تأثير الرسائل القوي
«إنك يا أخي تسأل: لماذا نجد تأثيراً غيرَ اعتيادي فيما كتبتَه في "الكلمات" المستقاة من فيض القرآن الكريم، قلّما نجده في كتابات العارفين والمفسرين؛ فما يفعله سطرٌ واحد منها من التأثير يعادل تأثيرَ صحيفة كاملة من غيرها، وما تحمله صحيفة واحدة من قوة التأثير يعادل تأثير كتاب كامل آخر؟
فالجواب: -وهو جواب لطيف جميل، إذ لما كان الفضل في هذا التأثير يعود إلى إعجاز القرآن الكريم وليس إلى شخصي أنا، فسأقول الجوابَ بلا حرج- نعم، هو كذلك على الأغلب؛ لأن "الكلمات" تصديقٌ وليست تصوراً،([1]) وإيمانٌ وليست تسليماً،([2]) وتحقيق وليست تقليداً،([3]) وشهادة وشهود وليست معرفة،([4]) وإذعان وليست التزاماً،([5]) وحقيقة وليست تصوفاً، وبرهان ضمن الدعوى وليست ادعاءً.
وحكمة هذا السر هي: أنَّ الأسسَ الإيمانية كانت رصينةً متينة في العصور السابقة، وكان الانقياد تاماً كاملاً، إذ كانت توضيحات العارفين في الأمور الفرعية مقبولة، وبياناتُهم كافية حتى لو لم يكن لديهم دليل. أما في الوقت الحاضر فقد مدّت الضلالةُ باسم العلم يدَها إلى أسس الإيمان وأركانه، فوهب لي الحكيم الرحيم، الذي يهب لكل صاحبِ داءٍ دواءه المناسب، وأنعم عليّ سبحانه شعلةً من "ضرب الأمثال" التي هي من أسطع معجزات القرآن وأوضحها، رحمةً منه جل وعلا لعجزي وضعفي وفقري واضطراري، لأُنير بها كتاباتي التي تخص خدمة القرآن الكريم. فـله الحمد والمنة.
فبمنظار "ضرب الأمثال" قد أُظهرَتْ الحقائقُ البعيدة جداً أنها قريبةٌ جداً.
وبوحدة الموضوع في "ضرب الأمثال" قد جُمِّعَتْ أكثر المسائل تشتتاً وتفرقاً.
وبسلّم "ضرب الأمثال" قد تُوُصِّل إلى أسمى الحقائق وأعلاها بسهولة ويُسر.
ومن نافذة "ضرب الأمثال" قد حُصّل اليقين الإيماني بحقائق الغيب وأسس الإسلام مما يقرب من الشهود.
فاضطر الخيالُ إلى الاستسلام وأُرغم الوهم والعقل على الرضوخ، بل النفس والهوى. كما اضطر الشيطان إلى إلقاء السلاح.
حاصل الكلام: أنه مهما يظهر من قوة التأثير، وبهاء الجمال في أسلوب كتاباتي، فإنها ليست مني، ولا مما مضَغَه فكري، بل هي من لمعات "ضرب الأمثال" التي تتلألأ في سماء القرآن العظيم، وليس حظي فيه إلاّ الطلب والسؤال منه تعالى، مع شدة الحاجة والفاقة، وليس لي إلاّ التضرع والتوسل إليه سبحانه مع منتهى العجز والضعف.
فالداء مني والدواء من القرآن الكريم.([6])
[1]() التصديق: هو أن تنسب باختيارك الصدق إلى المخبر. بينما التصور: هو إدراك الماهية من غير أن يحكم عليها بنفي أو إثبات وفي المنطق: التصديق هو إدراك النسبة التامة الخبرية على وجه الإذعان. والتصور: إدراك ما عدا ذلك. (عن التعريفات للجرجاني ص87، عالم الكتب، بيروت، ط 1، 1987م).
[2]() مأخوذة من قوله تعالى: ﴿قل لم تؤمنوا ولكن قولوا: أسلمنا﴾.
[3]() التحقيق: إثبات المسألة بدليلها بينما التقليد: قبول قول الغير بلا حجة ولا دليل (عن التعريفات للجرجاني ص79 و93).
[4]() الشهادة: هي إخبار عن عيان. والشهود: هو معرفة الحق بالحق. أما المعرفة: فهي إدراك الشيء على ما هو عليه، وهي مسبوقة بجهل بخلاف العلم.(عن التعريفات للجرجاني ص169 و275)
[5]() الإذعان: عزم القلب، والعزم جزم الإرادة (عن التعريفات للجرجاني ص37).
[6]() المكتوبات، المكتوب الثامن والعشرون.
