وهجرتُ السياسة
«وقد مرت عليَّ حادثة جديرة بالملاحظة:
رأيت ذات يوم رجلاً عليه سيماء العلم يقدح بعالم فاضل، بانحياز مغرض حتى بلغ به الأمر إلى حد تكفيره، وذلك لخلاف بينهما حول أمور سياسية، بينما رأيته قد أثنى -في الوقت نفسه- على منافق يوافقه في الرأي السياسي!. فأصابتني من هذه الحادثة رعدة شديدة، واستعذت باللّٰه مما آلت إليه السياسة وقلت: "أعوذ باللّٰه من الشيطان والسياسة".
ومنذئذٍ انسحبت من ميدان الحياة السياسية. ([2])
«سؤال: لِمَ لا تهتم إلى هذا الحد بمجريات السياسة العالمية الحاضرة.. نراك لا تغيّر من طورِكَ أصلاً أمام الحوادث الجارية على صفحات العالم. أفترتاح إليها أم أنك تخاف خوفاً يدفعك إلى السكوت؟
الجواب: إن خدمة القرآن الكريم هي التي منعتني بشدة عن عالم السياسة بل أنستني حتى التفكر فيها. وإلاّ فإن تأريخ حياتي كلها تشهد بأن الخوف لم يكبلني ولا يمنعني في مواصلة سيري فيما أراه حقاً. ثم ممَّ يكون خوفي؟ فليس لي مع الدنيا علاقة غير الأجل، إذ ليس لي أهل وأولاد أفكر فيهم، ولا أموال أفكر فيها، ولا أفكر في شرف الأصالة والحسب والنسب. ورحم اللّٰه من أعان على القضاء على السمعة الاجتماعية التي هي الرياء والشهرة الكاذبة، فضلاً عن الحفاظ عليها..
فلم يبق إلاّ أجلي، وذلك بيد الخالق الجليل وحده. ومن يجرؤ أن يتعرض له قبل أوانه. فنحن نفضل أصلاً موتاً عزيزاً على حياة ذليلة.
ولقد قال أحدهم مثل سعيد القديم؛
ونحن أُناسٌ لا تَوَسّطَ بَيْننا لنا الصَدْرُ دونَ العالَمينَ أو القبرُ ([3])
إنما هي خدمة القرآن تمنعني عن التفكر في الحياة الاجتماعية السياسية، وذلك أن الحياة البشرية ما هي إلاّ كركب وقافلة تمضي، ولقد رأيت بنور القرآن الكريم في هذا الزمان أن طريق تلك القافلة الماضية أدت بهم إلى مستنقع آسن، فالبشرية تتعثر في سيرها فهي لا تكاد تقوم حتى تقع في أوحال ملوثة منتنة.
ولكن قسماً منها يمضي في طريق آمنة.
وقسم آخر قد وجد بعض الوسائل لتنجيه -قدر المستطاع- من الوحل والمستنقع.
وقسم آخر وهم الأغلبية يمضون وسط ظلام دامس في ذلك المستنقع الموحل المتسخ.
فالعشرون من المائة من هؤلاء يلطخون وجوههم وأعينهم بذلك الوحل القذر ظناً منهم أنه المسك والعنبر، بسبب سُكرهم. فتارة يقومون وأخرى يقعون وهكذا يمضون حتى يغرقوا.
أما الثمانون من المائة، فهم يعلمون حقيقة المستنقع ويتحسسون عفونته وقذارته إلاّ أنهم حائرون، إذ يعجزون عن رؤية الطريق الآمنة.
وهكذا فهناك علاجان اثنان إزاء هؤلاء:
أولهما: إيقاظ العشرين منهم المخمورين بالمطرقة.
وثانيها: إراءة طريق الأمان والخلاص للحائرين بإظهار نور لهم -أي بالإرشاد-.
فالذي أراه أن ثمانين رجلاً يمسكون بالمطرقة بأيديهم تجاه العشرين بينما يظل أولئك الثمانون الحائرون البائسون دون أن يُبصروا النور الحق، وحتى لو أبصروا فإن هؤلاء لكونهم يحملون في أيديهم عصا ونوراً معاً فلا يوثق بهم. فيحاور الحائر نفسه في قلق واضطراب: تُرى أيريد هذا أن يستدرجني بالنور ليضربني بالمطرقة؟. ثم حينما تتحطم المطرقة بالعوارض أحياناً، يذهب ذلك النور أيضاً أدراج الرياح أو ينطفئ.
وهكذا، فذلك المستنقع هو الحياة الاجتماعية البشرية العابثة الملوثة الغافلة الملطخة بالضلالة.
وأولئك المخمورون هم المتمردون الذين يتلذذون بالضلالة.
وأولئك الحائرون هم الذين يشمئزون من الضلالة ولكنهم لا يستطيعون الخروج منها، فهم يريدون الخلاص ولكنهم لا يهتدون سبيلاً.. فهم حائرون.
أما تلك المطارق فهي التيارات السياسية، وأما تلك الأنوار فهي حقائق القرآن فالنور لا تثار حياله الضجة ولا يقابل بالعداء قطعاً، ولا ينفر منه إلاّ الشيطان الرجيم.
ولذلك، قلت: "أعوذ باللّٰه من الشيطان والسياسة" لكي أحافظ على نور القرآن. واعتصمت بكلتا يدي بذلك النور، ملقياً مطرقة السياسة جانباً.
ورأيت أن في جميع التيارات السياسية -سواءً الموافقة منها أو المخالفة- عشاقاً لذلك النور.
فالدرس القرآني الذي يُلقى من موضع طاهر زكي مبرأ من موحيات أفكار التيارات السياسية والانحيازات المغرضة جميعها، ويُرشد إليه من مقام أرفع وأسمى منها جميعاً، لا ينبغي أن تحجم عنه جهة، ولا يكون موضع شبهة فئة، مهما كانت. اللّٰهم إلاّ أولئك الذين يظنون الكفر والزندقة سياسة فينحازون إليها. وهؤلاء هم شياطين في صورة أناسي أو حيوانات في أجساد بشر.
وحمداً للّٰه فإنني بسبب تجردي عن التيارات السياسية لم أبخس قيمة حقائق القرآن التي هي أثمن من الألماس ولم أجعلها بتفاهة قطع زجاجية بتهمة الدعاية السياسية. بل تزيد قيمة تلك الجواهر القرآنية على مرّ الأيام وتتألق أكثر أمام أنظار كل طائفة».([4])
«سؤال: لِمَ يتجنب سعيد الجديد تجنباً شديداً وإلى هذا الحد من السياسة؟
الجواب: لئلا يضحّي بسعيه وفوزه لأكثر من مليارات من السنين لحياة خالدة، من جراء تدخل فضولي لا يستغرق سنة أو سنتين من حياة دنيوية مشكوك فيها. ثم إنه يفر فراراً شديداً من السياسة، خدمةً للقرآن والإيمان والتي هي أجلّ خدمة وألزمها وأخلصها وأحقّها. لأنه يقول:
إنني أتقدم في الشيب، ولا علم لي كم سأعيش بعد هذا العمر. لذا فالأولى لي العمل لحياة أبدية. وهذا هو الألزم. وحيث إن الإيمان وسيلة الفوز بالحياة الأبدية ومفتاح السعادة الخالدة، فينبغي إذاً السعي لأجله. بيد أني عالم ديني، مكلف شرعاً بإفادة الناس، لذا أريد أن أخدمهم من هذه الناحية أيضاً. إلاّ أن هذه الخدمة تعود بالنفع إلى الحياة الاجتماعية والدنيوية، وهذه ما لا أقدر عليها، فضلاً عن أنه يتعذر القيام بعمل سليم صحيح في زمن عاصف، لذا تخليت عن هذه الجهة وفضّلت عليها العمل في خدمة الإيمان التي هي أهم خدمة وألزمها وأسلمها. وقد تركت الباب مفتوحاً ليصل إلى الآخرين ما كسبته لنفسي من حقائق الإيمان وما جربته في نفسي من أدوية معنوية، لعلّ اللّٰه يقبل هذه الخدمة ويجعلها كفّارة لذنوب سابقة.
وليس لأحد سوى الشيطان الرجيم أن يعترض على هذه الخدمة، سواءً كان مؤمناً أو كافراً أو صدّيقاً أو زنديقاً، لأن عدم الإيمان لا يشبهه أمر، فلربما توجد لذة شيطانية منحوسة في ارتكاب الظلم والفسق والكبائر إلاّ أن عدم الإيمان لا لذة فيه إطلاقاً، بل هو ألم في ألم، وعذاب في عذاب، وظلمات بعضها فوق بعض.
وهكذا فإن ترك السعي لحياة أبدية، وترك العمل لنور الإيمان المقدس، والدخول في ألاعيب السياسة الخطرة وغير الضرورية، في زمن الشيخوخة إنما هو خلاف للعقل ومجانبة للحكمة لشخص مثلي لا صلة له مع أحد، ويعيش منفرداً، ومضطراً إلى التحري عن كفارات لذنوبه السابقة، بل يعدّ ذلك جنوناً وبلاهة، بل حتى البلهاء يفهمون ذلك.
أما إن قلت: كيف تمنعك خدمة القرآن والإيمان عن السياسة؟
فأقول: إن الحقائق الإيمانية والقرآنية ثمينة غالية كغلاء جواهر الألماس، فلو انشغلت بالسياسة، لخطر بفكر العوام: أيريد هذا أن يجعلنا منحازين إلى جهة سياسية؟ أليس الذي يدعو إليه دعاية سياسية لجلب الأتباع؟ بمعنى أنهم ينظرون إلى تلك الجواهر النفيسة أنها قطع زجاجية تافهة، وحينها أكون قد ظلمت تلك الحقائق النفيسة، وبخست قيمتها الثمينة، بتدخلي في السياسة.
فيا أهل الدنيا! لِمَ لا تَدَعونَني وشأني، وتضايقونني بطرق شتى؟» ([5])
«قيل: لِمَ انسحبت من ميدان السياسة ولا تتقرب إليها قط؟.
الجواب: لقد خاض سعيد القديم غمار السياسة ما يقارب العشر سنوات علّه يخدم الدين والعلم عن طريقها، فذهبت محاولته أدراج الرياح، إذ رأى أن تلك الطريق ذات مشاكل، ومشكوك فيها، وأن التدخل فيها فضول -بالنسبة إليّ- فهي تحول بيني وبين القيام بأهم واجب، وهي ذات خطورة، وأن أغلبها خداع وأكاذيب. وهناك احتمال أن يكون الشخص آلة بيد الأجنبي دون أن يشعر. وكذا فالذي يخوض غمار السياسة إما أن يكون موافقاً لسياسة الدولة أو معارضاً لها، فإن كنت موافقاً فالتدخل فيها بالنسبة إليّ فضول ولا يعنيني بشيء، حيث إنني لست موظفاً في الدولة ولا نائباً في برلمانها، فلا معنى -عندئذٍ- لممارستي الأمور السياسية وهم ليسوا بحاجة إليّ لأتدخل فيها، وإذا دخلت ضمن المعارضة أو السياسة المخالفة للدولة، فلا بد أن أتدخل إما عن طريق الفكر أو عن طريق القوة؛ فإن كان التدخل فكرياً فليس هناك حاجة إليّ أيضاً، لأن الأمور واضحة جداً، والجميع يعرفون المسائل مثلي، فلا داعي إلى الثرثرة. وإن كان التدخل بالقوة، أي بأن أُظهر المعارضة بإحداث المشاكل لأجل الوصول إلى هدف مشكوك فيه، فهناك احتمال الولوج في آلاف من الآثام والأوزار، حيث يُبتَلى الكثيرون بجريرة شخص واحد. فلا يرضى وجداني الولوج في الآثام وإلقاء الأبرياء فيها بناء على احتمال أو احتمالين من بين عشرة احتمالات، لأجل هذا فقد ترك سعيد القديم السياسة ومجالسها الدنيوية وقراءة الجرائد مع تركه السيجارة». ([6])
[1]() لا شك أن السياسة بمفهومها الشرعي يزاولها المسلم بمواقفه من الأحداث اليومية؛ بيد أن السياسة التي خبرها الأستاذ النورسي وعرف عدم جدواها بل ضررها بالإخلاص والعمل الإسلامي هي السياسة الميكيافيلية الحاضرة والتي وصفها بالوحش الكاسر فاستعاذ باللّٰه منها، وفي الوقت نفسه لم يأل جهداً في نصح الحكام وذوي السلطة، إلا أنه لم يتزلف لهم ولم يسر في ركابهم مثلما أنه لم يواجههم مواجهة مادية بإحداث القلاقل والاضطرابات. ورسائل النور زاخرة بمواقفه هذه من الأحداث عبر حياته الطويلة نقلنا هنا نماذج منها فحسب.
[2]() المكتوبات، المكتوب الثاني والعشرون.
[3]() لأبي فراس الحمداني.
[4]() المكتوبات، المكتوب الثالث عشر.
[5]() المكتوبات، المكتوب السادس عشر.
[6]() المكتوبات، المكتوب السادس عشر.
