استشهاد الحافظ علي

 

«ثم دسّ الأعداء المتسترون السُّم في طعامي([1]) ونُقل بطل النور الشهيد الحافظ علي على إثرها إلى المستشفى بدلاً عنى، ومن ثم ارتحل إلى عالم البرزخ أيضاً عوضاً عني، مما جعلنا نحزن كثيراً ونبكى بكاءً حاراً عليه.

لقد قلت يوماً -قبل نزول هذه المصيبة بنا- وأنا على جبل قسطموني، بل صرخت مراراً: يا إخواني "لا تلقوا اللحم أمام الحصان ولا العشب أمام الأسد" بمعنى: لا تعطوا كل رسالة أياً كان، حذراً من أن يتعرضوا لنا بسوء. وكأن الأخ الحافظ علي قد سمع بهاتفه المعنوي كلامي هذا "وهو على بُعد مسيرة سبعة أيام". فكتب إليّ -في الوقت نفسه- يقول: "نعم، يا أستاذي.. إنها من إحدى كرامات رسائل النور وخصائصها أنها لا تعطي الحصان اللحم ولا الأسد العشب، بل تعطى الحصان العشب والأسد اللحم" حتى أعطى ذلك العالِم رسالة الإخلاص، وبعد سبعة أيام تسلمنا رسالته هذه، وبدأنا بالعدّ والحساب فعلمنا أنه قد كتب تلك العبارة الغريبة نفسها في الوقت الذي كنت أرددها من فوق جبل قسطموني.

فوفاة بطل معنوي مثل هذا البطل من أبطال النور، والمنافقون يسعون لإدانتنا وإنزال العقوبة بنا، علاوة على قلقي المستمرّ من أخذهم إياي بأمر رسمي إلى المستشفى لمرضي الناشئ من التسمم.. في هذا الوقت وجميع هذه المضايقات تحيط بنا، إذا بالعناية الإلهية تأتي لإمدادنا؛ فلقد أزال الدعاءُ الخالص المرفوع من قبل إخواني الطيبين خطر التسمم. وهناك أمارات قوية جداً تدل على أن ذلك البطل الشهيد منهمك في قبره برسائل النور، وأنه يجيب بها عن أسئلة الملائكة. وإن بطل دنيزلي "حسن فيضي" تغمده اللّٰه برحمته وأصدقاءه الأوفياء سيحلون محله فيقومون بمهمته في خدمة النور سراً.. وإن أعداءنا قد انضموا إلى الرأي القائل بضرورة إخراجنا من السجن خوفاً من سعة انتشار الرسائل بين المساجين وسرعة استجابتهم لها ليحُولوا بيننا وبين السجناء، وقد حوّل تلاميذ النور تلك الخلوة المزعجة إلى ما يشبه كهف أصحاب الكهف، أولئك الذين آمنوا بربهم فزادهم هدى، أو ما يشبه مغارات المنـزوين من الزهاد، وسعوا بكل اطمئنان وسكينة في كتابة الرسائل ونشرها.. كل ذلك أثبت أن العناية الإلهية كانت تمدّنا وتغيثنا.

ولقد خطر للقلب أنّ الإمام الأعظم أبا حنيفة النعمان وأمثاله من الأئمة المجتهدين قد أوذوا بالسجن وتحملوا عذابه، وأن الإمام أحمد بن حنبل وأمثاله من المجاهدين العظام قد عذّبوا كثيراً لأجل مسألة واحدة من مسائل القرآن الكريم، وقد ثبت الجميع أمام تلك المحن القاسية وكانوا في قمة الصبر والجلد، فلم يُبد أحدهم الضجر والشكوى، ولم يتراجع عن مسألته التي قالها، وكذا علماء عظام كثيرون وأئمة عديدون لم يتزلزلوا قط أمام الآلام والأذى الذي نزل بهم، بل صبروا شاكرين للّٰه تعالى، مع أن البلاء الذي نزل بهم كان أشدّ مما هو نازل بكم، فلا بد أن في أعناقكم دَين الشكر للّٰه تبارك وتعالى شكراً جزيلاً على ما تتحملونه من العذاب القليل والمشقة اليسيرة النازلة بكم في سبيل حقائق عديدة للقرآن الكريم مع الثواب الجزيل والأجر العميم».([2])

 

[1]() هذه هي المرة الثالثة لتسميم الأستاذ النورسي، أما الأولى فبلقاح الجدري والثانية كانت شديدة جداً "كما في الشعاعات، الشعاع الثالث عشر".

[2]() اللمعات، اللمعة السادسة والعشرون، الرجاء السادس عشر.

Ekranı Genişlet