما بيننا، فحسبنا أستاذيةُ وإرشادُ الشخص المعنوي النابع من سر أخوّتكم واتحادكم.

فما دامت خدمة الإيمان والقرآن أسمى من أية خدمة في هذا العصر، وأن النوعية تفضل الكمية، وأن التيارات السياسية المتحولة المتغيرة وأحداثها المؤقتة الزائلة لا أهمية لها أمام خدمات الإيمان الثابتة الدائمة، بل لا ترقى لمقارنتها ولا يمكن أن تكون محورا لها، فينبغي الاطمئنان بما منَحنا ربُنا سبحانه وتعالى من مرتبة نورانية مفاضة علينا من نور القرآن المبين.

فيا إخوتي الأحبة! الثباتَ الثباتَ، الوفاءَ الوفاءَ... إن طريقنا في السمو والرقي هو الغلو في الارتباط والتساند فيما بيننا والسعي لنيل الإخلاص والأخوة الحقة، بدلا من الغلو في حسن الظن والتطلع إلى مقامات أعلى من حدنا.

 

[من وظائف السيد المهدى]

إخوتى الأعزاء!

كتبت لكم الفقرتين الآتيتين قبل يومين تتمة لما كُتب لكم سابقا من جواب حول حسن ظنكم النابع من وفائكم الخالص بما يفوق حدي بكثير جدا. إذ إن الحكمة في جوابي السابق -قبل أسبوع- والذي يجرح إلى حدٍّ ما حسن ظنكم المفرط، لرسالتكم المترشحة من وفائكم الخالص وهممكم العالية هي الآتية:

في هذا العصر تيارات قوية ومسيطرة إلى درجة تستحوذ على كل شيء، وتستولي عليه، و تمتلكه لنفسها، وتسخره لأجلها، فلو أتى ذلك الذي يُنتظر مجيؤه حقا في هذا العصر، فإنني أرى أنه يغيّر هدفَه، ويجرّد نفسه من الأجواء والأحوال الدائرة في عالم السياسة، حفاظا على أعماله من أن تغتصبها تلك التيارات.

ثم إن هناك ثلاث مسائل هي:

الحياة.. الشريعة.. الإيمان.

وأن مسألة "الإيمان" هي أهم هذه المسائل الثلاث وأعظمُها في نظر الحقيقة. بيد أن "الحياة" و "الشريعة" تبدوان في نظر الناس عامة وضمن متطلبات أوضاع العالم أهم تلك المسائل. ولما كان تغيير أوضاع المسائل الثلاث كلها دفعة واحدة في الأرض كافة لا يوافق سنة الله الجارية في البشرية، فإن ذلك الشخص المنتظر لو كان موجودا في الوقت الحاضر لاتخذ أعظمَ تلك المسائل وأهمها أساسا له دون المسائل الأخرى، وذلك لئلا تفقد خدمةُ الإيمان نزاهتَها وصفاءها لدى الناس عامة، ولكي يتحقق لدى عقول عوام الناس -الذين يمكن أن يُستغفلوا ببساطة- أن تلك الخدمة ليست أداة لأي مقصد آخر.

ثم إن معاول الهدم ومطارق التخريب تعمل منذ عشرين عاما مقترفة أشدَّ أنواع الظلم وأقسى ضروب التعسف لإفساد الأخلاق حتى ضاعت الثقة والوفاء إلى درجة لم يعد يوثق بشخص واحد من كل عشرة أشخاص، بل من كل عشرين شخصا.

فتجاه هذه الحالات المحيرة لابد من ثبات عظيم وصلابة تامة ووفاء خالص وغيرة على الإسلام تفوق كل شيء.. وبخلافه ستبقى خدمةُ الإيمان عقيمةً بائرة، وتكون ضارة. بمعنى أن أخلصَ خدمة وأسماها وأهمها وأولاها بالتوفيق هي الخدمة السامية التي يعمل فيها طلاب رسائل النور.

وعلى كل حال يكفي هذا القدر لهذه المسألة في الوقت الحاضر.

 

[ختمة جماعية]

إخوتي الأعزاء الأوفياء!

أولا: نبارك لكم ليلة الرغائب وشهر رمضان المقبل، ونسأله تعالى أن يجعل ليلة القدر خيرا لكم ولنا من ألف شهر، ويُدخلها هكذا في سجل أعمالنا.

وقد عزمنا على أن ندعو حتى العيد بهذا الدعاء: "اللّٰهم اجعل ليلة القدر في شهر رمضان خيرا من ألف شهر لنا ولطلبة رسائل النور".

ولقد قمنا بتوزيع أجزاء مصحفين شريفين على كل طالب من طلاب النور الخواص هنا، بحيث يقرأ كلٌّ منهم يوميا جزءا مخصصا له. وبهذا تُختَم كل يوم -من أيام شهر رمضان المبارك- ختمتان للقرآن الكريم، في مجلس معنوي واسع جدا يضم إسبارطة وقسطموني معا، يتوسطهما طلاب رسائل النور حيث يتصور كلٌّ منهم نيّةً جميعَ الطلاب معه. نسأله تعالى أن يوفقنا في ذلك.

 

[الاشتراك في الأعمال الأخروية]

باسمه سبحانه

﴿وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ﴾

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته بقدر حاصل ضرب عاشرات دقائق ليلة القدر في حروف القرآن.

إخوتي الأعزاء الأوفياء!

أولا: أهنئكم بحلول شهر رمضان المبارك بملء روحي ووجداني وأبتهل إلى أرحم الراحمين تعالى أن يستجيب لدعواتكم التي ترفعونها في هذا الشهر المبارك.

ثانيا: إن شهر رمضان لهذه السنة له أهمية جليلة للعالم الإسلامي عامة ولطلاب النور أيضا بمضمون دستور الاشتراك في الأعمال الأخروية، ذلك الدستور الأساسي الجاري بين طلاب رسائل النور. فإنّ دخول ما يكسبه كلُّ طالب من حسنات إلى دفتر حسنات إخوانه كاملةً، هو مقتضى ذلك الدستور والرحمة الإلهية. لذا تكون مغانمُ الحسنات عظيمة جدا وكلية لمن يدخل دائرة رسائل النور بصدق وإخلاص، حيث يغنم كلُّ واحد منهم ألوفا من الحصص. نسأله تعالى أن يجعل ذلك الاشتراك كالاشتراك في الأموال الدنيوية -ولكن بدون انقسام ولا تجزئة- اشتراكًا كاملا بدخولها كاملة في دفتر حسنات إخوانه كدخول ضياء مصباح في ألوف المرايا. بمعنى أن طالبا من طلاب النور الصادقين إذا ما غنم حقيقةً ليلةَ القدر وتمكّن من كسب المرتبة الرفيعة لشهر رمضان المبارك، نأمل أملا عظيما من سعة رحمته تعالى أن يملّك سبحانه جميعَ الطلاب الصادقين تلك الغنيمة.

 

[النساء في طريق النور]

إخوتى الأعزاء الأوفياء الأبطال الميامين!

أولا: إن كل أخ من إخواننا الخواص في هذا الشهر المبارك، شهر رمضان، بمثابة الملائكة المالكين لأربعين ألف لسان، أي له أربعون ألف لسان معنوي -أي بعدد الإخوة- وذلك بالدستور الأساس، وهو دستور الاشتراك في الأعمال الأخروية، لذا فإن ما يدعون أو ما سيدعون من دعوات في هذا الشهر المبارك، نرجو من رحمته تعالى أن يكون مقبولا بعدد تلك الألسنة. فهنيئا لكم شهركم هذا شهر رمضان الحامل لهذه الماهية الفاضلة.

ثانيا: كان المفروض أن يكون الجواب كتابا كاملا لرسائلكم في هذه المرة، تلك الرسائل المتعددة المؤثرة السارة الحاملة للبشارات، إلا أن ضيق الوقت حال دون ذلك فلا تتألموا من الجواب المقتضب...

فللّه الحمد ألف ألف مرة، إن الأمهات المباركات في تلك القرية وسيداتها -قرية ساو([2])- قد عرفن رسائل النور ويقدرنها حق قدرها. فلقد أبكتني -وأبكتنا جميعا- بكاءَ فرح وسرور التضحيةُ التي بذلتها أولئك السيدات العزيزات أخواتي في الآخرة المخلصات في نشر رسائل النور.

من المعلوم أن أهم أساس في مسلك رسائل النور هو الشفقة. وحيث إن السيدات هن معدن الشفقة ومنبعها، فقد كنت انتظر -منذ مدة- أن تُفهم ماهية رسائل النور في عالم النساء، والحمد لله فإن السيدات هنا وحوالينا يعملن عملا جادا وبشوق وفعالية أكثر من الرجال، فأظـهرن أنهن حقا أخواتٌ مباركات في قرية ساو. فهذان الأمران الظاهران فأل حسن في أن رسائل النور ستسطع وتنور وتفتح قلوب أولئك السيدات معادن الشفقة.

ثم إن الرعاة الشجعان لقرية ساو الذين ينقلون في جعبهم رسائل النور ليستكتبوها، قد أبدوا تضحية وبسالة كأولئك السيدات هناك. مما يثير الهمم ويبث الشوق في هذه المناطق أيضا.

إننا نرغب في معرفة أسماء أولئك السيدات والرعاة كي يدخلوا بأسمائهم الخاصة ضمن الطلاب الخواص...

 

[حادثتان لهما مغزى]

إخوتي الأعزاء الأوفياء!

أبين لكم حادثتين لطيفتين لهما مغزى وبشارة:

أولاها: [مقابلة الذنوب المهاجمة]

تنبيه يحمل بشرى وردت من خاطرة يائسة، حيث ورد على خاطري في هذه الأيام ما يأتي:

إن الذي يختلط بالحياة الاجتماعية، ما إن يمس شيئا إلاّ ويجابَه بالآثام والذنوب في أغلب الأحوال. فالذنوب تحيط بالإنسان من كل جهة. تُرى كيف تقابِل العبادةُ الخاصة للإنسان وتقواه الخاصة هذه الذنوبَ جميعَها؟ تأملتُ في هذا التفكير اليائس، حيث تذكرت أوضاع طلاب رسائل النور المندمجين في الحياة الاجتماعية، وفكرت في الوقت نفسه في إشاراتٍ قرآنية وبشارات الإمام علي والشيخ الكيلاني حول نجاة طلاب رسائل النور وكونهم من أهل السعادة.

فقلت في قلبي: كيف يقابل طالبُ النور بلسان واحد هجمات ذنوبٍ تَرد من ألف جهة، وكيف يتغلب عليها، وكيف ينجو منها؟ فأخذتني الحيرة. فخطر على قلبي تجاه هذه الحيرة ما يأتي:

إنه حسب الدستور الأساس الجاري بين طلاب رسائل النور الحقيقيين الصادقين، وهو الاشتراك في الأعمال الأخروية، وبسر التساند والترابط الخالص، فإن كل طالب خالصٍ صادقٍ لا يتعبد بلسان واحد بل بعدد ألسنة إخوانه جميعا، فيستغفر ربه بعدد تلك الألسنة، ويقابل الذنوبَ المهاجمة من ألف جهةٍ بألوف ألوفٍ من الألسنة المستغفِرة العابدة.

إن طالبا خالصا حقيقيا متقيا، يعبد ربه بأربعين ألف من ألسنة إخوته -كالملائكة المسبّحة بأربعين ألف لسان- سيكون أهلا للنجاة بإذن الله، ويكون من أهل السعادة بفضل الله ويصبح مالكا لعبادة رفيعة كلية بالوفاء الخالص حسب درجته وبالعمل الجاد ضمن دائرة رسائل النور وبالتزام التقوى واجتناب الكبائر.

فلأجل ألاّ يُفوَّت هذا الربح العظيم ينبغي السعي الحثيث في التقوى والإخلاص والوفاء.

ثانيتها: [جبة مولانا خالد]

عندما كنت في الرابعة عشر من العمر وجدت موانع حالت دون قيام أحد من الأساتذة بوضع العمامة ولفّها على رأسي وإلباسي الجبة، كدليل على الشهادة العلمية، كما كانت العادة جارية سابقا. فما كان لبس الجبة الخاصة بالعلماء والكبار يلائم سني الصغير...

ثانيا: كان العلماء في ذلك الوقت، قد اتخذوا موقف المنافس لي أو التسليم التام فلم يتمكنوا أن يتقلدوا طور الأستاذ. وحيث إن عددا من الأولياء العظام قد ارتحلوا من الدنيا، لذا لم يجد أحد في نفسه الكفاءة ليُلبسنى الجبة أو يضع على رأسي العمامة.

فمنذ خمسين سنة كان من حقي هذه العلامةُ الظاهرة لنيل الشهادة وهى لبس الجبة وتقبيلُ يد أحد الأساتذة وقبولُه أستاذا.. ولكن تقديم جبة مولانا خالد النقشبندي من بُعد مائة سنة مع العمامة الملفوفة بها وإرسالها إليّ في هذا العام بأسلوب غريب جدا لكي ألبسها، قد أورثني قناعة ببعض الأمارات. فأنا ألبس تلك الجبة المباركة التي يبلغ عمرها مائة سنة وأشكر ربي بمئات الألوف من الشكر والحمد.([3])

 

[مسألتان وردتا إلى القلب]

لقد وردت في هذه الأيام مسألتان دقيقتان إلى القلب، لم استطع تدوينهما، إلاّ أننا بعد فوات ذلك الأوان نشير إشارة فقط إلى تلك الحقائق المهمة:

أولاها: [إلى المتكاسل في أذكار الصلاة]

لقد قلت لأحد إخواننا الذي أظهر تكاسلا وفتورا في قراءة الأذكار بعد الصلاة:

إن تلك الأذكار والأوراد عقب الصلاة هي سنة نبوية مطهرة وطريقة محمدية شريفة، وهي أوراد الولاية الأحمدية، فأصبحت أهميتُها من هذه الزاوية عظيمة.

ثم وضّحت حقيقة هذا القول بهذا الشكل: مثلما أن الولاية الأحمدية التي انقلبت إلى الرسالة هي فوق جميع الولايات قاطبة، فإن طريقة تلك الولاية الكبرى وأذكارها عقب الصلاة هي فوق سائر الطرق والأوراد بالدرجة نفسها. ثم انكشف هذا السر كما يأتي:

كما أن كل ذاكر في حلقة الذكر، أو في ختمة الذكر في المسجد. يشعر برابطة روحية، تربطه بمن حوله، فيحسون جميعا بحالة روحية نورانية، فإن ذا القلبِ اليقظ يحس إحساسا روحيا كلما سبّح بـ "سبحان الله.. سبحان الله.. سبحان الله.." بعد الصلاة، أنه في حلقة ذكر مع مائة مليون من المسبّحين الذاكرين، كأنهم بين يدي الرسول r، الذي يترأس تلك الحلقة الذاكرة المترامية الأطراف.

فبهذه الأحاسيس الشاعرة بالعظمة والهيبة والرفعة والعلو يكرر المؤمن: "سبحان الله.. سبحان الله".

ثم إنه عندما يردد "الحمد لله.. الحمد لله.." بأمر معنوي صادر من ذلك السيد الكريم r فإنه يتأمل ويفكر في عظمة تلك الكلمة "الحمد لله " المنطلقة من صدور مائة مليون من المردّدين في تلك الحلقة الواسعة الشاسعة، فيشترك معهم بقوله: "الحمد لله.. الحمد لله.. الحمد لله.."

وهكذا، مع كلمة "الله أكبر.. الله أكبر.." ومع "لا إله إلا الله.. لا إله إلا الله " ثلاثا وثلاثين مرة، حيث يختم الذكر..

وبعد إتمام هذه الأذكار اللطيفة بتلك المعاني والتأمل الأخوي يتوجه إلى سيد الحلقة الذاكرة وهو الرسول الكريم r حاملا معه تلك المعاني المذكورة مع إخوانه في حلقة الذكر قائلا: ألف ألف صلاة وألف ألف سلام عليك يا رسول الله.

أجل، هكذا أحسست، وهكذا فهمت، بل هكذا رأيت خيالا، لذلك أقول: إن الأذكار عقب الصلاة، لها أهمية كبرى.

 

المسألة الثانية: [لم تُفضَّل الدنيا على الآخرة؟]

إن خاصية هذا العصر هي أنها تجعل المرء يفضّل بعلمٍ الحياةَ الدنيا على الحياة الباقية. حتى أصبح تفضيل الزجاج القابل للكسر على الألماس الباقي عن علم، يجري وكأنه دستور وقاعدة عامة.

فكنت أحار من هذا حيرة شديدة، ولكن أُخطر على قلبي في هذه الأيام الآتي:

كما أنه إذا اشتكى عضو من الجسد تداعى له سائرُ الجسد تاركا قسما من وظائفه، كذلك جهاز الحرص على الحياة والحفاظ عليها والتلذذ بالحياة وعشقها، المندرج في فطرة الإنسان قد جُرح في هذا العصر فبدأ يُشغل سائرَ اللطائف به، لأسباب عديدة محاولا دفعَها إلى نسيان وظائفها الحقيقية.

فلو كان هناك حفل بهيج جذاب حافل بالسفاهة والسكر لانجذب إليه حتى الذين لهم مقامات رفيعة والنساء المحجبات العفيفات كما ينجذب الأطفال والسائبون، فيشتركون معا بجاذبية ذلك الحفل تاركين وظائفهم الحقيقية.

كذلك الحياة الإنسانية في هذا العصر ولاسيما الحياة الاجتماعية فقد اتخذت وضعا مخيفا ولكن ذات جاذبية، وحالة أليمة ولكن تثير اللهفة والفضول، بحيث تجعل عقلَ الإنسان وقلبه ولطائفه الرفيعة تابعةً لنفسه الأمارة بالسوء حتى تحوّم كالفراش حول نار تلك الفتنة وترديها فيها.

نعم، هناك في حالات الضرورة رخصة شرعية في تفضيل الحفاظ على الحياة الدنيوية وترجيحها مؤقتا على بعض الأمور الأخروية. ولكن لا يمكن تفضيلها بناء على ضرر لا يلحقه هلاك ولأجل حاجة فحسب، فلا رخصة في هذا. والحال أن هذا العصر قد غرز حبَّ الحياة الدنيوية في عروق الإنسان، حتى إنه يترك أمورا دينية ثمينة جدا كالألماس لحاجة صغيرة تافهة، أو لئلا يصيبه ضررٌ دنيوي اعتيادي.

نعم، إن هذا العصر الذي رُفعت منه البركةُ من جراء الإسراف المتزايد وعدم مراعاة الاقتصاد، ومن عدم القناعة مع الحرص الشديد، فضلا عن تزايد الفقر والحاجة والفاقة وهموم العيش، مما سبب جروحا بليغة في تطلع الإنسان للعيش وفي نزوعه لحفظ الحياة، علاوة على تشعب متطلبات الحياة المرهقة، زد على ذلك استمرار أهل الضلالة بتوجيه كل الأنظار إلى الحياة.. كل ذلك عمّق تلك الجروح حتى دفع الإنسان ليفضّل أدنى حاجة من حاجات الحياة على مسألة إيمانية عظيمة.

نعم، إنه لا يصمد تجاه هذا المرض العجيب لهذا العصر العجيب ولسقمه الرهيب إلاّ رسائل النور الناشرة لأدوية القرآن المبين التي لها فعل المضاد للسموم. ولا يمكن أن يقاوِم هذا المرض العضال إلاّ طلابُ رسائل النور الأقوياء الثابتون الذين لا يتزعزعون، الخالصون الصادقون المضحون.

ولهذا ينبغي الإسراع إلى الالتحاق بدائرة النور والالتزام بها مع كامل الوفاء والثبات والجدية والإخلاص والثقة، حتى يمكن الخلاص من آثار ذلك المرض العجيب الرهيب.

تحياتنا إلى الإخوة جميعا فردا فردا مع الدعاء لهم بالخير.

يا إخوتي! إن فعالياتكم ونشاطكم وثباتكم هي بمثابة النابض المحرك لدائرة رسائل النور بحيث تحفزوننا على الحركة والعمل هنا، وفي أماكن أخرى كثيرة. ليرضَ الله عنكم أبدا. آمين آمين ألف ألف آمين.

 

[الآلام في اللذائذ الظاهرية]

لمناسبة الرسالة التي كتبتُها لكم قبل بضعة أيام حول غلبة الحياة الدنيوية على الحياة الدينية ظهر معنىً دقيق جدا لقلبي، قد لا يُعبّر عنه بالقلم. ولكني سأشير إليه إشارة في غاية الاختصار:

إنني شاهدت أن ما يخدع أهل الضلالة في هذا العصر العجيب ويجعلهم سكارى ثملين، هو أن ما يتلذذون به من أوضاع فانية لذةً ظاهرية هو في الحقيقة في منتهى الألم. بينما شعرت -بما لا أتمكن من التعبير عنه- أن أهل الإيمان والهداية يتلذذون لذة علوية في نفس الموضع من تلك الأمور والأوضاع الفانية. فلقد أثبتت رسائل النور في مواضع عدة؛ أن كل شيء معدومٌ لأهل الضلالة سوى الحال الحاضرة، لذا فكل شيء بالنسبة إليهم مليء بالآم الفراق، بينما الماضي والمستقبل وما فيهما موجودان منوَّران لأهل الإيمان.

ولقد شاهدت أن الأوضاع الموقتة الفائتة لأهل الدنيا معدومة في ظلمات الفناء المطلق، بينما تلك الأوضاع نفسها موجودة لأهل الهداية، لأنني تذكرت بحسرةٍ الأوضاعَ الموقتة التي مرّت عليّ، وهي أوضاع تحمل لذائذ وأهميةً وشأنا فاشتقت إليها. ولكن ما إن ورد على ذهني أن تلك الأوضاع الطيبة فنيَت في الماضي، إذا بنور الإيمان يذكّرني: أنها باقية من نواحٍ عدة رغم فنائها الظاهرى، لأن تلك الأوضاع جلوات اسم الله الباقي سبحانه، فهي باقية في دائرة العلم الإلهي والألواحِ المحفوظة والألواح المثالية. فالعلاقات التي تربطنا بتلك الأوضاع يورثها نور الإيمان بقاءً ووجودا فوق الزمان. فيمكنك مشاهدة تلك الأوضاع من نواحٍ عديدة كثيرة وكأنها سينما معنوية كثيرة بل يمكنك الدخول فيها. فقلت: "مادام الله موجودا فكل شيء موجود إذن". هذا الكلام الذي أصبح مضرب المثل يمثل حقيقةَ: "من كان لله تعالى كان له كل شيء، ومن لم يكن له، كان عليه كل شيء فكل شيء معدوم له".

بمعنى أن الذين يفضلون درهما من لذة تحمل آلاما وحسرات وظلمات على أضعافها من اللذائذ التي لا تحمل ألما في الموضع نفسه، لاشك أنهم سيقابلون -بما يخالف مقصودهم- الألم في موضع اللذة.

 

[1]() لأنك تطلب لمحبتك ثمناً غالياً جداً، إذ تفكر أن يقابل محبتك بما يفوق ثمنها مائة ضعف، والحال أن أعظم محبة لمقامه الحقيقي تظل زهيدة جداً. (المؤلف).

([2]) قرية ساو: قرية قريبة من منفى الأستاذ النورسى "بارلا". وأهالي هذه القرية شيباً وشباباً رجالاً ونساءً خدموا الإيمان عن طريق نشر رسائل النور واستنساخها.

([3]) لقد أخذت هذه الأمانة المباركة من السيدة "آسيا" وهي طالبة النور المحترمة وأختنا في الآخرة.- المؤلف.

 

 

 

« Önceki Sayfa  | | Sonraki Sayfa »
Ekranı Genişlet