سنة 1925م/1342 هـ

 

اعتقال ونفي

 

«عندما كنت منشغلا بإلقاء دروس في حقائق القرآن على طلابي في مدينة "وان" كانت حوادث "الشيخ سعيد" ([1]) تقلق بال المسؤولين في الدولة. وعلى الرغم من ارتيابهم من كل شخص، لم يمسوني بسوء، ولم يجدوا عليَّ حجة مادمت مستمراً في خدمة القرآن. ولكن ما إن قلت في نفسي: "ما لي وللآخرين!" وفكرت في نفسي فحسب، وانسحبت إلى جبل أرك لأنزوي في مغاراته الخربة، وأنجو بنفسي في الآخرة، إذا بهم يأخذونني من تلك المغارة ([2]) وينفونني من ولاية شرقية إلى أخرى غربية، إلى بوردور». ([3])

فبينما كان يقضي حياته في تلك المغارة في معتكفه على جبل أرك إذا بالثورة تندلع في الولايات الشرقية، فطلب منه قائد الثورة الشيخ سعيد استغلال نفوذه لإمداد الثورة إلا أنه رفض المشاركة وكتب رسالة إليه جاء فيها:

"إن ما تقومون به من ثورة تدفع الأخ لقتل أخيه ولا تحقق أية نتيجة، فالأمة التركية قد رفعت راية الإسلام وضحّت في سبيل دينها مئات الألوف بل الملايين من الشهداء فضلاً عن تربيتها ملايين الأولياء، لذا لا يستل السيف على أحفاد الأمة البطلة المضحية للإسلام، الأمة التركية وأنا أيضاً لا أستله عليهم". ([4])

[وعلى الرغم من الموقف الواضح للأستاذ النورسي من الثورة اعتقلته الحكومة مع رؤساء العشائر والمشايخ وأصحاب النفوذ في الولايات الشرقية، حتى إن لم يكن لهم أي ضلع أو أي دور في هذه الحركة ونفتهم إلى غربي الأناضول]..

ومع هذا داهمت المفرزة العسكرية المغارة التي كان الأستاذ بديع الزمان منـزوياً فيها للعبادة، وأظهر قائدها تصرفاً قاسياً وخشناً تجاه الأستاذ، وكان رد فعل الأستاذ رداً قوياً وشجاعاً، وتكهرب الجو فجأة. وسرعان ما أخذوه معهم. وبعد أن مشوا مدة أقتربَ منهم بعض طلاب الأستاذ وبعض الأهلين وتحدثوا معه باللغة المحلية "بالكردية". وتوسلوا إليه ألاّ يذهب مع الجندرمة مبدين استعدادهم لتهريبه إلى مكان آخر، أو إلى أي بلد إسلامي آخر، ولكنه لم يقبل وقال لهم إنه يذهب مع المفرزة بكامل رغبته، وأن الجنود هم بمثابة طلابه، ونصحهم بالرجوع إلى بيوتهم بسكون ولا داعي إلى القلق. ([5]) وهكذا حال دون حدوث مجابهة بين الأهالي والحكومة تراق فيها الدماء بسببه. ([6])

 

[1]() يذكر الملا حميد الذي لازم الأستاذ النورسي في "وان" وجبل "أرَك" هذا الحوار ذا المغزى العميق الذي جرى بين الأستاذ النورسي وحسين باشا وهو شيخ عشيرة "حيدران" عيّنه السلطان عبد الحميد الثاني برتبة ميرآلاي إبان إنشاء القوات الحميدية في شرقي الأناضول. وأحرز انتصارات باهرة على القوات الروسية والأرمنية وكبّدهم خسائر فادحة، فرفعته حكومة الاتحاد والترقي والسلطان رشاد إلى رتبة أمير اللواء، وقد ساعد على إنشاء مدارس في شرقي البلاد قبل الحرب العالمية، اشتهر بعدالته وتوقيره العلماء، وعقد مع الأستاذ النورسي عقد أخوة أخروية، وعلى الرغم من عدم تدخله في ثورة الشيخ سعيد پيران نفي مع غيرهم إلى قيصري ولكنه لم يتحمل حياة المنفى فهرب إلى سورية بعد سنتين وظل فيها سنة حتى جاءه المدعو "مدني" وأقنعه بالعودة إلى البلاد مدعياً أن الحكومة أصدرت قراراً بالعفو العام عن المنفيين. ولدى العودة مع إبنيه وفي أثناء أدائهم الصلاة أرداهم قتيلاً. رحمهم اللّٰه.

    يقول الملا حميد: "كنا مع الأستاذ في جبل أرك في صومعة خربة.. وذات يوم أتى حسين باشا مع اثنين من مرافقيه لزيارة الأستاذ، وبعد أن ربطوا أفراسهم بالأشجار الموجودة في باب الصومعة الخربة دخلوا على الأستاذ وجثوا أمامه في أدب جمّ وقبلوا يده. كان حسين باشا طويل القامة مهيب الهيئة متقلداً شارات وميداليات خاصة بالباشوات في ذلك الوقت. أخرج منديلاً فيه ما يقدر بنصف كيلو من الذهب ووضعه في موضع في الأرض. فسأله الأستاذ: "وما ذلك؟"

    قال: "فداك روحي، إنها زكاتي جئت بها إليكم، أخرجتها من خالص أموالي!"

    الأستاذ: "ألم تجد أحداً ممن حولك، من أقربائك، من قريتك، حتى أتيت بها إلى هاهنا؟"

    حسين باشا: "سيدي إن أقاربي ومن حولي كلهم أغنياء، لا فقير فيهم، فرأيت أنكم مستحقوها".

    الأستاذ: "لا يجوز نقل الزكاة. فلِمَ أتيت بها وتجاوزت كثيراً من القرى والأرياف!"

    حسين باشا: "يا سيدي! أرجو أن تقبل بضع قطع منها في الأقل وأنفقها على من معك من الطلاب".

    الأستاذ: "كلا لا يمكن هذا.. لا حاجة لي إلى الزكاة"..

    وهكذا ردّها ولم يقبلها وبعد قليل خاطبه حسين باشا قائلاً: "سيدي أودّ أن أستشيركم في أمر خاص، أرجو أن تأذن لطلابك بالخروج. لأني أريد أن أتحدث معكم حديثاً خاصاً".

    الأستاذ: "لا يمكن.. فهؤلاء، جزءٌ من كياني، لا يفارقونني. أوضح ما عندك".

    حسين باشا: "سيدي أرجو أن تأذن لنا بالثورة (مع الشيخ سعيد) فنحن مستعدون".

    الأستاذ: "لِمَ تقومون بالثورة؟ إن كان لزيد وعمرو ذنب فما ذنب غيرهما.. بل ستراق دماء المسلمين".

    حسين باشا: "لقد أهلكَنا الروس وقتلونا وأبادوا أموالنا وذرارينا، بينما ظل شرفنا مصاناً دون أن يمسّه أحد بسوء. ولكن الآن أصبح ديننا مهدداً وشرفنا معرضاً للهتك. فائذن لنا بالعصيان، فجنودنا المشاة والفرسان على أهبة الاستعداد".

    وبعد أن أوضح حسين باشا الأمر والحوادث المؤلمة، والأستاذ مطرق ومستغرق في التفكير، رفع الأستاذ رأسه وقال بكل لطف ولين: أيها الباشا تعال لنستشر ديوان أحمد الجزري ونفتحه متفائلين به. أتقبل ما يقوله الجزري؟

    الباشا: "نعم!"

    فاخرج الأستاذ الديوان من جيبه وفتحه متفائلاً به وإذا بهذا البيت أمامهم:

    هن زي ببف دَيري فه تين، قصدا كنيشتي هن دكن    نه ي زي فانم نه ي زي وانم من دَرَي خمار بس

    ويعني: منهم من يرجع من طريق الكنيسة ويدخل الإسلام ومنهم من يعود إلى معبد اليهود فيتهود، أما أنا فلست من هؤلاء ولا من هؤلاء..

    قال الأستاذ: "أرأيت يا باشا. فأنا الآن لست منكم ولا منهم".

    حسين باشا: "يا أستاذ لقد أوهنت عزيمتي وأضعفت همتي. فلو عدت إلى عشيرتي سيقولون، جبن الباشا فتخلى عن العصيان".

    قال الأستاذ: "نعم، وليقولوا: جبن وخاف ولا يقولوا أراق الدم".

    وعندما ودّع الباشا الأستاذ كرّر عليه الأستاذ ثلاث مرات: لا ترق الدم يا باشا.. لا ترق الدم.. لا ترق الدم..

    وعاد حسين باشا إلى عشيرته وفرّق قواته، لذا لم تحدث أية حادثة في منطقة "وان".( ب) 1 ص 557.

[2]() في 10/2/1925 أُخذ الأستاذ من جبل أرك. أما ترحيل قافلة المنفيين فكانت في 25/2/1925.

[3]() اللمعات، اللمعة العاشرة.

[4]() T.Hayat, ilk hayatı والرسالة هذه محفوظة في محافظ محكمة الاستقلال في ملف الشيخ سعيد. (ب) 531.

[5]() من مذكرات "زبير كوندوز آلب" (ب) 1/567، (ش) 273.

[6]() "كان ترحيل المنفيين في 25/2/1925 وكان خط السير كما يأتي: اتجهت القافلة من مدينة "وان" إلى "أرجيش" ومنها إلى "باتنوس"، حيث استراحت هناك ما يقارب أربعة أيام ثم توجهت إلى مدينة "آغري" وبقيت فيها يوماً واحداً، ومنها إلى "أرضروم" حيث قضت فيها أسبوعاً واحداً وتوجهت منها إلى مدينة "طرابزون" وقضت فيها عشرين يوماً، ثم اتجهت إلى "إسطنبول" بالباخرة ووصلتها في 15/4/1925 ومكثت فيها (20-25) يوما".

    ويسرد "مصطفى آغريلى" أحد الجنود الذين اشتركوا في حراسة قافلة المنفيين هذه ذكرياته عن هذه الرحلة فيقول: "عندما كنت أؤدي وظيفتي في الخدمة العسكرية في مدينة "وان" كنت أسمع عن اسم الأستاذ بديع الزمان وعن شهرته كثيراً، فالجميع كانوا يتحدثون عنه، مما جعلني في شوق كبير لرؤيته. وعندما كلفت بالاشتراك في حراسة قافلة المنفيين كان ذلك فرصة كبيرة لرؤيته.

    عندما خرجت القافلة كان الموسم شتاءً والثلج يغطي كل مكان، وكان في القافلة ما يقارب (70-80) زحافة تجرها الخيول أو الثيران... في المساء وصلنا إلى إحدى القرى فاستقبلنا أهلُها عن بكرة أبيهم.. كان قائد الرحلة في ورطة، إذ كيف يستطيع أن يبيت في هذه القرية الكردية وأن يحافظ ويحرس ويمنع هروب أي شخص؟ لم يكن من الممكن أن يوزع المنفيين على بيوت القرية، وأخيراً قرر جمعهم في مكان واحد لتسهل حراستهم... ذهبنا إلى غرفة صغيرة لا تسع إلاّ لمنام شخصين، وكان القرويون يحومون حولنا مبدين حفاوة كبيرة بنا.. وقد أحاطوا بنا من كل جانب، وكأنهم ينتظرون إشارة واحدة من «بديع الزمان» ولكنه ما كان يسمح أن يحدث أي شيء. وفي المساء جلبوا لنا أصنافاً متعددة من الأطعمة، ولكن الأستاذ قال بأنه مريض لذا لم يمد يده للأكل، ولكنه دعاني للأكل، ثم صلينا العشاء وبعدها فرشوا له فراشاً، وفراشاً لي قرب الباب..

    بعد حين انتبهت على صوت حركة، فتحت عيني فرأيته وهو يخرج وبيده فانوس زيتي حيث توضأ في الباحة المغطاة بالثلج، ثم وقف للصلاة، فقضى الليلة في الصلاة والعبادة.

    التفت إليَّ عندما أحس أنني يقظان وقال لي: "لا يزال أمامك متسع من الوقت للنوم. نحن على المذهب الشافعي نستيقظ مبكرين، أما أنتم فعلى المذهب الحنفي وتستطيع أن تؤدي الصلاة بعد حين.. ولكنه في الحقيقة لم يكن قد استيقظ مبكرآً لأنه لم ينم أصلاً، أما أنا فلم أعد إلى النوم بل قمت وتوضأت وصليت الفجر معه..

    كانت هناك مدفأة في الغرفة.. قام الأستاذ وغلّى شيئاً من الماء عليها، وكان معه زنبيل صغير، أخرج منه بيضة واحدة وسلقها.. كانت قد مرت ساعات طويلة منذ خروجنا من مدينة "وان"، ولأول مرة كان يتناول طعاماً في هذا الفطور.. ثم أخرج أدوات الحلاقة وحلق ذقنه.. لا أتذكر اسم هذه القرية.. كنا نبيت على الدوام في القرى التي تقع على طريق سيرنا.. كنت أراقبه عن كثب فرأيته يهتم بالنظافة والحلاقة والعبادة اهتماماً كبيراً، ولم يكن يتناول طعام أحد". Son Şahitler 1 ص136.

Ekranı Genişlet