[رسالة إلى علماء الأزهر]

إن النسختين اللتين سترسلان إلى علماء الأزهر لم تُصحَّحا من قِبَلي؛ فلاشك من وقوع هفوات وسهو سواء في ضبط الشكل أو في العبارات العربية، ولاسيما في "خلاصة الخلاصة" التي في الختام. فلقد شاهدتُ هفوات في نسخ أخرى. ولهذا أرسِلوا نسخةً مصحّحة من قبل علماء في العربية-في أي وقت ترونه ملائما- من كل من مجموعةِ "عصا موسى" و"ذو الفقار".، وأرفقوا الآتي إليهم:

إن مدرسة الزهراء -لرسائل النور- بحاجة ماسة إلى الجامع الأزهر، كحاجة الطفل الصغير إلى أمه الرؤوم. فهي تطلب دوما أن يُسبغ شفقته عليها، إذ هي إحدى طالباته، تتلقى الدرسَ منه، وهي التي استهدفتها أعداءٌ شرسون كثيرون.

فهذه المدرسة الزهراء شعبةٌ مصغّرة من شُعب ذلك الجامع العظيم الذي يترأس المدارس الدينية جميعها وينوّر بها العالم الإسلامي.

ولأجل هذا تنتظر هذه الطالبة الصغيرة عَون ذلك الأستاذِ الموقّر، وذلك الأبِ الرحيم والمرشد الكبير، وترجو أن يمدّ يده إليها.

 

 [مكاسب العمل لرسائل النور]

(يوزن مدادُ العلماء بدماء الشهداء)([1])

(من تمسك بسنتي عند فساد أمتي فله أجر مائة شهيد)([2])

استلهاما من هذين الحديثين الشريفين نبين عددا من الفوائد الكثيرة -الدنيوية والأخروية- الناشئة من استنساخ رسائل النور، والمذكورة في أجزائها والثابتة بتجارب طلابها وتصديقهم إياها.

خمسة أنواع من العبادات:

1- إنها جهاد معنوي تجاه أهل الضلالة، ذلك الجهاد الأهم.

2- إنها خدمة لأستاذه ومعاونة له على نشر الحقيقة.

3- إنها خدمة للمسلمين كافة من حيث الإيمان.

4- إنها تحصيل للعلم بالكتابة.

5- إنها عبادة فكرية التي قد تكون ساعة منها بمثابة سنة من العبادة.

 

ولها خمسة أنواع من الفوائد الدنيوية:

1- البركة في الرزق.

2- الانشراح والسرور في القلب.

3- اليُسر في المعيشة.

4- التوفيق في الأعمال.

5- المشاركة في الدعوات الخاصة لجميع طلاب النور، بنيله فضيلة طالب العلم.

 

نتيجتان مهمتان للعمل لرسائل النور بالقلم والتتلمذ عليها

الأول: حسن الخاتمة كما تشير إليها الآيات القرآنية الكريمة.

الثاني: الاشتراك بالمكاسب المعنوية لجميع طلاب النور، بمقتضى الاشتراك المعنوي ضمن دائرة رسائل النور، ونيل حظه من حسناتهم جميعا.

وكذا الدخول ضمن حظيرة طلاب العلم -في هذا الزمان الذي فُقد فيه طالبُ العلم- ونيلُ الاحترام اللائق بهم من قِبَل الملائكة،([3]) بل نيلُ حياة الشهداء في عالم البرزخ -إنْ وفّق إلى ذلك وأوتى حظا عظيما- بمثل ما حظي بها طالب النور الشهير "الحافظ علي"، والمذكور في رسالة "الثمرة".

 

[هكذا تقتضي خدمة الإيمان]

أولاً: إنه يجب عليّ المجيء إلى هنا حتى لو كنت في مكة المكرمة، وذلك إنقاذاً للإيمان وخدمة للقرآن الكريم، فالحاجة هنا شديدة جداً. فلو كنت أملك ألف روح وروح، وابتُليت بألف مرض ومرض، وقاسيت ألوفاً من صنوف الآلام والمصاعب، فإن قراري -وقرارنا- هو البقاء هنا، خدمةً لإيمان هذه الأمة وسعياً لإكسابهم السعادة الأبدية، ذلك ما تعلمناه من دروس القرآن الكريم.

ثانياً: تكتب إليّ -يا أخي- عن الإهانة التي أُقابَل بها بدلاً من الاحترام والتقدير وتقول: "لو كنتَ في مصر أو أمريكا لكنتَ تُذكر في التاريخ بإعجاب وفخر".

أخي العزيز الفطن!

نحن نهرب هروباً من احترام الناس إيانا وتوقيرهم لنا وحسن ظنهم بنا وإكرامهم لنا وإعجابهم بنا، وذلك بمقتضى مسلكنا. فاللّهاث وراء الشهرة التي هي رياء عجيب، ودخول التاريخ بفخر وبهاء، وهو عُجب ذو فتنة، وحبُّ الظهور وكسب إعجاب الناس.. كل ذلك مناف ومخالف للإخلاص الذي هو أساس من أسس مسلك النور وطريقه. فنحن نجفِل ونهرب مذعورين من هذه الأمور باعتبارنا الشخصي؛ ناهيك عن الرغبة فيها.

ولكننا نرجو من رحمة الله الواسعة إظهار رسائل النور النابعة من فيض القرآن الكريم، والتي هي لمعات إعجازه المعنوي، ومفسرة حقائقه وكشافة أسراره.. فنرجو من رحمته تعالى الإعلانَ عن هذه الرسائل والرواجَ لها وشعور الناس بحاجتهم إليها وإظهارَ قيمتها الرفيعة جداً، وتقديرَ الناس لها وإعجابهم بها، وتبيانَ كراماتها المعنوية الظاهرة جداً وإظهار غلبتها على الزندقة بجميع أنواعها بسر الإيمان، فنحن نريد إعلام هذه الأمور وإفهام الناس بها وإظهارَ تلك المزايا، ونرجو ذلك من رحمته تعالى.

 

[ذكرى وعبرة]

في هذه الأوقات التي نجد فيها الضيق والعنت، أزعجتني نفسي الجزِعةُ الفارغة من الصبر، فأسكتتها هذه الفقرةُ، وألزمتها الحجة، ودفعتها إلى الشكر للٰه.

أقدم هذه الفقرة الموضوعة فوق رأسي طي رسالتي هذه لعلها تفيدكم أيضاً.

1- يا نفسي! لقد أخذتِ نصيبك من الأذواق -في غضون ثلاث وسبعين سنة- أكثر مما أخذها تسعون بالمائة من الناس. فلم يبق لكِ بغية فيها.

2- أنتِ ترومين دوام الأذواق وبقاءها وهي فانية آنيّة، لذا تبكين عشر ساعات عن ضحك دام دقيقة واحدة.

3- إن المظالم التي أتت عليك، والمصائب التي نزلت بكِ تنطوي على عدالة القدر. فيظلمونك لما لم ترتكبيه، بينما القدر يؤدبك بيد تلك المصيبة -بناء على أخطاء خفية- ويكفّر عن خطاياك.

4- يا نفسي الجزعة! لقد اقتنعتِ قناعة تامة -بمئات من تجاربكِ- أن المصائب الظاهرية ونتائجها تنشق عن ثمرات عناية إلهية في منتهى اللذة. فالآية الكريمة: ﴿وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ﴾(البقرة:216) تلقن درسَ حقيقةٍ يقينية. تَذكّري دائماً هذا الدرس القرآني. ثم إن الناموس الإلهي الذي يدير عجلة الكون، ذلك القانون القدري الواسع العظيم لا يُبَدَّل لأجلك.

5- اتخذي هذا الدستور السامي دليلاً: "من آمن بالقدر أمِنَ من الكدر". ولا تلهثي وراء لذائذ موقتة تافهة كالطفل الغرير. فكري دوماً أن الأذواق الفانية تورث فيك حسرات وآلاماً معنوية، بينما الآلام والمشقات تورث لذائذ معنوية وأثوبة أخروية. فإن لم تكوني بَلْهَاءَ، يمكنك أن تتحري عن الأذواق الموقتة للشكر وحده، وما أُعطيتِ اللذاتِ إلاّ للشكر.

سعيد النورسي

 

[حوار مع النفس]

إخواني الأوفياء الصادقين الأعزاء!

أولا: لقد خطر على بالي أن أكتب لكم، لأُطْلعكم على ما جرى من مناظرة خاصة مع نفسي، وهي الآتية:

إن اللوحة المعلقة فوق رأسي -المعروفة لديكم- تُخرس نفسي الأمارة وتُلزمها الحجة تماما، ولكني -في هذه الليلة- تعرضت لهجوم شنته دوافعُ مشاعري وأحاسيسي العمياء التي تستعمل سلاح النفس الأمارة بالسوء بإصرار أكثر، فأثّرت تأثيرا بالغا في عروقي وأعصابي، وأنا أعاني من حالة عجيبة تولدَت من آلام الأمراض وتألمات التسمم والأسقام ورهافة الحس، فضلا عن إلقاءات الشيطان وإيحاءاته، وحبّ الحياة المغروز في الفطرة.. ففي خضم هذه الحالات هاجمتْ تلك الأحاسيسُ والمشاعر العمياء -وهي في حكم النفس الأمارة الثانية- قلبي وروحي، موحيةً باحتمال وفاتي ومغادرتي الحياة الدنيا. فنشرتْ يأسا قاتما وتألُّما عميقا وحرصا شديدا على الحياة مع استمراءٍ لها وتلذذ بها.

فقالت تلك النفس الأمارة الثانية مع الشيطان:

لِمَ لا تسعى لراحة حياتك؟ بل ترفضها. ولِمَ لا تتحرى عن حياة ممتعة بريئة طيبة تقضيها طوال عمرك ضمن دائرة النور؟ بل ترضى بالموت وتطلبه!

وعلى حين غرة ظهرت حقيقتان صارمتان أخرستا النفس الأمارة الثانية والشيطان معا، وهما:

الحقيقة الأولى

ما دامت الوظيفة المقدسة الإيمانية لرسائل النور ستتوضح أكثر وتنكشف بإخلاص أزيد بسبب وفاتي. حيث لا تُتّهم من أية جهة كانت أنها أداة لمكاسب الدنيا ووسيلة للأنانية والعجب.. وأن الوظيفة الإيمانية ستدوم بإخلاص أكثر وأقرب إلى الكمال، إذ ليس هناك ما يثير حسد الحاسدين في حياتي الشخصية... وعلى الرغم من أن بقائي على قيد الحياة قد يتيح نوعا من المعاونة في سير الخدمة -خدمةِ الإيمان والقرآن- فإن شخصيتي البسيطة التي لها حسّاد ونقّاد لهم شأنهم يمكنهم أن يُلصقوا تُهَما على تلك الشخصية ويهاجموا -بعدم الإخلاص- رسائلَ النور، ويتجنبوها ويجنّبوا الآخرين عنها... ثم إن من يقوم بشيء من الحراسة في دائرة، إذا ما أخذته الغفوةُ وغلب عليه النوم، فالغيورون في تلك الدائرة النورانية يهبّون حذرين، فيبرز في الميدان أُلوفُ الحراس والمرابطين بدلا من حارس واحد بسيط...

لذا ولأجل ما سبق؛ ينبغي أن يقال للموت المقبل: أهلا ومرحبا.

ثم يا نفسي! لِمَ تريدين أن تتخلفي عن الكثيرين من طلاب النور في البذل والعطاء، ألم يبذلوا أموالَهم وراحتهم ومتع الدنيا كلها، بل حياتهم -إن استوجب الأمر- في سبيل خدمة النور؟!

اعلمي قطعا يا نفسي! أنه لَشرف عظيم في منتهى اللذة والرضى، توديعُ حياة الشيخوخة الفانية المرهقة -إن لزم الأمر أو آن أوانه- في سبيل إكساب حياة باقية لكثير من المنكوبين وإنقاذها برسائل النور لئلا تُفضي إلى العدم.

الحقيقة الثانية

لو وضعت عشرة أرطال من الحِمل على كاهل شخص ضعيف عاجز عن حَمل رطل واحد، واستعان به أصدقاؤه بدل أن يعينوه في حمله -لحسبانهم أنه ذو قوة وقدرة على الحَمل لخفاء ضعفه عليهم- فسوف يحاول ذلك الشخص الضعيف أن يُظهر نفسَه لهم بمظهر القوي جدا، لئلا يَسقط في نظرهم ولئلا يخيب حُسن ظنهم به، مما يؤدي به إلى التكلف والتصنع والظهور بما ليس فيه وأمثالِها من الأمور الثقيلة المقيتة الخالية من الذوق.

فكما أن الأمر هكذا في هذا الشخص، كذلك يا نفسي الأمارة الثانية الموغلة في أعماق المشاعر العمياء!

اعلمي ن شخصيتي الاعتيادية البسيطة هذه، واستعدادي الذي لا أهمية له، كالبذرة.. إن هذا الشخص لن يكون مصدرا ولا منبعا ولا مدارا للحقائق التي تتضمنها رسائل النور النابعة من صيدلية القرآن الكريم المقدسة، والتي سُلّمت إلى أيدينا برحمة منه تعالى وبفضله وعنايته سبحانه في هذا العصر المظلم المثقل بالأمراض والأسقام.

وحيث إنني فقير وضعيف عاجز، وسائلٌ لدى باب القرآن ليس إلاّ، ووسيلةٌ لإبلاغه إلى المحتاجين إليه، يبالغ طلابُ النور المخلصون الخالصون الصديقون الصادقون الأصفياء الفدائيون، في حسن ظنهم بشخصيتي الضعيفة، بما يفوقني مائة درجة.

فلأجل ألاّ أخيّب ظنهم الحسن، ولا أمس مشاعرهم بسوء، ولا أثبِّط شوقهم للأنوار، ولا أُظهر المستوى الواطئ لمن لقّبوه بالأستاذ، ولا أضطر إلى أنواع التصنع المؤلم والتكلف المقيت.. أترك لقاء الناس بل أضطر إلى تركه روحيا، لما أشعر به من نفور تولد من العيش الانفرادي طوال عشرين سنة، بل أترك حتى اللقاء مع الأصدقاء إلاّ ما يخص خدمة النور. فأدَع التكلف والتظاهر بما يفوق قيمتي الشخصية، وأترك إظهار نفسي أمام المغالين في حسن الظن، إنها ذات مقام، وأتخلى عن التكبر المنافي كليا للإخلاص، وأعاف التحري عن أذواق الأنانية المتسترة تحت ستار الوقار..

فيا نفسي المفتونة بتلك الأذواق، ألا تُزيل هذه الحالاتُ تلك الأذواقَ كلها؟!

يا نفسي! ويا دواعي الحس الشقية العمياء، المبتلاة بالأذواق!

لو استمتعتِ بألوف أصناف المتع، وتذوقتِ ألوف أنواع الأذواق الدنيوية، فهي إلى زوال في هذا الوضع، بل يتحول ذلك الذوق ألما بعينه.

وما دام تسعون بالمائة من الأحباب الذين مضوا وصاروا في طوايا الماضي كأنهم يستدعونني -بل حقيقة- إلى عالم البرزخ، أضطر إلى الفرار من عشرة أصدقاء حاليين. ولا جرم أن حياة البرزخ المعنوية تَفضل ألف مرة هذه الحياة، حياة الشيخوخة والانفراد.

وهكذا، أسكتت هاتان الحقيقتان إسكاتا نهائيا تلك النفسَ الأمارة الثانية. فللّٰه الحمد والمنة بما لا يتناهى من الحمد والشكر. إذ رضيتْ تلك النفس بالذوق الوارد من الروح والمنبعث من القلب.. وسكت الشيطان أيضا. بل حتى المرض المادي المتوطن في عروقي قد خفّ كثيرا.

حاصل الكلام: إذا متُ تزداد خدمة النور -للقرآن والإيمان- وتتوضح وتتبين بإخلاص أتمَّ، بلا حسّاد ولا اتهامات، فضلا عن النجاة من آلام التكلف الثقيلة المقيتة، والخلاصِ من أثقال العجب وأضرارِ التصنع بدلا من ذوق جزئيّ موقت لا أتحراه -في هذا الزمان- ولذةٍ ناشئة من رؤية فتوحات النور بنظر الدنيا.

ثم يا نفسي لقد تجولتِ -أنت والروح والقلب- في هذه السنة ولمرة واحدة في أرجاء الماضي، جولات حقيقية وخيالية لمشاهدة مَن تشتاقون إليه من المدن التي أمضيتُ فيها حياتي السابقة الممتعة، ولقاءِ الأحبة الذين أَنِسْتُ بهم ردحا من الزمن، والإخوانِ الذين حزنتِ على فراقهم حزنا أليما. فلم تشاهدي في أوطاني المحبوبة تلك إلاّ واحدا أو اثنين من الأحبة، أما الباقون فقد ارتحلوا إلى عالم البرزخ، فلقد تبدلتْ لوحاتُ تلك الحياة التي كانت تطفح باللذة والمتعة إلى لوحات أليمة تقطر الحزن والأسى، فلا تُراد تلك البقاعُ الخالية من الأحباب ولا تُطلب إذن!

لذا فقبل أن تطردنا هذه الحياةُ وهذه الدنيا قائلةً لنا: اخرجوا عني. نقول بعزة كاملة: الوداع، وفي أمانة الله وحفظه. نعم، هكذا ينبغي أن ندَع هذه الأذواق الفانية محتفظين بكرامتنا وعزتنا.

ألف ألف سلام ودعاء لجميع إخواننا، من أخيكم المريض والمسرور سرورا خالصا.

سعيد النورسي

 

[الفرق بين الإيمان وعدم الإنكار]

إخوتي الأعزاء الصادقين الأوفياء، والأبطال الميامين لطلاب النور!

لقد أشاعوا: "أن الناس يعرفون اللّٰه، فالشخص الاعتيادي يؤمن بالله كما يؤمن به وليّ من الصالحين". لأجل التهوين -ولو يسيرا- من قيمة رسائل النور العظيمة. وذلك ببيان عدم الحاجة إلى المزيد من حشد البراهين الدامغة والدلائل القيمة الضرورية التي تسوقها رسائل النور وتُكثر منها. وكأن هذه الحشود من البراهين الإيمانية لا ضرورة لها، ولا داعي لها.

ففي إسطنبول يروِّج -وبأسلوب رهيب جدا- قسمٌ من المنافقين الذين تورطوا في الكفر المطلق -المشحون بالفوضوية والإرهاب- كلاما من هذا القبيل فيقولون: "لا داعي لنا لمزيد من دروس الإيمان لأن كل أمة بل الناس جميعا يعرفون اللّٰه". وذلك محاولةً منهم لصدّ رسائل النور وحرمان الناس من الحقائق الإيمانية التي فيها، التي يحتاجها الناس كلهم حاجتهم إلى الماء والخبز.

والحال أن معرفة الله سبحانه والإيمانَ بحقائق "لا إله الاّ اللّٰه"، يستلزم التصديق القلبي، والإيمان المطلق الجازم بربوبيته سبحانه وتعالى، الشاملة المحيطة بكل ما في الكون، وأن مقاليد الأمور -من الذرات إلى المجرات- بجزئياتها وكلياتها في قبضته سبحانه، ولا تُدار إلاّ بقدرته، وتحت إرادته، فلا شريك له في ملكه.

أما النطق والتفوه بأن "الله موجود" ثم إسناد تصريف الأمور في ملكه إلى الأسباب التي لا عدّ لها وإلى "الطبيعة" واتخاذَها شركاء لله تعالى، ومن ثم الجهل بإرادته النافذة، وعلمه المطلق، ومثولِ كل شيء بين يديه، فضلا عن عدم الاهتمام بأوامره ونواهيه، والجهلِ بصفاته الجليلة، وما أرسل من رسله.. لا شك أن هذا كله ليس من الإيمان في شيء.

ولا ينطق بهذا ناطق إلاّ ليسلّي به نفسه وينجيها من التعذيب الدنيوي الروحي الذي يعذِّب به الكفرُ المطلق أصحابَه في الدنيا قبل الآخرة.

نعم، إن "عدم الإنكار" شيء و"الإيمان" شيء آخر تماما، إذ ما من ذي حس أو شعور يمكنه أن ينكر الخالق ذا الجلال الذي تشهد بربوبيته وعظمته وحكمته وجماله جميعُ أجزاء الكون.. فلو حاول الإنكار لحال دونه الكونُ بأجمعه، فيخرس، ويبقى وحيدا سائبا معزولا شاردا دون سند.

أما الإيمان، فلقد علَّمَنا القرآن الكريم أنه التصديق القلبي بوجود الخالق جل وعلا بصفاته المقدسة وبأسمائه الحسنى، مستندا إلى شهادة الكون جميعا.

إنه -أي الإيمان- تطبيق لما جاء به الرسل الكرام -عليهم السلام- من أوامره سبحانه وتعالى ونواهيه..

 وإذا سوّلتْ للإنسان نفسُه أمرا، فدونه باب الاستغفار والإنابة.. أما أن يقترف كبيرة من الكبائر بلا اهتمام ولا مبالاة بالأوامر، ودون استغفار وإنابة، فلا شك أن ذلك دليل خلوه من الإيمان.

 

([1]) انظر: الغزالي، إحياء علوم الدين 1/ 6، 8؛ ابن الجوزي، العلل المتناهية 1/ 181؛ ابن حجر، لسان الميزان 5/ 225؛ المناوي، فيض القدير 6/ 466؛ العجلوني، كشف الخفاء 1/ 262، 543.

([2]) الطبراني، المعجم الأوسط 5/315؛ ابن عدي، الكامل 2/327؛ البيهقي، الزهد ص 118؛ أبو نعيم، حلية الأولياء 8/200؛ المنذري، الترغيب والترهيب 1/41؛ المناوي، فيض القدير 6/261.

([3]) الثابت قطعاً بمشاهدة بعض أهل الكشف من الأولياء. (المؤلف).

 

 

 

« Önceki Sayfa  | | Sonraki Sayfa »
Ekranı Genişlet