2- رفض الهدايا

«كنت أرفض قبول أموال الناس وهداياهم منذ نعومة أظفاري. فما كنت أتنازل لإظهار حاجتي للآخرين رغم أنني كنت فقير الحال وفي حاجة إلى المال، وما كنت زاهداً ولا صوفياً ولا صاحب رياضة روحية، فضلاً عن أنني ما كنت من ذوي الحسب والنسب والشهرة.

فإزاء هذه الحالة كنت أحار من أمري كما كان يحار من يعرفني من الأصدقاء. ولقد فهمت حكمتها قبل بضع سنين، أنها كانت لأجل عدم الرضوخ للطمع والمال، ولأجل الحيلولة دون مجيء اعتراض على رسائل النور في مجاهداتها، فقد أنعم عليّ الباري عز وجل تلك الحالة الروحية.. وإلاّ لكان أعدائي الرهيبون ينـزلون بي ضربتهم القاضية من تلك الناحية.([1])

ويا إخوتي، تعلمون أنني لا أقبل الصدقات والمعونات، كما لا أكون وسيلة لأمثالها من المساعدات، لذا أبيع ملابسي الخاصة وحاجياتي الضرورية، لأبتاع بثمنها -من إخوتي- كتبي التي استنسخوها وذلك لأحول دون دخول منافع دنيوية في إخلاص رسائل النور، لئلا يصيبها ضرر. وليعتبر من ذلك الإخوة الآخرون، فلا يجعلوا الرسائل وسيلة لأي شيء كان.([2])

إن السبب المهم للاستغناء عن الناس هو ما يقوله ابن حجر.(*) الموثوق حسب مذهبنا الشافعي: "يحرم قبول ما يوهب لك بنية الصلاح، إن لم تكن صالحاً".([3])

نعم، إن إنسان هذا العصر يبيع هديته البخسة بثمن باهظ، لحرصه وطمعه، فيتصور شخصاً مذنباً عاجزاً مثلي ولياً صالحاً، ثم يعطيني رغيفاً هديةً. فإذا اعتقدت أنني صالح -حاش للّٰه- فهذا علامة الغرور، ودليل على عدم الصلاح. وإن لم اعتقد بصلاحي، فقبول ذلك المال غير جائز لي.

وأيضاً إنّ أخذ الصدقة والهدية مقابل الأعمال المتوجهة للآخرة يعني قطف ثمراتٍ خالدة للآخرة، بصورة فانية في الدنيا.([4])

هذا وإن أسباباً كثيرة تمنعني عن قبول الهدايا، أذكر أهمها وهو: الإخلال بالعلاقة الخالصة الحميمة بيني وبين طلاب النور، علاوة على أنني لست محتاجاً حاجة ماسة، وذلك بفضل الالتزام بالاقتصاد والقناعة والبركة، بل لا أستطيع أن أمدّ يدي إلى أموال الدنيا، فذلك خارج طوقي وإرادتي.

وسأبين سبباً دقيقاً واحداً من بين الأسباب الكثيرة:

أتي صديق حميم تاجر، بمقدار من الشاي يبلغ ثمنه ثلاثين قرشاً، فلم أقبله. فقال: لا تردّني خائباً يا أستاذي، لقد جلبته لك من إسطنبول! فقبلته ولكن دفعت له ضعف ثمنه.  فقال: لِمَ تتعامل هكذا يا أستاذي، ما الحكمة فيه؟ قلت: لئلا أُنزل قيمة الدرس الذي تتلقاه -وهو بقيمة الألماس- إلى قيمة قطع زجاجية تافهة. فإنني أدع نفعي الخاص لأجل نفعك أنت!

نعم، إن درس الحقيقة الذي تأخذه من أستاذ لا يتنازل إلى حطام الدنيا ولا تزل قدمه إلى الطمع والذل، ولا يطلب عوضاً عن أدائه الحق والحقيقة، ولا يضطر إلى التصنع.. هذا الدرس هو بقيمة الألماس.

بينما الدرس الذي يُتلقى من أستاذ اضطر إلى أخذ الصدقات، وإلى التصنع للأغنياء وإلى التضحية حتى بعزته العلمية، في سبيل جلب أنظار الناس إليه، فمال إلى الرياء أمام الذين يتصدّقون عليه. وبهذا جوّز أخذ ثمرات الآخرة في الدنيا. أقول: إن هذا الدرس نفسه يهون في هذه الحالة إلى مستوى قطع زجاجية».([5])

 

[1]() الملاحق، ملحق أميرداغ 1.

[2]() الملاحق، ملحق أميرداغ 1.

[3]() "ومَنْ أُعطي لوصفٍ يُظنُّ به كفقرٍ أو صلاح أو نسب بأن توفرّت القرائن أنه إنما أُعطي بهذا القصد أو صرّح له المُعطي بذلك وهو باطناً بخلافه، حَرُم عليه الأخذ مطلقاً ومثله ما لو كان به وصفٌ باطناً لو أطّلع عليه المُعطي، لم يُعْطِهِ. ويجري ذلك في الهدية أيضاً على الأوجه. مثلها سائر عقود التبرّع فيما يظهر كهِبَةٍ ووصيةٍ ووقفٍ ونذر" (ابن حجر الهيتمي الشافعي، تحفة المحتاج لشرح المنهاج 7/178).

 

[4]() المكتوبات، المكتوب الثاني.

[5]() الملاحق، ملحق بارلا.

Ekranı Genişlet