سلكتُ طريقاً غير مسلوك بين العقل والقلب

 

«إن عقلي قد يرافق قلبي في سيره فيعطي القلبُ مشهودَه الذوقي ليد العقل؛ فيبرزه العقلُ على عادته في صورة المبرهَن التمثيلي. ([1])

[وسجل في مقدمات مؤلفاته في هذه الفترة:]

هذه الرسالة مكالمات فجائية مع نفسي في وقتٍ مدهش، والكلمات إنما تولدتْ في أثناء مجادلة هائلة كإعصار تتصارع فيه الأنوارُ مع النيران، يتدحرج رأسي في آن واحد من الأوج إلى الحضيض، ومن الحضيض إلى الأوج، من الثرى إلى الثريا؛ إذ سلكتُ طريقاً غير مسلوك، في برزخٍ بين العقل والقلب، ودار عقلي من دهشة السقوط والصعود. فكلما صادفتُ نوراً نصبتُ عليه علامة لأتذكّره بها. وكثيراً ما أضع كلمةً على ما لا يمكن لي التعبير عنه، للإخطار والتذكير، لا للدلالة.. فكثيراً ما نصبتُ كلمة واحدة على نور عظيم..ثم شاهدت أن أولئك الأنوار الذين يمدونني في بطون أرض الظلمات ما هم إلاّ شعاعات شمس القرآن تمثلوا لي مصابيح..

اللّٰهم اجعل القرآن نوراً لعقولنا، وقلوبنا، وأرواحنا ومرشداً لأنفسنا.. آمين. ([2])

أرى مسائل تلك الرسائل وسائلَ وسلالم.. للصعود إلى الزنابيل النورانية المتدليّة من عرش الرحمن التي هي الآيات الفرقانية. فما من مسألةٍ منها إلاّ ويماسّ رأسُها قدمَ آيةٍ من الفرقان؛ فمسائلها وإن حصلت لي أول ما حصلت شهودية وحدسية وذوقية، لكن لدخولي في صحراء الجنون مع رفاقة عقلي مفتوح الجفون -فيما يغمض فيه ذوو الأبصار- لفّ عقلي على عادته ما رآه قلبي في مقاييسه ووزنه بموازينه واستمسكه ببراهينه.. صارت مسائل هذه الرسائل من هذه الجهة كأنها مبرهنة استدلالية، فيمكن لمن ضلّ من جهة الفكر والعلم أن يستفيد منها ما يُنجيه من مزالق الأفكار الفلسفية، بل يمكن أن يستخرج منها بالتهذيب والتنظيم والإيضاح عقائد إيمانية وعلمَ كلامٍ جديد في غاية القوة والرصانة لردّ ضلالات أفكار هذا الزمان، بل يمكن لمن اختلط عقلهُ بقلبه، أو التحق قلبُهُ بعقله المتشتت في آفاق الكثرة أن يستنبط منها طريقة كسكة الحديد متينةً أمينة يسلك فيها تحت إرشاد القرآن الكريم..كيف لا، وكل ما في رسائلي من المحاسن ما هو إلاّ من فيض القرآن..

وللّٰه الحمد كان القرآن هو مرشدي وأستاذي في هذا الطريق.

نعم، مَن استمسكَ به استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها. ([3])

لا تحسبن أن ما أكتبه شيء مضغته الأفكار والعقول. كلا! بل فيض أفيض على روحٍ مجروح وقلب مقروح، بالاستمداد من القرآن الكريم، ولا تظنه أيضاً شيئاً سيالاً تذوقه القلوب وهو يزول. كلا! بل أنوارٌ من حقائق ثابتة انعكست على عقلٍ عليلٍ وقلبٍ مريضٍ ونفسٍ عمي.

إني ما أدري كيف صار عقلي ممزوجاً بقلبي، فصرت خارجاً عن طريق أهل العقل من علماء السلف وعن سبيل أهل القلب من الصالحين، فإن وافقتُهما فبها ونعمت وإن خالفتُ في كلامي أي السبيلين منهما فهو مردود عليّ.

إنّ ما يصادفك في المسائل من صورة البرهان والاستدلال ليس برهاناً حتى يقال: فيه نظر! بل مبادئ حدسية قيدت وعقدت واستحفظت بأنوار اليقين المفاضة من القرآن الكريم. ([4])

إنه يمكن أن يذهب الموفَّق من الظاهر إلى الحقيقة بلا مرور على برزخ الطريقة؛ وقد رأيتُ من القرآن طريقا إلى الحقيقة بدون الطريقة، أي المشهورة. وكذا رأيت طريقاً موصلاً إلى العلوم المقصودة بدون المرور على برزخ العلوم الآلية». ([5])

 

[1]() المثنوي العربي النوري، شعلة من أنوار شمس القرآن.

[2]() المثنوي العربي النوري، مقدمة المؤلف، تنبيه.

[3]() المثنوي العربي النوري، ذيل الحباب، إفادة المرام؛ وانظر أيضًا، قطرة، خاتمة.

 

[4]() المثنوي العربي النوري، شمة من نسيم هداية القرآن، إفادة المرام.

[5]() المثنوي العربي النوري، شمة (3).

Ekranı Genişlet