"مشروطية" و"حرية" شرعيتان أو "استبداد جديد"
«إن أصحاب الأفكار الفاسدة، يريدون الاستبداد والمظالم تحت ستار الحرية، فلأجل ألاّ نشاهد مرة أخرى تلك الاستبدادات التي دفنت في حفر الماضي ولا تلك المظالم التي جرت في سيل الزمان، أريد أن أقيم سداً حديداً بين الماضي والحاضر وذلك بإيضاح تاريخ حياة الحرية. وهو كالآتي:
إن هذا الانقلاب لو أعطى الحريةَ التي ولّدها لأحضان الشورى الشرعية لتـربيها فستُبعث أمجاد الماضي لهذه الأمة قوية حاكمة. بينما لو صادفت تلك الحرية الأغراض الشخصية، فستنقلب إلى استبداد مطلق، فتموت تلك المولودة في مهدها.([1])
يا أبناء الوطن! لا تفسروا الحرية تفسيراً سيئاً كي لا تفلت من أيديكم، ولا تخنقونا بسقي الاستعباد السابق الفاسد في إناء آخر.([2]) ذلك لأن الحرية إنما تزدهر بمراعاة الأحكام الشرعية وآدابها والتخلق بالأخلاق الفاضلة.
والبرهان الباهر على هذا الادعاء هو ما كان يرفل به عهد الصحابة الكرام رضوان اللّٰه عليهم أجمعين من الحرية والعدالة والمساواة على الرغم من الوحشية السائدة والتحكم المقيت.([3])
"ففي بداية إعلان الحرية، أرسلتُ ما يقارب من خمسين أو ستين برقية إلى العشائر القاطنين في شرقي البلاد، وذلك بوساطة ديوان رئاسة الوزارة. كان مضمون تلك البرقيات:
"إن المسألة التي سمعتموها وهي المشروطية والقانون الأساسي ما هي إلاّ العدالة الحقة والشورى الشـرعية. تلقَّوْها بقبول حسن. اسعوا للحفاظ عليها؛ لأن سعادتنا الدنيوية في المشروطية. فلقد قاسَينا الأمرَّين من الاستبداد أكثر من الآخرين".
وقد أتت من كل مكان إجابات إيجابية لهذه البرقيات. بمعنى أنني قمت بتنبيه الولايات الشرقية ولم أتركهم غافلين، يستغفلهم استبداد جديد.."([4])
وقمت بإلقاء خطب عدة على العلماء عامة وعلى كثير من طلاب الشريعة، وذلك في كل من جامع أياصوفيا وبايزيد والفاتح والسليمانية، وبينتُ العلاقة الحقيقية بين حقائق الشريعة والمشروطية. وأوضحت أن الاستبداد المتعسف لا صلة له بالشريعة الغراء، وأن الشريعة قد أتت لهداية العالم أجمع كي تـزيل التحكم الظالم والاستبداد..
وقد قلت: "إن المسلك الحقيقي للشريعة إنما هو حقيقة المشروطية المشروعة".بمعنى أنني رضيت بالمشروطية بالدلائل الشرعية، وليس كما رضي بها بعض دعاة المدنية الغربية، إذ قبلوها تقليداً وفهموها خلافاً للشريعة. فلم أتنازل عن الشريعة ولم أُعطها أتاوة لشيء.([5])
إذ لما ارتقت المشروطية الشرعية عرش الأفكار، هزّت الحبل المتين للملّية، فاهتز بدوره الإسلام -وهو العروة الوثقى- وعرف كل مسلم أنه ليس هملاً سائباً، بل مرتبطاً بالآخرين بالمنفعة المشتركة والحسّ المجرد، فالمسلمون جميعاً مرتبطون كالعشيرة الواحدة.([6])
إن أوروبا تظن أن الشريعة هي التي تمدّ الاستبداد بالقوة وتعينه. حاش وكلا.. إن الجهل والتعصب المتفشـيين فينا قد ساعدا أوروبا لتحمل ظناً خاطئاً من أن الشريعة تعين الاستبداد. لذا تألمت كثيراً من أعماق قلبي على ظنهم السيء هذا بالشريعة، فكما أنني أكذّب ظنهم فقد رحّبت بالمشروطية باسم الشريعة قبل أي شخص، ولكني خشـيت من أن يقوم استبداد آخر لتصديق هذا الظن، لذا صرخت من أعماقي، وبكل ما أوتيت من قوة في خطاب أمام المبعوثيـن "النواب".. في جامع أياصوفيا وقلت: افهموا المشروطية في ضوء المشروعية وتلقوها على أساسها، ولقّنوها الآخرين على هذه الصورة كي لا تلوثها اليد القذرة لاستبداد جديد متستر وملحد باتخاذ ذلك الشيء الطيب المبارك ترساً لأغراضه الشخصية. قيّدوا الحرية بآداب الشرع لأن عوام الناس والجاهليـن يصبحون سفهاء وعصاة وقطاع طرق، فلا يطيعون بعد أن ظلوا أحراراً سائبين بلا قيد وشرط. ولتكن قبلتكم في صلاة العدالة على المذاهب الأربعة كي تصحّ صلاتكم، لأنني قد أعلنت دعوىً: وهو أنه يـمكن استخراج حقائق المشروطية صراحة وضمناً وإذناً من المذاهب الأربعة.([7]) ثم إن سبب افتتاني بمحبة معنى المشروطية هو أن المدخل الأول لتقدم آسيا والعالم الإسلامي في المستقبل هو المشروطية المشروعة والحرية التي هي ضمن نطاق الشريعة، وأن مفتاح حظ الإسلام وسعده ورقيه موجود في الشورى التي في المشروطية؛ حيث قد انسحق -لحد الآن- ثلاثمائة مليونٍ من المسلمين تحت أقدام الاستبداد المعنوي للأجانب، وحيث إن الحاكمية الإسلامية مهيمنة الآن في العالم ولا سيما في آسيا، فإن كل مسلم يكون مالكاً لجزء حقيقي من الحاكمية. وإن الحرية هي العلاج الوحيد لإنقاذ ثلاثمائة مليونٍ من المسلمين من الأسر. فحتى لو تضرر هنا -بفرض محال- عشـرون مليوناً من الناس في أثناء إرساء الحرية، فليكن ذلك فداءً، إذ نأخذ ثلاثمائة بدفع عشرين.
وا أسفى! إن العناصر والقوميات الموجودة عندنا مختلطة اختلاط أجزاء الهواء، ولم تمتزج امتزاج أجزاء الماء. وستمتزج تلك العناصر والقوميات بالإسلام الذي يفعل فعل التيار الكهربائي فيهم، وسيأتي بإذن اللّٰه مزاج العدالة المنصفة المتـولدة من حرارة نور المعارف الإسلامية، فلتعش المشروطية المشروعة، ولتدم الحرية النيّرة المسترشدة بتربية حقيقة الشريعة.([8])
وأقول بلا فخر: "نحن المسلمين الحقيقيين ننخدع ولكن لا نخدع، ولا نتنـزّل للخداع لأجل حياة دنيوية، لأننا نعلم "إنما الحيلة في ترك الحيل". ولكن لأنني قد عاهدت المشروطية الحقيقية المشروعة سأصفع الاستبداد إن قابلته في أي لباس كان، حتى لو كان لابساً ملابس المشروطية أو تقلّد اسمها. وفي اعتقادي أن أعداء المشروطية هم أولئك الذين يشوّهون صورتها بإظهارها مخالفة للشريعة وأنها ظالمة، فيكثرون بهذا أعداء الشورى أيضاً. علماً أن القاعدة هي: "لا تتبدل الحقائق بتبدل الأسماء"».([9])
[1]() صيقل الإسلام، المحكمة العسكرية.
[2]() نعم، لقد سقونا عبودية مسمومة جداِ باستبداد أرهب وأشد. (المؤلف)
[3]() صيقل الإسلام، المحكمة العسكرية.
[4]() صيقل الإسلام، المحكمة العسكرية.
[5]() صيقل الإسلام، المحكمة العسكرية.
[6]() صيقل الإسلام، المناظرات.
[7]() صيقل الإسلام، المحكمة العسكرية.
[8]() صيقل الإسلام، المحكمة العسكرية.
[9]() صيقل الإسلام، المحكمة العسكرية.
