حالته الروحية في أنقرة
«ذات يوم من الأيام الأخيرة للخريف، صعدت إلى قمّة قلعة أنقرة، التي أصابها الكبر والبلى أكثر مني، فتمثّلت تلك القلعة أمامي كأنها حوادث تاريخية متحجرة، واعتراني حزن شديد وأسى عميق من شيب السنة في موسم الخريف، ومن شيبي أنا، ومن هرم القلعة، ومن هرم البشرية ومن شيخوخة الدولة العثمانية العلية، ومن وفاة سلطنة الخلافة،([1]) ومن شيخوخة الدنيا. فاضطرتني تلك الحالة إلى النظر من ذروة تلك القلعة المرتفعة إلى أودية الماضي وشواهق المستقبل، أنقب عن نور، وأبحث عن رجاء وعزاء ينير ما كنت أحسّ به من أكثف الظلمات التي غشيت روحي هناك وهي غارقة في ليل هذا الهرم المتداخل المحيط. ([2])
فحينما نظرت إلى اليمين الذي هو الماضي باحثاً عن نور ورجاء، بدت لي تلك الجهة من بعيد على هيئة مقبرة كبرى لأبي وأجدادي والنوع الإنساني، فأوحشتني بدلاً من أن تسلّيني.
ثم نظرت إلى اليسار الذي هو المستقبل مفتشاً عن الدواء، فتراءى لي على صورة مقبرة كبرى مظلمة لي ولأمثالي وللجيل القابل، فأدهشني عوضاً من أن يؤنسني.
ثم نظرت إلى زمني الحاضر بعد أن امتلأ قلبي بالوحشة من اليمين واليسار، فبدا ذلك اليوم لنظري الحسير ونظرتي التاريخية على شكل نعش لجنازة جسمي المضطرب كالمذبوح بين الموت والحياة.
فلما يئست من هذه الجهة أيضاً، رفعت رأسي ونظرت إلى قمة شجرة عمري، فرأيت أن على تلك الشجرة ثمرة واحدة فقط، وهي تنظر إليّ، تلك هي جنازتي، فطأطأت رأسي ناظراً إلى جذور شجرة عمري، فرأيت أن التراب الذي هناك ما هو إلاّ رميم عظامي، وتراب مبدأ خلقتي قد اختلطا معاً وامتزجا، وهما يُداسان تحت الأقدام، فأضافا إلى دائي داء من دون أن يمنحاني دواءً.
ثم حوّلتُ نظري على مضض إلى ما ورائي، فرأيت أن هذه الدنيا الفانية الزائلة تتدحرج في أودية العبث وتنحدر في ظلمات العدم، فسكبتْ هذه النظرة السمَّ على جروحي بدلاً من أن تواسيها بالمرهم والعلاج الشافي.
ولما لم أجد في تلك الجهة خيراً ولا أملاً، ولّيت وجهي شطر الأمام ورنوت بنظري بعيداً، فرأيت أن القبر واقف لي بالمرصاد على قارعة الطريق، فاغراً فاه، يحدق بي، وخلفه الصراط الممتد إلى حيث الأبد، وتتراءى القوافل البشرية السائرة على ذلك الصراط من بعيد. وليس لي من نقطة استناد أمام هذه المصائب المدهشة التي تأتيني من الجهات الست، ولا أملك سلاحاً يدفع عني غير جزء ضئيل من الإرادة الجزئية. فليس لي إذن أمام كل أولئك الأعداء الذين لا حصر لهم، والأشياء المضرة غير المحصورة، سوى السلاح الإنساني الوحيد وهو الجزء الاختياري. ولكن لما كان هذا السلاح ناقصاً وقاصراً وعاجزاً، ولا قوة له على إيجاد شيء، وليس في طوقه إلاّ الكسب فحسب، حيث لا يستطيع أن يمضي إلى الزمان الماضي ويذبّ عني الأحزان ويسكتها، ولا يمكنه أن ينطلق إلى المستقبل حتى يمنع عنّي الأهوال والمخاوف الواردة منه، أيقنت ألاّ جدوى منه فيما يحيط بي من آلام وآمال الماضي والمستقبل.
وفيما كنت مضطرباً وسط الجهات الست تتوالى عليّ منها صنوف الوحشة والدهشة واليأس والظلمة، إذا بأنوار الإيمان المتألقة في وجه القرآن المعجز البيان، تمدني وتضئ تلك الجهات الست وتنورها بأنوار باهرة ساطعة ما لو تضاعف ما انتابني من صنوف الوحشة وأنواع الظلمات مائة مرة، لكانت تلك الأنوار كافية ووافية لإحاطتها.
فبدّلتْ -تلك الأنوار- السلسلة الطويلة من الوحشة إلى سلوان ورجاء، وحولّت كل المخاوف إلى أنس القلب، أمل الروح الواحدة تلو الأخرى.
نعم، إن الإيمان قد مزق تلك الصورة الرهيبة للماضي وهي كالمقبرة الكبرى، وحوّلها إلى مجلس منوّر أنوس وإلى ملتقى الأحباب، وأظهر ذلك بعين اليقين وحق اليقين...
ثم إن الإيمان قد أظهر بعلم اليقين أن المستقبل الذي يتراءى لنا بنظر الغفلة كقبر واسع كبير ما هو إلاّ مجلس ضيافة رحمانية أعدّت في قصور السعادة الخالدة.
ثم إن الإيمان قد حطّم صورة التابوت والنعش للزمن الحاضر التي تبدو هكذا بنظر الغفلة، وأشهدني أن اليوم الحاضر إنما هو متجر أخروي، ودار ضيافة رائعة للرحمن.
ثم إن الإيمان قد بصّرني بعلم اليقين أن ما يبدو بنظر الغفلة من الثمرة الوحيدة التي هي فوق شجرة العمر على شكل نعش وجنازة أنها ليست كذلك، وإنما هي انطلاق لروحي -التي هي أهل للحياة الأبدية ومرشحة للسعادة الأبدية- من وكرها القديم إلى حيث آفاق النجوم للسياحة والارتياد.
ثم إن الإيمان قد بيّن بأسراره؛ أن رميم عظامي وتراب بداية خلقتي، ليسا عظاماً حقيرة فانية تداس تحت الأقدام، وإنما ذلك التراب باب للرحمة، وستار لسرادق الجنة.
ثم إن الإيمان أراني بفضل أسرار القرآن الكريم أن أحوال الدنيا وأوضاعها المنهارة في ظلمات العدم بنظر الغفلة، لا تتدحرج هكذا في غياهب العدم -كما ظنّ في بادئ الأمر- بل إنها نوع من رسائل ربانية ومكاتيب صمدانية، وصحائف نقوش للأسماء السبحانية قد أتمّت مهامها، وأفادت معانيها، وأخلفت عنها نتائجها في الوجود، فأعلمني الإيمان بذلك ماهية الدنيا علم اليقين.
ثم إن الإيمان قد أوضح لي بنور القرآن أن ذلك القبر الذي أحدق بي ناظراً ومنتظراً ليس هو بفوهة بئر، وإنما هو باب لعالم النور، وأن ذلك الطريق المؤدي إلى الأبد ليس طريقاً ممتداً ومنتهياً بالظلمات والعدم، بل إنه سبيل سوي إلى عالم النور، وعالم الوجود وعالم السعادة الخالدة.. وهكذا أصبحت هذه الأحوال دواء لدائي، ومرهماً له، حيث قد بدت واضحة جلية فأقنعتني قناعة تامة.
ثم إن الإيمان يمنح ذلك الجزء الضئيل من الجزء الاختياري الذي يملك كسباً جزئياً للغاية، وثيقة يستند بها إلى قدرة مطلقة، وينتسب بها إلى رحمة واسعة، ضد تلك الكثرة الكاثرة من الأعداء والظلمات المحيطة، بل إن الإيمان نفسه يكون وثيقة بيد الجزء الاختياري. ثم إن هذا الجزء الاختياري الذي هو السلاح الإنساني وإن كان في حد ذاته ناقصاً عاجزاً قاصراً، إلاّ أنه إذا استعمل باسم الحق سبحانه، وبذل في سبيله ولأجله، يمكن أن ينال به -بمقتضى الإيمان- جنة أبدية بسعة خمسمائة سنة. مَثَلُ المؤمن في ذلك مثل الجندي إذا استعمل قوته الجزئية باسم الدولة فإنه يسهل له أن يؤدي أعمالاً تفوق قوته الشخصية بألوف المرات.
وكما أن الإيمان يمنح الجزء الاختياري وثيقة، فإنه يسلب زمامه من قبضة الجسم الذي لا يستطيع النفوذ في الماضي ولا في المستقبل، ويسلمه إلى القلب والروح، ولعدم انحصار دائرة حياة الروح والقلب في الزمن الحاضر كما هو في الجسد، ولدخول سنوات عدة من الماضي وسنوات مثلها من المستقبل في دائرة تلك الحياة، فإن ذلك الجزء الاختياري ينطلق من الجزئية مكتسباً الكلية. فكما أنه يدخل بقوة الإيمان في أعمق أودية الماضي مبدداً ظلمات الأحزان، كذلك يصعد محلقاً بنور الإيمان إلى أبعد شواهق المستقبل مزيلاً أهواله ومخاوفه». ([3])
الخلاصة
وهكذا لما أراد الرئيس استمالته ليستفيد من نفوذه في شرقي البلاد، وعرض عليه أن يكون نائباً في البرلمان، مع الاحتفاظ بعضوية دار الحكمة الإسلامية، ويتولى منصب الواعظ العام في شرقي البلاد بدلاً من الشيخ السنوسي مع تخصيص مسكن فاخر (فِيلاَ) له وأمثالها من العروضات... فإن بديع الزمان شاهَدَ أوصاف ما ورد في حديث شريف حول أشخاص آخر الزمان "الدجال والسفياني" -والذي أوّله قبل عهد الحرية في إسطنبول- وتيقن أنه لا يمكن مجابهة أولئك الأشخاص إلاّ بأنوار إعجاز القرآن وليس بمسالك السياسة... لذا ردّ جميع عروضات مصطفى كمال وغادر أنقرة بعد أن بيّن وجهة نظره في الحكومة الجديدة للنواب الذين حضروا لتوديعه وألحّوا عليه بالبقاء في أنقرة متعاوناً مع الحكومة الجديدة. ([4])
[1]() حيث ألغى المجلسُ النيابي الأولُ السلطنةَ في 1/11/1922 أي قبل مجيء الأستاذ إلى أنقرة بسنة. أما إلغاء الخلافة فقد أقره المجلس النيابي الثاني في 3/3/1924.
[2]() وردت هذه الحالة الروحية على صورة مناجاة إلى القلب باللغة الفارسية، فكتبتها كما وردت، ثم طبعت ضمن رسالة (حباب) في أنقرة. (المؤلف).
[3]() اللمعات، اللمعة السادسة والعشرون، الرجاء السابع.
[4]() T.Hayat, ilk hayatı وقد غادر أنقرة ما بين 30/4-13/5/1923، وكان من بين المودعين كاظم قره بكر ورؤوف أورباي وأمثالهم من القواد المعروفين وألحّوا عليه بالبقاء في أنقرة وعدم تركها إلا أنه لم يوافق على ذلك وردهم رداً جميلاً (ب) 1 / 505 من دفتر ملاحظات زبير كوندوز آلب ص 91.
