بيان موجز لإعجاز القرآن([1])

رأيت في الماضي فيما يرى النائم: أنني تحت جبل "آرارات". انفلق الجبل على حين غرة، وقذف صخورا بضخامة الجبال إلى أنحاء العالم، فهزّ العالم وتزلزل.

وفجأةً وقف بجنبي رجل، قال لي: بيِّن بإيجازٍ ما تعرفه مجملا من أنواع الإعجاز.. إعجازِ القرآن.

فكرتُ في تعبير الرؤيا، وأنا ما زلت فيها وقلت:

إن ما حدث هنا من انفلاق مثالٌ لما يحدث في البشرية من انقلاب، وسيكون هدى القرآن بلا ريب عاليا ومهيمنا في هذا الانقلاب. وسيأتي يوم يبين فيه إعجازه.

أجبتُ ذلك السائل قائلا: إن إعجاز القرآن يتجلى من سبعة منابع كلية، ويتركب من سبعة عناصر.

المنبع الأول: سلاسة لسانه من فصاحة اللفظ؛ إذ تنشأ بارقة بيانه من جزالة النظم، وبلاغة المعنى، وبداعة المفاهيم، وبراعة المضامين، وغرابة الأساليب. فيتولد نقش بياني عجيب، وصنعة لسان بديع، من امتزاج كل هذه في نوع إعجاز لا يملّ الإنسان من تكراره أبدا.

أما العنصر الثاني: فهو الإخبار السماوي عن الغيوب في الحقائق الغيبية الكونية والأسرار الغيبية للحقائق الإلهية. فمن أمور الغيب المنطوية في الماضي، ومن الأحوال المستترة الباقية في المستقبل تنشأ خزينة علم الغيوب. فهو لسان عالم الغيوب يتكلم مع عالم الشهادة في أركان "الإيمان" يبينها بالرموز، والهدف هو نوع الإنسان، وما هذا إلاّ نوع من لمعة نورانية للإعجاز.

أما المنبع الثالث فهو: أنَّ للقرآن جامعية خارقة من خمس جهات: في لفظه، في معناه، في أحكامه، في علمه، في مقاصده.

لفظه: يتضمن احتمالات واسعة ووجوها كثيرة بحيث إن كل وجهٍ تستحسنه البلاغة، ويستصوبه علم اللغة العربية، ويليق بسر التشريع.

في معناه: لقد أحاط ذلك البيان المعجز بمشارب الأولياء وأذواق العارفين ومذاهب السالكين، وطرق المتكلمين، ومناهج الحكماء، بل قد تضمن كلَّها. ففي دلالاته شمولٌ وفي معناه سعة.

فما أوسع هذا الميدان إن أطللت من هذه النافذة!.

الاستيعاب في الأحكام: هذه الشريعة الغراء قد اُستنبطتْ منه، إذ قد تضمن طرازُ بيانه جميعَ دساتير سعادة الدارين، ودواعي الأمن والاطمئنان، وروابط الحياة الاجتماعية، ووسائل التربية، وحقائق الأحوال.

استغراق علمه: لقد ضم ضمن سُورِ سُوَره العلومَ الكونية والعلوم الإلهية، مراتبَ ودلالاتٍ ورموزا وإشارات.

في المقاصد والغايات: لقد راعى الرعايةَ التامة في الموازنة والاطراد والمطابقة لدساتير الفطرة، والاتحاد في المقاصد والغايات، فحافظ على الميزان.

وهكذا الجامعية الباهرة في إحاطة اللفظ وسعة المعنى واستيعاب الأحكام واستغراق العلم وموازنة الغايات.

أما العنصر الرابع: فإفاضته النورانيةَ حسب درجة فهمِ كلِّ عصر، ومستوى أدب كل طبقة من طبقاته وعلى وفق استعدادها ورتب قابليتها.

فبابُه مفتوح لكل عصر ولكل طبقة من طبقاته، حتى كأن ذلك الكلام الرحماني ينـزل في كل مكان في كل حين.

فكلما شاب الزمان شبّ القرآنُ وتوضحت رموزه، فذلك الخطيب الإلهي يمزق ستار الطبيعة وحجاب الأسباب فيفجّر نورَ التوحيد من كل آية، في كل وقت. رافعا راية الشهادة شهادة التوحيد على الغيب.

إن علو خطابه يلفت نظر الإنسان ويدعوه إلى التدبّر؛ إذ هو لسان الغيب يتكلم بالذات مع عالم الشهادة.

يُخلَص من هذا العنصر: أن شبابيته الخارقة شاملة محيطة، وأنسيته جعلته محبوب الإنس والجان، وذلك بالتنـزلات الإلهية إلى عقول البشر لتأنيس الأذهان، والمتنوعة بتنوع أساليب التنـزيل.

أما المنبع الخامس: فنُقولُه وأخبارُه في أسلوب بديع غزير المعاني، فينقل النقاط الأساس للأخبار الصادقة كالشاهد الحاضر لها. ينقل هكذا لينبّه بها البشر.

ومنقولاته هي الآتية: أخبار الأولين وأحوال الآخرين وأسرار الجنة والجحيم، حقائق عالم الغيب، وأسرار عالم الشهادة، والأسرار الإلهية والروابط الكونية. تلك الأخبار المشاهَدة شهود عيان حتى انه لا يردّها الواقع ولا يكذّبها المنطق بل لا يستطيع ردّها أبدا ولو لم يدركها.

فهو مطمَح العالم في الكتب السماوية، إذ ينقل الأخبار عنها مصدّقا بها في مظان الاتفاق، ويبحث فيها مصححا لها في مواضع الاختلاف.

ألا إنه لمعجزة هذا الزمان أن يصدر مثل هذه الأمور النقلية من "أميّ"!

أما العنصر السادس: فهو أنه مؤسس دين الإسلام ومتضمنه. ولن تجد مثل الإسلام إن تحريت الزمان والمكان، لا في الماضي ولا في المستقبل. إنه حبل الله المتين، يمسك الأرض لئلا تفلت، ويديرها دورانا سنويا ويوميا. فلقد وضع وَقارَه وثقله على الأرض، وساسها وقادها وحال بينها وبين النفور والعصيان.

أما المنبع السابع: فإن الأنوار الستة المفاضة من هذه المنابع الستة يمتزج بعضها مع بعض، فيَصدر شعاعُ حُسنٍ فائق، ويتولد حدس ذهني، وهو الوسيلة النورانية.

والذي يصدر عن هذا: ذوق، يُدرَك به الإعجاز.

لساننا يعجز عن التعبير عنه، والفكر يقصر دونه.

فتلك النجوم السماوية تُشاهَد ولا تُستمسك.

طوال ثلاثة عشر قرنا من الزمان يحمل أعداءُ القرآن روح التحدي والمعارضة..

وتولدت في أوليائه وأحبائه.. روحُ التقليد والشوق إليه.

وهذا هو بذاته برهان للإعجاز،

إذ كُتبت من جراء هاتين الرغبتين الشديدتين ملايينُ الكتب بالعربية، فلو قورنتْ تلك الملايينُ من الكتب مع القرآن الكريم، لقال كلُّ من يشاهد ويسمع، حتى أكثر الناس عامية، دونك الذكي الحكيم:

إنَّ هذه الكتب بشرية.. وهذا القرآن سماوي.

وسيحكم حتما:

إنَّ هذه الكتب كلها لا تشبه هذا القرآن ولا تبلغ شأوه قطعا.

لذا فإما أنه أدنى من الكل. وهذا معلوم البطلان وظاهر بالبداهة.

إذن فهو فوق الكل.

ولقد فتح أبوابه على مصراعيه للبشر ونشر مضامينه أمامهم طوال هذه المدة الطويلة. ودعا لنفسه الأرواح والأذهان.

ومع هذا لم يستطع البشرُ معارضتَه، ولا يمكنهم ذلك. فلقد انتهى زمن الامتحان.

إن القرآن لا يقاس بسائر الكتب ولا يشبهها قطعا.

إذ نـزل في عشرين سنة ونيف نجما نجما -لحكمة ربانية- لمواقع الحاجات نـزولا متفرقا متقطعا. ولأسباب نـزول مختلفة متباينة، وجوابا لأسئلة مكررة متفاوتة، وبيانا لحادثات أحكام متعددة متغايرة، وفي أزمان نـزول مختلفة متفارقة، وفي حالاتِ تَلَقٍّ متنوعة متخالفة، ولأفهام مخاطبين متعددة متباعدة، ولغايات إرشاداتٍ متدرجة متفاوتة.

وعلى الرغم من هذه الأسس فقد أظهر كمال السلاسة والسلامة والتناسب والتساند في بيانه وجوابه وخطابه، ودونك علم البيان وعلم المعاني.

وفي القرآن خاصية لا توجد في أي كلام آخر: لأنك إذا سمعت كلاما من أحدٍ فإنك ترى صاحب الكلام خلفه أو فيه، فالأسلوب مرآة الإنسان.

أيها السائل المثالي!

لقد أردت الإعجاز، وها قد أشرتُ إليه.

وان شئت التفصيل، فذلك فوق حدّي وطوقي. أتَقدِر الذبابة على مشاهدة السماوات؟

وقد بيّن كتاب "إشارات الإعجاز" واحدا من أربعين نوعا من ذلك الإعجاز، ولم تفِ مائةُ صفحة من تفسير لبيان نوع واحد.

بل أنا الذي أريد منك التفصيل، فقد تفضّل المولى عليك بفيضٍ من الهامات روحية.

لا تبلغ يد الأدب الغربي ذي الأهواء والنـزوات والدهاء

شأن أدب القرآن الخالد ذي النور والهدى والشفاء.

إذ الحالة التي ترضى الأذواق الرفيعة للكاملين من الناس وتُطَمئنهم، لا تُسرّ أصحابَ الأهواء الصبيانية وذوي الطبائع السفيهة، ولا تسلّيهم. فبناءً على هذه الحكمة؛

فإن ذوقا سفيها سافلا، ترعرع في حمأة الشهوة والنفسانية، لا يستلذ بالذوق الروحي، ولا يعرفه أصلا.

فالأدب الحاضر؛ المترشح من أدبِ أوروبا، عاجز عن رؤيةِ ما في القرآن الكريم من لطائف عالية ومزايا سامية، من خلال نظرته الروائية، بل هو عاجز عن تذوقها، لذا لا يستطيع أن يجعل معياره محكّا له.

والأدب يجول في ثلاثة ميادين، دون أن يحيد عنها:

ميدان الحماسة والشهامة..

ميدان الحسن والعشق..

ميدان تصوير الحقيقة والواقع..

فالأدب الأجنبي:

 في ميدان الحماسة؛

لا ينشد الحق، بل يلقّن شعور الافتتان بالقوة بتمجيده جَور الظالمين وطغيانهم.

 وفي ميدان الحسن والعشق؛

لا يعرف العشق الحقيقي، بل يغرز ذوقا شهويا عارما في النفوس.

وفي ميدان تصوير الحقيقة والواقع؛

لا ينظر إلى الكائنات على أنها صنعة إلهية، ولا يراها صبغة رحمانية، بل يحصر همه في زاوية الطبيعة ويصور الحقيقة في ضوئها، ولا يقدر الفكاك منها.. لذا يكون تلقينه عشقَ الطبيعة، وتأليه المادة، حتى يمكّن حبها في قرارة القلب، فلا ينجو المرء منه بسهولة.

ثم إن ذلك الأدب المشوب بالسفه، لا يغني شيئا عن اضطرابات الروح وقلقها الناشئة من الضلالة والواردة منه أيضا، ولربما يهدئها وينوّمها.

وفي حسبانه أنه قد وجد حلا، وكأن العلاج الوحيد هو رواياته. وهي:

في كتابٍ.. ذلك الحي الميت.

وفي سينما.. وهي أموات متحركة.

وفي مسرح.. الذي تُبعث فيه الأشباح وتخرج سراعا من تلك المقبرة الواسعة المسماة بالماضي!

هذه هي أنواع رواياته.

وأنّى للميت أن يهب الحياة!..

وبلا خجل ولا حياء!.. وضَعَ الأدب الأجنبي لسانا كاذبا في فم البشر.. وركّب عينا فاسقة في وجه الإنسان.. وألبس الدنيا فستان راقصة ساقطة.

فمن أين سيعرف هذا الأدبُ؛ الحُسنَ المجرد.

حتى لو أراد أن يُري القارئ الشمسَ؛ فإنه يذّكره بممثلة شقراء حسناء.

وهو في الظاهر يقول: "السفاهة عاقبتها وخيمة، لا تليق بالإنسان"..

ثم يبين نتائجها المضرة..

إلاّ أنه يصورها تصويرا مثيرا إلى حد يسيل منه اللعاب، ويفلت منه زمام العقل، إذ يضرم في الشهوات، ويهيج النـزوات. حتى لا يعود الشعور ينقاد لشيء.

أما أدب القرآن الكريم:

فإنه لا يحرك ساكن الهوى ولا يثيره، بل يمنح الإنسان الشعور بنشدان الحق وحبه، والافتتان بالحسن المجرد، وتذوّق عشق الجمال، والشوق إلى محبة الحقيقة.. ولا يخدع أبدا.

فهو لا ينظر إلى الكائنات من زاوية الطبيعة، بل يذكرها صنعةً إلهية، صبغة رحمانية، دون أن يحيّر العقول.

فيلقّن نور معرفة الصانع..

ويبين آياته في كل شيء..

والأدبان.. كلاهما يورثان حزنا مؤثرا. إلاّ أنهما لا يتشابهان.

فما يورثه أدب الغرب هو حزن مهموم، ناشئ من فقدان الأحباب، وفقدان المالك. ولا يقدر على منح حزن رفيع سامٍ؛ إذ استلهام الشعور من طبيعة صماء، وقوة عمياء يملؤه بالآلام والهموم حتى يغدو العالم مليئا بالأحزان، ويلقي الإنسان وسط أجانب وغرباء دون أن يكون له حامٍ ولا مالك! فيظل في مأتمه الدائم.. وهكذا تنطفئ أمامه الآمال. فهذا الشعور المليء بالأحزان والآلام يهيمن على كيان الإنسان، فيسوقه إلى الضلال وإلى الإلحاد وإلى إنكار الخالق.. حتى يصعب عليه العودة إلى الصواب، بل قد لا يعود أصلا.

أما أدب القرآن الكريم: فإنه يمنح حزنا ساميا علويا، ذلك هو حزن العاشق، لا حزن اليتيم.. هذا الحزن نابع من فراق الأحباب، لا من فقدانهم.

ينظر إلى الكائنات؛ على أنها صنعة إلهية، رحيمة، بصيرة بدلا من طبيعة عمياء. بل لا يذكرها أصلا، وإنما يبين القدرة الإلهية الحكيمة، ذات العناية الشاملة، بدلا من قوة عمياء.

فلا تلبس الكائناتُ صورةَ مأتم موحش، بل تتحول -أمام ناظريه- إلى جماعة متحابّة، إذ في كل زاوية تجاوب. وفي كل جانب تحابب. وفي كل ناحية تآنس.. لا كدر ولا ضيق.

هذا هو شأن الحزن العاشقي.

وسط هذا المجلس يستلهم الإنسان شعورا ساميا، لا حزنا يضيق منه الصدر.

الأدبان.. كلاهما يعطيان شوقا وفرحا.

فالشوق الذي يعطيه ذلك الأدب الأجنبي؛ شوق يهيج النفس، ويبسط الهوس.. دون أن يمنح الروح شيئا من الفرح والسرور.

بينما الشوق الذي يهبه القرآن الكريم؛ شوق تهتز له جنبات الروح، فتعرج به إلى المعالي.

وبناءً على هذا السر: فقد نهت الشريعة الغراء عن اللهو وما يُلهي.. فحرّمت بعض آلات اللهو، وأباحت أخرى.

بمعنى: أن الآلة التي تؤثر تأثيرا حزينا حزنا قرآنيا وشوقا تنزيليا، لا تضر. بينما إن أثرت في الإنسان تأثيرا يتيميا وهيّجت شوقا نفسانيا شهويا. تحرم الآلة.

تتبدل حسب الأشخاص هذه الحالة..

والناس ليسوا سواء

 

 

([1]) ملاحظة المترجم:

وضع الأستاذ النورسي ضمن ملحق قسطموني ثلاث قطع من رسالة "اللوامع" وهي: "كل الآلام في الضلالة"، و"بيان موجز لإعجاز القرآن"، و"برهانان عظيمان للتوحيد" وذلك حسب قاعدته المذكورة في خاتمة رسالةِ "قطرة من بحر التوحيد" من المثنوي العربي النوري، حيث يقول:

"لأني أرى القرآن منبع كل الفيوض، وما في آثاري من محاسن الحقائق ما هو إلاّ من فيض القرآن، فلهذا لا يرضى قلبي أن يخلو أثر من آثاري من ذكر نُبَذٍ من مزايا إعجاز القرآن".

ولما كانت رسالة "اللوامع" قد نُشرت ملحقة بمجموعة "الكلمات" نكتفي هنا بإدراج إحدى تلك القطع الثلاث وهي: "بيان موجز لإعجاز القرآن". ومن شاء فليراجع القطعتين الأخريين في "اللوامع".

 

 

 

« Önceki Sayfa  | | Sonraki Sayfa »
Ekranı Genişlet