مقدمة أُلحقت مؤخراً للدفاع الأخير
لقد أُخطر على قلبي فجأة في اليوم الثالث من الحمّى الشديدة الثقيلة عليّ، من جراء التسمم. فمنعتني من تناول شيء خلال ثلاثة أيام إلاّ كأساً من لبن وكأساً من حليب، فكتبت تلك الخاطرة -تبركاً- كمقدمة لدفاعي في المحكمة، فإن كانت فيها شدة ونقص فتعود إلى مرضي، وقد حاولت أن أبيّن الحقيقة صائباً ما وسعنى ذلك وأُظهرها كما هي بهذا القدر حيث إنني اضطررت إلى الدفاع عن مائة شخص، مع الإرهاق الذي أصاب الدماغ والبؤس الذي نعانيه والأحوال المزعجة التي نعايشها.
إن قصدي من أسلوبي الذي ينطوي على مبارزة منظمةٍ سرية رهيبةٍ في جميع صفحات دفاعي هي الآتي:
إن الحكومة الجمهورية التي قبلت "فصل الدين عن الدولة" لا ينبغي لها أن تتعرض للمتدينين بسبب دينهم كما لا تتعرض للملحدين بسبب إلحادهم.
وكذا أريد أن أميّز حكومة الجمهورية التي ينبغي أن تكون حيادية وهي متحررة، عن المنظمات السرية الرهيبة المنحازة للإلحاد والتي تحيك المؤامرات وتستغفل موظفي الحكومة. فأريد أن تظل الحكومة بعيدة كل البعد عن هذه المنظمات. فأنا -في الحقيقة- إنما أجاهد أولئك المتآمرين الذين تسلل بعض منهم إلى وظائف الدولة، فهؤلاء يتعقبون بجد المتدينين، ولديهم تهمتان جاهزتان، يلصقونهما بالمتدينين الذين يحقدون عليهم، ويسعون لاستغفال الحكومة بهما.
إحداها: الرجعية التي تعني عدم الميل إلى إلحادهم.
والأخرى: استغلال الدين أداة للسياسة، بمعنى اتباع هذه الحكومة الإسلامية الإلحاد حاشا ثم حاشا.([1])
نعم، إن الحكومة الجمهورية لا تروّج أفكار تلك المنظمات السرية المفسدة المضرة بالوطن والشعب ولا تنحاز إليها بلا شك. بل مقتضى قانون الجمهورية منعها، إذ الانحياز إلى أمثال هؤلاء المفسدين لا يحقق تنفيذ الأسس الحقيقية للجمهورية حيث يكون بالضد منها. فعلى الحكومة أن تظل حَكَماً عدلاً بيننا وبين أولئك المفسدين. فأيّ منا كان ظالماً ومتعدياً فلتحكم بيننا بالعدل.
نعم، لا ينكر أن الكفر والإيمان يتصارعان منذ بدء الخليقة وسيبقيان هكذا إلى يوم القيامة. فكل من يقف على كنه قضيتنا هذه يدرك أن الهجوم الذي شُن علينا تعدٍّ صارخ من الكفر على المتدينين مباشرة، ليس إلاّ.
إن ظهور أكثر الفلاسفة والحكماء من الغرب وأوروبا وبعثة أكثر الأنبياء في الشرق وآسيا رمز من القدر الإلهي، أن المهيمن على آسيا هو الدين. ولا شك أن الحكومة الجمهورية التي هي في مقدمة آسيا ستستفيد من هذه الناحية الفطرية لآسيا. وتجعل قاعدتها في الحياد تميل إلى جهة التدين أكثر من ميلها إلى الكفر.
المادة الثانية: ربما تطرح مسألة، وهي وجود مسائل في أجزاء رسائل النور تعارض القانون. فهذه الجهة تخص المحكمة. ولكن الرسائل نفسها تضم أكثر من مائة من الكشفيات المعنوية فينبغي صيانة حق الكاشف وعدم ضياع حق كشف واحد منها. ذلك لأن هذه الكشفيات لها أهميتها لدى أهل الحقيقة وأهل العلم والأدباء، فلا يمكن أن يتملك أحد كشف الكاشف، وإذا ما ادّعى تملكه فعلى الكاشف أن يقيم عليه الدعوى. وهذا قانون جار في الدول كلها.
إن رسائل النور التي أرغب في نشرها باستحصال موافقة الحكومة في المستقبل، قد سعيت منذ ما يقرب من ثلاثين سنة على تأليفها وكشفها، فهي نتيجة مساعيّ وثمرة تدقيقاتي ومجاهداتي الفكرية وتحرياتي الجارية في منابع مختلفة منذ خمسين سنة، فهي تُظهر مائة من الكشفيات المعنوية الحاوية على أُلوف من الحقائق، كل ذلك في أجزاء يفوق عددها على مائة رسالة. لذا فطرح خمس عشرة نقطة منها -لا توافق بعض القوانين- وجعلها في صورة اتهام، تهيئ المجال لسرقتها وتملكها من قبل الآخرين. حيث يسبب ضياعَ هذه الحقائق وضياع حقوقي المتعلقة بها. ومن هنا فإني أطالب -قبل كل شيء- بصيانة حقي باسم الحقيقة والحقوق وأرجو أن تكون هذه أول جهة تنظر إليها محكمتكم العادلة.
إن الحقائق التي تتضمنها رسائلي المصادرة نتيجة توهمها أداة جرم يجب أن تكون بين يديّ، لأنها مصدر إثباتي تجاه أهل العلم والفلسفة ومحققي الدراسات الأكاديمية، فأطلب إعادتها لي لإجراء تثبيت الكشفيات والمناظرات العلمية التي فيها. وحتى لو حكمتم عليّ فلا تكون تلك الرسائل محكومة. ولا بد أن تكون رفيقتي في السجن. ولا شك أن المحكمة العادلة تترفع عن الإنصات إلى أقوال الحاقدين والذي يخدش كرامة المحكمة وشرفها وعدالتها وستجعل إن شاء اللّٰه مؤامراتهم عقيمة بائرة.
فأنا لا أقول باسمي وحده، بل باسم الحقيقة السامية التي ترتبط بها حقائق كثيرة وحقوق أبرياء كثيرين مستنداً إلى أن المحكمة لا تعرف مقاماً أسمى من إحقاق الحق والعدل. بل إن إنقاذ العدالة والبعد عن أي تأثير خارجي هو مقتضى العدالة التي تنفذها. فينبغي الإسراع في دفع هذه الأوهام الباطلة بإعلان الحرية لرسائل النور.
المادة الثالثة: يفهم من الذنب الموهوم الذي يسند إلينا استلزام محكوميتي، حيث يراد أن يمسنا ظاهر "المادة 163" ([2]) من قانون الجزاء وعموميتها، وبتعبيرها العام من دون أخذ القيود الاحترازية بنظر الاعتبار. رغم أن دفاعاتي المسجلة في المضابط الرسمية لديكم تضم أجوبة حقيقية قاطعة لما أُسند إلينا. فتُنتقد وتُعاقب رسائل النور بسبب عشر أو خمس عشرة نقطة بدلاً من أن تُكافأ وتقدّر حق قدرها لاحتوائها على مائة من الكشفيات المعنوية ومئات من الحقائق المهمة وهي في أكثر من مائة جزء. أليس من حقي أن أطالب بحقي هذا، وحق حرية رسائل النور؟ بل هذا أمر ضروري.
المادة الرابعة: إن الذين يهاجمونني إلى الآن ويثيرون الحكومة علينا، أصحاب أغراض وأحقاد بلا شك. إذ ما تركوا باباً إلاّ وطرقوه لأجل ضربنا. فبدؤوا أولاً باتهامنا بـأننا "أصحاب طريقة صوفية" ولم يعثروا على شيء يثبت اتهامهم، ثم تهمة "تأسيس جمعية" ثم تهمة "معارضة قوانين الانقلاب وتشكيل تنظيمات سرية معارضة للدولة والقيام بنشريات دون إذن حكومي".. وأمثالها من الاتهامات الكثيرة، ومع هذا لم يجدوا شيئاً لإدانتنا. وفي النهاية يريدون سحب مادة قانونية علينا -بما لا يقبله عاقلٌ ولا يعطي لهم الحق منصفٌ- من دون اعتبار بقيودها الاحترازية، مستفيدين من عمومية ظاهرها.
نعم، لا يقبَل من له ذرة من عقل وله ذرة من إنصاف في الدنيا كلها المادة التي سنبحثها بل سيقول حتماً إنه افتراء وبهتان محض؛ تلك هي "أن سعيداً الكردي يستغل الدين لأجل السياسة" فالدلائل التي تفند هذا الزعم تبلغ أكثر من عشرين دليلاً، وما يقرب من عشرة منها أدرجت في المضابط الرسمية لدفاعاتي. أذكر أحد الأدلة فقط بشهادة مئات الشهود:
بمشاهدة أهالي قرية "بارلا" التي مكثت فيها تسع سنوات، وبشهادة أخلائي في إسبارطة التي أقمت فيها تسعة أشهر، وبإشهاد أخلائي الذين يعرفونني عن كثب، إني لم أقرأ ولم أستمع ولم أطلب أية جريدة التي هي لسان حال السياسة منذ ثلاث عشرة سنة. بل لم أرغب في الاطلاع على الجرائد التي تطرقت إلى وقائع يظن أن لها مساساً مع شخصي وتثير الفضول لدى الناس، ولم أقرأها ولم أستقرئها. أيُقال لسعيد: إنه "يجعل الدين أداة للسياسة" والذي يعني أن الدين الحق الذي آمن به وهو الحقيقة السامية المقدسة والإيمان الحقيقي يجعله آلة للسياسة، أي آلة لمقصد دنيء عقيم تضيع فيه حقوق الكثيرين، لمقصد مختلطٍ فيه الإثمُ الكثير، بماذا؟ بـرسائل النور التي تبينت بعد التدقيقات العميقة التي أجرتها الحكومة، أنها متوجهة للآخرة والإيمان وإلى الحقيقة لا غير، فيما عدا خمس عشرة مادة فيها.. ألا يَفهم من يتفوه بهذا الكلام أنه أبعد من العقل والوجدان؟ فلا ريب أن المحكمة العادلة ستدفع بمثل هذه الأوهام الباطلة والإسنادات الظالمة وتحق الحق في حقنا.
فعلى الرغم من أن الجهل بالقوانين لا يشكل عذراً لدى الأكثرية، فإن من كان في قرية نائية، تحت الترصد والمراقبة، وفي بلد غير بلده، عازفاً عن الدنيا، ومقيماً إجبارياً منفياً هناك، وتتوالى عليه الإزعاجات باستمرار، لا شك أن جهله بالقوانين يشكل عذراً لدى المنصفين.
فذاك الرجل هو أنا، فلم أكن أعلم أية مادة قانونية التي يؤاخذونني بها بوهم خاطئ. بل لم أكن أستطيع التوقيع بالحروف الجديدة. وقد لا ألتقي أحداً طوال عشرة أيام سوى من يعينني في أموري الخاصة، فالجميع يهربون من أن يمدّوا إليّ يد التعاون. علاوة على ذلك لا أتمكن من توكيل محام يدافع عني. وقد اتخذت دستور "إنما الحيلة في ترك الحيلة" دستوراً طوال حياتي، فمازلت أقول الصدق والحق والحقيقة والصواب في المحاكمات. وبناء على ما ذكر فمن مقتضى العدالة النظر بالتسامح إلى تعابيري التي لا توافق القوانين الحاضرة والأصول الرسمية في دفاعاتي أو في عدد من رسائل النور.
إن النقاط التي ظلت مجملة في دفاعاتي موضّحة في رسالة الاعتراض على لائحة الادعاء، وما جاء في الاعتراض من مواد مجملة موضحة في الدفاعات، فالواحدة تكمل الأخرى.
إن ما تضمنته "المادة 163" مع القيود الاحترازية من معنى، وما قصد بها واضع القانون هو ألاّ يكون مبعثاً للإخلال بالأمن. وحيث إنه ليس هناك إشارة ولا أمارة ولا ترشح يومئ إلى الإخلال بالأمن، لا فيّ ولا في رسائلي، فهذه المادة إذن لا علاقة لها بقضيتنا إطلاقاً وليس هناك جهة تستلزم العقوبة. وقد أثبتنا هذا إثباتاً قاطعاً كما في المضابط الرسمية. لذا لا يليق بجلال العدالة إبراز هذه المادة القانونية ومؤاخذتنا بها بتأثير الأوهام المذكورة في البداية. فأنا أطالب ببراءتي وأقول كلمتي الأخيرة:
﴿حَسْبُنَا اللّٰهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ﴾
﴿فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُلْ حَسْبِيَ اللّٰهُ لا إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ﴾.
[1]() أي إنهم يقولون "إن سياسة الحكومة هي الإلحاد، وفق نظرهم وإن خدمتنا لتحقيق الإيمان برسائل النور المترشحة من نصوص القرآن الحكيم، سياسة تخالف سياسة الحكومة. فيفترون افتراءً عظيماً جداً".
[2]() ينص هذا القانون على معاقبة كل من سعى لإقامة دولة دينية في تركيا أو استغل الشعور الديني في هذا السبيل، وهو القانون الذي اتكأت عليه جميع الحكومات لضرب الحركات الإسلامية في تركيا.
