المكتوب السابع والعشرون
وذيوله
وهو فقرات التقدير والإعجاب المستلة من الرسائل الخاصة للسيد "خلوصي" المخاطبِ الأول "بمكتوبات" النور.
أما القسم الثاني من هذا المكتوب (السابع والعشرين)، أي الذيل، فهو فقرات السيد "صبري" الذي هو حقا "خلوصي الثاني". تلك التي يبين فيها إعجابه وتقديره لرسائل النور.([1])
[مهمة الداعية لا تنتهي]([2])
الفقرة الأولى للسيد خلوصى
بسم الله الرحمن الرحيم
﴿وَإنْ مِنْ شَيءٍ إلاّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ﴾
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته بعدد ذرات الكائنات أبدا دائما
أيها الأستاذ المحترم!
لست من الكاملين الذين يجدون اللذة ويشعرون بالنشوة لدى رؤية أنفسهم فقراءَ حقراء أمام اللّٰه، ولكني ممن يريد أن يَظهر كما هو، وقد حظي بلطفكم وخطابكم له بـ "طالبي، أخي، ابن أخي". وحقا يا أستاذي إني في وضع وضيع معنويا وفي أشد الحاجة إلى دعائكم.
فلقد تعلقت المشيئةُ الإلهية بإظهار بعض لمعات القرآن المبين -الذي هو نور حقا وحقيقة- إلى أبناء هذا العصر ولاسيما إلى الفرق الضالة، بيانا واضحا وضوحا جليا بحيث يَدخل إلى عيونهم المطموسة. وأصبح الأستاذ المحترم وسيلة للقيام بهذه المهمة الجليلة. وهكذا -بلطف الله وفضله وعنايته سبحانه- دُفع طالبُكم هذا -الذي هو لا شيء وعدم في عدم- إلى القيام بخدمة جزئية لأستاذه الذي يوفي مهمة خدمة القرآن العظيم حق الإيفاء. ولهذا فمهما بالغتُ في الشكر لله فهو قليل جدا إزاء نعَمه العظيمة. فليس لي حقّ الفخر قطعا ولو بمقدار ذرة، بل أطلب العفوَ والصفح عن الأخطاء والذنوب المحتملة في أثناء سيرى للقيام بهذه الخدمة...
لقد أصررتم يا أستاذي المحترم في رسالتيكم الأخيرتين على الإجابة عن سؤال قد تفضلتم به سابقا. فسمعا وطاعةً. ولكن إزاء هذا السؤال العسير ليس لي إلاّ الالتجاء إلى العناية الإلهية والتشبثُ بالكرم الإلهي والاستمداد من روحانية الرسول الكريم r، ذلك لأني في منتهى العجز والفقر. ولأجل أن يكون الجواب مطابقا للحق منطبقا على الحقيقة، أقول:
لا شك أن "الكلمات" المباركة هي لمعاتٌ من نور الكتاب المبين. وعلى الرغم من أنها تحتاج إلى إيضاح وشرح في بعض المواضع بسبب أسلوبها الرفيع، فلا نقص ولا قصور فيها بكليتها، ويمكن لكل طبقةٍ من الناس أن تأخذ منها حظَّها. ويكفي لصحة قناعتنا عدمُ قيام أحد بانتقادها لحد الآن، بل إبداءُ كلِّ مشرب ومسلكٍ الرضى عنها وبقاءُ الملحدين إزاءها صما بكما..
وها أنذا أدرج البراهين التي تمكنتُ من التفكر فيها، والتي تدل على عدم انتهاء مهمّتكم:
أولا: إن واجب العلماء هو الصدعُ بالحق وعدمُ السكوت عنه عند انتشار البدع. وقد ورد الزجر عن السكوت عن الحق في الحديث الشريف.
ثانيا: نحن مكلفون باتباع الرسول الكريم r، فضرورةُ أداءِ هذه المهمة مستمرةٌ مدى الحياة.
ثالثا: إن هذه الخدمة ليست محصورة برأيكم، بل أنتم تُستَخدمون فيها. فأنا على قناعة تامة من أن مهمة أستاذي المحترم إذا ما كمُلت فإنه تعالى يُلهم قلبَه بختام مهمته. مثلما بُلّغ بختام الرسالة مبلِّغُ القرآن فخرُ العالمين، حبيبُ رب العالمين سيدُنا محمد r بالآية الكريمة ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ﴾(المائدة:3).
رابعا: إن عدم ورود أي نقد على "الكلمات" والسكوتَ عليها ليس دليلا على أن هذا الوضع سيستمر على هذا المنوال إلى النهاية؛ فإنكم يا أستاذي المحترم مكلّفون أوّلا بالإجابة عن الهجمات المحتملة التي ستأتي عليها وأنتم ما زلتم على قيد الحياة.
خامسا: أظنكم لا تدَعون الإجابات والاستيضاحات جانبا، تلك التي يرجوها مَن ارتبط بـ "الكلمات". فإن لم يكن هناك إلاّ هذا السبب، فلا يمكنكم نسيان الدنيا حتى لو أردتم ذلك.
سادسا: إن الذين أحبّوكم لله ويستوضحون منكم أمورا حول كتاباتكم القيّمة وتقريراتكم في مجالسكم العلمية من مسائل متنوعة لم تُدرج كلُّها في "الكلمات". مما تَبين بقطعية تامة أن الحاجة لم تنته بعدُ، والخدمةَ الإيمانية لم تبلغ نهايةَ المطاف.
وأعرض الآن لحضرتكم بضعة أمور:
في الأوقات التي ييسّر الله لي قراءة "الكلمات" النورية على الجماعة تستجيش مشاعري، فأرجو التفضل بالسماح لأعرضها لكم:
أولا: عندما أتناول القلم لأكتب لكم أيها الأستاذ المحترم ما يعرض لي، أشعر انبساطا لروحي، حتى إنني أجد أن قلمي يكون ترجمانا لمشاعري في تلك اللحظة دون اختيار مني.
ثانيا: لقد فكرت بالآتي: إذا ما فكر كلُّ واحد بأن ينـزوي في زاوية مظلمة ليأمن خداع النفس الأمارة بالسوء -تلك العدوّة الكبرى- ويأمن مكر شياطين الجن والإنس، وانسحب إلى زاوية النسيان أو أراد أن ينسحب إليها، وأهمل ما حلّ بالعالم الإسلامي والإنساني حتى لم يعد ينفع أحدٌ أحدا، فأنا أقوم بتبليغ إخواني في الدين هذه الحقائق النورانية، لعل الله يعاملني بفضله وكرمه بما يوافق جلالَ ألوهيته سبحانه. وأرى من المفيد جدا صرفَ النظر عن نفسي في تلك الأزمنة. فما الحكمة من هذا الأمر؟
ثالثا: إن اسمَي "الرحمن الرحيم" قد دخلا في البسملة، فما السبب؟ هل هما في أعظم مرتبة من مراتب الأسماء الحسنى، أم إن هناك سببا آخر وحكمةً أُخرى؟ هذا السؤال ورد إلى الذهن أثناء كتابتي الرسالة.([3])
أستاذي العزيز المحترم! لسنا وحدنا بحاجة إلى وجودكم، بل العالم الإسلامي كله بحاجة إليكم، لأنكم قد أصبحتم بفضل الله سبحانه وتعالى وسيلة لظهور "الكلمات" السامية التي نبعت وتلمّعت من نور القرآن المبين والتي تقوّي إيمانَ المؤمنين، وتوقظ الغافلين، وتبين الصراط السوي لهداية الضالين، وتبهت الحكماءَ الفلاسفة وتَدَعُهم في حيرة وذهول.
أسأل الله الربّ الرحيم أن يديم صحة أستاذنا العزيز وعافيته ويجعله ذخرا للأمة المحمدية.
آمين بحرمة سيد المرسلين
خلوصي
[إن الله بالغ أمره]
لقد بدأتُ متوكلا على الله بقراءة رسائل النور -بين المغرب والعشاء- للضيوف القادمين، في غرفة الاستقبال التي خصصها والدي لهم، وذلك في الليلة الأولى من وصولي.
أستاذي الحبيب!
مثلما عرضت لكم سابقا، أنا لا أعتقد أنني سأعيش لشيء إلاّ لمعاونة جزئيةٍ جدا في إيفاء المهمة المعنوية لأستاذي المحترم وهي الاضطلاع بالدعوة إلى القرآن الكريم، أي خدمة جزئية في سبيل القرآن الكريم ليس إلاّ. فإني أرجو رجاءً خاصا ألاّ تَدَعوني محروما من استفاضاتكم من القرآن الكريم واستخراجاتكم منه -في سبيل نشر حقائق الإيمان والإسلام- مادمتم باقين هناك.
وسيبلغني الله سبحانه بدعواتكم المستجابة -إن شاء- إلى ما كنتُ أرغبه وأرجوه من نتائجَ في العمل لرسائل النور، فأكون كالمرحوم عبد الرحمن ممن ينال الإيمان والتوفيق إلى آخر رَمَق من حياته مقتديا بفخر العالمين سيدنا محمد المصطفى r وراجيا السعادة الخالدة، وأكون خَلَف أستاذي المحترم وفي جواره.
إن سيد الكائنات وأشرف المخلوقات سيدنا محمد r قد أصبح وسيلة إلى تبليغ القرآن العظيم إلى الناس كافة، فأنتم يا أستاذي تخاطبون الإنسان الغافل في هذا العصر باسم الله تعالى، وبفيوضات ذلك الكتاب المبين، وذلك من خلال رسائل النور، رغم أنها تبدو من تأليفكم.
لذا فإنني أعتقد أن ذلك الحكيم الرحيم الذي يسخّركم في هذا المضمار لا يدَع الأنوار مهملةً تُداس تحت الأقدام. فلا شك أنه سيبعث من الفانين بل ممن لا يُحسب لهم حساب، بمراتب متفاوتة، مَن يتبنَّونها من الحُفّاظ المبلّغين الناشرين.
خلوصي
[متطلبات إنقاذ الإيمان]
نعم، إن لي -ولله الحمد- طريقا سويا رفيعا هو الإسلام، ولي منهل عظيم أنهل منه هو مشرَب العجز والفقر إلى اللّٰه، وأقتدي بقائدٍ رائد جليل هو سيد المرسلين الرسول الكريم r، وأسترشد بمرشد عظيم هو القرآن المبين، وأسلك مسلكا قيّما يبلّغني مرتبة الولاية لله في دقيقة واحدة -كما هو لدى الجندي المرابط في الثغر-؛ فلقد علّمني أستاذي -كما علّم كلَّ ذي عقل- أن الزمان زمانُ إنقاذ الإيمان لا سلوكِ الطريقة الصوفية. فقال: أدِّ حقَّ الصلاة خمسَ أوقات في اليوم، واعمل بالأذكار عقِبها، واتّبع السنةَ الشريفة، واجتنب الكبائر السبع. فاستجبتُ بكل ما أملك من روح وقلب.
قلت: نعم، أيها الأستاذ!. قلتُه بتوفيق من الله سواءً لهذا الدرس أم للدروس التي تلقيتُها من رسائل النور، قلتُه لما أظهرها الأستاذ من حقائق استنبطها من القرآن الكريم.. وصدّقتُها بكل جناني.
فالذي لقنني هذا الدرس -درسَ الحقيقة- خاطبتُه بـ "الأستاذ". تلك الكلمة التي لم أُخاطب بها أحدا في حياتي غيره. أصبتُ ولم أخطأ.
خلوصي
[لابد من وجدان المخاطب]
لقد أكملتُ بفضل الله كتابة "الموقف الأول من الكلمة الثانية والثلاثين" هديةَ شهر رمضان المبارك. ولئن وفّقني المولى الكريم فسأكتب الرسائل الأخرى في المدة المقررة التي أمرتم بها.
إن هذه "الكلمات" القيمة الرفيعة النورانية جديرة بأن تُكتب بأجود خط، بل حتى بالذهب. إلاّ أنها تُكتب من قِبَل هذا العاجز المحروم من جودة الخط إلاّ بقدر ما يساعد على القراءة، بل له أخطاء. وهذا مما يكون مبعثا لأزيد حمدي وشكري لله تعالى.
وحيث إنني سأكون بعيدا بعدا ماديا عن التفاتاتكم الكريمة وعن التحيات السارّة التي تبعثونها بشتى الوسائل وعن أوامركم التي هي بمثابة تفسير لرسائل النور وهوامش قيمة وذيول لها.. لأجل كل هذا سأكون متألما. ولكني لا أفكر على هذه الصورة، إذ أقول: سأسعى أينما كنت لوجدان المخاطب الذي سيعير السمعَ للدرس الذي تَلقّنه بفضل العناية الإلهية دون النظر إلى عجزي وفقري في سبيل نشر الحقيقة، وسأطرق بابَ كل وسيلة من الوسائل، بفضل الله ثم بفضل دعواتكم.. وهكذا أجد العزاء والسلوان.
ولكني آسف من جانب آخر، هو أن الانشغال بالوظائف الدنيوية تعيق إلى حدٍّ ما انشغالي بـ"بالكلمات" النورية التي أرتاح إليها فطرةً وانجذبتُ لحقائقها.. ولكن لا حيلة لي، فكلما مرّ يوم من الأيام ظهر وجهُ الدنيا الفاسد والفاني بأوضح صورة. وتذهب نفسي حسراتٍ على الأوقات الماضية التي لم تُستغل في سبيل الحياة السرمدية.
ولهذا لا أتألم كثيرا على فراقنا الصوري، ولا سيما بعدما بشّر أستاذي الحبيب في درسه الأخير لي بيقين جازم عن الحياة الباقية اللذيذة التي تفوق لذتُها ألذَّ حالاتِ هذه الحياة الفانية بمراتب لا تعد.
خلوصي
[ساحل السلامة]
إن المؤلَّف أو الأثر -كأمثاله- منوَّر مليء بالحِكَم، وسيكون إن شاء الله دواءً ناجعا وبلسما شافيا لجرحٍ اجتماعيّ بليغ تعاني منه الأمةُ المحمدية. وكما تفضلتم فـ"الكلمات" المستفاضة من نور القرآن الكريم استفاضة مباشرة، قد عرضتها على "فلان"، وقرأت عليه عددا من "الكلمات" فصدّق بها، وسأقرؤها عليه كلما سنح لي الوقتُ.
إني عاجز عن الشكر والحمد لله تعالى إزاء النعم التي أنعم بها عليّ جلّ وعلا وهي لا تُعد ولا تحصى؛ إذ بينما كنت ملطخا بالذنوب والمعاصي، أخرجتموني أيها الأستاذ المحترم بإذن الله من الظلمات إلى النور بوساطة تلك "الكلمات" المباركة المنورة.
وبينما كنت أقضي عمري الماضي بالتحرّي عن الحقيقة، ساقني القدرُ الإلهي -وأنا الضعيف العاصي- إلى الطريقة النقشبندية، وذلك قبل خمس سنوات، تلك الطريقة المتوجهة نحو الشيخ "محمد الكفروي" الذي استلمها من "الشاه النقشبند".(*) ولكن بعد ذلك انسدّ عليّ الطريق بعد كسوف عابر. فظل هذا العاجزُ يتخبط في طريق شائك مظلم، وإذا بي أخرج من الظلمات إلى النور ومن الدوامات المغرقة إلى ساحل السلامة، ومن المهالك الخطرة إلى السعادة الدائمة بوساطة أنوار "الكلمات" المؤلَّفة من قِبَلكم. فالحمد لله.. وهذا من فضل ربي.
ولقد تفضلتم بالقول: إن زماننا هذا زمن إنقاذ الإيمان..
نعم، أيها الأستاذ المحترم! إن كلامكم على العين والرأس.
خلوصي
[أهمية قراءة المعجزات]
إن هذه الرسالة (المكتوب التاسع عشر) تعلن بين دفتيها المعجزاتِ الكبرى للرسول الكريم r، وإن إرسالها إليّ خصّيصا، بعثَت فيّ حياةً جديدة، فضلا عن أن مطالعتها تمسّ عواطفي ومشاعري كلها وتثيرها حتى أصبحتْ وسيلة لأسكُبَ العبرات ساخنة.
خلوصي
[مرشدون معنويون]
فقرة من رسالة لأخي عبد المجيد(*)
أقبّل أياديكم وأرجو دعواتكم.. لقد وصلني تأليفُكم الجديد الذي سيكون أستاذا قديرا ومرشدا ساميا لعبد المجيد العاجز في نفسه والذي تجافى عن الدنيا.
وبهذا أبشّر نفسي وأسلّيها؛ فلئن فقدتُ أستاذا يخاطبني لفظا ومشافهة، فقد وجدتُ مرشدِين عديدين معنويين.
إنها حقا مؤلَّفات نورانية ترشد إلى الصراط السوي والسداد. رضي الله عنكم.
عبد المجيد
[مرتبة الحب في الله]
نعم، هناك جهتان أتسلّى بهما:
الأولى: وجودُنا دوما في صحبة ومسامرة معنوية بوساطة "الكلمات" المباركة التي بين أيدينا.
الثانية: إيماننا أن محبّتنا بفضل الله هي في مرتبة "الحب في اللٰه".
وبناء على هذا فإن أعظم هدية أقدّمها إليكم اليوم وغدا هو تبليغُ ما علّمتمونا من درس إلى المؤمنين، -تبليغا باسمكم وكالةً حسب المستطاع- وحملُ ما وهبنا الله سبحانه من محبة حقيقية إلى الأبد.
وإزاء هذا أدعو الربَّ الرحيم الكريم الذي هو أحسن الخالقين وأكرم الأكرمين وأرحم الراحمين أن يبلّغنا ما تؤول إليه المحبةُ في الله، والموضّح في "الموقف الثالث من الكلمة الثانية والثلاثين".
إننا عازمون على سلوك الحق والصدق والإخلاص برفقة السيد حقي الذي التقيناه في طريق الإيمان التحقيقي.
خلوصي
[الأنوار لا تبقى مهملة]
آمُل هنا أن أُسمِع الآخرين تلك "الكلمات" التي عُهد إليّ حملُ أمانتها، أُسمِعها إلى آذان صاغية بإذنه تعالى ثم ببركة دعائكم.
اطمئنوا يا أستاذي المحترم، أن هذه الأنوار لا تبقى مهملة قطعا. فالخالق الكريم الذي أظهرها لأنظار العالم بدلاّل القرآن وخادمه سينشرُها وسيحافظ عليها حتى بأناس عاجزين كأمثالنا، وممن لا يُخطَرون على بال.
فإنني على قناعة من أن خدام القرآن الذين يقولون قد كسبنا هذا بفضل سعينا وجهودنا سيرَون في ذلك اليوم أن تلك الخدمة المقدسة قد عُهدت إلى أناس هم أهلٌ لها ولو أنهم في الظاهر يَبدون ضعفاءَ ليسوا من أهلها. ولهذا أرجو من إخواني هناك أن يكونوا على ارتباط وثيق برسائل النور.
خلوصي
[الساعات المباركة]
إنني في الأوقات التي أوفَّق فيها -بحول الله وقوته الصمدانية وعناية الله ولطفه الرباني- إلى السعي لمطالعة رسائل النور، مكتوباتِ النور، واستنساخها ونشرها وتبليغها الناس -حسب المستطاع- وأمثالها من أعمال البر العظيمة.. أكون -وأنا الفقير إلى اللٰه- المستفيدَ والمستفيض أولا وبالذات في تلك الأوقات التي أغتنمها لإفادة الآخرين. ولهذا أجد تلك الساعات مباركةً جدا، وأتألم من فراقها. وأتمنى العيشَ بكل روحي وقلبي دائما في أجواء تلك الساعات ودوامِها وعدم انقطاعها.
ولكن ما الحيلة؟ فإنني في تلك الأوقات التي اغتنمها والتي تمضي بسرعة، أصفّي ذهني وأواجه الأنوار. حيث أجد نفسي أمام مجموعة من الرسائل التي تضم معجزات القرآن، وأحسب نفسي في مدرسة أستاذي العزيز وفي الروضة الطاهرة لسيد الكونين سيدنا الرسول الأعظم r. وفي خاتمة المطاف أعرج إلى الحضرة الإلهية المنـزهة عن المكان.
ولهذا السبب أتمنى ألاّ تكون تلك الأوقاتُ التي لا أنشغل بها بالرسائل من أنفاسي المعدودة من حياتي.
خلوصي
[نوافذ النور]
قرأت الأسبوع الماضي "الذيل الأول والثاني للمكتوب الرابع والعشرين"، قرأتهما على جماعتين مختلفتين. وأصبح المستمعون نشاوى من الإعجاب. وأنا هذا الفقير قد غشيني نورُ ذلك الإعجاز القرآني. وأنا أطالع هذه الرسائل كأسطعِ وأنورِ ما في "الكلمات" و "المكتوبات" النورية.
وقد قرأت اليوم (الجمعة) لجارنا "السيد فتحي"، الكلمتين "الحادية عشرة والثالثة عشرة". ففي الأوقات التي أغتنمها فرصةً للانسلال من المشاغل الدنيوية أسرع إلى نوافذ النور المفتّحة على مصراعيها، تلك "الكلمات" النورية، فآخذ منها غذائي الروحي والمعنوي وأحاول أن أجد أحدا من الناس لأبلّغه بها.
خلوصي
[الرسائل تسد حاجة الزمان]
تسلّمت "المكتوب السادس والعشرين" بكل سرور، قرأتُه مرات ومرات وبإمعان ولهفة ومحبة ولذة وشوق. وتضرعتُ في الختام إلى الباري الجليل القائل: ﴿قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلاَ دُعَاؤُكُمْ﴾(الفرقان: 77). فدعوتُه سبحانه بلسان انتسابي إليه بالعبودية، وأنا في عجز تام وفقر كامل وشوق عارم، دعَوتُه دعوة خالصةً لوجهه الكريم، بالتوفيق لخدماتكم الخالصة لله تعالى، المادية منها والمعنوية، الظاهرة منها والباطنة، والدنيوية منها والأخروية.. وتضرعت إليه جلّ وعلا أن ينشر تلك الأنوار بوضوح وجلاء إلى أهل الإيمان والقرآن. وأن يسجّلها الربُّ الجليل عنده بلطفه وكرمه العميمين. وأن يجعل أستاذنا المحترم عزيزا في الدارين. وأَمَلي أن يحظى دعائي هذا بنور الآية الكريمة: ﴿ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ﴾(غافر: 60).
أستاذي المحترم! أليس الذي تنتظره منا هو الدعاء؟ لقد جرّب هذا الفقير، وحصل لديّ اليقين الجازم أن قوله تعالى: ﴿وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ﴾(الإسراء: 81) له معجزات خالدة لا تموت. فلقد يسّر الله أنْ قرأتُ الرسائل المرسَلة إليّ هذه المرة على جماعات متنوعة شتى وكان منهم علماء، وجميعُهم أبدوا إعجابهم الشديد وتقديرهم العظيم لها.
أما أنا فأقول: إن جميع ما في رسائل النور: "الكلمات" و "المكتوبات" النورية إنما هي لحاجة الزمان، وإن لها المَقدِرةَ على إقناع كل صنف من أصناف أرباب الدين، بل إلزامِ الملحدين، بشرط ألاّ يكونوا عنيدين موغلين في العناد. ومع هذا فإن الذين ابتُلوا بحب الدنيا -التي تسوق إلى المنافع والمصالح والحرص على الحياة، وفيها الكفر والعناد والغفلة والكسل والشرك والضلال وأمثالها- من المصابين بالأمراض المستعصية، أقول: لا يُستبعَد من هؤلاء إغماضُ العين إزاء تلك الحقائق وإنكارُهم لما يشاهدونه من حق وحقيقة، وغيرُها من الحماقات والجنون. بمعنى أن مَضيف المولى الكريم لا يخلو من أنعام في صور أناسي.
فلو هيأ الله سبحانه وتعالى من يقوم بنشر هذه الأنوار، فلا شك أن تلك الهذيانات والبلاهات تتوضح أكثر.
خلوصي
[درجات الإعجاب والتقدير]
وهذه فقرة لأخي عبد المجيد.
إن هذه المؤلفات تحظى بالتقدير والإعجاب من قبل التجار والكسَبة والجماعات كافة، فما رآها أحدٌ إلاّ وأعجب بها. فهي مؤلّفات سالمة من الانتقاد، ولكن درجات الإعجاب والتقدير متفاوتة حسب درجات الفهم والإدراك. فكلٌّ يستطيع أن يقدّرها حسب درجة فهمه لها.
عبد المجيد
[رسالة أخيرة إلى العم الفاضل]
رسالة ابن أخي عبد الرحمن -سلف السيد خلوصى- الذي توفي وهو في السادسة والعشرين من عمره وقد كتبها قبل وفاته بشهرين.
باسمه
﴿وَإنْ مِنْ شَيءٍ إلاّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ﴾
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أقبّل أياديكم الكريمة، وأرجو دعواتكم الطيبة. وقد تسلّمت خبرَ عافيتكم وراحتكم مع رسالتكم "الكلمة العاشرة" التي ترشد إلى الخير والسداد. وذلك بوساطة السيد تحسين. فأقدم لكم جزيل شكري وامتناني.
وعلى الرغم من أنني نادم على مفارقتي لكم -خلافا لأمركم- ومستحقٌ لعتابكم عليّ، فإن هذا الأمر كان مقدّرا إذن، ولعل فيما حدث خيرا لنا. وما حدث إلاّ بإرادة الله وأمره..
وبناء على هذا فإنني بدافع الجهل اقترفتُ ذنبا وقصّرت تقصيرا، وقد عوقبتُ من جرائه، ولكن بإذن الله لن أعاقَب بعد اليوم. فأرجو عفوَكم راجيا دعواتكم.
عمي العزيز!
أبيّن لكم أيضا هذا؛ إنه بفضل رعايتكم وغيرتكم وهمتكم صُنت نفسي عن كل ما يمسّ آخرتي بسوءٍ ويضرها من أعمال وأفعال. وما أزالُ كذلك بفضل اللٰه. ومع أنني لاقيتُ كثيرا من ويلات الدنيا التافهة، وتجرّعت غصصها، وشاهدت كثيرا من ملذاتها وأفراحها أيضا، وأمضيتُها كلها.. ولكني رغم كل ذلك ما نسيتُ قطعا -وفي أي وقت كان- أن كل هذا هباءٌ في هباء. وأن لذائذ الدنيا كلّها وأفراحها التي ليست لله عاقبتُها وخيمةٌ، وهي الذل والعذاب الشديد. بينما متاعبُ هذه الدنيا التي يعانيها المرء في سبيل الله إنفاذا لأوامره الجليلة تفضي إلى لذائذ وأثوبة دائمة.
ولما كنت أعتقد الأمر على هذه الصورة فقد استطعت بفضل الله أن أصون نفسي من المفاسد؛ فهذا الشعور وهذه التربية إنما ترسختا في كياني وذهني وخيالى بفضل ما بذلتموه فيّ من جهد. ولكوني أعرف الحقيقة هكذا فإني صابر محتسب لله تجاه كل ما أقاسيه وأكابده.
والآن يا عمي العزيز، ويا أستاذي القدير!
إن مجاهدة نفسي الأمارة بالسوء، وعدم الانصياع لرغباتها المؤلمة العاقبة اضطرتني إلى الزواج. فأنا الآن في راحة من جميع النواحي بفضل الله وكرمه ولطفه ورحمته تعالى عليّ. حيث لا أختلط مع الآخرين لئلا أسمع المكروه، ولئلا تتسرب فيّ خصالٌ فاسدة، لذا أقضي أوقاتي بعد الدوام الرسمي في البيت شاكرا لله تعالى.
وبعد، فيا عمي العزيز! إن أستاذي العظيم ومرشدي الأكبر هو ما أستشعره وأتحسسه من الآية الكريمة: ﴿الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾(يس:65). فهي التي أيقظتني من نوم الغفلة ومنعَتني من ارتكاب الشرور والمفاسد عقب إرشاداتكم لي.
وإني لأعتقد أن ذلك اليوم قريب جدا([4]) وأن دعائي دوما "اللّٰهم لا تخرجنا من الدنيا إلاّ مع الشهادة والإيمان"، وأن عقيدتي التي أؤمن بها هي:([5]) آمنت بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وبالقدر خيره وشره من الله تعالى والبعث بعد الموت حق. أشهد أن لا إله إلاّ الله وأشهد أنّ محمدا عبده ورسوله.([6])
ابن أخيكم: عبد الرحمن
بمعنى أن "الكلمة العاشرة" قد أصبحت له بمثابة مرشدٍ حقيقي بحيث رفعَته إلى مرتبة الولاية مباشرة فأنطقته بهذه الكرامات الثلاث.
لقد فارقني قبل ثماني سنوات، ثم استطاع الحصول على "الكلمة العاشرة". ومثلما يقول في مستهل رسالته، أنه استفاد منها استفادة عظيمة وطهّر نفسه من لوثات متراكمة طوال ثماني سنوات.
ويقول في موضع آخر من رسالته -التي طويت- بيانا لشوقه إلى "الكلمة العاشرة": أرسل إليّ جميع ما ألّفته من "الكلمات" لأكتب من كل منها ثلاثين نسخة ولأستكتبها، كي تنشر ولا تضيع.
وهكذا فقد فقدتُ وارثا بطلا مثل هذا الوارث البطل. فإلى روحه الفاتحة.
سعيد النورسي
([1]) يضم ملحق بارلا وذيوله، قسماً من المكتوب السابع والعشرين. وقد كمل فيما بعد هذا المكتوب بضم الملاحق الثلاثة معاً وهي: ملحق بارلا، ملحق قسطموني، ملحق أميرداغ.
([2]) هذه العناوين الصغيرة للمكاتيب، المحصورة بين قوسين مركنين[ ] ليست من النص.
([3]) المكتوب الثامن جواب لهذا الاستفسار.
([4]) إنه لجدير بالملاحظة: أنه يخبر عن وفاته. (المؤلف).
([5]) إنه يعلن أنه سيرحل من الدنيا بالإيمان. (المؤلف).
([6]) إن ذكره -في رسالته الأخيرة- الكلمات الإيمانية التي ينطقها المرء لدى لفظه أنفاسه الأخيرة يشير إلى أنه قد أنقذ إيمانه ببطولة من قبضة هذه الدنيا وأنه سيتركها هكذا. (المؤلف).
