دفع الظلم
وفي إحدى الليالي رأى في المـنام الشيخ عبد القادر الكيلاني قدس سره وهو يخاطبه:ملا سعيد! اذهب إلى رئيس عشيرة ميران "مصطفى باشا"،([1]) وادعه إلى الهداية والرشاد والإقلاع عن الظلم، وليقم الصلاة ويأمر بالمعروف.. واقتله إن لم يستجب.
بادر الملا سعيد إلى الذهاب إلى عشيرة ميران قاصداً خيمة مصطفى باشا، ولكن لم يجده فجلس ليأخذ قسطاً من الراحة. وما إن دخل مصطفى باشا الخيمة حتى هبّ الحاضرون قياماً، احتراماً له، سوى الملا سعيد لم يحرك ساكناً. لمح الباشا ذلك فسأل أحد أمراء العشيرة "فتاح آغا" عن هذا الشاب فأعلمه أنه "ملا سعيد المشهور" وحاول الباشا كظم غيظه، وهو الذي ما كان ينشرح للعلماء، وسأل الملا سعيد:
- لِمَ أتيت إلى هنا؟
- جئت لإرشادك إلى الحق، فإما أن تتخلّى عن الظلم وتقيم الصلاة، أو أقتلك!
لم يتحمل الباشا هذا الكلام فاندفع خارج الخيمة، وتجول قليلاً ثم عاد إليها وكرر السؤال نفسه.
فأجابه الملا سعيد: "لقد قلت لك... جئت من أجل ما ذكرت!"
أشار الباشا إلى السيف المعلق بعماد الخيمة وقال بسخرية:
- أبهذا السيف الصدئ تقتلني!؟
- اليد هي التي تقطع لا السيف!
مرة أخرى ترك الباشا الخيمة وهو يفور غضباً، ثم دخلها مخاطباً الملا سعيد: "إن لي جمعاً غفيراً من العلماء في منطقة الجزيرة (جزيرة ابن عمر) وسأعقد مناظرة علمية فيما بينكم، فإن أقمت الحجة عليهم وألزمتهم، أنفّذ طلبك وإلاّ فسألقيك في النهر".
قال الملا سعيد: "كما أنه ليس من شأني إلزام جميع العلماء، فليس باستطاعتك أن تلقيني في النهر. ولكن إن تفوقت عليهم أطلب منك بندقية "ماوزر" لأقتلك بـها إن لم تحافظ على وعدك".
عقب هذه المشادة العنيفة ذهبا معاً على الخيول إلى الجزيرة، ولم يتكلم الباشا مع ملا سعيد طول الطريق. ولما وصلا إلى أحراش "باني خاني" أخلد الملا سعيد إلى النوم بعد أن أصابه الإرهاق. ولما أفاق وجد علماء الجزيرة ومعهم كتبهم ينتظرون ساعة المناظرة.
انعقد المجلس... وبعد تبادل السلام دارت أقداح الشاي على الحاضرين ولكن العلماء كانوا في شغل شاغل عن الشاي، إذ كانوا يقلبون صفحات الكتب، مأخوذين بشـهرة الملا سعيد ومنتظرين أسئلته، بينما لم يحفل الملا سعيد بالأمر، ولم يكتف بشرب شايه، بل بدأ بارتشاف الشاي الموضوع أمام اثنين أو أكثر ممن حوله من العلماء المشغولين بالنظر في الكتب.
وعندها خاطب مصطفى باشا العلماء وهو يراقب مجرى الأمور: "على الرغم من أنني لست متعلماً فإنني أرى أنكم ستُغلَبون أمام الملا سعيد في مناظرتكم، لأني لاحظت أن انكبابكم على الكتب ألهاكم عن شرب الشاي، بينما شرب الملا سعيد شايه ثم عدداً من أقداح غيره".
بدأ الملا سعيد بالملاطفة وشيء من المزاح مع العلماء ثم قال: "أيها السادة! لقد عاهدت ألاّ أسأل أحداً، وها أنا منتظر أسئلتكم".
فاطمأن العلماء! وبدؤوا بطرح ما يقارب الأربعين سؤالاً. وأجاب الملا سعيد عن الأسئلة كلها إجابات صائبة، سوى سؤال واحد أخطأ في جوابه، دون أن ينتبه إليه العلماء، حيث صدرت من الجميع علامات التصديق.
وبعد أن انفضّ المجلس، تبعهم الملا سعيد قائلاً: "أرجو المعذرة.. لقد سهوت في جواب السؤال الفلاني ولم تفطنوا إليه. والجواب الصحيح هو كذا وكذا..."
فقالوا: "حقاً إنك قد ألزمتنا الحجة، فإننا معترفون بذلك!"
ثم باشر قسم من هؤلاء العلماء يجلسون منه مجلس الطالب لينهلوا من فيض علمه. أما مصطفى باشا فقد وفى بوعده وأهدى إلى الملا سعيد بندقية "ماوزر" وبدأ بإقامة الصلاة.
خرج مصطفى باشا معه يوماً إلى سباق الخيل، ودبّر خفية جلب فرس جموح للملا سعيد. فامتطى الفرس وهو الشاب في مقتبل السـادسة عشر من العمر وأخذ يوجهها يمنة ويسرة، إلاّ أن الفرس اندفعت إلى وجهات مخالفة. ومهما حاول ضبطها لم يفلح، حتى انطلقت إلى موضع أطفال يلعبون ويمرحون، فطرح أحدهم أرضاً -وهو ابن أحد سادات الجزيرة- وصار الطفل تحت أقدام الفرس يضطرب. سارع الناس للنجدة، ولكنهم رأوا أن الطفل لا حراك له فهمّوا حالاً بقتل الملا سعيد وسلّوا خناجرهم، وعندها وضع الملا سعيد يده على مسدسه، وخاطبهم:
في نظر الحقيقة؛ إن اللّٰه سبحانه هو الذي أمات الطفل، أما في ظاهر الأمر فالفرس هي القاتلة. وإذا ما نظر إلى الأمر من زاوية السبب، فإن "مصطفى الأقرع" الذي أعطاني الفرس هو الذي قتله... إذن فلننظر أولاً إلى الطفل، إن كان ميتاً فلنتعارك. ثم نزل من على الفرس واحتضن الطفل، ولما لم يجد فيه حراكاً غمسه في ماء بارد، وأخرجه حالاً. ففتح الطفل عينيه مبتسماً، وظل الناس في حيرة مما حدث.
وبعد أن ظل مدة في الجزيرة توجه مع أحد طلابه "الملا صالح" إلى بيرو وهي منطقة بدو العرب. ومكث فيها مدة حتى طرق سمعه أن مصطفى باشـا قد عاد إلى عادته القديمة في ظلم الناس. فذهب إليه وأبدى له النصائح مدة ثم هدده قائلاً: "أوَ بدأت بالظلم مرة أخرى؟ سأقتلك باسم الحق".
ولكن كاتب الباشا تدخل في الأمر وهدّأ الموقف، بينما الملا سعيد استمر في تعنيفه الباشا وتوبيخه لكثرة مظالمه، فلم يتحمل الباشا هذه الإهانات وهمّ بقتله فحال شيوخ عشيرة "ميران" دون ذلك. ثم تقرّب نجل الباشا "عبد الكريم" من الملا سعيد ورجاه قائلا: لا تكترث بصنيع أبي إنه لا يسمع كلاماً من أحد.. عقيدته فاسدة.. أرجوك رجاء خالصاً أن تتشـرف إلى مكان آخر.. فمال الملا سعيد إلى كلام عبد الكريم ورجائه، وغادر المكان متوغلاً في صحراء "بيرو" وإذا به يصادف الأشقياء المسلحين بالحراب والخناجر، ولما كان الملا سعيد يحمل بندقية أطلق عليهم عدة عيارات نارية، فانصرفوا. واستمر في سيـره إلاّ أنه بعد مدة رأى نفسه محاصراً بين عدد من قطاع الطرق، وعندما همّوا بقتله لمحه أحدهم وقال: "إنه شخص مشهور شاهدته في عشيرة "ميران"".
وما إن سمعوا هذا الكلام حتى أخلوا سبيله معتذرين منه، بل أرادوا مرافقته لئلا يصيبه أذى في تلك الأماكن الخطرة. فردّ الملا سعيد طلبهم واستمر في طريقه وحده.
وبعد أيام وصل إلى ماردين، فأراد علماؤها الاعتراض عليه وإفحامه في المناقشات، ولكنهم لم يوفقوا، بل رضوا به أستاذاً لهم، لما لمسوا منه من قدرة علمية فائقة، رغم أنه شاب وفي عمر أبنائهم.
وفي هذه الأثناء التقى طالبين؛ أحدهما من طلاب السيد "جمال الدين الأفغاني" والآخر من منتسبي الطريقة السنوسية، فاطلع بوساطتهما على منهج السيد جمال الدين الأفغاني والطريقة السنوسية".([2])
[1]() كان السلطان عبد الحميد الثاني قد منح رتبة الباشوية له ولبعض رؤساء العشائر الكردية في شرقي البلاد حيث كان هؤلاء يؤلفون بأتباعهم المسلحين "ميليشيات" تقوم بمهمة الحراسة على الحدود مع روسيا وتعاون الجيش النظامي، وتحفظ الأهالي من هجمات العصابات الأرمنية المسلحة، ويضمن السلطان بهذه الطريقة ولاء رؤساء هذه العشائر للدولة ويحول دون قيامهم بحركات عصيان ضدها.
[2]() T. Hayat, ilk hayatı
