سوقه إلى المحكمة العسكرية العرفية بسبب أحداث (31) مارت

 

«حينما كانت العدالة والاستقامة قد التبستا مع الرجعية، صيّر الاستبداد الشديد في المشروطية السجن مدرسةً لي.([1])

لقد قلت في المحكمة العسكرية العرفية في أثناء حادثة (31) مارت:

إنني طالب شريعة، لذا أزن كل شيء بميزان الشريعة، فالإسلام وحده هو ملّتي، لذا أُقيّم كل شيء وأنظر إليه بمنظار الإسلام، وإنني إذ أقف على مشارف عالم البرزخ الذي تدعونه "السجن" منتظراً في محطة الإعدام، القطار الذي يقلني إلى الآخرة أشجب وأنقد ما يجري في المجتمع البشري من أحوال ظالمة غدارة، فخطابي ليس موجهاً إليكم وحدكم وإنما أوجهه إلى بني الإنسان كلهم في هذا العصر، فلقد انبعثت الحقائق من قبـر القلب عارية مجردة بسر الآية الكريمة: ﴿يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ﴾(الطارق:9) فمن كان أجنبياً غير محرَم فلا ينظر إليها. إنني متهيئ بكل شوق للذهاب إلى الآخرة، ومستعد للرحيل إليها مع هؤلاء المعلقين على المشانق.([2]) تصوروا مبلغ اشتياقي إليها بهذا المثال:

قروي مغرم بالغرائب سمع بعجائب إسطنبول وغرائبها وجمالها ومباهجها، كم يشتاق إليها؟

فأنا الآن مثل ذلك القروي مشتاق إلى الآخرة التي هي معرض العجائب والغرائب.

لذا فإن إبعادي ونفيي إلى هناك لا يُعدّ عقاباً لي. ولكن إن كان في قدرتكم وفي استطاعتكم تعذيبي وإيقاع العقاب عليّ فعذّبوني وجداناً، فما دونه ليس عذاباً ولا عقاباً بل فخراً وشرفاً.

لقد كانت هذه الحكومة تخاصم العقل أيام الاستبداد. إلاّ أنها الآن تعادي الحياة بأكملها؛ فإن كانت الحكومة على هذا الشكل والمنطق، فليعش الجنون وليعش الموت، ولتعش جهنم مثوىً للظالمين.

لقد كنت آمل أن يهيأ لي موضع لأبيّن فيه أفكاري، وها قد أصبحت هذه المحكمة العرفية خير مكان لأبث منها أفكاري.

في الأيام الأولى من التحقيق سألوني مثلما سألوا غيري: "وأنت أيضاً قد طالبت بالشريعة!"

قلت: "لو كان لي ألف روح، لكنت مستعداً لأن أضحي بها في سبيل حقيقة واحدة من حقائق الشريعة، إذ الشريعة سبب السعادة وهي العدالة المحضة وهي الفضيلة. أقول: الشريعة الحقة لا كما يطالب بها المتمردون.. فها أنا أبدأ بخطابي:

أيها القادة! أيها الضباط!

إن خلاصة جناياتي التي اقتضت سجني هي:

إذا محاسني اللاتي أدلّ بها        كانت ذنوبي فقل لي كيف أعتذر؟([3])

وفي البداية أقول: "إن الشريف لا يتنازل لارتكاب جريمة، وإن اتُّهم بها لا يخاف من الجزاء والعقاب؛ فلئن أُعدمتُ ظلماً فإني أغنم ثواب شهيدين معاً، وإن لبثت في السجن فهو بلا ريب أفضل مكان في ظل هذه الحكومة الظالمة التي ليس فيها من الحرية إلاّ لفظها، فالموت مظلوماً هو خير من العيش ظالماً".

وأقول كذلك: "إن بعضاً ممن جعلوا السياسة أداة للإلحاد، يتهمون الآخرين بالرجعية أو باستغلال الدين لأجل السياسة ليستروا على سيئاتهم وجرائمهم. إن عيون السلطة وجواسيسها أشد قساوة من سابقيهم، فكيف يوثق بهم ويعتمد عليهم وكيف نبني العدالة على أقوالهم؟. فضلاً عن أن الإنسان، إذ لا يسلم من تقصير ونقص، بينما تراه يتحرى العدالة يقع في الظلم بالجبن والخِبّ. ولكن جمع تقصيرات متفرقة وقعت في مدة مديدة ومن تصرف أشخاص كثيرين -والتي يمكن تفاديها بما يتخللّها من محاسن- وتوهّم صدورها من شخص واحد في وقت واحد يجعل ذلك الشخص مستحقاً لعقاب شديد. بينما هذا الأمر بحد ذاته ظلم عظيم.

والآن سنباشر بذكر جناياتي البالغة إحدى عشرة جناية ونصف جناية"...([4])

(هذا الدفاع الرائع الشجاع طبع مرتين في وقته ونشر، وعندما كان يُنتظر صدور حكم الإعدام من تلك المحكمة الرهيبة حكمت ببراءة بديع الزمان -علماً أنها علقت الكثيرين على أعواد المشانق- ولكن بديع الزمان بدلاً من أن يشكر المحكمة على قرارها سار من منطقة بايزيد -حيث المحكمة- إلى منطقة السلطان أحمد ويعقبه جمّ غفير من الناس، ويهتفون: فلتعش جهنم للظالمين ولتعش جهنم للظالمين).([5])

 

[1]() صيقل الإسلام، المحكمة العسكرية.

[2]() حيث يشاهد جثث خمسة عشر من المشنوقين عبر النافذة.

[3]() للبحتري من قصيدة يمدح بها علي بن مر.

[4]() والنص الكامل للدفاع في مجموعة صيقل الإسلام، المحكمة العسكرية.

[5]() T. Hayat, ilk hayatı

Ekranı Genişlet