من مقدمة الرسالة

 

«اعلموا أني لما سافرت ثاني سنتي المشروطية، قافلاً من العصر الذي تمثله إسطنبول، منحدراً إلى القرون الوسطى، متجولاً بين عشائر الأكراد، مترحلاً من بساتين الربيع رحلة الصيف إلى الخريف، متنقلاً رحلة الشتاء في البلاد العربية.. اتخذت من الجبال والبيد مدرسة درّست فيها المشروطية لهم. فحينئذ تراءى لي من شبهاتهم أنهم تصوروا المشروطية بصورة غريبة، واطلعت على شبهاتهم وأسئلتهم فإنها من واد واحد. فلأجل تشخيص المرض ألقيت إليهم مفتاح الكلام، فقلت فاسألوا حتى يداويه جوابي، فاستصوبوا.. لأن طبيعتهم المدارسةُ بالمناظرة والمناقشة..

فتعميماً للفائدة كتبت أسئلتهم معانقة بأجوبتي حتى توازرها، فينطق كتابي بدلاً عني، ويشافه عشائر الأكراد وأمثالهم الذين ما رأيتهم، وليترجم بلسان الأسئلة عن الذين لا يطيق لسانهم إظهار ما في ضمائرهم. أعني أن هذا الكتاب يجيب بدلاً عني، ويسأل بدلاً عنهم. ويعاون أطباء السياسة على تشخيص العلة..

فيا أهل الحمية أنبهكم إلى أن الأكراد وأمثالهم صاروا -ويصيرون- أهل المشروطية فكراً.. ولكن بعض المأمورين لا يتمثلون الشورى فعلاً.. وهذا أشكل من ذاك. مع أن مدرّس العوام الذين عقولهم في عيونـهم هو "الفعلُ".([1])

[وعندما نظر إلى (المناظرات) بعد مدة طويلة كتب الآتي:]

أولاً: إن هذا المؤلَّف الذي طبع في مطبعة "أبو الضياء" سنة 1329 (1913م) هو الدرس الذي ألقاه سعيد القديم بين عشائر الأرتُوش ولاسيما عشائر "كَوْدَان ومَامْخُورَان"، لأجل إفهام الشورى الشرعية للعشائر فهماً صائباً وحملهم على قبولها، وذلك في السنة الثالثة من عهد الحرية، ولكن لم أحصل على هذا المؤلّف مع الأسف رغم بحثي عنه منذ ثلاثين سنة، إلاّ أن أحدهم حصل على نسخة منه فأرسلها إليّ.

طالعت الكتاب بإمعان وبعقل سعيد القديم وبسانحات سعيد الجديد، فأدركت أن سـعيداً القديم شعر بحسّ عجيب مسبق -قبل الوقوع- الوقائعَ المادية والمعنوية التي تحدُث الآن، فقد شعر بها قبل حوالي أربعين سنة. إذ إنه شـاهد ما وراء ستار العشائر الكردية، الخونةَ الذين جعلوا هذا الزمان قناعاً لهم وهم الملحدون الجاهلون الحقيقيون والرجعيون الذين يحاولون تحت ستار الوطنية إرجاع هذه الأمة إلى عاداتها السابقة قبل عهد الإسلام. فتكلم سعيد القديم معهم بشدة وحاورهم بعنف.

ثانياً: قرأت الصفحات التي يبدو فيها أن بين المستمعين لدرسي ذاك، وليّ عظيم -دون علمي به- فقد اعترض اعتراضاً شديداً في ذلك المقام إذ قال: "أنت تغالي وتفرط، إذ تُظهر الخيال عينَ الحقيقة وتُهيننا بظنك أننا جهلاء، فنحن في عصر آخر الزمان والفساد يستشري وسينقلب من سيء إلى أسوأ".

وكان الجواب في الكتاب:

لماذا تكون الدنيا ميدان تقدمٍ وترقٍ للجميع، وتكون لنا وحدنا ميدان تأخر وتدنٍ. فهل الأمر هكذا؟ فها أنذا آليتُ على نفسي ألاّ أخاطبكم، فأدير إليكم ظهري وأتوجه بالخطاب إلى القادمين في المستقبل:

أيا من اختفى خلف عصر شاهق لما بعد ثلاثمائة سنة،([2]) يستمع إلى كلمات النـور بصمت وسكون، ويلمحنا بنظر خفي غيبي.. أيا من تتسمّون بـ"سعيد وحمزة، وعمر وعثمان وطاهر ويوسف وأحمد وأمثالهم" إنني أتوجه بالخطاب إليكم:

ارفعوا هاماتكم وقولوا: "لقد صدقت" وليكن هذا التصديق ديْناً في أعناقكم. إن معاصريّ هؤلاء وإن كانوا لا يعيرون سمعاً لأقوالي، لندعهم وشأنهم، إنني أتكلم معكم عبـر أمواج الأثير الممتدة من الوديان السحيقة للماضي -المسمّى بالتاريخ- إلى ذرى مستقبلكم الرفيع. ما حيلتي لقد استعجلت وشاءت الأقدار أن آتي إلى خضم الحياة في شتائها.. أما أنتم فطوبى لكم ستأتون إليها في ربيع زاهر كالجنة، إن ما يزرع الآن ويستنبت من بذور النور ستتفتح أزاهير يانعة في أرضكم.. نحن ننتظر منكم لقاء خدماتنا.. إنكم إذا جئتم لتعبروا إلى سفوح الماضي، عوجوا إلى قبورنا، واغرسوا بعض هدايا ذلك الربيع على قمة القلعة».([3])

 

[1]() الصيقل الإسلامي، النص العربي 122 ط. أنقرة

[2]() المقصود لما بعد ألف وثلاثمائة سنة.

[3]() الملاحق، ملحق أميرداغ 2.

Ekranı Genişlet