[لا تفسحوا المجال للانتقاد]
إخوتى الأعزاء الأوفياء!
حذار حذار.. لا تفسحوا المجال لانتقاد بعضكم البعض الآخر، فيستغلَّ أهل الضلالة اختلاف مشاربكم وعروقكم الضعيفة وحاجاتكم المعيشية. صونوا آراءكم من التشتت بإقامة الشورى الشرعية بينكم، اجعلوا دساتير رسالة الإخلاص نصب أعينكم دائماً. وبخلاف هذا فإن اختلافاً طفيفاً في هذا الوقت يمكن أن يُلحق أضراراً بليغة برسائل النور.
[ما الذي يمنعنا عن السياسة؟]
إخوتي الأعزاء الأوفياء!
لقد أتاني اليوم صلاح الدين ومسؤول من الأمن (المباحث) يتعقبه، دخل عليّ من ورائه.
قلت لذلك الجاسوس الحكومي:
إن رسائل النور -ونحن الذين نتلقى الدرس منها درسا كاملا- لن نجعلها أداةً للدنيا قاطبة ناهيك عن سياستها، ونحن لا نتدخل بدنيا أهل الدنيا، فمن البلاهة توقّع الأضرار منا، وذلك:
أولا: أن القرآن الكريم قد منَعنا من السياسة، لئلا تسقط -في نظر أهل الدنيا- الحقائقُ التي هي بنفاسة الألماس إلى مستوى القطع الزجاجية التافهة.
ثانيا: إن الشفقة والضمير والحقيقة تمنعنا من السياسة. لأنه لو كانت نسبة المنافقين الملحدين الذين يستحقون العقاب اثنين من عشرة، فهناك سبعٌ أو ثمان من الأبرياء من أقاربهم وذويهم. وهناك الأطفال والعوائل والشيوخ والمرضى. فإذا نزلت المصيبةُ والبلاء فإن أولئك الأبرياء الثمانية سيسقطون في أتون المصيبة. ولربما سيلحق بالمنافقين الاثنين والملحدين ضرر طفيف. ولهذا فإن ما في ماهية رسائل النور من الشفقة والرحمة والحق والحقيقة قد حالت دون الدخول في السياسة بوسائل الإخلال بالإدارة والنظام فضلا عن أن نتائجها مشكوك فيها.
ثالثا: إن هذا الوطن وهذه الأمة والحكومة -مهما كان شكلها- فهي بحاجة ماسة إلى رسائل النور. فينبغي لأعتى الملحدين منهم أن يميل إلى دساتيرها المتسمة بالدين والحق ناهيك عن الخوف منها والعداء لها، اللّٰهم إلاّ إذا كانت خيانة فاضحة للأمة والوطن والحاكمية الإسلامية. لأن هناك خمسة أسس ضرورية لإنقاذ هذه الأمة وهذا الوطن في حياتها الاجتماعية والسياسية ونجاتها من الفوضى والإرهاب ومن المخاطر العظيمة:
الأول: الرحمة. الثاني: الاحترام. الثالث: الأمن والثقة. الرابع: اجتناب المحرمات والتمييز بين الحرام والحلال. الخامس: الطاعة وترك التسيب.
وهكذا فرسائل النور عندما تنظر إلى الحياة الاجتماعية تُحقق هذه الأسس الخمسة وتثبّت بها ركائز النظام في البلاد.
ألاَ فليعلم الذين يتعرضون لرسائل النور، أنّ تعرضهم هذا إنما هو عداء- في سبيل الفوضى والإرهاب- للوطن والأمة والنظام.
هذا ما قلته باختصار لذلك الجاسوس الحكومي. وقلت له: قل هذا لمن أرسلك هنا. وقل لهم أيضا: إن الذي لم يراجع الحكومة لتأمين راحته طوال ثماني عشرة سنة.. والذي لا علم له بالحرب الدائرة التي قلبت العالم رأسا على عقب منذ أحد عشر شهرا.. والذي يستغني عن أن يَقبل إيجاد علاقةِ صداقةٍ مع من يشغل مراتب رفيعة في الدولة. فالذي يتوجس خيفةً من مثل هذا الرجل ويساوره الشكوك وكأنه سيتدخل بأمور دنياهم ومن ثم مضايقته وشدّ الخناق عليه، ماذا يعني عمله هذا؟ وما المصلحة فيه؟ وأي قانون يجيز هذا؟ حتى البلهاء يعرفون أن التعرض له جنون وبلاهة! قلنا له هذا، ثم غادرنا.
[لا تنشغلو بلسعات البعوض]
إخواني الأعزاء!
لا داعي إلى درس وتوجيه جديد، إذ شاهدتُ بين رسائلكم رسائل "الإخلاص" هذه المرة. فأحيلكم إلى دروس تلك الرسائل. إلاّ أنني أنبّه إلى ما يأتي:
لما كان مسلكُنا يستند إلى الإخلاص، ومبنيا على الحقائق الإيمانية فإننا مضطرون -وفق مسلكنا- إلى عدم التدخل في أمور الحياة الاجتماعية والحياة الدنيوية، مالم نضطر إليها. وعلينا التجرد والابتعاد عن تلك الحالات التي تؤدي إلى التنافس والتحيّز والتنازع.
فأسفا، وألف أسف، لأهل العلم ولأهل التقوى الضعفاء الذين يتعرضون -في الوقت الحاضر- إلى هجوم ثعابين مرعبة، ثم يتحججون بهفوات جزئية شبيهة بلسع البعوض، فيعاوِنون -بانتقاد بعضهم البعض- تلك الثعابينَ الماردة، ويُمدّون المنافقين الزنادقة بأسبابٍ لتدميرهم وتحطيمهم، بل يساعدونهم في هلاك أنفسهم بأيدي أولئك الخبثاء.
يَذكر أخونا المخلص جدا "حسن عاطف" في رسالته: أن عالما واعظا شيخا قد اتخذ طورا يُلحق الضرر برسائل النور، حيث حاول التعرض لها بالتهوين من شخصي الضعيف، بحجة تَركي لسنة نبوية (إطلاق اللحية) علما أن ذلك الترك مبني على عذرين مهمين.
أولا: ليعلم ذلك الشخص، واعلموا أنتم كذلك، أنني خادمُ رسائل النور، ودلاّلُ ذلك الدكان. أما رسائل النور فهي تفسير حقيقي للقرآن الكريم وهي وثيقة الصلة به، ذلك الكتاب الجليل المرتبط بالعرش الأعظم، لذا لا تسري أخطائي وتقصيراتي الشخصية إلى الرسائل.
ثانيا: بلّغوا ذلك العالم الواعظ عني السلام. فإنني أقبَل انتقاده لشخصي واعتراضه عليّ بتقدير وبرحابة صدر. وأنتم بدوركم لا تسوقوا ذلك العالم الفاضل ولا أمثاله من العلماء إلى المناقشة والمناظرة. ولو حدثَ تعدّ وتجاوز علينا، فلا تقابلوه حتى بالدعاء عليهم. إذ إن ذلك المتجاوز أو المعترض أيا كان، هو أخونا من حيث الإيمان لأنه مؤمن. حتى لو عادانا، فلا نستطيع أن نعاديه بمثل عدائه، حسب ما يرشدنا إليه مسلكُنا. لأن هناك أعداء شرسين وحيّات لاذعة ونحن لا نملك سوى النور، لا الصولجان. والنورُ لا يؤلم، بل يلاطف بضيائه، ولاسيما الذين هم ذوو علم فلا تثيروا غرورَهم العلمي إن كانوا على غرور وأنانية، بل استرشِدوا ما استطعتم بدستور الآية الكريمة: ﴿وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا﴾(الفرقان:72).
ثم إن ذلك الشخص المحترم، كان داخلا في دائرة رسائل النور، واشترك في استنساخ الرسائل، فهو إذن ضمن تلك الدائرة، فاصفحوا عنه حتى لو كان يحمل خطأ فكريا.
فليس مثل هذا الشخص الفاضل من ذوي الدين والتقوى المنسوبين إلى الطرق الصوفية، بل حتى من المؤمنين المنسوبين إلى فرق ضالة، لا ينبغي أن نثير معهم نزاعا وخصاما في هذا العصر العجيب، بل لا نجعل نقاط الاختلاف والنزاع موضعَ نقاش مع المؤمنين بالله واليوم الآخر حتى لو كانوا من النصارى.
هذا ما يقتضيه هذا العصر العجيب، وما يقتضيه مسلكنا الذي نسلكه، وما تقتضيه خدمتنا المقدسة.
ولأجل الحيلولة دون ظهور عوائق اجتماعية وسياسية أمام انتشار رسائل النور في العالم الإسلامي، ينبغي لطلاب رسائل النور اتخاذ سلوك المصالحة. إياكم وإياكم أن تتعرضوا لصلاة الجماعة والجمعة للعلماء([1])، فلا تنتقدوا المشتركين فيها. أما قول الإمام الرباني: "لا تدخلوا مواضع البدع" فالمقصود منه لا ثواب فيها، وليس معناه بطلان الصلاة، لأن قسما من السلف الصالحين قد صلّوا خلف يزيد والوليد. ولكن إذا كان المرء يتعرض للكبائر في أثناء ذهابه إلى المسجد وإيابه منه، فالأولى أن يظل في معتكفه.
يذكر أخونا في رسالته عن إخواننا الجدد الشجعان الثابتين. فنحن نقبلهم بكل مهجنا وأرواحنا. ولكن الداخلين في دائرة رسائل النور لأجل أن يقدروا شجاعتهم الشخصية حق قدرها يبذلون شجاعتهم في ثبات لا يتزعزع ومتانة لا تلين وترابط لا ينفصم مع إخوانه. فيجب تحويل تلك الشجاعة الشخصية التي هي بحكم قطع زجاجية متكسرة إلى الماس التضحية الصدّيقية الناشدة للحقيقة.
نعم، إن أهم أساس في مسلكنا بَعد الإخلاص التام هو الثبات والمتانة. وبهذه المتانة حدثت وقائع كثيرة أثبتت أن أمثال هؤلاء الذين نذروا حياتهم في خدمة النور يقابل كلٌّ منهم مائة شخص، فالشخص الاعتيادي الذي لا يتجاوز عمره الثلاثين قد فاق أولياءً يتجاوزون الستين من العمر.
ثم إن شخصا حتى لو كانت شجاعته حسنة، فإنه بعد دخوله جماعة متساندة لا يستطيع أن يستعمل شجاعته تلك، حفاظا على راحة جماعته وصيانةً لعدم زعزعتهم، فلابد من العمل وفق الحديث الشريف: (سيروا على سير أضعفكم).([2]) ويلزم عدم الخوض في مسائل النـزاع، وعدمُ طَرق مسائل القبعة والأذان واستعمالِ عناوين الدجال والسفياني مع الغرباء، حيث يُسبب هذا اتخاذَ العلماءِ وأهلِ السياسة تجاه رسائل النور موقف المجابهة والتعدي عليها. فالحذرُ هو الألزم.. والواجب ضبط النفس، حتى إن عدم الأخذ بالحذر ولو جزئيا يؤثر إلى هاهنا.
وإن رسائل النور ليست دائرة واحدة، بل لها طبقات كالدوائر المتداخلة. فهناك طبقة الأركان والمالكين والخواص والناشرين والطلاب والموالين وأمثالها من الطبقات.
فمن لم يكن أهلا للدخول في طبقة الأركان لا يُطرد خارج الدائرة، بشرط عدم موالاته لتيار يخالف رسائل النور، والذي ليست له ميزات الخواص يمكن أن يكون طالبا، بشرط عدم الدخول في مسلك مضاد، والذي يعمل بالبدعة يمكن أن يكون صَديقا بشرط عدم موالاته قلبا لها.
ولهذا لا تُخرجوا أحدا من جراء خطأ طفيف خارج الدائرة، لئلا يلتحق بصف الأعداء. ولكن لا يُشرَك هؤلاء في التدابير الدقيقة التي يتخذها أركان رسائل النور ومالكوها.
[طلاب النور يُفضلون الخدمة على القطبية]
إخوتي الأعزاء الأوفياء!
إن حادثتين وقعتا في اليومين السابقين أوردتا إلى الخاطر مسائل عدة منها:
أولاها: يكتب أخونا صلاح الدين من أنقرة: لقد بدأوا بالتعدي على أهل الطرق الصوفية. وهناك اعتقالات في أنقرة وفي الشرق حول هذه المسألة. وطلابُ رسائل النور محفوظون في كل جهة بالعناية الربانية، فإخلاصهم المتين وترابطهم الوثيق وأخذهم بالحذر تُديم عليهم تلك العناية الربانية.
ثانيها: يشكو الناس كلهم في هذه الأيام من الضيق الذي ينتابهم، وكأن فساد الهواء المعنوي قد أورث مرضا ضيقا ماديا شاملا. حتى سرى فيّ هذا المرض يوما. وحيث إن رسائل النور دواء لكل ما ينتابنا، فإن المنشغلين بها إما لا ينتابهم ذلك المرض أو يمسهم مسا طفيفا.
.......
رابعها: لقد شاهدتُ في بعض الرسائل المرسلة أوصافا مفرطة بحق أستاذهم، ونظرت إلى نفسي فرأيتها لا تستحق حتى زكاةَ تلك الأوصاف، وليس من حقي امتلاكها. فقلت: تُرى ما المصلحة والفائدة التي يحصل عليها إخواني هؤلاء الناشدون للحق في غلوّهم في حسن الظن واستمرارِهم عليه مع تنبيهاتي المستمرة لهم؟.
فخطر على القلب:
إن هؤلاء، وبلدتهم ولاية إسبارطة وحواليها يرون يُمْنَ حسن ظنهم العظيم اقتداءً بالأولياء من أمثال عثمان الخالدي وشكري طوبال، فلم يبالغوا إذن بالنظر من هذه الزاوية فقد شاهدوا حقيقةً. ولكن كما أن الكشفيات تحتاج إلى تأويل والرؤى إلى تعبير، فالأحكام الخاصة إذا عُمِّمت يظهر خطأٌ في جهة. وكذلك هؤلاء؛ قد أعطوا الفائدة التي أسداها الشخصُ المعنوي لرسائل النور لهم ولبلدتهم إلى أحد ممثلي ذلك الشخص المعنوي وهو أخوكم هذا الذي دعوه "الأستاذ". فعمموا حادثة تلك البلدة ونظروا إليها حادثة عامة فأظهروا غلوا في حسن الظن.
السادس: قبل حوالي ثلاثة أيام استمعت إلى الكلمة الثانية والعشرين أثناء تصحيحها، ورأيت أن فيها: ذكراً كلياً، وفكراً واسعاً، وتهليلاً كثيراً، ودرساً إيمانياً قوياً، وحضوراً بلا غفلة، وحكمة سامية، وعبادة فكرية رفيعة وأمثالها من الأنوار وأدركت الحكمة في قيام قسم من الطلاب بكتابة الرسائل أو قراءتها أو الاستماع إليها بنية العبادة، فباركت عملهم وصدّقتهم.
[مدرسة معنوية في البرزخ]
كنت أسمع أيام كنت طالبا من أناس موثوقين كلاما نقلا عن أئمة عظام.
وهو: "أن طلاب العلوم الجادين الخالصين المحبين للعلم، الذين يتوفون في أثناء دراستهم للعلوم يكونون في البرزخ أيضا في مدرسة معنوية وكأنهم في دراستهم السابقة. فينعم الله سبحانه عليهم وضعا ملائما لذلك العالم". كان هذا الكلام يدور كثيرا في ألسنة طلاب العلوم آنذاك.
ولما كان طلاب النور في الوقت الحاضر هم خلّص طلاب العلوم فإن وظيفة محمد زهدى وعاصم ولطفي وأمثالهم من الطلاب المتوفين رحمهم الله مستمرة بلا شك لأجل إضافة حسناتٍ إلى سجل أعمالهم بأقلامهم المعنوية التي تعمل عملها إن شاء اللٰه.
[لا تُطلب مقاصد دنيوية بالعبادة الفكرية]
إن رسائل النور لا تكون وسيلة قطعا لكسب مصالح دنيوية، ولا تستغل ترسا لدفع أضرارها، لكونها عبادة فكرية ذات شأن وأهمية. فلا تطلب بها مقاصد دنيوية بالذات، إذ لو طُلبت يفسد الإخلاص ويتغيّر شكل تلك العبادة الجليلة. ويكون المرء كالصبيان الذين يتترسون بجزء المصحف الذي يتلونه لدى عراكهم بعضهم ببعض. فالضرر الذي يصيب رأسه سيمس ذلك المصحف حتما، لذا لا ينبغي أن يُتترّس برسائل النور تجاه هؤلاء الخصوم العنيدين.
نعم، لقد نزلت صفعاتُ تأديب بالذين يتعرضون لـرسائل النور ويعادونها، فهناك مئات الوقائع تثبت هذا، ولكن يجب ألاّ تستعمل رسائل النور في إنزال الصفعات بل لا تنـزل بالنية والقصد لأنه عمل مناف لسر الإخلاص والعبودية لله.
فنحن نكل أمر مَن ظلمنا إلى ربنا الجليل الذي حمانا واستخدمنا في خدمة رسائل النور..
نعم، إن نتائج خارقة تخص الدنيا تترتب بكثرة على رسائل النور -كما هي في الأوراد المهمة- ولكن لا تُطلب هذه النتائج، وإنما توهَب. فلا تكون علّة للأمر قطعا، وإنما يمكن أن تكون لها فائدة. فلو حصلت نتيجة الطلب، كانت إذن علةً، مما يفسد الإخلاص ويُبطل قسما من تلك العبادة.....
نعم، إن مقاومة رسائل النور مقاومة غالبة للكثرة الكاثرة من المنكرين المعاندين، إنما هي مما تحمله من سر الإخلاص.. ومن عدم كونها وسيلة لأي غرض كان.. ومن توجُّهِ نظرها مباشرة إلى السعادة الأبدية.. ومن عدم تتبعها أي قصد كان سوى خدمة الإيمان.. ومن عدم التفاتها إلى الكشف والكرامات الشخصية التي يوليها بعض أهل الطرق أهمية.. ومن كونها تَحصر وظيفتَها في نشر أنوار الإيمان وإنقاذ إيمان المؤمنين، مما كسبته من سر وراثة النبوة التي هي شأن الصحابة الكرام الحاملين للولاية الكبرى.
نعم، إن ما تكسبه رسائل النور طلابها في هذا الزمان الرهيب من نتيجتين ثابتتين على وجه التحقيق جديرتان بالاهتمام. وهما تفوقان أي شيء آخر حتى لا تدَعان حاجة إلى النظر إلى مقامات معنوية وأمور أخرى غيرها.
فالنتيجة الأولى هي: أن من يدخل دائرة رسائل النور بوفاء صادق واقتناع كامل، تُختم حياته بالحسنى، أي يدخل القبر بالإيمان. فهناك أدلة قوية على هذا.
والنتيجة الثانية هي: ما تَحقق وتقرر في دائرة النور من الاشتراك المعنوي في أعمال الآخرة الذي دُفعنا إليه دون اختيارنا ولا علمنا، كأن كل طالب حقيقي صادق يقوم بالدعاء والاستغفار والعبادة بألوف الألسنة والقلوب، والتسبيح لله بأربعين ألف لسان كما هو لدى بعض الملائكة. ويتحرى عن الحقائق السامية والرفيعة بمئات الألوف من الأيدي كحقيقة ليلة القدر في شهر رمضان المبارك.
ولأجل مثل هذه النتيجة: يرجِّح طلاب النور خدمة النور على مقام الولاية ولا يتطلعون إلى الكشف والكرامات ولا يَسعون لقطف ثمرات الآخرة في الدنيا. ويفوِّضون التوفيق في نشر الرسائل وجعلِ الناس يتقبلونها والترويج لها، ونيل مظاهر الشهرة والأذواق والعناية الإلهية التي يستحقونها، وأمثالها من الأمور التي هي خارجة عن نطاق وظيفتهم، يفوّضونها كلها إلى الله سبحانه ولا يتدخلون فيها. فلا يبنون أعمالهم وحركاتهم على تلك الأمور. وإنما يعملون بإخلاص تام قائلين: تكفينا وظيفتنا، وهي خدمة الإيمان ليس إلاّ.
[من مزايا رسائل النور ] ([3])
إن رسائل النور في هذا العصر، وفي هذا الوقت بالذات عروة وثقى، أي سلسلة قوية لا تنقطع، وهي حبل اللّٰه. فمن استمسك به فقد نجا.
إن رسائل النور برهان باهر للقرآن الكريم، وتفسير قيّم له، وهي لمعة براقة من لمعات إعجازه المعنوي، ورشحة من رشحات ذلك البحر، وشعاع من تلك الشمس، وحقيقة ملهمة من كنـز علم الحقيقة، وترجمة معنوية نابعة من فيوضاته..
إن رسائل النور ليست كالمؤلفات الأخرى التي تستقي معلوماتها من مصادر متعددة من العلوم والفنون، فلا مصدر لها سوى القرآن، ولا أستاذ لها إلاّ القرآن، ولا ترجع إلاّ إلى القرآن.. ولم يكن عند المؤلف أي كتاب آخر حين تأليفها، فهي ملهمة مباشرة من فيض القرآن الكريم، وتنـزل من سماء القرآن ومن نجوم آياته الكريمة...
إن الذي يدفع اعتراضات الملحدين التي تُعدّ منذ ألف سنة للنيل من القرآن الكريم.. والذي يزيل شبهات الفلاسفة الكفرة التي تراكمت منذ أمد سحيق، ووجدت الآن سبيلا للانتشار.. والذي يصد حقد اليهود الذين يضمرون العداء والثأر من القرآن الكريم الذي زجرهم وعنّفهم.. والذي يقابل هجوم نصارى مغرورين على القرآن الكريم..
نعم، إن الذي يدفع هذه الغارات جميعها هم أبطال ميامين، وقلاع معنوية حصينة للقرآن الكريم وجدوا في كل عصر من العصور. ولكن الآن غدت الحاجة ماسة أكثر إلى أولئك الأبطال، إذ زاد عدد المهاجمين من واحد واثنين إلى المائة. وقلّ عدد المدافعين عن القرآن من المائة إلى اثنين أو ثلاثة. فضلا عن أن تعلّم الحقائق الإيمانية من علم الكلام أو المدارس الشرعية يحتاج إلى زمن طويل، لا تسمح به أحوالُ هذا الوقت، فانسدّ ذلك الباب أيضا. أما رسائل النور فهي تُعلّم الحقائق الإيمانية العميقة جدا بأسلوب يفهمه كل الناس في أقصر وقت.
إن خاصية مميزة راقية لـرسائل النور هي: أنه في هذا العصر العجيب يستند الكفرُ والإيمان إلى آخر الحصون في المبارزة القائمة بينهما. فـرسائل النور تبين تلك الركائز النهائية بيانا قويا قاطعا. وهذه الخاصية تظهر في رسالة "الآية الكبرى" بأسطع ما يمكن، إذ تبين الصراع القائم بين الكفر والإيمان حتى في آخر ركائزهما. ولنوضح هذا بمثال.
فمثلا: إن في ميدان حرب عظيمةٍ وأثناء اجتماعِ حُشود الجنود من الطرفين واصطدام فوجين منهما، يُمدّ العدو فوجه بالأعتدة والأجهزة الحربية ليشد من قواهم المعنوية ويقويها، فيسخر كل الوسائل الممكنة لذلك، منها التهوين من معنويات أهل الإيمان وتفتيت تساندهم وترابطهم، بمعنى أنه لا يدع وسيلة إلاّ ويستعملها في سبيل تشتيت قوة أهل الإيمان المعنوية التي هي قوة احتياطية ساندة عظيمة. حتى إنه يبعث على فوج المسلمين وعلى كل فرد من أفراده مجموعة متساندة مترابطة مشبعة بروح الجماعة والتنظيم الخاص.
وإذ يحاول العدو إفناء القوة المعنوية لفوج المسلمين إفناءً كاملا، يَظهر أحدُهم كالخضر عليه السلام ويقول:
"لا تيأس أيها المسلم! فإن لك نقطةَ استنادٍ عظيمة وركيزة لا تتزعزع قط، وجيوشا جرّارة لا تُغلَب، وقوى احتياطية لا تنفد، فلو اجتمعت عليك الدنيا بأسرها لا يمكنها أن تبارِز تلك القوى وتتحداها، بل لا يقدر على تدميرها إلاّ مَن يملك قدرة على تدمير الكون بأسره. أما سبب انهزامك في الوقت الحاضر فهو إرسالك جنديا واحدا ليقابل جماعة منظمة وشخصا معنويا. فاسعَ أيها المسلم، ليكون كل جندي من جنودك في حكم جماعة وبمثابة شخص معنوي يستمد معنوياته من الدوائر المحيطة به".
وهكذا يمتلئ قلب المسلم قناعةً واطمئنانا من كلام الخضر.
والأمر كذلك في رسالة "الآية الكبرى"؛ إذ إن أهل الضلالة المُغيرين على أهل الإيمان أصبحوا روحا خبيثة تسري في الأمة، وشخصية معنوية حاملة لروح الجماعة والتنظيم الخاص تُفسد وجدان الناس وقلوبهم عامة في العالم الإسلامي، وتُمزق الستار الإسلامي السامي الذي يحيى العقائد التقليدية لدى عوام المسلمين، وتحرق المشاعر المتوارثة أبا عن جد.. تلك المشاعر التي تديم الحياة الإيمانية..
فبينما يحاول كل مسلم -يائسا- لينجو بنفسه من هذا الحريق المرعب الذي شبّ في أرجاء العالم. إذا بـرسائل النور تأتي كالخضر عليه السلام، وتمدّ إليه يد العون والمساعدة، وإذا برسالة "الآية الكبرى" كالجندي المطيع ذي الخوارق، تستمد الإمداد المعنوي والمادي الذي لا يقاوَم من آخر جيوشه المحيطة بالكون...أما سائر النقاط في المثال، فعليكم تطبيقها كي تتبين خلاصة ذلك السر.
إن رسائل النور كذلك ليست نورا مقتبسا، وبضاعة مأخوذة من معلومات الشرق وعلومه، ولا من فلسفة الغرب وفنونه. بل هي مقتبسة من العرش الرفيع السماوي لمرتبة القرآن الكريم الذي يسمو على الشرق والغرب.
فـرسائل النور التي هي ضياء معنوي، وعلم في منتهى العلو والعمق معا، لا تحتاج دراستُها والتهيؤ لها إلى تكلف، ولا داعي إلى أساتذة آخرين لتعلّمها، ولا الاقتباس من أفواه المدرسين، حيث إن كل شخص يفهم حسب درجته تلك العلوم العالية، دونما حاجة إلى إشعال نار المشقة والتعب للحصول عليها، فيفيد نفسه بنفسه، وربما يكون عالما محقِّقا.
سؤال:
لِمَ خُصَّت رسائلُ النور من بين سائر الكتب القيمة بإشارات من القرآن الكريم، والتفاتته إليها، وباستحسان الإمام علي رضي الله عنه وتقديره لها، وبتوجّه الشيخ الكيلاني قدس سره إليها والتبشير بها. فما وجه اختصاصها، وما الحكمة في اهتمامِ وتقدير هذين الأستاذين الفاضلين إلى هذا الحد بـرسائل النور؟.
الجواب: من المعلوم أن دقيقة واحدة تكون ذاتَ أهمية تقابل ساعة كاملة وإنها تثمر من النتائج ما تنتجه تلك الساعة، وربما ما ينتجه يوم كامل، قد تكون بمثابة سنين. ويحدث أحيانا أن تكون ساعة واحدة لها من الأهمية وتعطي من النتائج ما لسنة من العمر بل العمر كله.
فمثلا: إن الذي يُستشهد في سبيل الله في دقيقة واحدة يفوز بمرتبة الأولياء.. وإن الذي يرابط ساعة واحدة في ثغر المسلمين عند اشتداد البرد وصَولة الأعداء الرهيبة، قد تكون له من الأهمية ما لِسَنةٍ من العبادة.
وهكذا الأمر في رسائل النور؛ إذ إن سبب الاهتمام الذي نالته رسائل النور نابع من أهمية الزمان نفسه.. ومن شدة الهدم الذي أحدثه هذا العصر في الشريعة المحمدية والشعائر الأحمدية.. ومن فتنة آخر الزمان الحالية التي استعاذت منها الأمة الإسلامية منذ القِدم.. ومن زاوية إنقاذ إيمان المؤمنين من صولة تلك الفتن.
فلأجل هذه الأسباب كلها حازت رسائل النور أهمية عظمى حتى أشار إليها القرآن الكريم إشارة قوية، والتفت إليها التفاتة كريمة، وبشّر بها الإمام علي رضي الله عنه بثلاث كرامات، وأخبر عنها الشيخ الكيلاني رضي الله عنه إخبارا ذا كرامة، وحضّ مؤلفها.
نعم، لقد تزعزعت قلاع الإيمان التقليدية وتصدعت أمام هجمات هذا العصر الرهيب. ونأَت عن الناس وتسترت بحجب وأستار، مما يستوجب على كل مؤمن أن يملك إيمانا تحقيقيا قويا جدا كي يمكّنه من المقاومة والثبات وحده تجاه الضلالة المهاجمة هجوما جماعيا.
فـرسائل النور تؤدي هذه الوظيفة، وفي أحلك الحالات وأرهبها، وفي أحوج الأوقات وأحرجها. فتؤدي خدمتَها الإيمانية بأسلوب يفهمه الناس جميعا. وأثبتت أعمقَ حقائق القرآن والإيمان وأخفاها ببراهين قوية، حتى أصبح كل طالبِ نورٍ وفيٍّ صادق يحمل في قلبه الإيمان التحقيقي كأنه قطب مخفي من أقطاب الأولياء وركيزة معنوية للمؤمنين، وذلك لخدماته الإيمانية في القرية أو القصبة أو المدينة التي فيها. ورغم أنهم غير معروفين وغير ظاهرين ولا يلتقيهم أحد فقد صار كلٌّ منهم بعقيدتهم المعنوية القوية كضابط شجاع في الجيش يبعث مددا معنويا إلى قلوب أهل الإيمان فيثبتهم وينفخ فيهم روح الحماس والشجاعة.
إخوتي الأوفياء الصادقين الأعزاء.. يا عِماد سلواني في هذه الدنيا، ويا رفقائي الذين لا يَكلّون في خدمة الحقيقة.
بينما كنت أتأسف في هذه الأيام على اشتغال ذهني جزئياً بالدفاعات أمام المحاكم، ورد إلى القلب ما يأتي:
إن ذلك الانشغال هو كذلك اشتغال علميّ، إذ هو خدمة في سبيل نشر الحقائق الإيمانية وتحقيق حريتها وانكشافها؛ فهو نوع من العبادة من هذه الجهة.
وأنا بدوري كلما وجدت ضِيقاً في نفسي باشرت بمطالعة مسائل النور بمتعة ولذة، رغم أنى اطلعت عليها مائة مرة. حتى وجدت "الدفاعات" هي كذلك مثل رسائل النور العلمية.
ولقد قال لي أحد إخواني: "إنني أشعر بشوق وحاجة إلى تكرار قراءة "رسالة الحشر" وإن كنت قد قرأتها ثلاثين مرة".
فعرفت من كلامه هذا؛ أن رسائل النور التي هي مرآة عاكسة لحقائق القرآن الكريم وتفسير قيم أصيل له، قد انعكست فيها أيضا مزيةٌ رفيعة للقرآن الكريم ألا وهي عدم السأم من قراءتها.
شكرا وحمدا لله بما لا يتناهى من الحمد والشكر؛ إن عوام المؤمنين في زماننا هذا، الذين هم في أمسّ الحاجة إلى نقطة استناد يستندون إليها قد وجدوها في رسائل النور، فهي حقيقة لن تكون وسيلة لأي شيء كان، ولا يداخلها أي غرض أو مقصد كان، ولا تفسح المجال لأية شبهة أو وسوسة كي تدخل فيها، ولا يستطيع أي عدو كان أن يجد حجة لجرحها وتفنيدها.. وإن الذين سيسعون لنشرها يسعون للحق والحقيقة وحدهما دون أن تشوب سعيهم مقاصد دنيوية. كل ذلك ليَطمئن بتلك الحقيقة أولئك البعيدون ويثقوا بناشريها الصادقين اطمئنانا تاما لينقذوا إيمانهم من صولة الزنادقة والملحدين على الدين واعتراضات الفلاسفة وإنكارهم عليه.
نعم، إن أولئك المؤمنين سيقولون بلسان حالهم: "إن أعداءً شرسين وبهذه الكثرة لم يستطيعوا أن يفنّدوا هذه الحقيقة ولا أن يعترضوا عليها. وإن طلاب تلك الحقيقة لا يحملون في خدمتها قصدا غير الحق وحده. فلابد أن تلك الحقيقة هي عين الحق ومحض الحقيقة". وبهذا يقوى إيمانهم بدليل واحد يفوق ألف برهان وبرهان، فينقذون إيمانهم ولا يساورهم شك بعدُ.
إنه لأجل اطمئنان عوام المؤمنين وتقبلهم حقائق الإيمان دون أن يساورهم أي تردد، يلزم في الوقت الحاضر، وجودُ معلّمين، يحملون من الإيثار ما يجعلهم يضحون لا بمنافعهم الدنيوية وحدها، بل بمنافعهم الأخروية أيضا في سبيل منافع أهل الإيمان الأخروية. فيكون ذلك الدرس الإيماني خالصا نقيا بحيث لا يفكرون فيه بالمنافع الشخصية مهما كانت. بل يسعون في الخدمة الإيمانية، بالحقائق، نيلا لرضا اللّٰه، وعشقا للحقيقة، وشوقا إلى الحق والسداد الذي في الخدمة، وذلك ليطمئنّ كلُّ من يحتاج إلى الإيمان اطمئنانا تاما دون حاجة إلى إيراد الأدلة له، ولكي لا يقول: " إنه يخدعنا ويستميلنا" وليعلم أن الحقيقة قوية بذاتها إلى حد لا يمكن أن تتزعزع بأي حال من الأحوال، ولا تكون أداةً طيعة لأي شيء كان.. فيقوى إيمانه عندئذٍ ويقول: "حقا إن ذلك الدرس الإيماني هو عين الحقيقة" وتُمحى شبهاتُه ووساوسه.
([1]) حيث كان الأذان والإقامة والخطبة بالتركية.
([2]) انظر: السخاوي، المقاصد الحسنة 246؛ علي القاري، المصنوع 112؛ العجلوني، كشف الخفاء 1/ 563.
([3]) مستلات من كتاب "ختم التصديق الغيبي".
