الدراسة الحقة
بدأت دراسته الحقة في "بايزيد"، إذ لم يكن قد قرأ حتى الآن سوى مبادئ النحو والصرف، وقد قرأ إلى "الإظهار".([1])
وفي ذلك الوقت لم يبد على سعيد ذكاء خارق أو قوة معنوية وحدها بل ظهرت عليه أيضاً حالة عجيبة كانت خارجة عن نطاق استعداده وقابليـاته كلها، بحيث إنه بعد اطلاعه على مبادئ الصرف والنحو خلال سنة أو سنتين، ظهرت عليه الحالة العجيبة، فكأنه أكمل قراءة ما يقرب من خمسين كتابا خلال ثلاثة أشهر، وقد استوعبها وأُجيز عليها وتسلم الشهادة بإكمالها.([2])
"دامت هذه الدراسة الجادة والمكثفة ثلاثة أشهر على يد الشيخ محمد الجلالي" والغريب أنه أتم قراءة جميع الكتب المقررة للطلاب في شرقي الأناضول، ابتداءً من "ملا جامي"(*) إذ كان يقرأ من كل كتاب درساً أو درسين وربما إلى عشرة دروس، من دون أن يتم الكتاب ثم يبدأ بغيـره. وعندما استفسر منه أستاذه "الشيخ محمد الجلالي" عن سبب قيامه بهذا العمل -المخالف للعرف السائد- أجاب: "ليس في طوقي قراءة جميع هذه الكتب وفهمها، فهذه الكتب شبيهة بصندوق الجواهر، ومفتاحها لديكم. وكل ما أرجوه منكم إرشادي إلى ما يحتويه هذا الصندوق، أعني ماذا تبحث هذه الكتب، لكي أختار منها ما يوافق طبعي".
وعندما سأله أستاذه: "أيّ من هذه العلوم يوافق طبعك؟" أجاب: "لا أستطيع التمييز بين هذه العلوم، فكلها سواء عندي، فإما أن أفهم جميعها حق الفهم أو لا أفهم منها شيئا".
كان يقرأ في هذه الشهور الثلاثة يومياً ما يقارب مئتي صفحة أو يزيد من متون أمهات الكتب أمثال: "جمع الجوامع"([3]) و"شرح المواقف"([4]) و"ابن حجر"([5]) مع الفهم التام من دون معونة أحد. إلى حد أنه ما كان يُسـأل سؤالا عن أي علم كان إلاّ ويجيب عنه إجابة شافية، فاستغرق في القراءة والدراسة حتى انقطعت علاقته مع الحياة الاجتماعية.
وكان نادراً ما يتكلم، ويقضي معظم أوقاته عند ضريح الشيخ "أحمد الخاني"(*) الأديب الكردي الشهير وخاصة في الليالي، علماً أن الناس يترهبون من دخوله نهاراً. ولهذا كان الناس يقولون: إنه حظي بفيض من "أحمد الخاني" ويسندون وضعه هذا إلى كرامة الشيخ.
ثم قرر الذهاب إلى بغداد -لزيارة علمائها- وتزيا بزي الدراويش وانطلق يقطع الجبال الوعرة والغابات الكثيفة ليل نهار مشياً على الأقدام، سالكاً مسلك الزهاد، حيث بدأ بمزاولة الرياضة الروحية وممارسة التزهد، حتى هزل يوماً بعد يوم ونحل جسمه ولم يعد يطيق هذا النوع من الرياضـة، إذ كان يكتفي بقطعة من الخبز طوال ثلاثة أيام، سعياً لبلوغ حالة الحكماء الذين ينظرون إلى الرياضة الروحية إنها توقد الفكر.
واتخذ القاعدة النبوية الجليلة "دع ما يريبك إلى ما لا يريبك"([6]) دستوراً لحياته من زاوية التصوف الذي وصفه الإمام الغزالي في كتابه "إحياء علوم الدين" فترك كل ما فيه شبهة، حتى بدأ يقتات على الأعشاب، إلى أن وصل بتليس.([7])
[1]() T. Hayat ilk hayat؛ و"الإظهار" كتاب في النحو للبركوي.
[2]() الملاحق، ملحق أميرداغ 2.
[3]() جمع الجوامع في أصول الفقه: لتاج الدين عبد الوهاب السبكي(727-771 هـ) وهو مختصر مشهور جمعه من زهاء مائة مصنف، له شروح كثيرة وحواشٍ كثيرة، وممن نظمه شعراً الطوخي والغزي والسيوطي وسماه "الكوكب الساطع".
[4]() المواقف في علم الكلام، للعلامة عضد الدين الإيجي المتوفي (756 هـ) وهو كتاب جليل القدر شرحه علماء أجلاء منهم الجرجاني والكرماني والأبرى وغيرهم.
[5]() المقصود كتاب "تحفـة المحتـاج في شرح المنهاج" لابن حجر الهيتمي المكي، وهـو شرح منهاج الطالبين للإمام النووي الشافعي.
[6]() البخاري، البيوع 3؛ الترمذي، القيامة 60؛ أحمد بن حنبل، المسند، 3/153.
[7]() T. Hayat ilk hayatı.
