[ لِمَ لَم يُستجب الدعاء؟ ]
جواب عن سؤال سألنيه باسم الكثيرين أحدُ طلاب النور الصغار الذي يعاونني في أموري الشخصية.
سؤال: أستاذي المحترم!
لِمَ لم يُستجب الدعاء والصلاة المقامة للاستسقاء، حيث تجمّعت السحُب عدة مرات ثم تفرقت دون إنزال المطر؟
الجواب: إن انحباس المطر هو وقت هذا النوع من الدعاء والصلاة، وليس علّته وحكمته. فكما تُصلّى صلاة الكسوف والخسوف عند الكسوف والخسوف، وكما تصلّى صلاة المغرب عند غروب الشمس، كذلك انحباس المطر والجفاف هو وقت صلاة الاستسقاء ودعاؤه.
من المعلوم أن سبب العبادة والدعاء هو الأمر الإلهي، ونتيجتَها رضاه تعالى، وفوائدَها أخروية. فلو قُصدت من الصلاة والعبادة مقاصدُ دنيوية، وأُديت لأجلها فحسب فلا تُقبل تلك الصلاة والعبادة. إذ كما لا تُؤدى صلاةُ المغرب لأجل غروب الشمس ولا صلاة الخسوف لأجل انكشاف القمر، كذلك أداء صلاة الاستسقاء لأجل إنزال المطر خطأ، إذ إنزالُه من أمر اللّٰه، وواجبنا نحن تجاهه سبحانه العبوديةُ والدعاء من دون التدخل بما هو موكول أمره إليه تعالى.
ولكن على الرغم من أن النتيجة الظاهرة لصلاة الاستسقاء هي نزولُ المطر، فإن نتيجتها الحقيقية والأصلية والنافعة وثمراتها الجميلة الطيبة هي إدراك الجميع أن الذي يربّيه ويغذّيه ليس والديه ولا محله ولا دكانه، بل مَن يرسل السحاب الثقال بالماء الثجّاج، فهو الذي يرسل إليه الرزق. وحتى الطفلُ الصغير يدرك هذا المعنى الواسع بعقله الصغير، لما هو معتاد عليه من التوسل والرجاء كلما جاع. فالمعنى الذي ينطوي عليه الاستسقاء هو أن الذي يدبّر أمر الدنيا الهائلة كدارٍ صغيرة ويغذيني والأطفالَ جميعا وأهلَ الدار، ويبعث إليهم رزقهم إنما هو سبحانه. فلا نفع من غيره إن لم يرزُق هو سبحانه. فما علينا إلاّ أن نتوسل إليه وحده.. وبهذا يقوى إيمان المرء.
ولهذه المناسبة ستُبين ست نقاط باختصار:
النقطة الأولى:
إن ثمن النعمة الإلهية ورحمتَها هو الشكر، ولكننا لم نؤد الشكر حقه. وكما لم نؤد ثمن الرحمة بالشكر جلبنا الغضب الإلهي بظلمنا وعصياننا. وقد جعلت البشريةُ نفسها مستحقة للعقاب بما تقترف من ظلم ودمار وكفر وعصيان، وعوقبتْ من جراء ذلك بشتى أنواع العقاب الصارم، فلا جرم أن يكون لنا حظ من ذلك العقاب.
النقطة الثانية:
ورد في حديث شريف ما معناه أنه حتى الأسماك في جوف البحر تشتكي إلى الله من الظالمين والعاصين فينقطع المطر، وتقل أرزاقنا بسبب ظلمهم.([1])
نعم، إن المظالم والذنوب التي تُرتكب في هذا الزمان لا تدع مجالا لطلب الرحمة من اللّٰه. وحتى الحيوانات الأبرياء تتأذى من جرائها.
النقطة الثالثة:
تقول الآية الكريمة: ﴿وَاتَّقُوا فِتْنَةً لاَ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً﴾(الأنفال:25) إذ لو نجا الأبرياءُ من مهالك المصيبة العامة نجاةً خارقة، لفسدت حكمةُ الدين الذي هو امتحان واختبار. وعند ذلك يصدّق الفاسدون -كأبي جهل- تصديق أبى بكر الصديق رضي الله عنه. ولأجل هذا يقاسي الأبرياءُ أيضا البلايا في المصيبة العامة.
النقطة الرابعة:
إنه لِكثرة اختلاط الحرام في الأموال والأرزاق بسبب تفشي الحيل والغش والرشوة.. يُسلب الناسُ حق الترحّم عليهم، بسبب الظلم أو عدم الشكر أو خلط الحرام بأموالهم.
النقطة الخامسة:
إن رسائل النور في الأناضول وسيلةٌ مهمة لدفع البلايا، إذ كما تَدفع الصدقةُ البلاءَ،([2]) فإن نشر رسائل النور وقراءتها صدقةٌ كلية ووسيلةٌ لدفع بلايا سماوية وأرضية. وقد تبين ذلك بأمارات كثيرة ووقائع كثيرة، بل تحقق ذلك بإشارات من القرآن الكريم.
النقطة السادسة:
إن انقطاع المطر مصيبةٌ وبلاء، وجزاءُ عمل، فينبغي مقابلة هذا بالالتجاء إلى الله تعالى والدعاء مع العبودية الخالصة في حالةٍ من بكاء وانكسار قلب، وحزنٍ وتضرّع كامل، وندامة جادة، وتوبة نصوح، واستغفار من كل الذنوب، وأن يجري ذلك كله ضمن دائرة السنة النبوية ومن دون تدخّل البدع، وعلى الصورة التي تعيّنه الشريعة.
فأمثال هذه المصائب العامة -لكونها آتية من ذنوب معظم الناس- تندفع بقيام القسم الأعظم منهم بالتوبة والندامة والاستغفار.
[لا نجعل من الدين وسيلة لمكاسب دنيوية]
بِاسمِهِ سُبحَانَهُ
السّلام عليكم ورحمة الله وبركاته
إخوتي الصديقين الأعزاء
جواب اضطررت إلى كتابته عن سؤال
-مادي ومعنوي- ورد من عدة جهات.
سؤال: لِمَ لا تكوّن علاقة ولا تمد وشائج ارتباط مع التيارات الجارية داخل البلاد وخارجها، ولا سيما مع الجماعات ذات الاهتمامات السياسية، بل ترفض ذلك وتمنع -ما وسعك- طلاب النور عن أي تماسٍ كان بتلك التيارات! والحال أنك لو كوّنت علاقة معهم فإن ألوف الناس سيدخلون دائرة رسائل النور زَرافات ووُحداناً وسيسعون لنشر حقائقها الساطعة، فضلاً عن أنك لا تكون هدفاً إلى هذا الحد للمضايقات الشديدة التي لا مبرر لها؟
الجواب: إن أهم سبب لهذا الاجتناب وعدم الاهتمام بالتيارات الجارية، هو الإخلاص الذي هو أساس مسلكنا، فالإخلاص هو الذي يمنعنا عن ذلك، لأن في زمن الغفلة هذا، ولاسيما من يحمل أفكاراً موالية لجهة معينة، يحاول أن يجعل كل شيء أداة طيعة لمسلكه، بل يجعل حتى دينه وأعماله الأخروية وسائل لذلك المسلك الدنيوي. بينما الحقائق الإيمانية والخدمة النورية المقدسة تأبى أن تكون وسيلة لأي شيء كان في الكون، ولا يمكن أن تكون لها غاية إلاّ رضى الله سبحانه.
وفي الحقيقة، إنه من الصعوبة بمكان الحفاظُ على سر الإخلاص في خضم الصراعات المتنافرة للتيارات الحالية، ومن العسير الحيلولة دون جعل الدين وسيلة لمكاسب دنيوية، لذا فإن أفضلَ علاج لهذا هو الاستناد إلى العناية الإلهية وتفويض الأمر إلى توفيق رب العالمين بدلاً من الاستناد إلى قوة التيارات الحالية.
ومن جملة الأسباب الداعية لاجتنابنا هذا هو "الشفقة" التي هي أساس من الأسس الأربعة لرسائل النور، أي عدم التلوث بظلم الآخرين وإضرارهم. إذ الإنسان -بمضمون الآية الكريمة: ﴿إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ﴾(إبراهيم:34) يرد معاملة المقابل له في هذا العصر بلا رحمة وبظلم شنيع مخالفاً بذلك الآية الكريمة: ﴿وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى﴾(فاطر: 18) التي هي دستور الإرادة الإلهية. حيث تتغلب عليه العاطفة والانحياز إلى جهة، وعندها لا يقصر عداءه على المجرم وحده ولا يأخذ بجريرته جميع أقاربه وحدهم، بل أيضاً يعاقب كل مَن له صلة بالمجرم من قريب أو بعيد، حتى إنه إذا ما كان له سلطة أو حكم، يبيد قرية كاملة بالقنابل بجريرة مجرم واحد. بينما الإنصاف يقتضي ألاّ يُضحّى بحق بريء واحد بسبب مائة مجرم وأن لا يُظلم ذلك البريء بسببهم. ولكن الوضع الحالي يخالف الآية الكريمة، فيقحم مائة من الأبرياء في بلايا وأضرار بسبب بضع مجرمين.
فمثلاً: إن إهلاك والدين عجوزين لمن ارتكب خطأ، وتشريدَ أطفاله الصغار ودفعهم جميعاً إلى هاوية الفقر والذل ومعاداتهم بالانحياز إلى جهة ما مناف كلياً لأساس الشفقة على الخلق.
فمن جراء الانحياز إلى التيارات الجارية -بين المسلمين- لا ينجو الأبرياء من الظلم بل يشيع شيوعاً كلياً ولا سيما بالأسباب الداعية إلى قيام الاضطرابات والثورات.
ولو كان الجهاد قائماً -وهو جهاد إسلامي- فإن حال أطفال الكفار تبقى على وضع آبائهم، وربما يكونون من الغنائم ويتمكن المسلمون أن يجعلوهم تحت إمرتهم وملك يمينهم. ولكن لو ارتد أحد داخل ديار المسلمين، فلا يُمتلك أطفاله قطعاً، ولا يجوز التجاوز على حقوقهم بأي شكل من الأشكال. لأن أولئك الأبرياء إنما يرتبطون بالإسلام وبجماعة المسلمين، برابطة الإسلام، التي انقطعت عن والدهم.أما أولاد الكفار فرغم أنهم من أهل النجاة، فإنهم يتبعون والدهم في الحقوق والحياة. لذا ربما يكونون أُسراء أو عبيداً في أثناء الجهاد الإسلامي.
[جواب قصير حول التوافق]
إذا كان في الشيء توافقٌ، فإنه يعدّ أمارة صغيرة، بمعنى أن فيه قصدا وإرادة، ولم يحدث مصادفةً. وإذا حصل التوافق في عدة جهات فالأمارة تتقوى. ولاسيما إذا كان التوافق بين شيئين خاصين -من بين مائة احتمال- وبينهما علاقة قوية، فتُصبح الإشارة الواردة من ذلك التوافق في حكم دلالة صريحة، وأنه حصل بقصد وبإرادة، ووجد لأجل مقصد معين، فلا احتمال فيه للمصادفة.
[حاجة الفطرة]
إخوتي الأعزاء الصديقين!
إن الأطفال الأبرياء هم في مقدمة الذين سيكونون طلابا حقيقيين لرسائل النور، وذلك وفق ما تقتضيه فطرتهم وتتطلبه الأوضاع الراهنة. لأن الطفل الذي لم يتلق في صغره درسا إيمانيا قويا، يصعب عليه بعد ذلك أن يَقرّ في روحه أركانُ الإيمان والإسلام، بل يكون ذلك عسيرا عليه، شأنه شأن تقبُّل غير المسلم الإسلام، بل يستغرب من الإسلام أكثر منه، ولا سيما إن لم ير والدَيه على دين وتقوى، وربّى ذهنَه بالعلوم الدنيوية وحدها.
ففي هذه الحالة، يستثقل ذلك الطفلُ والديه بدل أن يبرّ بهما، ويكون بلاء عليهما، ويترقب موتَهما! أما في الآخرة فلا يكون شفيعا لهما، بل مدّعيا عليهما قائلا: "لِمَ لَمْ تنقذوا إيماني بتربيتي على الإسلام؟".
فبناء على هذه الحقيقة:
فإن أسعد الأطفال هم أولاء الذين دخلوا ضمن دائرة رسائل النور، فيكونون أبناءً برَرة للوالدين وخداما أُمناء لهم، يقومون بين يديهم بالاحترام والتوقير اللائقَين بهما، ويسجلون بأعمالهم الصالحة حسناتٍ في سجل حسنات والدَيهم بعد وفاتهم.. وفي الآخرة يكونون لهما شفعاء، كل حسب درجته.
إن القسم الثاني من طلاب النور: هم النساء اللائي يشعرن بحاجتهن إلى رسائل النور في فطرتهن. ولاسيما من كان لهن شيء من التجافي عن الدنيا، وربما العزوف كليا عنها، حيث قد بلغن من العمر مبلغا.
فرسائل النور تكون لهنّ غذاء معنويا؛ لأن إحدى أسس رسائل النور، "الشفقة" التي هي من مظاهر اسم الله "الرحيم" وهي الخميرة والجوهر الخاص المغروز في فطرة النساء وميزتهن الأصيلة.
والقسم الثالث: هم المرضى والشيوخ المحتاجون إلى رسائل النور-ولو بصورة غير فطرية- كحاجتهم إلى الخبز والدواء. وذلك لأن رسائل النور توضح لهم الحياة الباقية وضوحَ الشمس في رابعة النهار، فضلا عن بيانها ماهية الحياة الدنيا من حيث فنائها. فالذين تأذّت حياتهم الدنيوية بالمرض أو بالشيخوخة والذين يظنون الموتَ إعداما أبديا، بما أحاطت بهم من غفلة وضلالة.. فهؤلاء جميعا بحاجة إلى رسائل النور لِمَا يجدون فيها من السلوان والعزاء ونور الرجاء، حتى يُفضَّل لديهم المرضُ والشيخوخة، على الصحة والشباب.
سعيد النورسي
[نجاهد بنور القرآن]
إخواني الأعزاء الصدّيقين
إن في موسم الصيف هذا، وفي زمن الغفلة هذا، وفي فترة الانشغال بهموم العيش، وفي أوان نيل الثواب الكبير من العبادات التي تؤدّى في هذه الشهور الثلاثة، والصراع السياسي العاصف الذي يعصف في أرجاء الأرض كافة، دونه الصراع بالسلاح.. في هذه الأثناء إن لم تكن هناك صلابةٌ في منتهى القوة وثباتٌ راسخ على أداء وظيفة النور المقدسة فسوف يعتري فتورٌ وتعطّلٌ وتوقف في العمل. مما هو ليس بصالح رسائل النور.
إخوتي الأعزاء!
اعلموا يقينا أن الوظيفة التي ينشغل بها طلاب رسائل النور مسألةٌ أجلّ وأعظم من أعظم مسائل الكرة الأرضية قاطبة، فلا تفتروا في مهمتكم الباقية، ملتفتين إلى مسائل دنيوية مثيرة للاهتمام، اقرأوا كثيرا "المسالة الرابعة" من رسالة "الثمرة" كيلا تخور عزائمُكم وتضعف قوتُكم المعنوية.
نعم، إن جميع المسائل العظمى التي ينهمك بها أهلُ الدنيا إنما تدور ضمن الدستور الظالم؛ دستورِ الجدال والصراع وفي نطاق الحياة الفانية، بأبشع صورها وأظلمها حتى يضحّى في سبيلها بالمقدسات الدينية حصولا على حطام الدنيا، لذا يلقيهم القدرُ الإلهي في عذاب جهنم معنوية من خلال جرائمهم التي يرتكبونها.
أما رسائل النور وطلابُها فإن ما يسعَون إليه وما هم مكلّفون بأدائه من مهمة إنما هو لحياة باقية خالدة بدلا من هذه الفانية. وهو إظهار حقيقة الموت أنه ستارٌ أمام الحياة الباقية، ذلك الجلاد الذي يرهبه عبَدةُ الدنيا أشدَّ رهبة.. ومن ثم إثبات ذلك بيقين جازم كمن يثبت حاصل ضرب الاثنين في اثنين يساوي أربعا.
فقد أظهرت رسائل النور هذه الحقيقة إلى الآن؛ من أن الموت أو الأجل ليس إلاّ ستارا ووسائلَ لبلوغ أهل الإيمان السعادةَ الأبدية.
حاصل الكلام: إن أهل الضلالة يكافحون في سبيل حياة دنيوية مؤقتة، أما نحن فنجاهد الموت بنور القرآن، لذا فإن أعظم مسألة في نضالهم -لأنها مؤقتة- لا تعادل أصغرَ مسألة من مسائلنا، لأنها متوجهةٌ إلى البقاء والخلود..
وحيث إنهم لا يتنازلون -ببلاهتهم- ويربأون بأنفسهم عن التدخل في مسائلنا العظمى، فلِمَ نتتبع بلهفة مسائلَهم الصغيرة على حساب وظيفتنا المقدسة؟.
تدبروا في هذه الآية الكريمة ﴿... لاَ يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ﴾(المائدة:105) بمعنى أن ضلال الآخرين لا يضرّ هدايتِكم، فلا تنشغلوا بها. وتأمّلوا في الدستور المهم من دساتير أصول الشريعة: "الراضي بالضرر لا يُنظَر له". أي: لا ينظَر بعين العطف والشفقة لمن رضي بنفسه الضرر.
فما دامت الآيةُ الكريمة والدستورُ القويم يمنعاننا من العطف على الراضين بالضرر على علم. فلابد أن نحصر أوقاتنا وجميع قوتنا واهتمامنا في وظيفتنا المقدسة. ولابد أن نعدّ كلّ ما هو خارج عنها أمورا لا تعنينا بشيء، فلا نضيّع وقتنا بها. لأننا نملك النورَ وحده، لا المطرقة والصولجان، فلا يبدر منا تعدٍّ على حقوق أحد قطعا، ولكن إذا ما اعتدي علينا، نظهرُ النور ونبيّنه. فنحن في حالةِ نوعٍ من دفاع نوراني.
[الحقيقة القرآنية في الرسائل]
إن أجزاء رسائل النور قد حَلّت أكثر من مائة من أسرار الدين والشريعة والقرآن الكريم، ووضّحتها وكشفتها وألجمَت أعتى المعاندين الملحدين وأفحمتهم، وأثبتت بوضوح كوضوح الشمس ما كان يُظَن بعيدا عن العقل من حقائق القرآن كحقائق المعراج النبوي والحشر الجسماني، أثبتتها لأشد المعاندين والمتمردين من الفلاسفة والزنادقة حتى أدخلت بعضَهم إلى حظيرة الإيمان. فرسائل هذا شأنها لابد أن العالَم -وما حوله- بأجمعه سيكون ذا علاقة بها، ولا جرم أنها حقيقةٌ قرآنية تشغل هذا العصر والمستقبل، وتأخذ جلّ اهتمامه، وإنها سيف ألماسيّ بتّار في قبضة أهل الإيمان..
[اعذار في مسألتين]
إخوتي الأعزاء!
إنقاذا لطلاب رسائل النور الضعفاء أو حديثي العهد بها من الشكوك والشبهات أبيّن الآتي:
يُشيع بعضُ العلماء السذج أو بعض المعارضين لرسائل النور والموالين للبدع -بما تحيكه منظمات سرية من مؤامرات- نقائصَ كثيرة وأخطاء كثيرة -أعترف بها- صدرت من شخصي، تهوينا لشأني ليُنـزلوا بها ضربتَهم القوية على رسائل النور، صدّا للحقائق التي لا تُجرَح لرسائل النور. فهناك عشرون حادثة مهمة منذ عشرين سنة تؤيد هذا.. حتى أصبحوا السبب في زجّنا السجن مرتين. ولهذا أُعلنُ لأصدقائي ولطلاب رسائل النور ما يأتي:
إني أشكر ربي كثيرا أن جعلني لا أُعجب بنفسي -ناهيك عن الإطراء والمزايدة لنفسي- وأن أعلَمني نقائصي وذنوبي، فأطلب العفو عنها والخجل يتملّكني راجيا أن يكون إخلاص الطلاب الميامين لرسائل النور وتفانيهم في الخدمة الإيمانية وشفاعتهم المعنوية لي، كفارةً لذنوبي.
فالذين يعترضون عليّ يجهلون عيوبي المستورة، بل يتـذرعون ببعض أخطائي الظاهرة ويظنون ظنا خطأ أن رسائل النور مُلكي، فيرومون إسدال الستار أمام أنوارها، وإعاقة انتشارها فيقولون:
إن سعيدا لا يأتي إلى صلاة الجمعة، ولا يُطلق لحيته.. وأمثالها من الانتقادات.
الجواب: مع اعترافي بكثير من التقصيرات والذنوب إلاّ أن لي في هاتين المسألتين أعذارا:
أولا: إنني شافعي المذهب، وإن أحد شروط صلاة الجمعة حسب هذا المذهب هو أن يقرأ الفاتحة أربعون شخصا مأموما مع شروط أخرى أيضا، لذا فلا تُفرض عليّ الجمعة هنا. إلاّ أنني أقلّد المذهب الحنفي فأؤديها نافلةً.
ثانيا: لقد منعوني لقاءَ الناس منذ عشرين سنة، حتى إنهم أوعزوا إلى المسؤولين بعدم تقرّب أحد مني -منذ أربعة أشهر- فضلا عن أني أعيش منذ خمس وعشرين سنة منـزويا ومعتكفا. لهذا لا أجد الراحةَ والطمأنينة في الأماكن المزدحمة، فلا أستطيع أداء الصلاة خلف كلِّ إمام حسب مذهبي، إذ لا ألحق بالقراءة خلفَه، فهو يسرع للركوع وأنا لم أُكمل بعدُ نصفَ الفاتحة، علما أن قراءة الفاتحة فرض في هذا المذهب.
أما مسألة إطلاق اللحية:
فإن إطلاق اللحية سنة نبوية، وليست خاصة بالعلماء. وقد نشأتُ منذ صغري عديم اللحية وعشتُ في وسط أناس تسعون بالمائة منهم لا يطلقون لحاهم.
هذا، وإن الأعداء يُغيرون علينا دائماً وقد حلقوا لحى بعض أحبابي فأدركتُ عندها حكمة عدم إطلاقي اللحية، وإنه عناية ربانية، إذ لو كنت مطلِقاً اللحيةَ وحُلقتْ، لكانت رسائل النور تتضرر ضرراً بالغاً، حيث كنت لا أتحمل ذلك فأموت.
ولقد قال بعض العلماء: "لا يجوز حلق اللحية". وهم يقصدون عدم حلقها بعد إطلاقها، لأن حلقها بعد إطلاقها حرام. أما إذا لم يطلقها فيكون تاركاً لسنة نبوية.
ولكن في الوقت الحاضر، لأجل اجتناب كبائر عظيمة جداً قضينا طوال عشرين سنة حياة أليمة أشبه بالسجن الانفرادي، نسأله تعالى أن تكون كفارة لترك تلك السنة النبوية.
وأعلن أيضاً إعلاناً صريحاً قاطعاً: أن رسائل النور مُلك القرآن العظيم، فأنَّى لي الجرأة أن أدّعي تملُّكها! لذا لا تسري أخطائي وتقصيراتي فيها قطعاً، فأنا لست إلاّ خادماً مذنباً لذلك النور الباهر، ودلاّلاً داعياً في متجر المجوهرات والألماس. فأحوالي المضطربة لا تؤثر فيها ولا تمسّها أصلاً
والحقيقة أن الدرس الذي لقنتنا إياه رسائلُ النور هو التمسك بحقيقة الإخلاص، وترك الأنانية، ومعرفة أن النفس مقصرة دائماً، والحذر الشديد من الإعجاب بالنفس. فنحن لا نظهر أنفسنا بل نظهر الشخصية المعنوية لرسائل النور ونبينها.
نحن نشكر من يرى نقائصنا ويريها لنا -بشرط أن تكون حقيقية- ونقول له: ليرضَ الله عنك؛ إذ كما نشكر من إذا وجد عقرباً في عنقنا ويرميها عنا قبل أن تؤذينا ونقدم له أجزل الشكر والامتنان، كذلك نقبل ونرضى بتبصيرنا نقائصنا وتقصيراتنا ونظل في شكر وامتنان لمن نبهنا عليها، بشرط عدم تدخل الأغراض الشخصية والعناد وعدم جعله وسيلة لمعاونة أهل الضلالة والبدع.
([1]) انظر:الطبري، جامع البيان2/55؛ البغوي، معالم التنزيل 1/134.
([2]) انظر:الخطيب البغدادي، تاريخ بغداد 8/207؛ المناوي، فيض القدير 4/236؛ العجلوني، كشف الخفاء 2/30.
