صحوة روحية ومدد قرآني
«كنت أسيراً أثناء الحرب العالمية الأولى في مدينةٍ قصيةٍ، في شمال شرقي روسيا تدعى "قوصترما". كان هناك جامع صغير للتتار على حافة نهر "فولغا" المشهور.. كنت ضجراً من بين زملائي الضباط الأسرى، فآثرت العزلة، إلاّ أنه لم يكن يسمح لي بالتجوال في الخارج دون إذن ورخصة، ثم سمح لي بأن أظل في ذلك الجامع بضمانة أهل حيّ التتار وكفالتهم، فكنت أنام فيه وحيداً، وقد اقترب الربيع، وكانت الليالي طويلة جداً في تلك البقعة النائية..
كان الأرق يصيبني كثيراً في تلك الليالي الحالكة السواد، المتسربلة بأحزان الغربة القاتـمة، حيث لا يُسمع إلاّ الخرير الحزين لنهر "فولغا"، والأصوات الرقيقة لقطرات الأمطار، ولوعة الفراق في صفيـر الرياح.. كل ذلك أيقظني -مؤقتاً- من نوم الغفلة العميق..
ورغم أنني لم أكن أعدّ نفسي شيخاً بعدُ، ولكن من يرى الحرب العالمية يشيخ، حيث يشيب من هول أيامها الولدان، وكأن سراً من أسرار الآية الكريمة ﴿يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيباً﴾(المزمل:17) قد سرى فيها. ومع أنني كنت قريباً من الأربعين إلاّ أنني وجدتُ نفسي كأنني في الثمانين من عمري..
في تلك الليالي المظلمة الطويلة الحزينة، وفي ذلك الجو الغامر بأسى الغربة، ومن واقعي المؤلم الأليم، جثم على صـدري يأس ثقيل نحو حياتي وموطني، فكلما التفتُّ إلى عجزي وانفرادي انقطع رجائي وأملي. وإذ أنا في تلك الحالة جاءني المدد من القرآن الكريم.. فردد لساني: ﴿حَسْبُنَا اللّٰهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ﴾(آل عمران:173). وقال قلبي باكياً: "أنا غريب.. أنا وحيد.. أنا ضعيف.. أنا عاجز.. أنشد الأمان.. أطلب العفو.. أخطب العون.. في بابك يا إلهي". أما روحي التي تذكرت أحبابي القدامى في بلدي، وتخيلت موتي في هذه الغربة، فقد تمثلت بأبيات نيازي المصري(*):
مررت بأحزان الدنيا، وأطلقت جناحي
للحرمان
طائراً في شوق، صائحاً في كل لحظة:
صديق!.. صديق..!
على أي حال.. فقد أصبح "عجزي" و"ضعفي" في تلك الليالي المحزنة الطويلة والحالكة بالفرقة والرقة والغربة وسيلتين للتقرب إلى عتبة الرحمة الإلهية، وشفيعين لدى الحضرة الإلهية، حتى إنني لا أزال مندهشاً كيف استطعت الفرار بعد أيام قليلة. وأقطع بصورة غير متوقعة مسافة لا يمكن قطعها مشياً على الأقدام إلاّ في عام كامل، ولم أكن ملمّاً باللغة الروسـية. فلقد تخلصت من الأسر بصورة عجيبة محيّرة، بفضل العناية الإلهية التي أدركتني بناء على عجزي وضعفي، ووصلت إسطنبول ماراً بـ"وارشو" و"فينا". وهكذا نجوت من ذلك الأسر بسهولة تدعو إلى الدهشة، حيث أكملت سياحة الفرار الطويل بسهولة ويسر كبيـرين، بحيث لم يكن لينجزها أشجع الأشخاص وأذكاهم وأمكرهم وممن يلمّون باللغة الروسية».([1])
[1]() اللمعات، اللمعة السادسة والعشرون، الرجاء التاسع.
