وجاء الإيمان بالله لنجدتي

 

«حينما كنت في منفاي ذلك  الأسر الأليم بقيت وحدي منفرداً منعزلاً عن الناس على قمة جبل "جام" المطلة على مراعي "بارلا".. كنت أبحث عن نور في تلك العزلة. وذات ليلة، في تلك الغرفة الصغيرة غير المسقفة، المنصوبة على شجرة صنوبر عالية على قمة ذلك المرتفع، إذا بشيخوختي تشعرني بألوان وأنواع من الغربة المتداخلة.. ففي سكون تلك الليلة حيث لا أثر ولا صوت سوى ذلك الصدى الحزين لحفيف الأشجار وهمهمتها.. أحسست بأن ذلك الصدى الأليم قد أصاب صميم مشاعري، ومس أعماق شيخوختي وغربتي، فهمَست الشيخوخةُ في أذني منذرةً:

"إن النهار قد تبدل إلى هذا القبر الحالك، ولبست الدنيا كفنها الأسود، فسوف يتبدل نهار عمرك إلى ليل، وسوف ينقلب نهار الدنيا إلى ليل البرزخ، وسوف يتحول نهار صيف الحياة إلى ليل شتاء الموت".

فأجابتها نفسي على مضض: "نعم، كما أنني غريبة هنا عن بلدتي ونائية عن موطني، فإن مفارقتي لأحبائي الكثيرين خلال عمري الذي ناهز الخمسين ولا أملك سوى تذراف الدموع وراءهم هي غربة تفوق غربتي عن موطني.. وإني لأشعر في هذه الليلة غربة أكثر حزناً وأشد ألماً من غربتي على هذا الجبل الذي توشح بالغربة والحزن، فشيخوختي تنذرني بدنوي من موعد فراق نهائي عن الدنيا وما فيها، ففي هذه الغربة المكتنفة بالحزن، ومن خلال هذا الحزن الذي يمازجه الحزن، بدأتُ أبحث عن نور، وعن قبس أمل، وعن باب رجاء، وسرعان ما جاء "الإيمان باللّٰه" لنجدتي ولشد أزري، ومنحني أنساً عظيماً بحيث لو تضاعفت آلامي ووحشتي أضعافاً مضاعفة لكان ذلك الأُنس كافياً لإزالتها.

نعم، أيها الشيوخ، ويا أيتها العجائز!.. فما دام لنا خالق رحيم، فلا غربة لنا إذن أبداً.. وما دام سبحانه موجوداً فكل شيء لنا موجود إذن، وما دام هو موجوداً وملائكته موجودة، فهذه الدنيا إذن ليست خالية لا أنيس فيها ولا حسيس، وهذه الجبال الخاوية، وتلك الصحارى المقفرة كلها عامرة ومأهولة بعباد اللّٰه المكرمين، بالملائكة الكرام. نعم، إن نور الإيمان باللّٰه سبحانه، والنظرة إلى الكون لأجله، يجعل الأشجار بل حتى الأحجار كأنها أصدقاء مؤنسون فضلاً عن ذوي الشعور من عباده، حيث يمكن لتلك الموجـودات أن تتكلم معنا -بلسان الحال- بما يسلينا ويروّح عنا».([1])

 

[1]() اللمعات، اللمعة السادسة والعشرون، الرجاء السادس.

Ekranı Genişlet