الفصل الرابع
في منفى بارلا
(المدرسة النورية الأولى)
1 مارت 1927 - 25 نيسان 1935
ملامح هذه الفترة
هذه الفترة حافلة بالأحداث الجسام التي عصفت بتركيا فعاشت دوراً حالكاً جداً من الاستبداد المطلق والطغيان الغاشم والعداء الصريح الشرس للدين والسعي المتواصل لمحاولة إطفاء نور اللّٰه وإمحاء شريعته، تحت أسماء مزخرفة كالتمدن والتحضر.
استمر هذا الوضع المظلم مدة ربع قرن من الزمان -أي حتى سنة1950م- إذ دأبت السلطة الحاكمة آنذاك على قلب كل شيء وأن تغيّر كل ما يمت إلى الإسلام بصلة، عقيدةً وتراثاً وعادات وتقاليد.. بل حتى الزي والملابس والأرقام وحروف الكتابة والأعياد وأيام العطل.. الخ.. فسنّت سلسلة من القوانين. ندرج فيما يأتي:
أهم الأحداث والإجراءات
في الفترة (1922-1940)
سنة 1922
1/11/1922 إلغاء السلطنة العثمانية.
سنة 1923
24/8/1923 التوقيع على معاهدة لوزان.
29/10/1923 إعلان الجمهورية وانتخاب مصطفى كمال أول رئيس للجمهورية، واتخاذ أنقرة العاصمة.
سنة 1924
16/3/1924 قانون توحيد التدريسات (رقم 430 في 3 مارت 1340 رومي) وبموجبه أُلغي تدريس الدين وأُلحقت المدارس جميعها بوزارة المعارف. وأغلقت مدارس القرآن الكريم والدين.
3/3/1924 إلغاء الخلافة، وإخراج جميع أفراد العائلة العثمانية الحاكمة إلى خارج الحدود.
24/4/1924 إلغاء وزارة الأوقاف والشؤون الدينية والمحاكم الشـرعية. وإعادة النظر في دستور الدولة.
سنة 1925
13/2/1925 بداية اندلاع ثورة الشيخ سعيد بيران (البالوي).
21/2/1925 إعلان الأحكام العرفية في الولايات الشرقية.
4/3/1925 قانون إقرار السكون (قانون إقرار النظام في البلاد).
6-9/3/1925 غلق عشر من الصحف الصادرة بإسطنبول.
29/6/1925 إعدام الشيخ سعيد بيران وسبعة وأربعين من أعوانه وإغلاق جميع التكايا والزوايا في شرقي الأناضول.
25/7/1925 إلغاء التقويم الرومي المستعمل واستعمال التقويم الغريغوري الأوروبي واستعمال الأوقات حسب الساعات الزوالية (برقم 697، 698 ووضعه موضع التنفيذ اعتباراً من 1/1/1926).
24/8/1925 ظهور مصطفى كمال بالقبعة في قسطموني.
2/9/1925 غلق الأضرحة والمزارات، والقرار الوزاري برقم 2493 حول القيافة الدينية وما يلبسه الموظفون على رؤوسهم.
4/9/1925 اشتراك النساء المسلمات لأول مرة في حفلة رقص في منطقة تقسيم بإسطنبول.
8/12/1925 قانون القيافة (رقم 671 في 25/11/1341) ولبس القبعة وتكشّف النساء (إقرار الزي الأوروبي).
14/12/1925 قانون غلق جميع التكايا والزوايا في البلاد (برقم 677 في 30/11/1341 رومي) وإجبار موظفي المساجد بارتداء الزي الأوروبي والموظفين بلبس القبعة.
إلغاء الألقاب كالشيخ والخليفة والمريد.
سنة 1926
17/2/1926 إلغاء النكاح الإسلامي ووضع قانون النكاح المدني (برقم 743) وبموجبه: حرّم تعدد الزوجات وأُلغي المهر المفروض على الزوج، ومنع الزوج من حق الطلاق، وأصبحت البنت حرة في اختيار الزوج من أي دين كان، والتسوية بين الذكر والأنثى في الميراث، وأُلغي نظام الإرث بالقرابة والتعصب...
16/5/1926 وفاة السلطان "محمد وحيد الدين" في مدينة "سان ريمو" الإيطالية.
4/10/1926 قبول القانون المدني الأوروبي -الذي هو عبارة عن الترجمة الحرفية للقانون السويسري وترجمة القانون الإيطالي- وعدّه قانون الجزاء التركي. وإلغاء القوانين الشرعية كافة.
4/10/1926 نصب تمثال مصطفى كمال في منطقة "سراي بورنو" بإسطنبول.
سنة 1927
20/5/1927 إزالة كل ما يمت إلى الدولة العثمانية من لوحات وطغراء في الدوائر الرسمية (رقم 1057).
4/11/1927 الاحتفال برفع الستارة عن تمثال "النصر" بأنقرة.
سنة 1928
3/2/1928 أول خطبة للجمعة بالتركية.
10/4/1928 إخراج كلمة "اللّٰه" من القَسَم الذي يؤديه رجال الدولة وإخراج جملةِ "دين الدولة الرسمي الإسلام" وجميع التعابير والاصطلاحات الدينية من الدستور باقتراح من عصمت إينونو ورفقائه، بقانون رقم 122.
24/5/1928 اتخاذ الأرقام الأوروبية بدل العربية بقانون رقم 1288.
1/11/1928 تقليص عدد موظفي المساجد من (2128) إلى (188) فقط.
1/11/1928 إقرار الحروف اللاتينية بدلاً من العربية المستعملة (بقانون رقم 1353) وبموجبه بيعت أطنانٌ من الوثائق والكتب القيمة بأزهد الأثمان وأطنانٌ منها أرسلت إلى مصانع الورق.
1/11/1928 إجبار الصحف ولوحات الأزقة والشوارع والمحلات على اتخاذ الحروف الجديدة.
30/12/1928 غلق (90) مسجداً في إسطنبول.
سنة 1929
1/9/1929 رفع الدروس العربية والفارسية من المدارس ووضع الحظر على قراءة القرآن وكذا الكتب الدينية وتنفيذ القرار بشدة.
وفي هذه الأثناء وضع الحظر على اسـتعمال الألقاب العثمانية كالباشا والأفندي وما شابه ذلك.
سنة 1930
24/3/1930 منح المرأة الحق في انتخابات البلديات.
23/12/1930 حادثة مَنمَن (وثورات في كل من آغري 1930 وموش ووادي زيلان 1931).
سنة 1931
3/2/1931 إعدام (28) شخصاً بحادثة منمن.
26/2/1931 قبول القياس المتري وتنفيذه اعتباراً من 1/4.
سنة 1932
22/1/1932 قراءة القرآن المترجم إلى التركية.
6/2/1932 خطبة الجمعة بالتركية في جامع السليمانية بإسطنبول.
19/2/1932 فتح مراكز بيوت الشعب في (19) ولاية.
20/6/1932 فتح (20) مركزا أيضاً في شتى أنحاء البلاد.
18/7/1932 فرض الأذان والإقامة بالتركية رسماً وحظرهما بالعربية. وطبع المصحف بالتركية.
1/8/1932 اشتراك تركيا في مسابقات الجمال.
سنة 1933
1/2/1933 حدوث ثورة في بورصة احتجاجاً على الأذان بالتركية.
7/2/1933 أصبح الأذان بالتركية نافذاً في جميع المساجد.
سنة 1934
5/11/1934 منح المرأة حق الانتخابات العامة.
26/11/1934 قانون رفع الألقاب (برقم 2590).
3/12/1934 منع ارتداء ملابس معينة (بقانون رقم 2596).
سنة 1935
2/1/1935 جعل يوم الأحد عطلة الأسبوع بدلاً من الجمعة.
1/2/1935 تحويل مسجد أياصوفيا إلى متحف بعد إغلاقه مدة من الزمن وتحويل جامع الفاتح إلى مستودع كما صدر قرار بفرش المسـاجد بالكراسي واستخدام الآلة الموسيقية (الأورج) فيها حيث تتم تلاوة القرآن بمصاحبة الموسيقى، إلاّ أنه لم ينفّذ.
سنة 1938
حادثة درسيم المشهورة.
سنة 1940
7/ 3/1940 تدريس الإلحاد رسمياً في معاهد القرى.([1])
* * *
وضعتْ هذه القوانين واتخذت القرارات لقلع الإسلام من جذوره وإخماد جذوة الإيمان في قلب الأمة التي رفعت راية الإسلام طوال ستة قرون من الزمان. فمُنع تدريس الدين في المدارس كافة، وبُدّلت الأرقام والحروف العربية في الكتابة إلى الحروف اللاتينية، وحُرم الأذان الشرعي وإقامة الصلاة باللغة العربية، وجرت محاولات ترجمة القرآن الكريم وسُعي لقراءة الترجمة في الصلوات. كما أُعلنت علمانية الدولة، فمُنع القيام بأي نشاط أو فعالية في صالح الإسلام، إذ حُظر طبع الكتب الإسلامية، وأُرغم الناس على تغيير الزي إلى الزي الأوروبي، فالرجال أُرغموا على لبس القبعة والنساء على السفور والتكشف..
وشكّلت محاكم زرعت الخوف والإرهاب في طول البلاد وعرضها، ونصبت المشانق لعلماء أجلاّء، ولكل من تُحدثه نفسه بالاعتراض على السلطة الحاكمة.([2])
فساد جو من الذعر والإرهاب في أرجاء البلاد، حتى أصبح الناس يخفون القرآن الكريم عن أنظار موظفي الدولة. ونشطت الصحافة في نشر الابتذال في الأخلاق والاستهزاء بالدين، فانتشرت كتب الإلحاد وحلت محل كلمات "اللّٰه، الرب، الخالق، الإسلام" كلمات "الطبيعة، التطور، القومية التركية..الخ".([3])
وأخذ المعلمون والمدرسون يحاولون مسح كل أثر إيماني من قلوب الطلاب الصغار إذ أصبحوا يلقنونهم الفلسفة المادية وإنكار الخالق والنبوة والحشر. وسعت السلطة الحاكمة آنذاك بتسخير جميع إمكانياتها وأجهزتها وقوتها ومحاكمها إلى قطع كل الوشائج والعلاقات التي تربط هذه الأمة بدينها ونزع القرآن من قلوبهم،حتى إنها قررت جمع المصاحف من الناس وإتلافها، ولكن لما رأوا صعوبة في ذلك خططوا لكي ينشأ الجيل المقبل نشأة بعيدة عن الإيمان والإسلام فيتولى بنفسه إفناء القرآن.([4])
ومن سلسة محاربة الإسلام وملاحقة العلماء اعتقال الأستاذ بديع الزمان سعيد النورسي، وأخذه من صومعته في جبل "أرك" ونفيه إلى "بارلا"، وهي بلدة صغيرة نائية، لكي يخمد ذكره ويقل تأثيره ويطويه النسيان ويجف هذا النبع الفياض. بيد أن الأستاذ النورسي بخلاف ما وضع له من خطة رهيبة، لم يترك دقيقة من وقته تمضي في فراغ، بل صرف حياته بدقائقها في سبيل أجلّ خدمة في الوجود، وهي خدمة القرآن والإيمان. فانكبّ على الاستفاضة من أنوار القرآن الكريم مستعصماً به حتى أفاض اللّٰه على قلبه من نور الآيات الحكيمة ما أفاض، فأسال منه سلسبيلاً من الرسائل سماها "رسائل النور" ونشرها سراً -بعيداً عن أنظار السلطة- بين محبيه فشفى بها بإذن اللّٰه الحيارى المحتاجين إلى الإيمان.
وهكذا شاء اللّٰه أن يحمل الراية في تلك الفترة الحالكة بديع الزمان سعيد النورسي وقد قرر العمل لـ(إنقاذ الإيمان).. إنقاذ إيمان شعب كامل أصبح في حكم الأسير وصوبت سهام الكفر إليه من كل جانب لاغتيال الإيمان الراسخ في قلبه وأماتته موتاً لا حياة بعده.. وشاء اللّٰه سبحانه وتعالى أن تكون هذه القرية الصغيرة "بارلا" مصدر إشعاع إسلامي أضاء فيما بعد أرجاء تركيا ووصل إشعاعه إلى كل قرية وكل ناحية وكل مدينة فيها».([5])
فأقول ما يأتي تحدثاً بالنعمة وللّٰه الحمد مائة ألف مرة:
إن جميع مضايقاتهم واستبداداتهم تصبح كالحطب لإشعال نار الهمة والغيرة، لتزيد أنوار القرآن سطوعاً؛ فتلك الأنوار القرآنية التي عوملت بالمضايقات انبسطت بحرارة الغيرة والهمة، حتى جعلت جميع الولاية بل أكثر المدن في حكم مدرسة، ولم تنحصر في "بارلا" وحدها.
وحسبوا أنهم قد حبسوني في قرية، إلاّ أن تلك القرية "بارلا" -وأنف الزندقة راغم- قد أصبحت كرسي الدرس بفضل اللّٰه وبخلاف مأمولهم، بل أصبح كثير من الأماكن كـ"إسبارطة" في عداد المدارس.([6])
[1]() Muzaffer Gokmen, Elli Yilin Tutanağı, Hurriyet Yayinları.
[2]() لقد آثر علماء كثيرون وأدباء أجلاء ترك البلاد على لبس القبعة. وقد حدثت ثورات ضد السلطة الحاكمة آنذاك في أنحاء مختلفة من البلاد ففي سنة 1925مثلاً حدثت: في سيواس في 14/11/1925، وأرضروم في 25/11/1925، ومرعش في 27/11/1925، وريزة في 2/11/1925 وأخمدت كلها بالقوة. (ب) 526.
وقد صرح الجلاد "قارا علي" لصحيفة "صون بوسطة" في عددها الصادر في 3/3/1931بالآتي: علّقتُ بيدي على المشانق خمسة آلاف ومائتين وستة عشر شخصاً في إثنتي عشرة سنة الماضية.. ووصفت صحيفة "جمهورية" في عددها الصادر يوم 16/7/1930 الأعمال الجارية في شرقي الأناضول كالآتي: لقد التجأ ما يقرب من ألف وخمسمائة شقي إلى مغارات جبل آرارات، وألقت طائراتنا قنابل مكثفة عليهم، فكانت الانفلاقات مستمرة حتى طهرت تلك البقاع من العصاة، حيث أحرقت جميع القرى التي التجأ إليها الأشقياء، وامتلأ وادي زيلان بجثث الذين أُبيدوا والبالغ عددهم "ألفاً وخمسمائة شخص". Bediuzzaman Said Nursi,Yavuz Bahadiroğlu/200.
[3]() وكان ممن حملوا لواءها: تكين آلب (يهودي) وضياء كوك آلب الذي تتلمذ على العالم الاجتماعي الإسرائيلي (دركيم) وإن لم يحضر دروسه في فرنسا، وأحمد آغاييف ويوسف أقجورة، ممن هيأتهم المخابرات الروسية وأرسلوا إلى تركيا بعد عزل السلطان عبد الحميد.
[4]() وما أصدق أخانا أديب إبراهيم الدباغ في كتابه: "سعيد النورسي رجل الإيمان في محنة الكفر والطغيان" إذ يقول: "تُرى أي مصير رهيب كان ينتظر تركيا، لو لم يقيض اللّٰه سبحانه وتعالى لها هذا الرجل، في وقت بدأت فيه فؤوس الحقد، ومعاول الهدم تعمل على زلزلة الإيمان وتقويض بنيانه ومسح آثاره من البلاد.. ويتراءى لنا طيف "الأندلس" شاحباً باكياً وقد انحسر عنه الإسلام وغادره إلى غير رجعة.."
[5]() T.Hayat, Barla hayatı.
[6]() المكتوبات، المكتوب الثامن والعشرون، المسألة الرابعة.
