خطاب إلى الحرية

 

«أيتها الحرية الشرعية!([1])

انكِ تنادين بصوت هادر، ولكنه رخيم يحمل بشارة سارة، توقظين بها كردياً بدوياً مثلي نائماً تحت طبقات الغفلة، ولولاكِ لظللتُ أنا والأمة جميعاً في سجن الأسر والقيد.إنني أُبشّرك بعمر خالد. فإذا ما اتخذتِ الشريعةَ التي هي عين الحياة، منبعاً للحياة، وترعرعتِ في تلك الجنة الوارفة البهيجة، فإنني أزف بشرى سارة أيضاً بأن هذه الأمة المظلومة سـتترقى ألف درجة عما كانت عليه في سابق عهدها، وإذا ما اتخذتك الأمة مرشدة لها، ولم تلوّثك بالمآرب الشخصية وحب الثأر والانتقام، فقد أخرَجَنا إذن مَن له العظمة والمنة من قبـر الوحشة والاستبداد، ودعانا إلى جنة الاتحاد والمحبة....

إن هذا الاتحاد، اتحاد القلوب والمحبة الموجهة للامة كافة، وهي معدن السعادة والحرية، قد أنعم بها المولى الكريم علينا مجاناً، بينما الأمم الأخرى قد ظفروا بها بعد دفع الملايين من جواهر النفوس الغالية.

إن صدى الحرية والعدالة ينفخ نفخ إسرافيل فيبعث الحياة في مشاعرنا المدنية وآمالنا الخامدة ورغباتنا القومية الرفيعة وأخلاقنا الإسلامية الحميدة، حتى يرن صماخ الكرة الأرضية المجذوبة جذبة المولوي، ويهيج الأمة جميعاً ويهزها هزّ المجذوب.

وإياكم يا إخوان الوطن أن تقضوا عليها بالموت مرة أخرى بالسفاهات والإهمال في الدين.

إن القانون الأساسي المؤسس على هذه الشريعة الغراء قد أصبح ملك الموت لقبض أرواح جميع الأفكار الفاسدة والأخلاق الرذيلة والدسائس الشيطانية والتزلفات الدنيئة. فيا إخوة الوطن! لا تعيدوا الحياةَ لتلك الرذائل بالإسرافات ومخالفة الشريعة والملذات المحرمة...

وبخلافه فإن تفسير الحرية والعمل بها على أنها التحرر من القيود والانغمار في السفاهات والملذات غير المشروعة والبذخ والإسراف، وتجاوز الحدود في كل شيء اتباعاً لهوى النفس.. مماثل لمن يتحرر من أسر سلطان واحد ويدخل في استبداد حقراء سافلين كثيرين. فضلاً عن أن هذا النمط من الحرية يُظهر أن الأمة غير راشدة ومازالت في عهد الصبوة وليست أهلاً للحرية. فهي سفيهة إذن تستحق الحجر عليها، بالرجوع إلى الاستبداد السابق البائد...

وبناء على ما سبق لاينبغي أن ننخدع، بل نجعل القاعدة الآتية دستور عمل لنا وهي: "خذ ما صفا دع ما كدر" وفي ضوئها سنأخذ من الأجانب -مشكورين- كل ما يعين على الرقي المدني من علوم وصناعات. أما العادات والأخلاق السيئة، فهي ذنوب المدنية ومساوئها التي لا يتبين قبحها كثيراً لكونها محاطة بمحاسن المدنية الكثيرة.

فنحن لو أخذنا منهم المدنية -بسوء حظنا وسوء اختيارنا- بما يوافق الهوى والشهوات -كالأطفال- تاركين محاسنها التي تحتاج إلى بذل الجهد للحصول عليها، نكون موضع سخرية كالمخانيث أو كالمترجلات، إذ كيف إذا لبست المرأة ثياب الرجل ولبس الرجل ثياب المرأة يكون كل منهما موضع سخرية واستهزاء. ألا ما يكون لنا أن نتجمل بمساحيق التجميل!..

ينبغي لنا الإقتداء باليابانيين في المدنية، لأنهم حافظوا على تقاليدهم القومية التي هي قوام بقائهم وأخذوا بمحاسن المدنية من أوروبا. وحيث إن عاداتنا القومية ناشئة من الإسلام وتزدهر به فالضرورة تقتضي الاعتصام بالإسلام...

نحن على أمل عظيم أن تثمر مزرعة الأناضول ورومَلي شباناً غيارى. فلا جرم أن الممالك العثمانية محل ظهور الأنبياء، ومهد الدول الحضارية، ومشرق شمس الإسلام. فإذا ما نمت هذه الاستعدادات المغروزة في الإنسانية بغيث الحرية، فإنها تتحول إلى شجرة طوبى من الأفكار النيرة وتمتد أغصانها إلى كل جهة، وسيجعل الشرق مشرقاً للغرب، إن لم تفسد وتنخر بالكسل والأغراض الشخصية...

إن الشريعة الغراء تمضي إلى الأبد لأنها آتية من الكلام الأزلي. والبرهان الباهر عليه هو أن الشريعة تتوسع وتنمو نمو الكائن الحي أي بنسبة نمو استعداد الإنسان وتشربه من نتائج تلاحق الأفكار وتغذيه عليها، ذلك الاستعداد الذي يمثل ميل الرقي الذي هو غصن من أغصان شجرة استكمال العلم.

فالحرية والعدالة والمساواة التي كان يرفل بها خير القرون والخلفاء الأربعة، ولاسيما في ذلك الوقت، دليل على أن الشريعة الغراء جامعة لجميع روابط المساواة والعدالة والحرية الحقة. فآثار سيدنا عمر وسيدنا علي رضي اللّٰه عنهما وصلاح الدين الأيوبي دليل وأي دليل على هذا الادعاء.

ومن هنا فإني أقرر أن سبب تأخرنا وتَدَنّينا وسوء أحوالنا إلى الآن ناتج مما يأتي:

1- عدم مراعاة أحكام الشريعة الغراء.

2- تصرفات بعض المداهنين تصرفاً عفوياً.

3- التعصب المقيت في غير محله سواءً لدى عالم جاهل أو جاهل عالم!

4- تقليد مساوئ المدنية الأوروبية تقليداً ببغائياً -بسوء حظنا أو سوء اختيارنا- مما ولّد تركنا لمحاسن المدنية التي تستحصل بمشكلات ومصاعب.

فلو قام الموظفون خير قيام بوظائفهم وسعى الآخرون حسب الظروف المحيطة وما يتطلبه الزمان الحاضر، فلن يجد أحد متسعاً من الوقت للسفاهة؛ ولو انهمك أي منهما بها فلا يكون إلاّ جرثومة خطرة في جسم المجتمع...

كما أن الجسم محال أن يتحلل إلى ذرات دفعة واحدة كذلك تشكّله من ذرات دفعة واحدة وبصورة فجائية محال أيضاً. لذا فإن فصل الموظفين السابقين من جسم الدولة ووضع آخرين جدد في مواضعهم متعذر وإن لم يكن محالاً. علماً أن الدولة ستنبذ الموظفين الذين ينطوون على خبث دفين لا يمكن إصلاحه، بينما باب التوبة مفتوح لمن يمكن إصلاحه ما لم تطلع الشمس من مغربها. فهؤلاء يجب الاستفادة من تجاربهم، إذ إشغال مواضعهم الوظيفية يحتاج إلى أربعين سنة أخرى. وإلاّ فإن إطالة اللسان بالسوء إلى الجميع وإهانتهم يجعل هذا الاتحاد، اتحاد الأمة العظيم، معرّضاً لوباء وبيل من أفكار فاسدة وأخلاق سيئة...»([2])

 

[1]() ألقى الأستاذ النورسي هذا الخطاب في إسطنبول بعد إعلان الحرية بثلاثة أيام ثم ألقاه أيضاً في سلانيك. وقد نقلنا فقرات من الخطاب. ومن شاء فليراجع النص الكامل في صيقل الإسلام، المحكمة العسكرية.

 

[2]() صيقل الإسلام، المحكمة العسكرية.

Ekranı Genişlet