مسلك العجز والفقر والشفقة والتفكر في مثال "الرشحة" (1)
«سنفرض أنفسنا نحن الثلاثة "الزهرة" و"القطرة" و"الرشــحة". إذ لا يكفي ما افترضناه مـن شـــعور فيها، فنلحق بها عقولَنـــا أيضــاً. أي أن ندرك أن تلك الثــلاثــة مثلما تستفيض من شــمسها الماديــة، فنحن كذلك نســتفيض من شــمسنا المعنويــة.
فأنت أيها الصديق الذي لا ينسى الدنيا ويوغل في الماديات وقد غلظتْ نفسُه وتكاثفت! كن "الزهرة". لأن استعدادك شبيه بها، إذ إن تلك الزهرة تأخذ لونا قد تحلل من ضياء الشمس وتمزج مثال الشمس من ذلك اللون، وتتلون به في صورة زاهية.
أما هذا الفيلسوف الذي درس في المدارس الحديثة، والمعتقد بالأسباب، والذي يشبهه "سعيد القديم"، فليكن "القطرة" العاشقة للقمر، الذي يمنحها ظل الضياء المستفاد من الشمس فيعطي عينَها نوراً فتتلألأ به... ولكن "القطرة" لا ترى بذلك النور إلا القمر، ولا تستطيع أن ترى به الشمس، بل يمكنها رؤية الشمس بإيمانها.
ثم إن هذا الفقير الذي يعتقد أن كل شئ منه تعالى مباشرة، ويعدّ الأسباب حجابا، ليكن هو "الرشحة"، فهي رشحة فقيرة في ذاتها، لا شئ لها كي تستند إليه وتعتمد عليه كالزهرة وليس لها لون كي تشاهد به، ولا تعرف أشياء أخرى كي تتوجه إليها. فلها صفاء خالص يخبئ مثال الشمس في بؤبؤ عينها...»
[وبعد الإيضاح يختم البحث بالآتي:]
«وهذا صديقكم الثالث الشبيه بـ"الرشحة" فقير، عديم اللون، يتبخر بسرعة بحرارة الشمس، يدع أنانيته ويمتطي البخارَ فيصعد إلى الجو، يلتهب ما فيه من مادة كثيفة بنار العشق، ينقلب بالضياء نوراً، يمسك بشعاع صادر من تجليات ذلك الضياء ويقترب منه.
فيا مثال الرشحة! ما دمت تؤدي وظيفة المرآة للشمس مباشرة، فكن أينما شئت من المراتب، فيمكنك أن تجد نافذة نظارة صافية تطل منها إلى عين الشمس بعين اليقين، فلا تعاني صعوبة في إسناد الآثار العجيبة للشمس إليها، إذ تستطيع أن تسند إليها أوصافها المهيبة بلا تردد، فلا يمكن أن يمسك يَدك ويكفّك شيءٌ قطعاً عن إسناد الآثار المذهلة لسلطنتها الذاتية إليها. فلا يحيرك ضيق البرازخ ولا قيد القابليات ولا صغر المرايا، ولا يسوقك إلى خلاف الحقيقة شئ من ذلك لأنك صاف وخالص تنظر إليها مباشرة، ولذلك فقد أدركت أن ما يشاهَد في المظاهر ويُرى في المرايا ليس شمساً، وإنما نوع من تجلياتها وضرب من انعكاساتها المتلونة، وأن تلك الانعكاسات إنما هي دلائل وعناوين لها فحسب، ولكن لا يمكنها أن تُظهر آثار هيبتها جميعاً.
ففي هذا التمثيل الممتزج بالحقيقة يُسلَك إلى الكمال بطرق ثلاثة مختلفة متنوعة، فهم يتباينون في مزايا تلك الكمالات وفي تفاصيل مرتبة الشهود، إلا أنهم يتفقون في النتيجة، وفي الإذعان للحق، وفي التصديق بالحقيقة». ([2])
[1]() لكي يتمكن القارئ من الإلمام الكافي بهذا الموضوع فليراجع -إن شاء- الكلمات، الكلمة الرابعة والعشرون، الغصن الثاني.
[2]() الكلمات، الكلمة الرابعة والعشرون، الغصن الثاني.
