[التقوى والعمل الصالح]

إخوتي الأعزاء الأوفياء!

لقد فكرت -في هذه الأيام- في أسس التقوى والعمل الصالح، اللذين هما أعظم أساسين في نظر القرآن الكريم بعد الإيمان.

فالتقوى هي ترك المحظور والاجتناب عن الذنوب والسيئات. والعمل الصالح هو فعل المأمور لكسب الخيرات.

ففي هذا الوقت الذي يتسم بالدمار -الأخلاقي والروحي- وبإثارة هوى النفس الأمارة، وبإطلاق الشهوات من عقالها.. تصبح التقوى أساساً عظيماً جداً بل ركيزة الأسس، وتكسب أفضلية عظيمة حيث إنها دفع للمفاسد وترك للكبائر، إذ إن "درء المفاسد أولى من جلب المنافع" قاعدة مطردة في كل وقت.

وحيث إن التيارات المدمرة أخذت تتفاقم في هذا الوقت، فقد أصبحت التقوى أعظمَ أساس وأكبر سد لصد هذا الدمار الرهيب. فالذي يؤدي الفرائض ولا يرتكب الكبائر، ينجو بإذن الله، إذ التوفيق إلى عمل خالص مع هذه الكبائر المحيطة أمر نادر جداً، وإن عملاً صالحاً ولو كان قليلاً يغدو في حكم الكثير ضمن هذه الشرائط الثقيلة والظروف العصيبة.

ثم إن هناك نوعاً من عمل صالح ضمن التقوى نفسها، لأن ترك الحرام واجب والقيام بالواجب ثوابه أكثر من كثير من السنن والنوافل، ففي مثل هذه الأزمان التي تهاجم الذنوب والسيئات الإنسانَ من كل جانب يكون اجتنابُ أثمٍ واحد مع عمل قليل، بمثابة تركٍ لمئات من الآثام -التي تترتب على ذلك الإثم- وقيامٍ بمئات من الواجبات.

هذه النقطة جديرة بالاهتمام، ولا تحصل إلاّ بالنية الخالصة وبالتقوى وقصد الفرار من الآثام والذنوب، ويغنم المرء بها ثواب أعمال صالحة نشأت من عبادة لم يَصرِف فيها جهداً.

إن أهم وظيفة تقع على عاتق طلاب النور خدامِ القرآن الكريم، في هذا الوقت هي اتخاذُ التقوى أساساً في الأعمال كلها، ثم التحركُ وفقها أمام تيار الدمار الرهيب المهاجم والآثام المحيطة بهم، إذ يواجه الإنسان ضمن أنماط الحياة الاجتماعية الحاضرة مئات من الخطايا في كل دقيقة، فالتقوى هي التي تجعل -دون ريب- الإنسانَ كأنه يقوم بمئات من الأعمال الصالحة، وذلك باجتنابه تلك المحرمات.

من المعلوم أن عشرين شخصاً في عشرين يوماً لا يستطيعون بناء عمارة واحدة، في حين يستطيع أن يهدمها شخص واحد في يوم واحد. لذا فالذي يقوم بالهدم والدمار ينبغي أن يقابَل بعشرين ممن يبنون ويعمِّرون تلك النواحي، بيد أننا نرى العكس. فالألوف من الهدامين لا يقابلهم إلا معمِّر واحد وهو رسائل النور. فمقاومة خدام القرآن الكريم وحدهم تلك التخريبات المريعة إنما هي عمل خارق جداً. فلو كانت هاتان القوتان المتقابلتان على مستوى واحد من القوة، لكنت ترى في التعمير والبناء -الروحي والأخلاقي- خوارقَ وفتوحات عظيمة جداً.

ولنضرب مثلاً واحداً فقط: إن أعظم ركيزة في الحياة الاجتماعية هي توقير الصغير للكبير ورحمة الكبير للصغير، إلا أننا نرى أن هذا الأساس قد تصدع كثيراً، حتى إننا نسمع أخباراً مؤلمة جداً، وحوادث مفجعة جداً تجاه الآباء والأمهات، تقع من جراء خراب هذا الأساس الراسخ.

ولكن بفضل الله فإن الرسائل القرآنية أينما حلت قاومت الدمار، وحالت دون تهدم هذا الأساس الاجتماعي المتين، بل حاولت تعميره.

فكما يعيث يأجوج ومأجوج في الأرض الفساد بخراب سد ذي القرنين، فإن فسـاداً أبشع من فساد يأجوج ومأجوج قد دبّ في العـالم وأحاطه بظلمات الإرهاب والفوضى وعمت الحياة والأخلاق مظالم شنيعة وإلحاد شنيع.. فظهر الفساد في البر والبحر، نتيجة تزلزل السد القرآني العظيم، وهو الشريعة المحمدية الغراء.

لذا فإن الجهاد المعنوي لطلاب النور ضد هذا التيار الجارف يُعدّ -بإذن الله- جهاداً عظيم الثواب، إذ فيه قبس من جهاد الصحابة الكرام رضوان الله عليهم الذين يثابون بعملٍ قليل ثواباً عظيماً.

فيا إخوتي الأعزاء! في مثل هذه الأوقات العصيبة، وأمام هذه الأحداث الجسام، فإن أعظم قوة لدينا -بعد قوة الإخلاص- هي قوة "الاشتراك في الأعمال الأخروية" إذ يَكتب كلٌ منكم في دفتر أعمال إخوته حسناتٍ كثيرة مثلما يرسل بلسانه الإمداد والعون إلى قلعة التقوى وخنادقها. وإن أخاكم الفقير والعاجز هذا "السعيد" الذي اشتدت عليه غارات الهجوم من كل جهة، هو أحوج ما يكون إلى مساعدتكم في هذه الأشهر الثلاثة المباركة، وفي هذه الأيام المشهودة. ولا أستبعد هذا منكم قط، فأنتم أهل لهذا السعي، وأنتم الأبطال الأوفياء المشفقون على حال أخيكم، وأنا أطلب منكم هذا الإمداد المعنوي بكل جوارحي ومن صميم روحي.

وبدوري سأشرك الطلاب في دعواتي وحسناتي المعنوية، بل ربما أدعو لكم في اليوم أكثر من مائة مرة باسم طلاب النور، بشرط الالتزام بالإيمان والوفاء، وذلك دستور الاشتراك في الأعمال الأخروية.

 

[ترك فضول النفس]

إخوتي الأعزاء الأوفياء!

لمناسبة مجيء فرقة من الجيش إلى هذه الجهات أمس قال لي أمين: إن صلة روسيا قد انقطعت عن القفقاس. علما أنني لم أكن أعرف استمرار الروس في الحرب ولم أرغب في معرفته. فقطعتُ عليه الكلام. إلاّ أن قلبي أظهر اهتماما بالموضوع.

وفي هذا اليوم عند ما كنت في الصلاة وفي الأذكار التي أعقبتْها، ورد إلى القلب معنىً؛ أن الصراع الدائر في الكرة الأرضية بين التيارات المتحاربة ستميل إحداها إلى الإسلام والقرآن ورسائل النور وإلى مسلكنا لا محالة. فينبغي النظر إليه من هذه الزاوية. وعلى الرغم من أن الأسباب الداعية إلى عدم النظر إليه -والتي كتبتها في رسالتين سابقتين- كافية للقلب والعقل، إلاّ أنها لا تُشبع النفس المتلهفة للحوادث.

وخطر على القلب في الأذكار نفسها، أن سببه المهم هو تنبّه شعور الانحياز عند النظر إليه، حيث إن نظر المنحاز كليلٌ عن ذنوب من يميل إليه. فيرضى بظلمه بل قد يبتهج ويفرح ويرحّب به. والحال "كما أن الرضا بالكفر كفر كذلك الرضا بالظلم ظلم". فلاشك أن في هذا الصراع القائم على الكرة الأرضية مظالمَ ودمارا تبكي من هوله السماواتُ، إذ تَضيع وتفنى حقوقُ كثير من الأبرياء والمظلومين، لأن دستور المدنية الدنيّة الظالم هو: أنه يُضحَّى بالفرد لأجل الجماعة، ولا يُنظر إلى الحقوق الجزئية من أجل سلامة الأمة. وقد فتح هذا الدستورُ ميدان مظالمَ شنيعةٍ لم يُر مثلها حتى في القرون الأولى. بينما العدالة الحقيقية للقرآن المبين أنه لا يُفدى بحق الفرد لأجل الحفاظ على الجماعة، فالحق حق، لا ينظر إلى كثيره وقليله.

فهذا هو القانون السماوي والعدالة الحقة. لذا فالذين ينشغلون بحقائق القرآن كطلاب رسائل النور إن لم تكن هناك ضرورة فلا ينظرون إلى تلك الأمور لإشباع الفضول وحده، دون أن يجنوا فائدة ما. ولا يليق بهم الانشغال فكريا بمتابعة أعمال ذلك التيار، على أمل أن يخدم الإسلام والقرآن في النتيجة! حيث إن النتيجة لم تحصل، فلا داعي إلى تشجيع تخريباتهم الظالمة. وبهذا تبعت النفسُ العقلَ والقلبَ وتركتْ فضولَها... نعم، هكذا فهمتُ.

المسألة الثانية:

إن إحراز رسائل النور النصرَ في إسبارطة والغلبةَ فيها قد فاجأ الزنادقةَ وأذهلهم، لذا قام بعض هؤلاء الزنادقة المتمردين والمعاندين -ممن يحملون الروح الخبيثة وأفكارَ ذلك الشخص الذي ولّى ومات- سترا لهزيمتهم هذه بالهجوم على القرآن وعلى الرسولr من طرف خفي في مؤلّفٍ نشَره، واستعمل فيه هذا -المتسمى بالإسلام- كلمات ممجوجة غير لائقة -كالتي وردت في المناظرة مع الشيطان وحزبه- إذ جمع ما قاله أمثاله من اليهود والفلاسفة الملحدين والمتمردين في أوروبا وزنادقتها منذ سالف العصور من افتراءات على القرآن والرسول الكريم r.

ولأجل إسماع المسلمين الساذجين والذين لم يطّلعوا على رسائل النور مثلَ هذه الأمور وإراءتهم لها، فقد سلك هذا الزنديق بحذلقة وخبث مسلكا أخفى زندقته إخفاءً دقيقا بحيث سبق الشيطانَ في شيطنته. وتألمت كثيرا جدا من هذا، وقد وردت في رسالة أخينا صبري: أن الخُدَع والشباكات التي ينصبها الملحدون العنيدون -تجاه تيار رسائل النور- واهية جدا بل أوهن من بيت العنكبوت. فتلك الأستار الشيطانية التي يتسترون بها ضعيفة لا تقاوِم أبدا وستُهتَك أمام النور وتتمزق.. إن ما كتبه الزنديق العنيد المتمرد والروح الخبيثة للرجل الميت، هو لصالح القومية التركية في الظاهر، إلاّ أنه في الحقيقة قد نشر كتابه هذا للتهوين من الشأن العظيم والمرتبة الرفيعة للقرآن الكريم والرسول الكريم r، ألا خابَ ظنُّه، فلا يمكنه أن يكون كبيت العنكبوت تجاه المعجزات القرآنية والمعجزات الأحمدية بل يذوب ويتلاشى. ولكن يا للأسف وألف أسف وأسف! إنه يضر ضررا بالغا بالذين لم يطلعوا على رسائل النور كما أن الذين اطلعوا عليها قد يدفعهم الفضول فيقولون: تُرى ماذا فيه؟ فيعكرون صفو قلوبهم. وفي الأقل يورث الشكوك والأوهام.

فعلى طلاب رسائل النور الأبطال أن يكونوا متيقظين تجاه هذه الأمور ويزيدوا من نشاطهم، إذ الانشغال بالأمور الفاسدة فسادٌ أيضا، لذا أختصر هذه المسألة.

فحذار من الاهتمام به وإثارة الفضول لدى الناس. وليُعلم أنه مؤلَّف تافه سوى ما فيه من الأسماء المباركة ومعاني بعض الآيات الكريمة. وافهموا مدى تجاوز هذا الشخص حدّه من المثال الآتي:

مثال: إن نظر أبله إلى مجلس بعيد جدا يحضره علماء مدققون متخصصون، يدققون كتابا ويتلقون الدرس من أستاذ قدير. فإذا ما أصدر هذا الأبله حكمه منتقدا هذا المجلس وهؤلاء العلماء، فإن عمله هذا هذيان ليس إلاّ.

اللّٰهم احفظ أهل الإيمان وطلاب رسائل النور من أمثال هؤلاء. آمين

سعيد النورسي

 

[عاونونا بأدعيتكم]

إخوتي الأعزاء الأوفياء!

إنه بعد تغلّب ثباتكم العظيم وإخلاصكم التام وبعد دفع تلك المصيبة، فقد غيّر أهلُ الدنيا خططهم في المجابهة؛ إذ بدأوا -بمكايد الزنادقة- بتحشيد قواهم المادية والمعنوية في هذه المناطق تجاهنا خفية، فهم يتحركون بدقة متناهية ويحاولون بشيطنة خبيثة للإخلال بالتساند والترابط الوثيق الذي هو القوة الحقيقية لطلاب رسائل النور. ففي الوقت الذي أعادوا إليكم الرسائل يحيكون مؤامرات خفية بخبث. وعلى الرغم من أننا نُعدّ شعبة منكم فإنهم يحسبوننا كأننا الأصل والمركز، لذا يجرون علينا دسائسهم بشكل مكثف، ولكن الحافظ الحقيقي هو رب العالمين. وبإذنه تعالى لن يقدروا على إلحاق أي ضرر كان.. ولكن عاوِنونا يا إخوتي بأدعيتكم الخالصة في أيام الشهور المباركة ولياليها المباركة.

ولا شيء يُذكر هنا.. ولكن عليكم بالحذر قدر المستطاع...

 

[حوار مع فريق من الشباب]

جاءَني -ذات يوم- فريق من الشباب، يتدفقون نضارةً وذكاءً، طالبين تنبيهاتٍ قويةً وإرشاداتٍ قويمةً تقيهم من شرورٍ تتطاير من متطلبات الحياة ومن فتوّة الشباب ومن الأهواء المحيطة بهم.

فقلت لهم بمثل ما قلته لأولئك الذين طلبوا العون من رسائل النور:

اعلموا أن ما تتمتعون به من ربيع العمر ونضارة الحياة ذاهبٌ لا محالة، فإن لم تُلزموا أنفسكم بالبقاء ضمن الحدود الشرعية، فسيضيع ذلك الشباب ويذهب هباءً منثورا، ويَجرّ عليكم في الدنيا وفي القبر وفي الآخرة بلايا ومصائبَ وآلاما تفوق كثيرا ملذات الدنيا التي أذاقكم إياها.. ولكن لو صرفتم ربيع عمركم في عِفّة النفس وفي صَوْنِ الشرف وفي طاعة ربكم بتربيته على الإسلام، أَداءً لشكر الله تعالى على ما أَنْعَمَ عليكم من نعمة الفتوة والشباب، فسيبقى ويدوم ذلك العهدُ معنىً، وسيكون لكم وسيلة للفوز بشباب دائم خالد في الجنة الخالدة.

فالحياة، إن كانت خاليةً من الإيمان، أو فَقَدَ الإيمانُ تأثيرَه فيها لكثرة المعاصي، فإنها مع متاعها ولذتها الظاهرية القصيرة جدا تُذيق الآلامَ والأحزان والهموم أضعافَ أضعاف تلك المتع والملذات، ذلك لأن الإنسان -بما مُنح من عقل وفكر- ذو علاقة فطرية وثيقة بالماضي والمستقبل فضلا عما هو عليه من زمان حاضر حتى إنه يتمكنُ من أن يذوق لذائذ تلك الأزمنة ويَشعر بآلامها، خلافا للحيوان الذي لا تعكر صَفْوَ لذتِه الحاضرةِ الأحزانُ الواردة من الماضي ولا المخاوفُ المتوقعة في المستقبل، حيث لم يُمنح الفكرَ.

ومن هنا فالإنسان الذي تَردَّى في الضلالة وأَطبقتْ عليه الغفلةُ تَفسد متعتُه الحاضرة بما يَردُه من أحزان من الماضي، وما يرِده من اضطرابٍ من القلق على المستقبل. فتتكدر حياتُه الحاضرة بالآلام والأوهام، سـيَّما الملذاتُ غير المشروعة، فهي في حكم العسل المسموم تماما.

أَي إنّ الإنسان هو أَدنى بمائة مرة من الحيوان من حيث التمتع بملذات الحياة. بل إن حياة أرباب الضلالة والغفلة، بل وجودهم وعالَمهم، ما هو إلاّ يومُهم الحاضر، حيث إنّ الأَزمنة الماضية كلَّها وما فيها من الكائنات معدومة، ميتة، بسبب ضلالتهم، فترِدهم من هناك حوالكُ الظلمات..!

أما الأزمنة المقبلة فهي أيضا معدومة بالنسبة إليهم، وذلك لعدم إيمانهم بالغيب. فتملأُ الفراقات الأَبدية -التي لا تنقطع- حياتَهم بظلمات قاتمة، ما داموا يملكون العقل جاحدين بالبعث والنشور.

ولكن إذا ما أصبح الإيمان حياةً للحياة، وشعّ فيها من نوره، استنارت الأزمنة الماضية واستضاءت الأزمنة المقبلة، وتجدان البقاءَ وتمدان روحَ المؤمن وقلبَه من زاوية الإيمان، بأَذواق معنوية سامية وأَنوار وجودية باقية، بمثل ما يمدّهما الزمن الحاضر.

هذه الحقيقة موضحة توضيحا وافيا في "الرجاء السابع" من رسالة "الشيوخ" فليُراجع.

هكذا الحياة.. فإن كنتم تريدون أَنْ تستمتعوا بالحياة وتلتذوا بها فأحيوا حياتكم بالإيمان وزيّنوها بأداء الفرائض، وحافظوا عليها باجتناب المعاصي.

أما حقيقة الموت التي تُطلعنا على أهوالها الوفياتُ التي نشاهدها كل يوم في كل مكان، فسأبينها لكم في مثال، مثلما بينتُها لشبان آخرين من أمثالكم.

تصوروا ههنا -مثلا- أعوادا نُصبت أمامكم للمشنقة، وبجانبها دائرةٌ توزع جوائزَ سخيةً كبرى للمحظوظين.. ونحن الأشخاص العشرة هنا سنُدعى إلى هناك طوعا أو كرها. ولكن لأَنَّ زمان الاستدعاء مخفي عنّا، فنحنُ في كل دقيقة بانتظار مَن يقول لكلٍ منا: تعالَ.. تَسلّم قرار إعدامك، واصعد المشنقة!. أو يقول: تعالَ خذ بطاقة تربحك ملايين الليرات الذهبية.!

وبينا نحن واقفون منتظرون، إذا بشخصين حضرا لدى الباب. أحدهما امرأة جميلة لعوب شبه عارية تحمل في يدها قطعة من الحلوى، تقدّمها إلينا تبدو أنها شهية، ولكنها مسمومة في حقيقتها.

أما الآخر فهو رجل وقور كيّس -ليس خِبا ولا غِرّا- دخل على إثْرِ تلك المرأة وقال: لقد أتيتكم بِطلْسمٍ عجيب، وجئتكم بدرس بليغ، إذا قرأتم الدرس ولم تأكلوا من تلك الحلوى، تنجون من المشنقة، وتتسلَّمون -بهذا الطلسم- بطاقةَ تلك الجائزةِ الثمينة.. فها أنتم أُولاء ترون بأُم أَعينكم أَن مَن يأكل تلك الحلوى، يتلوّى من آلام البطن حتى يصعد المشنقة.

أما الفائزون ببطاقة الجائزة، فمع أنهم محجوبون عنّا، ويبدون أنهم يصعدون منصّة المشنقة إلاّ أَنَّ أكثر من ملايين الشهود يخبرون بأَنهم لم يُشنَقوا، وإنما اتخذوا أَعواد المشنقة سُلّما للاجتياز بسهولة ويسر إلى دائرة الجوائز.

فهيا انظروا من النوافذ، لتروا كيف أَنَّ كبار المسؤولين المُشرِفين على توزيع تلك الجوائز ينادون بأَعلى صوتهم قائلين:

"إنّ أَصحاب ذلك الطِّلْسم العجيب قد فازوا ببطاقة الجوائز.. اعلموا هذا يقينا كما رأيتم بعين اليقين أُولئك الذاهبين إلى المشنقة، فلا يساوِرنَّكم الشكُّ في هذا، فهو واضح وضوح الشمس في رابعة النهار".

وهكذا على غرار هذا المثال:

فإنَّ مُتع الشباب وملذاته المحظورةَ شرعا كالعسل المسموم.. وَغَدَا الموتُ لدى الذي فقَدَ بطاقةَ الإيمان التي تُربحه السعادةَ الأَبدية كأَنَّه مشنقة، فينتظر جَلّاد الأَجل الذي يمكن أَنْ يحضر كلَّ لحظة -لخفاء وقته عنا- ليقطع الأعناق دون تمييز بين شاب وشيخ.. فيُرديه إلى حفرة القبر الذي هو باب لظلماتٍ أَبدية كما هو في ظاهره..

ولكن إذا ما أَعرض الشاب عن تلك الملذات المحظورة الشبيهة بالعسل المسموم وضرب عنها صفحا، وبادر إلى الحصول على ذلك الطلسم القرآني وهو الإيمان وأَداءُ الفرائض، فإنَّ مائةً وأربعةً وعشرينَ ألفا من الأنبياء عليهم السلام، وما لا يُعدُّ ولا يُحصى من الأولياء الصالحين والعلماء العاملين يخبرون ويبشّرون بالاتفاق مظهرين آثارَ ما يخبرون عنه بأَنَّ المؤمن سيفوز ببطاقة تُكسبه كنوزَ السعادة الأَبدية.

حاصل الكلام: إن الشباب سيذهب حتما وسيزول لا محالة؛ فإن كان قد قضى في سبيل الملذات ونشوة الطيش والغرور؛ فسيورث آلاف البلايا والآلام والمصائب الموجعة سواء في الدنيا أو الآخرة.

وإن كنتم ترومون أَنْ تفهموا بأن أمثال هؤلاء الشباب سيؤول حالُهم في غالب الأمر إلى المستشفيات، بسبب تصرفاتهم الطائشة وإسرافاتهم وتعرضهم لأمراض نفسية.. أو إلى السجون وأماكن الإهانة والتحقير، بسبب نـزواتهم وغرورهم.. أو إلى الملاهي والخمّارات بسبب ضِيْقِ صدورهم من الآلام والاضطرابات المعنوية والنفسية التي تنتابهم.. نعم، إنْ شئتم أنْ تتيقنوا من هذه النتائج فاسأَلوا المستشفياتِ والسجونَ والمقابرَ.. فستسمعون بلا شك من لسان حال المستشفيات الأَنّات والآهات والحسرات المنبعثة من أمراض نَجَمَتْ من نـزوات الشباب وإسرافهم في أمرهم.. وستسمعون أيضا من السجون صيحات الأسى وأصوات الندم وزفرات الحسرات يطلقها أولئك الشبان الأَشقياء الذين انساقوا وراءَ طيشهم، وغرورهم فتلقّوا صفعة التأديب لخروجهم على الأَوامر الشرعية، وستعلمون أيضا أَنَّ أكثرَ ما يُعذَّب المرءُ في قبره -ذلك العالم البرزخي الذي لا تهدأ أبوابُه عن الانفتاح والانغلاق لكثرة الداخلين فيه- ما هو إلاّ بما كسبت يداه من تصرفات سيئة في سِنِيِّ شبابه، كما هو ثابت بمشاهدات أهل كشف القبور، وشهادة جميع أهل الحقيقة والعلم وتصديقهم.

واسألوا -إنْ شئتم- الشيوخ والمرضى الذين يمثلون غالبية البشرية، فستسمعون أنَّ أكثريتهم المطلقة يقولون:

"وا أَسَفَى على ما فات! لقد ضيعنا ربيعَ شبابنا في أمور تافهة، بل في أمور ضارة! فإياكم إياكم أَنْ تُعيدوا سيرتَنا، وحَذارِ حَذارِ أن تفعلوا مثلَنا!".

ذلك لأَنَّ الذي يُقاسي سنواتٍ من الغمِّ والهمِّ في الدنيا، والعذابَ في البرزخ، ونارَ سَقَرَ في الآخرة، لأجل تمتع لا يدوم خمسَ أو عَشْرَ سنوات من عمر الشباب بملذات محظورة.. غيرُ جدير بالإشفاق، مع أَنَّه في أَشدّ الحالات استدرارا للشفقة والرثاء؛ لأَنَّ الذي يرضى بالضرر وينساق إليه طوعا، لا يستحق الإشفاق عليه ولا النَظرَ إلى حاله بعين الرحمة، وِفْقَ القاعدة الحكيمة: "الراضي بالضرر لا يُنظر له".

حفظنا الله وإياكم من فتنة هذا الزمان المغرية ونجّانا من شرورها..

آمِينَ

 

[حقيقة تقطع دابر الاعتراضات]

إخوتي الأعزاء الأوفياء طلاب رسائل النور!

لقد اضطررت إلى بيان حقيقة تقطع دابر الاعتراضات التي تضر بالضعفاء من طلاب رسائل النور بمثل اعتراض الشيخ الذي لا يخطر على بال.

أكرر مرة أخرى ما قلته لأحدهم: إنه لمن الأسف والعجب والحيرة أن يضيّع أهلُ الحقيقة القوةَ الخارقة في الاتفاق، فيُغلَبون على أمرهم، بينما يتفق أهلُ النفاق والضلالة -رغم اختلاف مشاربهم- للحصول على قوة ذات أهمية في الاتفاق. ومع أنهم لا يتجاوزون عشرة بالمائة إلاّ أنهم يغلِبون التسعين بالمائة من أهل الحقيقة.

وإن أكثر ما يثير العجب ويزيد الحيرة هو أننا بينما كنا ننتظر العون الكبير والحث العظيم منهم، وهم المكلفون بهذه المعاونة إسلاميا ومسلكا وأداءً للواجب الديني، نجدهم لا يمدون يدَ المعاونة إلينا، بل بدأ الشيخ بالاعتراض بناء على فهم خطأ بما يورث الفتور لدى طلاب رسائل النور مستندا إلى أهمية موقعه الاجتماعي. فاعترض على إيضاحات تخص حقيقة.

إنني لا اعرف أية مسألة قد اعتُرض عليها ولأية آية كريمة تخص. ولعلها تخصّ مسألة من رسالة الإشارات القرآنية المسماة بـ"الشعاع الأول" الذي اتخذناه رسالة خاصة جدا وسرية.

فأخوكم هذا العاجز يبين لذلك الصديق الفاضل القديم ولأهل العلم ولكم كذلك ما يأتي:

إن سعيدا الجديد -بفيض القرآن المبين- يذكر من البراهين المنطقية والحقيقية الكثيرة التي تخص الحقائق الإيمانية بحيث لا يلجئ علماءَ الإسلام إلى التسليم وحدَهم بل حتى أعتى فلاسفة أوروبا العنيدين أيضا.

إنه من شأن القرآن الكريم وإعجازه العظيم ومن مقتضى البلاغة المعجزة للسان الغيب، أن تَرِد فيه رموزٌ وإيماءات لجلب الأنظار إلى رسائل النور -التي هي معجزته المعنوية في هذا الزمان- بمثل إخبارات الإمام علي رضي الله عنه والشيخ الكيلاني قدس سرّه الواردة بطرزٍ إشاري ورمزي حول أهمية رسائل النور وقيمتها.

نعم، ففي سجن "أسكي شهر" وفي وقت رهيب حيث كنا أحوج ما نكون إلى سلوان قدسي خطر على القلب ما يأتي: إنك تبين شهوداً من كلام الأولياء السابقين على أحقية رسائل النور وقبولها بينما بمضمون الآية الكريمة: ﴿وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ﴾(الأنعام:59). فإن صاحب الكلام في هذه المسألة هو القرآن الكريم. فهل يَقبل القرآن الكريم ويرضى بـرسائل النور؟ وكيف ينظر إليها؟

واجهتُ هذا السؤال العجيب، واستمددت من القرآن الكريم، وإذا بي أشعر في ظرفِ ساعةٍ أن رسائل النور فردٌ داخل ضمنِ كليّةِ المعنى الإشاري الذي يمثل طبقة واحدة من طبقات التفرعات للمعنى الصريح لثلاث وثلاثين آية كريمة، وعرفتُ قرينة قوية على دخولها في ذلك المعنى وتخصيصها، فشاهدتُ قسماً منها بشيء من الوضوح وقسماً آخر مجملاً. فلم تبق في قناعتي أيّة شبهة وشك ووهم ووسوسة. وأنا بدوري دوّنتُ قناعتي القاطعة تلك وأعطيتها إخوتى الخواص على شرط سرّيّتها بنية الحفاظ على إيمان أهل الإيمان برسائل النور. فنحن لا نقول في تلك الرسالة: إن المعنى الصريح للآية الكريمة هو هذا، حتى يقول العلماء: فيه نظر! ولم نقل فيها: إن كلية المعنى الإشاري هي هذه. بل نقول: إن تحت المعنى الصريح للآية الكريمة طبقات متعددة من المعاني، إحدى هذه الطبقات هي المعنى الإشاري والرمزي. فهذا المعنى الإشاري أيضاً هو كليّ له جزئيات في كل عصر. فـرسائل النور فردٌ في هذا العصر من أفرادِ كليةِ طبقة المعنى الإشاري ذاك. وقد جرى بين العلماء منذ القدم دستور حساب الجُمّل والجفر -حساب الأبجدية- لإيجاد القرائن والحجج، فهذا الطرز من الحساب لا يخدش الآية الكريمة ولا يجرح معناها الصريح، بل قد يكون وسيلة لبيان إعجاز القرآن وعظمة بلاغته. فلا اعتراض على هذه الإشارات الغيبية، إذ الذي لا يستطيع إنكار ما لا يعد ولا يحصى من استخراجات أهل الحقيقة من الإشارات القرآنية التي لا تحصى، لا ينبغي له أن ينكر هذا بل لا يمكنه ذلك.

أما استغراب ذلك المعترض واستبعاده ظهورَ مثل هذا السفر النفيس -رسائل النور- من رجل اعتيادي غير ذي بال، فإنه إذا ما فكّر بالدليل على عظمة القدرة الإلهية التي تخلق شجرةً ضخمة من بُذيرة الصنوبر. فلاشك أنه يضطر إلى قبول ظهور مثل هذا الأثر، ممن هو في العجز المطلق والفقر المطلق وفي ظرف الحاجة الشديدة مثل هذا الوقت دليلا على الرحمة الإلهية الواسعة.

إني أُطَمئنكم وأُطمئن المعترضين -بالشرف الرفيع لرسائل النور- أن هذه الإشارات وإخبارات ورموز الأولياء ذات الإيماءات قد ساقتني دائما إلى الشكر والحمد لله وإلى الاستغفار من ذنوبي. ولم يحصل أنْ أورثتْ ما يمكن أن يكون مدار فخر وغرور وأنانية للنفس الأمارة بالسوء في أي وقت كان. ولا في أية دقيقة كانت. وأثبتُّ ذلك بترشحات حياتي الماثلة أمامكم منذ عشرين سنة.

وفضلا عن هذه الحقيقة فإن الإنسان لا يخلو من القصور والنسيان والسهو، فلي ذنوبٌ كثيرة أجهلها. وربما قد تدخّل فكري وأوجد أخطاءً في الرسائل.

ولكن هذا المعترض لا يبالي بتغير الحروف القرآنية المقدسة إلى حروف أخرى ناقصة، وقيامهم بوضع ترجمة بشرية ناقصة للقرآن الكريم ومحرّفة ومملوءة بالتأويلات الفاسدة لأهل الضلالة والتي خدشت معاني الآيات الصريحة للقرآن... لا يبالي بهذا ولكنه يركّز نظرَه على شخص ضعيف مظلوم بيّنَ نكتةً إعجازية ليقوّي بها إيمانَ إخوته، فيعترضُ عليه بما يورث الفتور لخدمة الإيمان. علما أن نقطة اعتراضه لا يمكن أن يعترض عليها من كان يملك ذرة من الإنصاف.

وإنه لمن دواعي حيرتي وعجَبي أن ذلك المعترض الفاضل هو تلميذُ أستاذٍ من أساتذتي القديرين في السلسلة العلمية وهو "الشيخ فهيم". وهو أحد طلاب الإمام الرباني رضى الله عنه الذي أرتبطُ به أشد ارتباط، فكان عليه أن يسعى أكثر من غيره لمعاونتي بكل ما لديه من قوة، دون الالتفات إلى ذنوبي وحياتي الماضية المتداخلة المضطربة وإلى انفعالاتي، إلاّ أن اعتراضه مع الأسف قد أورث -كما سمعنا- الفتور لدى بعض أصدقائنا الضعفاء، وسلّم بيد أهل الضلالة ما يشبه الحجة.

إننا ننتظر من ذلك الشيخ الفاضل تلافيَ سوء الفهم هذا والسعيَ لتعميره، ونأمل معاونته لنا بدعواته ونصائحه البليغة المؤثرة. علاوة على ذلك أُبين ما يأتي:

في هذا الوقت الذي يبدو في الظاهر انحسارُ وتقهقر تلك المشارب والمسالك الحقة القوية جدا -والتي ينضوي تحت لوائها الملايينُ من المؤمنين المستعدين لكل تضحية- أمام الهجوم العنيف لهذه الضلالة. تحمّلتْ رسالة النور جميع تلك الهجمات، وحملت على عاتقها الأعباءَ كافة فشقّت طريقَها سابقةً الجميعَ في طريق الإيمان. لذا، لا يمكن أن تُسنَد هذه الرسائلُ إلى رجل عاجز نصف أمّي قضى حياته بين المنفى والسجن وتحت رقابة سلطات الدولة، وقيامُها بتنفير الناس من حوله بالدعايات المغرضة. فمثل هذا الرجل لا يمكن أن يكون مالكا لها. ولا يمكن أن يفتخر بها أو يدّعيها، فهي ليست نابعةً من ذكائه ومهارته، بل هي معجزةٌ من معجزات القرآن الكريم لهذا الزمن وهبَتها الرحمةُ الإلهية. وكل ما في الأمر أن هذا الرجل وآلافا من أصدقائه قد مدّوا أيديهم إلى تلك الهدية الغالية النفيسة، فوقع الخيار عليه في بيانها.

والدليل على أن الرسائل ليست من بنات أفكاره أن هناك من الرسائل ما قد كُتبت في ست ساعات وأخرى في ساعتين، وبعضها في ساعة واحدة وأخرى في عشر دقائق.

فأنا أقسم أنه لو كان لي حدّة ذكاء سعيد القديم وقوة حافظته لَمَا تمكنتُ أن أكتب في عشر ساعات ما كُتب آنذاك في عشر دقائق ولا يمكنني أن أكتب في يومين ما كُتب في ساعة.

فالرسالة التي تبحث في ماهية "أنا" (الذات الإنسانية) والتي كُتبت في ست ساعات لا يمكن أن تكتب لا من قبلي ولا من قبل الفلاسفة والعباقرة الباحثين، في ستة أيام. وهكذا.

فنحن إذن مع أننا مفلسون ليس لنا شيء. إلاّ أننا أصبحنا خدّاما ودلالين في معرض أغلى المجوهرات.

نسأل المولى الكريم أن يوفقنا وجميع طلاب رسائل النور -بفضله وكرمه- في هذه الخدمة بإخلاص تام. آمين.

 

 

 

« Önceki Sayfa  | | Sonraki Sayfa »
Ekranı Genişlet