سنة 1892م/1309هـ
إلى سعرد
بعد أن مكث مدة شهرين عند أخيه، ذهب إلى مدرسة "الملا فتح اللّٰه أفندي" في سعرد، فسأله الشيخ:
- كنت تقرأ "السيوطي"([1]) في السنة الماضية فهل تقرأ "الملا جامي"([2]) هذه السنة.؟
- نعم... لقد أنهيت قراءة الجامي.
فأيّما كتاب سأله عنه، أجاب بأنه أتمه. فتعجب من أمره إذ كيف يستطيع أحد أن يقرأ كل هذه الكتب في هذه الفترة القصيرة، حتى عبّر عن حيرته بأسلوب الملاطفة والمزاح:
- كنت مجنوناً في السنة الماضية، فهل ما زلت على جنونك؟
أجابه الملا سعيد:
- قد يكتم الإنسان الحقيقة عن الآخرين لئلا يداخله الغرور وليكسر نفسه الأمارة بالسوء، ولكن الطالب لا يستطيع سوى قول الحقيقة المحضة لأستاذه الذي يجلّه أكثر من والده. فإن تفضلتم بالأمر فأنا على استعداد للامتحان في الكتب التي ذكرتها.
فبدأ "الملا فتح اللّٰه" بطرح الأسئلة. فما سأل سؤالاً من أي كتاب كان إلاّ وكان الجواب شافياً ووافياً.
وممن شاهد هذه المحاورة "الملا علي الصوران" الذي بدأ يتلقي الدرس من "الملا سعيد" علماً أنه كان قبل سنة واحدة أستاذاً لأستاذه.
ثم سأله "الملا فتح اللّٰه": "حسناً.. إن ذكاءك خارق، ولكن دعنا نرى قوة حفظك! فهل تستطيع أن تحفظ بضعة أسطر من كتاب "مقامات الحريري" بعد قراءتها مرتين؟"
وتناول الملا سعيد الكتاب، وقرأ منه صحيفة واحدة مرة واحدة، فإذا بها كافية لحفظها. وقرأها لأستاذه حفظاً، فلم يملك أستاذه نفسه من القول في إعجاب ودهشة: "إن اجتماع الذكاء الخارق مع القابلية الخارقة للحفظ في شخص واحد من أندر الأمور".
وهناك حفظ "الملا سعيد" كتاب "جمع الجوامع" عن ظهر قلب بقراءته ساعة أو ساعتين في اليوم لمدة أسبوع. مما دفع هذا الأمر "الملا فتح اللّٰه" إلى كتابة العبارة الآتية على غلاف الكتاب: "قد جمع في حفظه جمع الجوامع جميعه في جمعة".
وبدأ أستاذه "الملا فتح اللّٰه" بالثناء عليه والإعجاب به في جلساته مع العلماء قائلاً: لقد أتى إلى مدرستنا طالب في أوج شبابه، وأجاب عن كل ما سألته عنه دون توقف، فأعجبت بذكائه النادر وعلمه الوافر أيما إعجاب.([3])
ولهذا شاعت أحواله في "سعرد" مما أثار فضول علمائها، فأقبلوا عليه يمتحنونه ويحاولون إحراجه بأسئلتهم وذلك في اجتماع واسع حضره "الملا فتح اللّٰه" أيضاً. وكان بديع الزمان كلما يوجَّه إليه سؤال يـمعن النظر في وجه أستاذه "الملا فتح اللّٰه" ويجيب وكأنه ينظر إلى كتاب ويقرأ، فالعلماء الذين شاهدوا هذا المنظر حكموا بأنه شاب خارق وأثنوا على ذكائه وعلمه ومنـزلته.
وما لبث خبر هذا الشاب أن شاع وانتشر بين الأهلين في "سعرد" حتى بدأ الناس يوقرونه كتوقيرهم لولي من الصالحين، مما أثار الحسد عند بعض العلماء وطلاب العلوم الآخرين. ولما كانوا غير قادرين على منازلته والتغلب عليه في ساحة المعرفة وميدان العلوم حاول بعض الشباب إيذاءه بالقوة والصراع والعراك. فطرق سمع أهالي "سعرد" هذا الخبر فحالوا دون ذلك وأنقذوه من بين أيديهم، ووضعوه في غرفة حفاظاً عليه، ولكنـه لفرط حبه لأهل العلم، اندفع من الغرفة خارجاً وقرر أن يدافع عن معارضيه من طلاب العلوم حتى لو قضوا عليه، وذلك لئلا يكونوا هدفاً للجهلاء. فتوجّه إلى أحد الطلاب قائلاً: "اقتلوني... ولكن حافظوا على شرف العلم ومكانته".
وانصرف دون أن يهاجمه أحد من الطلبة... وهكذا زال الخلاف.
ولكن عندما ســـمع متصرف مدينة "سعرد" الخبر أرســـل إلى الملا سعيد ثلة من الجندرمة ليبلغوه أنه أمر بنفي المعارضين له حفاظاً عليه وأنه يستدعيه لمقابلته. ولكن بديع الزمان خاطب رئيس الجندرمة: "نحن طلاب العلم، قــد نتخاصم، ثم نتصالح ونتصافى فيما بيننا. فلا نرى من المناسب أن يتدخل من ليس من مسلكنا فيما يدور بيننا.على أن الخـطـأ قــد صـــدر منـي فأرجـو إبـلاغ المتصرف اعتـذاري عـن المجيء".
كان الملا سعيد في هذه الأثناء في الخامسة عشر من عمره يتمتع بقوة البدن والنشاط فضلاً عن إفحامه جميع العلماء مما جعلهم يطلقون عليه "سعيدي مشهور" أي السعيد المشهور، حيث أعلن في "سعرد" أنه مستعد للإجابة عن أي سؤال كان يرد منهم دون أن يسأل أحداً سؤالاً.
عاد مرة أخرى إلى "بتليس" وطرق سمعه أن هناك سوء تفاهم بين "الشيخ محمد أمين أفندي" وشيوخ خيزان فحذّر الناس من مغبة الغيبة التي لا تليق بالمسلمين. فشكوه إلى "الشيخ محمد أمين أفندي" الذي قال: "إنه مازال صبياً ليس أهلاً للخطاب".
بلغ هذا الكلام سمع الملا سعيد، وهو الذي لا يتحمل أدنى من هذا الكلام. فحضر مجلس الشيخ، وقبّل يده وقال: "سيدي... أرجو التفضل بامتحاني، فإنني على استعداد لأن أثبت أنني أهل للخطاب".
فأعدّ "الشيخ أمين أفندي" ستة عشر سؤالاً من أعقد المسائل لمختلف العلوم([4]) ليوجهها إلى "الملا سعيد". ولم يتوان الملا سعيد من الإجابة عليها جميعاً.
وبعدها ذهب إلى "جامع قريشي" وبدأ بموعظة الناس وإرشادهم. وعلى إثره بدأ قسم من أهالي بتليس بتأييد بديع الزمان ومناصرته والآخرون بدؤوا يناصرون "الشيخ محمد أمين أفندي". فخشي متصرف المدينة من وقوع احتكاك بين الجماعتين فأصدر أمره بنفي الملا سعيد من المدينة إلى شيروان.
وقدّر اللّٰه أن تفوته صلاة الفجر ذات يوم. وما إن علم خصماؤه هذا الأمر حتى أشاعوا في المدينة: قد ترك الملا سعيد الصلاة.
وعندما سئل: "لماذا يتكلم الناس جميعاً هذا الكلام؟"
قال: "إنه لا يشيع أمرٌ لا أساس له بين الناس بهذه السرعة. فالخطأ مني، وقد عوقبتُ به بعقوبتين، أولاها: عتاب اللّٰه سبحانه، والأخرى: كلام الناس عليّ.
أمــا الســــبب الأســــاس لهذا الأمــــر فهو تركي الـورد الشــــريف الـــذي اعتـدت على قراءتــه كل ليــلة. فلقد أحـسّــتْ روحُ النـــاس هــذه الحقيقة إلاّ أنـهـا لــــم تســتوعبها تماماً ولـــم تعـرف الخـطـأ فأطلقت اســــــماً آخــــر على تلك الحقيقة".
وفي شيروان جاءه رجل من إحدى قرى سعرد وقال له: "لقد ظهر في سعرد عالم صغير يترواح عمره بين الرابعة عشر والخامسة عشر عاماً ولكنه غلب كل علماء المدينة، لذا أرجو منكم الذهاب إلى هناك لمناظرته".
لبّى سعيد هذه الدعوة وتهيأ للسفر معه، وبعد أن تركا المدينة وسارا لمدة ساعتين سأل سعيد مرافقه الداعي عن أوصاف ذلك الفتى العالم. فقال له: "إنني لا أعرف اسمه، ولكنه كان يلبس ملابس الدراويش عند قدومه مدينتنا ثم تزيّا بزي طلاب المدارس الدينية، وأفحم جميع العلماء".
عند ذلك علم سعيد بأن ذلك العالم الفتى لم يكن إلاّ نفسه، أي إنه كان مسافراً لمناظرة نفسه! لذا رجع إلى شيروان. ثم ذهب إلى إحدى قصبات مدينة سعرد تُدعى تِيلُّو([5]) حيث اعتكف هناك.([6])
[1]() المقصود: البهجة المرضية في شرح ألفية ابن مالك.
[2]() المقصود: الفوائد الضيائية لعبدالرحمن جامي.
[3]() فكان الملا فتح اللّٰه أول من أطلق على الملا سعيد لقب "بديع الزمان" كما سيرد.
[4]() إحدى تلك المسائل مذكورة في مجموعة صيقل الإسلام، ختام قزل إيجاز.
[5]() "تيلّو" قصبة تمتاز إلى الآن بتخريج العلماء الصالحين، تبعد عن مدينة سعرد سبع كيلو مترات.
[6]() T.Hayat, ilk hayatı.
