4- الزهد والعزوف عن الدنيا
«كان سعيد القديم يخبر طلابه -في مؤلفاته القديمة وفي إفادة المرام لإشارات الإعجاز- ويقول لهم مكرراً: ستحدث زلزلة اجتماعية بشرية عظيمة، زلزلة مادية ومعنوية، وسيغبطونني على اعتكافي وانزوائي وبقائي عزباً.([1])
[فنذر نفسه لخدمة الإيمان والقرآن لاسيما بعدما سمع بـمؤامرة خبيثة تحاك حول القرآن الكريم، حتى إنه ترك الزواج وبقي عزباً طوال حياته، ويعللّه بالآتي:]
أولا: في الوقت الذي يلزم لصد هجوم زندقة رهيبة تُغير منذ أربعين سنة، فدائيون يضحّون بكل ما لديهم، قررت أن أضحي لحقيقة القرآن الكريم لا بسعادتي الدنيوية وحدها، بل حتى إذا استدعى الأمر بسعادتي الأخروية كذلك، فلأجل أن أتمكن من القيام بخدمة القرآن على وجهها الصحيح بإخلاص حقيقي ما كان لي بد من ترك زواج الدنيا الوقتي -مع علمي بأنه سنة نبوية- بل لو وُهب لي عشر من الحور العين في هذه الدنيا، لوجدت نفسي مضطراً إلى التخلي عنهن جميعاً، من أجل تلك الحقيقة، حقيقة القرآن. لأن هذه المنظمات الملحدة الرهيبة تشن هجمات عنيفة، وتدبر مكايد خبيثة، فلا بد لصدها من منتهى التضحية وغاية الفداء، وجعل جميع الأعمال في سبيل نشر الدين خالصة لوجه اللّٰه وحده، من دون أن تكون وسيلة لشيء مهما كان.
ولقد أفتى علماء منكوبون، وأناس أتقياء، لصالح البدع، أو ظهروا بمظهر الموالين لها، من جراء هموم عيش أولادهم وأهليهم، لذا يقتضي منتهى التضحية والفداء، ومنتهى الثبات والصلابة وغاية الاستغناء عن الناس، وعن كل شيء، تجاه الهجوم المرعب العنيف على الدين، ولا سيما بعد إلغاء دروس الدين في المدارس وتبديل الأذان الشرعي ومنع الحجاب بقوة القانون؛ لذا تركت عادة الزواج الذي أعلم أنها سنة نبوية لئلا ألج في محرمات كثيرة، ولكي أتمكن من القيام بكثير من الواجبات وأداء الفرائض. إذ لا يمكن أن تقترف محرمات كثيرة لأجل أداء سنة واحدة. فلقد وجد علماء أدوا تلك السنة النبوية أنفسهم مضطرين إلى الدخول في عشر كبائر ومحرمات وترك قسم من السنن والفرائض، في غضون هذه السنوات الأربعين.
ثانيا: إن الآية الكريمة ﴿فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم..﴾(النساء:3) والحديث الشريف «تَناكحُوا تَكثُروا..»([2]) وأمثالهما من الأوامر، ليست أوامر وجوبية ودائمية، بل استحبابية مسنونة، فضلا عن أنها موقوفة بشروط لا بد من توافرها، وقد يتعذر توافرها للجميع وفي كل وقت. ثم إن الحديث الشريف «لا رُهبَانِيَة في الإسلام»([3]) لا يعني أن الانزواء والعزوبة -كما هو لدى الرهبان- محرمتان مرفوضتان لا أصل لهما. بل هو حث على الانخراط في الحياة الاجتماعية كما هو مضمون الحديث الشريف «خَيرُ النَّاس أنفَعهُم للنَّاس».([4]) وإلاّ فإن ألوفاً من السلف الصالحين قد اعتزلوا الناس موقتاً، وآثروا الانزواء في المغارات لفترة من الزمن، واستغنوا عن زينة الحياة الدنيا الفانية وجردوا أنفسهم عنها، كي يقوموا ببناء حياتهم الأخروية على الوجه الصحيح. فما دام الكثيرون من السلف الصالحين تركوا الدنيا وزينتها بلوغاً إلى كمال باق وخاص بشخصهم، فلا بد أن من يعمل لأجل سعادة باقية، لكثير جداً من المنكوبين، ويحول بينهم وبين السقوط في هاوية الضلالة، ويسعى لتقوية إيمانهم، خدمةً للقرآن والإيمان خدمة حقيقية، ويثبت تجاه هجمات الإلحاد المغير من الخارج والظاهر في الداخل، أقول لا بد أن الذي يقوم بهذا العمل العام الكلي -وليس عملا خاصاً لنفسه- تاركاً دنياه الآفلة، لا يخالف السنة النبوية بل يعمل طبقا لحقيقة السنة النبوية.
ثم إنني أتمنى أن أغنم ذرة واحدة من هذا الكلام الصادق الصادر من الصديق الأكبر رضي اللّٰه عنه: "ليكبر جسمي في جهنم حتى لا يبقى موضع لمؤمن".. ولأجله آثر هذا السعيد الضعيف العزوبةَ والاستغناء عن الناس طوال حياته كلها.
ثالثاً: لم نقل لطلاب النور: "تخلوا عن الزواج، دعوه للآخرين" ولا ينبغي أن يقال لهم هذا الكلام. ولكن الطلاب أنفسهم على مراتب وطبقات. فمنهم من يلزم عليه ألاّ يربط نفسه بحاجات الدنيا قدر المستطاع في هذا الوقت، وفي فترة من عمره، بلوغاً إلى التضحية العظمى والثبات الأعظم والإخلاص الأتم. وإذا ما وجد الزوجة التي تعينه على خدمة القرآن والإيمان، فبها ونعمت. إذ لا يضر هذا الزواج بخدمته وعمله للقرآن، وللّٰه الحمد والمنة، ففي صفوف طلاب النور كثيرون من أمثال هؤلاء، وزوجاتهم لا يقصرن عنهم في خدمة القرآن والإيمان، بل قد يفقن أزواجهن ويسبقنهم لما فطرن عليه من الشفقة التي لا تطلب عوضاً، فيؤدين العمل بهذه البطولة الموهوبة لهن بإخلاص تام.
هذا وإن المتقدمين والسابقين من طلاب النور أغلبهم متزوجون، وقد أقاموا هذه السنّة الشريفة على وجهها، ورسائل النور تخاطبهم قائلة: اجعلوا بيوتكم مدرسة نورية مصغرة، وموضع تلقي العلم والعرفان، كي يتربى الأولاد الذين هم ثمارُ تطبيقِ هذه السنة، على الإيمان، فيكونوا لكم شفعاء يوم القيامة، وأبناء بررة في هذه الدنيا، وعندها تتقرر هذه السنة الشريفة فيكم حقاً. وبخلافه لو تربي الأولاد على التربية الأوروبية وحدها -كما حدث خلال ثلاثين سنة خلت- فإن أولئك الأولاد يكونون غير نافعين لكم في الدنيا -من جهة- ومدّعين عليكم يوم القيامة، إذ يقولون لكم: "لِمَ لم تنقذوا إيماننا؟" فتندمون وتحزنون من قولهم هذا، يوم لا ينفع الندم، وما هذا إلا مخالفة لحكمة السنة النبوية الشريفة».([5])
[1]() الملاحق، ملحق أميرداغ 2.
[2]() عبد الرزاق، المصنف، 6/173؛ العجلوني، كشف الخفاء، 1/380؛ المناوي، فيض القدير، 3/269؛ الهندي، كنـز العمال، 16/276.
[3]() أحمد بن حنبل، المسند، 6/226؛ كشف الخفاء، 2/510.
[4]() العجلوني، كشف الخفاء، 1/472؛ الطبراني، المعجم الأوسط، 6/58؛ البيهقي، شعب الإيمان، 6/117.
[5]() الملاحق، ملحق أميرداغ 2.
