مخايل النبوغ في عهد الصبا:

 

«لقد حدّثتُ خيالي في عهد صباي: أيَّ الأمْرين تُفضّل؟ قضاء عمر سعيد يدوم ألف ألف سنة مع سلطنة الدنيا وأبهتها على أن ينتهي ذلك إلى العدم، أم وجوداً باقياً مع حياة اعتيادية شاقة؟ فرأيته يرغب في الثانية ويضجر من الأولى، قائلاً: إنني لا أريد العدم بل البقاء ولو كان في جهنم!.([1])

وحينما كنت صبياً خُسف القمر، فسألت والدتي: ما هذا الذي حدث للقمر؟.

قالت: ابتلعته الحية!.

قلت: ولكنه يتبين!

قالت: إن الحيات في السماء شفافة كالزجاج تشف عما في بطنها.

كنت أتذكر هذه الحادثة كثيراً وأسائل نفسي: كيف تدور خرافة بعيدة عن الحقيقة إلى هذه الدرجة على لسان والدتي الحصيفة الجادة في كلامها؟.

ولكن حينما طالعت علم الفلك رأيت أن الذين يقولون كما تقول والدتي، قد تلقوا التشبيه حقيقةً واقعيةً؛ لأن الفلكيين شبهوا القوسين الناشئين من تداخل دائرة الشمس، وهي منطقة البـروج ومدار درجاتها، مع دائرة القمر وهي ميل القمر ومدار منازله، شبهوهما تشبيهاً لطيفاً بحيتين ضخمتين، وسموهما تنينين، وأطلقوا على إحدى نقطتي تقاطع تلك الدائرتين "الرأس" والأخرى "الذنب". فحينما يبلغ القمر الرأس والشمس الذنب تحصل حيلولة الأرض -كما يصطلح عليها الفلكيون- أي تقع الأرض بينهما تماماً، وعندها يخسف القمر. أي كأن القمر يدخل في فم التنين، حسب التشبيه السابق.

وهكذا عندما سرى هذا التشبيه العلمي الراقي بمرور الزمن إلى كلام العوام غدا التشبيه تنيناً عظيماً مجسماً يبتلع القمر!.([2])

وفي حوالي التاسعة من عمري وجميع الأهلين وأقاربي ينتسبون إلى الطريقة النقشبندية ويستمدون من شيخ مشهور هناك هو "الغوث الخيزاني"([3]) كنت على خلافهم أقول: أيها الشيخ الكيلاني أقرأ لك سورة الفاتحة جد لي ما ضيعتُه من جوز مثلاً أو أي شيء تافه آخر. وإنه لأمر عجيب فواللّٰه لقد أمدني الشيخ بدعائه وهمته ألف مرة. ولهذا ما قرأت من أوراد وأذكار طوال حياتي إلاّ وأهديتها أولاً إلى حضرة الرسول الأعظم r ثم إلى الشيخ الكيلاني، وعلى الرغم من أنني منتسب إلى الطريقة النقشبندية بثلاث جهات([4]) فإن محبة الطريقة القادرية ومشربَـها يجري فيّ حكمه دون اختيار مني، إلاّ أن الانشغال بالعلم كان يعيق الاشتغال بالطريقة الصوفية.([5])

ومع ذلك كنت أحمل حالة روحية تتسم بالفخر والاعتـزاز، يوم كنت في العاشـرة من عمري، بل حتى أحياناً بصورة حب للمدح والثناء. فكنت أتقلد طور بطل عظيم ورائد كبير وصاحب عمل عظيم خلاف رغبتي.

فكنت أقول لنفسي: ما هذا الظهور والاختيال ولاسيما في الشجاعة، وأنت لا تساوي شروى نقير؟ فكنت حائراً وجاهلاً بالجواب. ولكن منذ شهرين، أجيبت تلك الحيرة، بأن رسائل النور كانت تُشعر بنفسها بحس مسبَق. أما أنت فلست إلاّ بذرة صغيرة لا تساوي شيئاً ولكن لإحساسك قبل الوقوع تعدّ تلك العناقيد الفردوسية رسائل النور كأنها ملكك، فتزهو وتتباهى.

أما قريتنا "نورس" فإن أهلها وطلابي القدامي يعرفون أن أهالينا كانوا يحبون المدح والثناء عليهم كثيراً لإظهارهم أنهم السابقون في الشجاعة والإقدام، فيرغبون تقلّد طور البطولة وكأنهم قد فتحوا مملكة كبيرة.

فكنت أعجب من نفسي ومن طورها هذا. والآن عرفت السر بإخطار حقيقي:

أن أولئك النورسيين، يتباهون لأن قريتهم "نورس" ستكسب فخراً عظيماً بنور رسائل النور، حتى إن الذين لم يسـمعوا باسم الولاية والناحية سيعرفون تلك القرية باهتمام بالغ. فهؤلاء النورسيون يظهرون شكرانهم -بحس مسبق- لتلك النعمة الإلهية على صورة زهو وتباهٍ.

نعم، إنه عندما كان جميع كردستان يتخذ وضع المفتخر المختال بغزارة الطلاب والأئمة والعلماء المتخرجين بهمة وجهود "الشيخ عبد الرحمن تاغي"([6]) الشهير والملقب بـ"سيدا"([7]) في ناحيتنا "إسباريت" التابعة لقضاء "خيزان" كنت أشعر بينهم أيضاً ضمن تلك المناظرات العالية والهمة العالية والدائرة الواسعة العلمية والصوفية، كأن أولئك العلماء سيفتحون الأرض كلها. فكنت أستمع -وأنا لم أتجاوز العاشرة من عمري- مناقب العلماء القدامى المشهورين والأولياء العظام والسـادة الأقطاب، ويرد إلى قلبي: أن هؤلاء الطلاب العلماء سيفتحون آفاقاً عظيمة في العلم والدين. إذ لو تفوق أحدهم بشيء من الذكاء فالاهتمام يوجّـه إليه، وإن ظهر أحدهم في مسألة لدى مناظرة علمية يفتخر ويزهو كثيراً. فكنت أتحيّر من هذا، إذ كانت عندي تلك المشاعر أيضاً. حتى كان بين شيوخ الطرق الصوفية وضمن دائرتهم في ناحيتنا وقضائنا وولايتنا مسابقة تثير الحيرة لم أقف عليها في مدن أخرى إلى هذا الحد.([8]) فإن شئت فاذهب بخيالك إلى مجلس "سيدا" قدّس سره في قرية "نورشين".. وما أظهرت من المدنية الإسلامية بصحبته القدسية، تَرَ فيها ملوكاً في زي الفقراء وملائكة في زي الأنـاسي. ثم اذهب إلى "باريس" وادخل في لجنة الأعاظم تَرَ فيها عقارب، تلبسوا بلباس الأناسي، وعفاريت تصوروا بصور الآدميين».([9])

 

[1]() الشعاعات، الشعاع الحادي عشر، المسألة الثامنة؛ الكلمات، الكلمة العاشرة، الحقيقة الحادية عشرة.

 

[2]() اللمعات، اللمعة الرابعة عشرة؛ الكلمات، اللوامع؛ صيقل الإسلام، محاكمات عقلية.

[3]() هو الشيخ صبغة اللّٰه الأرواسي وهو خليفة السيد طه النهري الذي هو خليفة مولانا خالد النقشبندي.

[4]() حيث إن والديه وأستاذه منتسبون إلى هذه الطريقة.

[5]() اللمعات، اللمعة الثامنة.

 

[6]() 1247-1304/1884م.

[7]() كلمة تطلق على العلماء بمعنى الأستاذ. في المناطق الشرقية من تركيا على الأغلب.

[8]() الملاحق، ملحق أميرداغ 1.

 

[9]() المثنوي العربي النوري، حباب من عمان القرآن.

Ekranı Genişlet