[مسائل ستة أشخاص]

باسمه سبحانه

﴿وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ﴾

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته بعدد كلمات القرآن وحروفه.

إخوتي الأعزاء الأوفياء الميامين. ويا إخواني الأقوياء النشطين الثابتين في خدمة القرآن!

لقد أصبح ستة أشخاص -النجار أحمد في البدء وآخرهم أنا- مدارا لمسائل، كلٌّ على حده بناء على إخطار معنوي.

الأول:

في رسالة النجار أحمد وهو الفعال والنشط جدا من طلاب رسائل النور ومدرستها يذكر أنه:

أتى صبي صغير بريء يبلغ العاشرة من العمر من قرية على مسافة يومين تاركا قريته وماله، ووفّق إلى كتابة رسائل النور، مع أنه لم يسبق له الكتابة من قبل. فكما أن هذا كرامة لرسائل النور فهو زهرة خارقة لطيفة للمدرسة النورية.

نعم، ونحن نقول أيضا: كما أن انفتاح الأزهار الجميلة في شتاء مادي قارس، قدرةٌ إلهية خارقة. فإن تفتّح ألفِ زهرة لطيفة جميلة وثمارِ الجنة في شجرة ساو -أي قرية ساو- في الشتاء المعنوي الرهيب لهذا العصر لاشك أنه معجزة رحمة وكرامة عناية ربانية لهذه البلدة، وإكرامٌ إلهيّ خارق لطلاب النور. نحن نعتقد هكذا ونتضرع إليه تعالى ونتوجه له بالشكر العميم.

وجاء في رسالة النجار أحمد: إن الطلاب النشطين في القرية يذكّرون بالطلاب المضحين القدماء الناشئين في المدارس الشرعية القديمة، مما منحنا وطلاب النور سرورا بالغا.

إنه لجميل جدا تلك المعاونةُ المعنوية التي تقدمها سيدات المدرسة النورية وطالباتها بأورادهن القرآنية وأذكارهن وبدعواتهن لأصحاب الأقلام الساعية للاستنساخ. وفي هذا إرشاد للسيدات في هذه المناطق.

ليرضَ الله أبدا عنهم وعنهن وعن جميع طلاب تلك المدرسة وعن أستاذهم.

الشخص الثاني ومسألته:

قال لي يوما أحد طلبة النور من الشباب الحافظ للقرآن الكريم مثل ما يقوله الكثيرون: يزداد عندي مرض النسيان يوما بعد يوم؛ فماذا أفعل؟

قلت: لا تنظر نظر الحرام ما استطعت. لأن "النظر الحرام يورث النسيان" كما يروى عن الإمام الشافعي رضي الله عنه.([1])

نعم، إن النظر الحرام كلما ازداد بين المسلمين ثارت شهواتُهم النفسانية، فيتولد منها الإسراف والإفراط، حتى قد يضطر المرء إلى الاغتسال عدّة مرات في الأسبوع الواحد، مما ينجم عنه ضعفٌ في قوة الحفظ كما هو معلوم لدى الطب. ومما جعل انتشار مرض النسيان هذا عاما شاملا للجميع هو شيوع التبرج والتكشف في هذا العصر ولاسيما في بلدان المناطق الحارة، مما سبّب كثرةَ النظر الحرام الذي يولد الإسراف والإفراط. حتى تجد الجميع يشكون من النسيان، كل على قدر إصابته به.

ولعل طرفا من تأويل الحديث الشريف الذي أنذر عن نزع القرآن الكريم من الصدور في آخر الزمان، يتحقق بازدياد هذا المرض. بمعنى أن هذا المرض سيشتد وطؤه، ويحُول دون حفظ القرآن الكريم، فيتحقق عندئذ تأويل الحديث. ولا يعلم الغيب إلاّ الله.

الشخص الثالث ومسألته:

إنه شخص ذو علاقة وطيدة معنا يشكو مرَّ الشكوى في أغلب الأوقات طالبا العون وقائلا: لا أستطيع أن أصبح رجلا بمعنى الكلمة بل فسدتُ وتضعضعت كلما مرّ الزمان فلا أستطيع أن أرى نتائج خدماتي المعنوية.

ونحن نقول له: إن هذه الدنيا دار عمل وليس موضع أخذ الأجرة، فثواب الأعمال الصالحة وثمراتُها وأنوارُها تُمنح في البرزخ والآخرة. وإن جلبَ تلك الثمرات الباقية إلى هذه الدنيا وطلبَها في هذه الدنيا يعنى جعل الآخرة تابعة لهذه الدنيا. وعندها ينثلم إخلاص تلك الأعمال الصالحة ويذهب نورُها.

نعم، إن الثمرات لا تُطلب ولا تُنوى قلبا، بل يُشكر عليها إذا ما مُنحت للحث.

نعم، إن هذا العصر -كما ذكر في بضع رسائل- قد غرز حبَّ الحياة الدنيوية في الإنسان وأجراه في عروقه فجرحه جروحا بالغة، حتى إن شيخا هرما وعالما وتقيا صالحا يطلب أذواق الحياة الأخروية في الدنيا لجريان حكم الأذواق الحياة الدنيوية فيه أولا.

الرابع:

شخص له علاقة معنا يشكو كالكثيرين، أنه فقد أذواقه وأشواقه التي كان يجدها في أوراده سابقا عندما كان منتسبا إلى الطرق الصوفية. والآن يغلب عليه النوم والضيق. فقلنا له:

كما أن الفساد الذي يعتري الهواء يُولِد ضيقا في الإنسان ولاسيما فيمن له حساسية في الصدر كذلك يُفسد الهواء المعنوي أحيانا، ولاسيما في هذا العصر الذي ابتعد عن المعنويات، ولاسيما في البلدان التي شاعت فيها الأهواء النفسانية والشهوية، ولاسيما بعد انقضاء الشهور الثلاثة المحرمة والشهور الثلاثة المباركة التي يتصفى فيها الهواء المعنوي بصحوة العالم الإسلامي وتوجِّه عموم الناس إلى اللّٰه. وبانقضاء تلك الشهور وتوقف ذلك التوجه العام تجد الضلالاتُ الفرصةَ سانحة، للتأثير على إفساد الهواء، تحت مضايقات الشتاء، وانكسار تسلط الحياة الدنيوية والأهواء النفسانية، فيغلب على الإنسان النومُ والنعاس بدلا من الشوق والذوق لدى قراءة مثل هذه الأوراد القدسية في أثناء انحسار الشوق الأخروي لدى أهل الإيمان والإسلام ولاسيما بمجيء الربيع وانكشاف الحياة الدنيوية.

بيد أن الأعمال الصالحة والأمور الأخروية التي ترافقها المشقات والمصائب والمضايقات -رغم فقدها للأذواق- هي أسمى وأجزل ثوابا، حسب مضمون "خير الأمور أحمزها"([2]) لذا ينبغي للإنسان الشكر مسرورا ومتجملا بالصبر لأمله في زيادة الثواب من خلال ذلك الضيق والمشقات.

الخامس:

يبرر أحد طلاب النور عدمَ سعيه لرسائل النور لازدياد هموم العيش.

فقلنا له: لأنك لا تسعى لرسائل النور ازدادت عليك همومُ العيش. لأن كل طالب في هذه المناطق يعترف -وأنا كذلك اعترف- أنه كلما سعينا لرسائل النور وجدنا السهولة في الحياة والانشراح في القلب واليسر في المعيشة.

السادس:

هو هذا السعيد الضعيف. إن ما ينشرح لها كل الناس ويرغبون فيها ويطلبونها من الاحترام والتوقير والمحبة والمجالسة -خارج نطاق رسائل النور- ثقيلةٌ عليّ وأتألم منها وتولد فيّ الإزعاج.

وأظن أن المزايا الرفيعة لرسائل النور والخصال الراقية جدا لشخص طلابها المعنوي لو وضعت -تلك المعاني الضخمة كالجبال- على كاهل شخص ضعيف عاجز مثلي قد بالغ في سلوك طريق العجز، فإنه ينسحق تحتها وينقبض من تلك الأمور.. هكذا فهمتُ.

الراجي دعواتكم والمشتاق إليكم

أخوكم

سعيد النورسي

 

[العلاج الوحيد: رسائل النور]

إخوتى الأعزاء الأوفياء!

لا تتألموا من حادثة التعرض لنا التي وقعت حديثا. لأن رسائل النور تحت العناية الإلهية. وثبت بتجارب عديدة، أنه لم يحدث لحد الآن أن نجت طائفةٌ من الطوائف العاملة في خدمات جليلة بمشقات قليلة مثلنا...

اعلموا وليعلم أولئك أيضا؛ كما أن الصدقة تدفع البلاء فإن رسائل النور وسيلةٌ لدفع الآفات السماوية من الأناضول ورفعِها ولاسيما من إسبارطة وقسطموني.

نعم، إن رسائل النور سبب من أسباب نجاة الأناضول من مهالك الكرة الأرضية وعقابها. وكأنها سفينة نوح عليه السلام بحيث جعلت الأناضول في حكم "الجودي". لأن الطغيان الناشئ من ضعف الإيمان يجلب المصيبة العامة على الأكثر. فرسائل النور التي تقوّي الإيمان أصبحت وسيلة لدى الرحمة الإلهية لدفع تلك المصيبة العامة خارج دائرتها. فهؤلاء، أهل الدنيا وأهل الأناضول، عليهم ألاّ يتعرضوا لرسائل النور حتى ولو لم ينخرطوا فيها. فلو تعرضوا لها فعليهم أن يفكروا بنشوب الحرائق وحدوث الطوفان وانتشار الطاعون المنتظر قريبا، وليعودوا إلى رشدهم.

ولما كنا لا نتعرض لدنياهم فهناك احتمال قوي في نزول البلايا عند تعرضهم -إلى هذا الحد وبلا مبرر- لآخرتنا.

ألا فليعلم أهل السياسة علما قاطعا رغم أننا لا علاقة لنا بهم: أن العلاج الوحيد لإنقاذ الأمة في هذه البلاد وفي هذا العصر من الفوضى والإرهاب ومن التردي المريع والتدني الرهيب هو أسس رسائل النور.. وليعلم أولئك الأبرياء -وأستاذهم- الذين تعرضوا لمضايقات من جراء هذه الحادثة أن الذي يرابط تحت ظروف صعبة، ينال ثواب عبادة سنة، وأنّ ساعةَ تفكرٍ إيمانيّ حقيقي في حكم سنة من الطاعة. فنسأله تعالى أن تنال مضايقاتهم مثل هذا الثواب. لذا عليهم أن يقابلوا أمثال هذه الحوادث بالفرح والسرور بدلا من القلق والتألم.

 

[خدمتنا تسعى لإنقاذ النظام والأمن]

جاءني موظف مسؤول له علاقة معنا ومع السياسة ومنشغل بمراقبتنا كثيراً.

فقلت له: إنني لم أراجعكم منذ ثماني عشرة سنة، ولم أقرأ صحيفة واحدة من الصحف، وها قد مرت ثمانية شهور لم أسأل ولو مرة واحدة عما يحدث في العالم، ولم أستمع إلى الراديو الذي يُسمع هنا منذ ثلاث سنوات. كل ذلك كي لا يلحق ضرر معنوي بخدمتنا السامية.

والسبب في ذلك هو أن خدمة الإيمان وحقائقِ الإيمان هي أجلّ من كل شيء في الكون، فلا تكون أداة لأي شيء كان؛ فإن خدمة القرآن الكريم قد منعتنا كلياً من السياسة؛ حيث إن أهل الغفلة والضلالة في هذا الزمان الذين يبيعون دينهم للحصول على حطام الدنيا ويستبدلون بالألماس القطعَ الزجاجية المتكسرة، يحاولون اتهام تلك الخدمة الإيمانية بأنها أداة لتيارات قوية خارج البلاد وذلك للتهوين من شأنها الرفيع.

فأنتم يا أهل السياسة والحكومة! لا تنشغلوا بنا بناءً على الظنون والأوهام، بل عليكم أن تذللوا المصاعب لنا وتسهّلوا الطريق أمامنا، لأن خدمتنا تؤسس الأمن والاحترام والرحمة وتسعى لإنقاذ النظام والأمن والحياة الاجتماعية من الفوضى والإرهاب. فخدمتنا ترسي ركائز وظيفتكم الحقيقية وتقويها وتؤيدها

 

[حول آثار سعيد القديم والجديد]

لقد اطلعت في هذه الأيام على الرسائل التي أتى بها "صلاح الدين" من إسطنبول وهي: "حبة، قطرة، شمة، حباب" وأمثالها من الرسائل باللغة العربية. فرأيت أن الحقائق التي شاهَدها مباشرةً سعيدٌ الجديد في سيره القلبي هي بمثابة نَوىً لرسائل النور. علما أن هذه الرسائل -علاوة على "شعلة وزهرة" هي أجزاء عربية من رسائل النور. ولكن ذُكرتْ فيها الحقائق بعبارات موجزة وبالعربية لأنها تخاطب نفسي بالذات فلم يُتخذ غيرها بنظر الاعتبار. وقد قدّرها بإعجاب واستحسان في ذلك الوقت كلٌّ من شيخ الإسلام وأعضاءِ دار الحكمة الإسلامية وكبار علماء إسطنبول. فهذه الرسائل لأنها من آثار سعيد الجديد فهي أجزاء من رسائل النور. أما آثار سعيد القديم فإن كتاب "إشارات الإعجاز" يتبوأ موقعا مهما فيها.

ثم إن رسالة "اللوامع" التي اشترك السعيدان في تأليفها بين هلالَي شهر رمضان، والتي اتخذت شكلا شبيها بالمنظوم -خارج إرادتي- هي الأخرى يمكن أن تدخل ضمن رسائل النور. إلاّ أنني -مع الأسف- لم أتمكن من الحصول ولو على نسخة منها حيث نفدت نسخها المطبوعة لكثرة الإقبال عليها.

وكذا فإن لسعيد القديم رسالة "قزل إيجاز" في المنطق وهي مترشحة من رسالة "تعليقات" غير المطبوعة، وهي رسالة بديعة في المنطق حتى تحير منها العلماء الفطاحل فساقتهم إلى الإعجاب والاهتمام. فرأيت أنها جديرة بلفت أنظار العلماء من طلاب رسائل النور إليها وبيان مدى ارتباطها برسائل النور. إلاّ أنها عميقة الغور جدا، وقد درّست "فيضي" منها في هذه الأيام. ولربما سيكتب "فيضي" ذلك الدرس بالتركية في الأيام المقبلة لإفادة الآخرين.

 

[دور الجوع في فتنة آخر الزمان]

إخوتى الأعزاء الأوفياء الثابتين ووارثيَّ الحقيقيين!

لقد أُخطر على قلبي في هذه الأيام -باسم طلاب رسائل النور- سؤال معنوي في غاية الأهمية والقلق. ثم أدركت أن أكثر ألسنة أحوال طلاب رسائل النور تسأل السؤال نفسه وستسأله. وفجأة ورد جوابٌ إلى الخاطر قلته لفيضي، فقال: في الأقل نسجله مجملا.

والسؤال المقلق هو: يفهم من الروايات أن الجوع سيؤدي دورا مهما في فتنة آخر الزمان هذه، وأن أهل الضلالة يحاولون بهذا التجويع إغراق أهل الإيمان الضعفاء الجائعين في متطلبات هموم العيش حتى ينسّوهم مشاعرهم الدينية أو يجعلوها في المرتبة الثانية أو الثالثة.

ولما كان لأهل الإيمان وللأبرياء من حيث القدر الإلهي وجهُ رحمةٍ ووجهُ عدالة في كل شيء، حتى في عذاب القحط. تُرى بأي طرز تكون هذه الرحمة والعدالة في هذا الأمر؟ ومن أية جهة يستفيد أهلُ الإيمان ولاسيما طلاب رسائل النور من هذه المصيبة -من حيث الإيمان والآخرة- وكيف يتصرفون معها ويقاومونها؟

الجواب: إن أهم سبب لهذه المصيبة هو العصيان النابع من كفران النعمة وعدم الشكر وعدم تقدير النعمة الإلهية حقَّ قدرها. لذا فإن العادل الحكيم لأجل إراءة اللذة الحقيقية لنعَمه ولاسيما الأغذية منها ولاسيما ما يخص الحياة ولاسيما النعمة الكبرى، الخبز.. ولبيان أهميته العظيمة ودرجته الفائقة من حيث النعمة، فإنه سبحانه يسوق الناس إلى الشكر الحقيقي -وفقا لحكمته تعالى- فتنـزل هذه المصيبة بالذين لا يشكرون ربهم ولا يراعون الرياضة الدينية في شهر رمضان. فعدلُه سبحانه وتعالى محض الحكمة.

إن مهمة أهل الإيمان وأهل الحقيقة ولاسيما طلاب رسائل النور هي السعي لجعل بلاء الجوع هذا وسيلة الالتجاء إلى الله والندم على الذنوب والتسليم لأمر الله، وكالجوع الذي يصيب المرء عند مزاولته الرياضة الدينية في شهر رمضان، والحيلولة دون فتح السبيل أمام التسول والسرقة والفوضى بحجة الضرورة، والسعي لدفع الزكاة إلى أولئك الفقراء الجائعين الذين لا يرأف بحالهم قسم من الأغنياء وبعض أهل المرتّبات، فيستمعوا لرسائل النور ويرأفوا بحالهم بشعورهم بهذا الجوع الاضطراري.. وجعل الشباب تلك الحادثة لصالحهم بدلا من أن تكون بلاءً عليهم وذلك باسترشادهم برسائل النور فيستفيدوا منها استفادة الغيارى، حيث تَحدّ المصيبةُ من طغيان نفوسهم وتَحول بينهم وبين نزواتها وأذواقها الدنيئة، حتى يدخلوا حظيرة الطاعة والخيرات، وينسحبوا -إلى حدٍ ما- من الذنوب والفحش بعدما أطغوا نفوسَهم بالأطعمة اللذيذة فأفقدوها وعيَها وساقوها إلى الطغيان والهوى الدنيء.. وأن ينظر أهلُ العبادة والصلاح إلى هذا البلاء النازل بهم كرياضة شرعية في هذا الوقت الذي أصبح أغلبُ الناس جياعا واختلط المال الحرام بالحلال اختلاطا شديدا حتى استحال تمييز أحده عن الآخر وأصبح بمثابة الأموال المشبوهة، فيقنعوا بمقدار الضرورة من الإعاشة العامة -التي يشترك فيها الجميع ضمنا- ليكون حلالا. فيقابلوا القدر الإلهي بالرضا بدلا من الشكوى.

تحياتي إلى الإخوة جميعا والمبتلين منهم خاصة وأدعو الله لهم بالسلامة.

 

[الالتحاق برسائل النور]

لقد أتى واعظ مشهور من إسطنبول لزيارتي إلاّ أنه عاد دون أن يتمكن من المقابلة. فها هي صورة رسالة أُرسلت إلى أحدهم، لعل هناك أشخاصا -كهذا الشخص- محتاجون إلى ذلك الخطاب.

إن طلاب رسائل النور الذين مروا بإسطنبول أخبرونا عن همتكم ونشاطكم ووعظكم المؤثر، فهم يرغبون في رؤيتكم ضمن دائرة رسائل النور وأنتم الشخص الثابت الخالص، وأنا كذلك أرغب بجد في أن أراكم ضمن دائرة رسائل النور.

تعلمون أن ألِفَين إذا ما كانتا متفرقتين لا تكون قيمتهما إلاّ اثنتين، بينما إذا اتّحدتا على خط واحد متكاتفتين تكون قيمتهما إحدى عشرة. فالخدمة الإيمانية التي تهيئونها بنصائحكم السديدة المؤثرة إذا ظلت وحدها فمن الصعب أن تقاوِم الهجماتِ المتحدة في الوقت الحاضر. بينما إذا التحقت بخدمة رسائل النور فستكون -كتلكما الألفين- قيمتها إحدى عشرة بل ألفا ومائة وإحدى عشرة وفي قوتها. وستقاوم الضلالات المتفقة المواجهة لها.

 

[الشخص المعنوي]

إن هذا الزمان -لأهل الحقيقة- زمانُ الجماعة، وليس زمانَ الشخصية الفردية وإظهارِ الفردية والأنانية. فالشخص المعنوي الناشئ من الجماعة هو الذي ينفّذ حكمُه ويصمد تجاه الأعاصير. فلأجل الحصول على حوض عظيم، ينبغي للفرد إلقاء شخصيته وأنانيته التي هي كقطعة ثلج في ذلك الحوض وإذابتُها فيه. وإلاّ فستذوب حتماً تلك القطعةُ من الثلج، وتذهب هباءً وتفوت الفرصة من الاستفادة من ذلك الحوض أيضاً.

إنه لمن العجب وموضع الأسف أن يضيِّع أهل الحق والحقيقة القوةَ العظمى في الاتفاق بالاختلاف فيما بينهم، بينما يتفق أهل النفاق والضلالة للحصول على القوة المهمة فيه -رغم اختلاف مشاربهم- فيغلبون تسعين بالمائة من أهل الحقيقة مع أنهم لا يتجاوزون العشرة بالمائة.

 

[شجاعة المضحين]

إخوتي الأعزاء الأوفياء!

الآن وقبل عشر دقائق أتاني شخصان بشجاعة وغيرة، وهما أميّان. قد جلب أحدهما الآخر إلى دائرة رسائل النور. فقلت لهما: إنه مقابل ما تمنح هذه الدائرةُ من نتائج عظيمة لكم يستدعي وفاءً لا يتزعزع وصلابة لا تلين. فإن أساس خدمة النور التي يظهرها أبطالُ إسبارطة هو وفاؤهم الخارق وصلابتهم الشديدة، وأن قوة الإيمان وخصلة الإخلاص هي سبب هذه الصلابة والمتانة. والسبب الثاني، الشجاعة الفطرية.

وقلت لهم: أنتم معروفون بالشجاعة والنُبل، وتُظهرون البسالة والتضحية لأمور دنيوية تافهة. فلاشك أنكم تحافظون على وفائكم في الخدمة السامية لرسائل النور ومقابلَ النتائج الأخروية التي لا تثمّن بإظهاركم صلابة الرجال الغيورين وشجاعةَ المضحين الفدائيين. قلت لهم هذا وقبلوه ورضوا به.

 

[لِمَ ينظرون إليك كأنك سياسي؟]

جواب لسؤال طرحه طلاب النور الذين

 يلازمون "الأستاذ" ويعاونونه في شؤونه.

سؤال: نحن نقوم بمعاونتكم في شؤونكم منذ مدة طويلة، فلم نر منكم اهتماما بالدنيا وتوجها إلى الحياة الاجتماعية والسياسة. فشغلكم الشاغل دروس الإيمان والآخرة. ولقد أدركنا أنكم على هذا الوضع منذ ثماني عشرة سنة خلت. فلماذا إذن ساقوكم إلى المحكمة وأثاروا الناس في إسبارطة دون داعٍ. ولم يجدوا في مائةٍ من رفقائكم أية علاقة تمس الدنيا والسياسة إلاّ حجة واهية تُخجلهم وتخجل محكمتهم إلى الأبد -بعد تحقيقات دامت أربعة أشهر- فحكموا على بضعة أشخاص بين المائة ببضعة أشهر. ثم إنكم لستّ سنوات وأكثر تحت مراقبة المخفر وأمام نظره فجميع أحوالكم ظاهرة دائما أمام المخفر من شبابيك غرفتكم. وإلى ما قبل شهرين أو ثلاث يترصدونكم سرا وعلنا وتحرّوا غرفتكم عدة مرات، لينفّروا عنكم الأصدقاء. فلماذا ينظرون إليكم نظرَ سياسي قدير مثير للقلاقل؟ فنحن حائرون من هذه الحالة فضلا عن تألمنا منها، ولم تتيسر زيارتكم بحرّية إلا منذ شهور فقط. حيث كنا سابقا نأتي خفية وبخوف. نرجو إيضاح هذه المسألة.

الجواب: وأنا في حيرة وعجب مثلكم بل أكثر منكم. فالجواب الواضح لسؤالكم هذا موجود في "اللمعة السابعة والعشرين" وهي لمعة الدفاع أمام المحكمة، وفي "المكتوب السادس عشر".

والآن أُبين باختصار أساسين اثنين:

الأساس الأول: إن من مقتضى وظيفة المسؤولين عن النظام والإدارة وشرطة الأمن، حفاظ مسلكنا والحث عليه، ناهيك عن الوقوع في الشكوك والريوب والأوهام، لأن الحجر الأساس لوظيفتهم الاحترام والرحمة ومعرفة الحلال والحرام. ويمكن أن يسود الأمن والنظام في الحياة الاجتماعية بدساتير الطاعة والانقياد. فرسائل النور تحقق هذه الأسس لدى نظرها إلى الحياة الاجتماعية، وقد ظهرت نتيجتُها فعلا. وحيث إن أهم مركزين لرسائل النور هما إسبارطة وقسطموني، فإن ضباط الأمن إذا ما دققوا بإنصاف سيرون معاونة رسائل النور الواضحة لهم، وذلك قياسا بسائر الولايات.

ثم إنه رغم كثرة طلاب رسائل النور، ورغم ما في أيديهم إلى هذا الحد من القوة والحق، لم يمسّوا الأمن والنظام بشيء، بل لم يخلّ ألف طالب منهم بالحياة الاجتماعية بقدر ما يخل به عشرة أشخاص آخرين. وإن هذا الأمر مشاهد لمن كان له قلب غير فاسد.

إن حكمة هذه المسألة هي أن الإيمان والشريعة والحياة ثلاث مسائل عظيمة في العالم الإسلامي والإنساني. وأعظم هذه الثلاثة هي الحقائق الإيمانية. ولأجل ألاّ تكون هذه الحقائق الإيمانية القرآنية أداة لتيارات أخرى ولقوىً أخرى، وللحيلولة دون التهوين من شأن الحقائق القرآنية التي هي بقيمة الألماس إلى قيمة قطع زجاجية متكسرة، ولأجل الإيفاء بالخدمة المقدسة التي هي إنقاذ الإيمان إيفاءً تاما ينفر طلاب رسائل النور الخواص الصادقون نفورا شديدا من السياسة.

حتى إن أخاكم هذا -وأنتم تعلمون- ومنذ ثمانية عشر عاما لم أُراجع الحكومة ولو لمرة واحدة وذلك لئلا أمسّ السياسة والحياة الاجتماعية رغم حاجتي إليها. وهذه الشهور التسعة التي خلَت لم أسأل ولو لمرة واحدة عمّا يدور على الكرة الأرضية من اضطرابات وقلاقل ولم أهتم بها ولم أرغب في معرفتها ولم أحاول أن أدير البحث حولها. حتى إنني لم أعرف لحد الآن هل انتهت الحرب أم لا ومن هم المحاربون عدا الإنكليز والألمان؟ وأنتم أعلم بهذا.

وأنتم المرافقون لي تعلمون كذلك، أنني لم أستمع إلى الراديو الذي يُسمَع من غرفتي منذ ثلاث سنوات -عدا مرتين- ذلك الجهاز الذي حوّل الناس إلى ثرثارين وحائرين غافلين، ولم أسأل عنه. فالذين يتعرضون لمسلك هذا الرجل الذي لا علاقة له بهذه الأوضاع إلى هذه الدرجة ولا ينظر إليها قطعا، ومن ثم تساورهم الشكوك حوله ويترصدونه ويضايقونه، كم هم بعيدون عن الإنصاف! يصدّق ذلك حتى أبعدهم عن الإنصاف.

المسألة الثانية:

إخواني! تعلمون أننا نهرب -في مسلكنا- من الأنانية والغرور وحب الذات والتطلع إلى نيل المقامات المتسترة بالشهرة، نهرب منها هروبنا من السم القاتل، ونتجنب كثيرا من كل ما يشعر بتلك الحالات.

فعلى سبيل المثال: لقد شاهدتم هنا بأم أعينكم طوال سبع سنوات وأدركتم بتحقيقاتكم وتتبعاتكم منذ عشرين سنة؛ أنني لا أريد إحراز احترام ونيل مقام لشخصي. ولقد نهرتُكم عن ذلك بشدة، وأستاء منكم إن منحتموني منـزلةً تفوق حدّي. فلا أقبل إلاّ صفة طالب لرسائل النور -التي هي معجزة معنوية للقرآن الحكيم في هذا الوقت- مرتبطٍ بها ارتباط تسليم لها وتصديق بها. والحمد لله والشكر له.

لذا فحتى البلهاءُ يدركون كم هو تافه ولا يعنى شيئا مساورةُ الشكوك والريوب أذهانَ أهل الحكومة والإدارة وأفراد الأمن، تجاه الذين اجتنبوا -إلى هذا الحد- الأنانيةَ والغرور والرياء المتستر تحت الصيت والشهرة وجعلوا هذا التجنب دستورا لحياتهم.

سعيد النورسي

 

[انتصار رسائل النور]

إخوتي الأعزاء الأوفياء الثابتين!

إن انتصار المبتلين انتصارا معنويا ببراءتهم في المحكمة، لم يدخل السرور والفرح في قلوبنا نحن وحدنا، بل أبهج أيضا جميعَ أهل الإيمان في البلاد، لأن هذه البراءة فتحت المجالَ لإطلاق نشر رسائل النور. فلقد اضطررنا إلى اتخاذ الحيطة والحذر لحد الآن، وذلك خشية المصادرة. فكنت أعاني من الصعوبات الجمّة في إخفاء الرسائل في غضون السنوات الثماني عشرة التي مرت ولاسيما في هذه السنوات الست هنا. وكنا نعاني جميعا من القلق والاضطراب على الرسائل.

فشكرا لله تعالى وحمدا وثناءً له بعدد حروف رسائل النور. فإن ظهورها المعنوي وتغلّبها في هذه المرة وهتكها لأستار الظلم والظلمات هيأ الأوساط لفتوحات واسعة وأجر عظيم بتعب قليل. فلقد أصبح هذان الشهران لفترة التوقف وسيلةً لانتشار رسائل النور بطراز آخر في أوسع محيط كما حدث في السجن.

نهنئكم يا إخوتي ولاسيما المبتَلين وبخاصة "الحافظ محمد" ونقول لهم: حمدا لله على السلامة. إن المحكمة التي زجت مائة من الأشخاص في الحبس ولمائة يوم لأجل رسالة واحدة وهي رسالة "الحجاب" لم تستطع أن تزج في السجن شخصا واحدا ليوم واحد ومعه مئات من الرسائل أمثالِ تلك الرسالة، وما ذلك إلاّ من إخلاصكم الخارق وصلابتكم التي لا تتزعزع وترابطكم الوثيق.

فقد ثبت لنا هذا قطعا ولم تبق لدينا أي شبهة فيه. ليرضَ الله عنكم أبدا. آمين.

 

[الحلول بين طلاب النور]

إخوتي الأعزاء الأوفياء!

نهنئكم بحلول الشهور الثلاثة المباركة التي تُكسبكم أكثر من ثمانين سنة من العمر المعنوي ولاسيما ليلة الرغائب -ليلة الجمعة الأولى من رجب- فإن لبراءتكم من المحكمة وظهوركم عليهم معنىً قد أوقع الظالمين في حيرة.

ولقد غيّروا خطتهم هنا؛ إذ بدأوا باسم الصداقة بالحلول بين طلاب رسائل النور الخواص -تاركين الهجوم العدائي- ليحملوهم على التخلف عن خدمة رسائل النور، فيوجِدون لهم مشاغل الوظائف أو يرفعون من مرتّبهم ويحوّلونهم إلى وظائف أخرى أو أية مشغلة أخرى.

فهناك وقائع كثيرة أمثال هذه هنا، يبدو أن هذا التعرض أكثر ضررا من ناحية.

 

[الرسائل بالحروف اللاتينية]

لقد دخلت رسالة مؤثرة من رسائل النور إلى المدرسة الإعدادية هنا، إذ سمحنا -بإذن معنوي- أن تكون بالحروف اللاتينية وبالآلة الطابعة، والرسالة تتضمن: الموقف الأول من الكلمة الثانية والثلاثين، واسمَي "العدل والحكم" من اللمعة الثلاثين، ورسالة الطبيعة -إلى الخاتمة- والآية الكبرى من المقام الأول إلى المرتبة الثامنة عشرة -مما سوى مرتبتي الوحي والإلهام- واجعلوا كذلك من هذه القطع الأربع من الرسائل مجلدا واحدا وبالحروف الجديدة واقذفوها قنبلة عظيمة على رؤوس أهل الإلحاد.

ولما كنت في هذه السنة في شدة العجز والضعف والشيخوخة، أرجو من إخوتي الشباب أن يعينوني معنويا بدعواتهم في هذه الشهور الثلاثة المباركة.

تحياتي إلى الاخوة جميعا فردا فردا وندعو لسلامتهم في الدارين.

سعيد النورسي

 

([1]) لعل المقصود:

 شكوتُ إلى وكيع سوء حفظي          فأرشدني إلى ترك المعاصي

وقــال: اعـــلـم بأن العــلـــمَ نــــورٌ     ونـورُ اللّٰه لا يؤتى لعــاصي!

([2]) أحمزها: (أقواها وأشدها). انظر: علي القاري، المصنوع 1/57؛ العجلوني، كشف الخفاء 1/175.

 

 

 

« Önceki Sayfa  | | Sonraki Sayfa »
Ekranı Genişlet