في دار الحكمة الإسلامية

 

وقد رأت حكومة الاتحاد والترقى بالإجماع أنه -يقصد نفسه- أوفق شخص لتبليغ الحكمة الإسلامية إلى حكماء أوروبا بشكل مؤثر.([1]) [إذ يقول]: فلبثت في إسطنبول لخدمة الدّين في "دار الحكمة الإسلامية" حوالي ثلاث سنوات.([2])

[ويصف ابن أخيه عبد الرحمن، حالة عمه بعد عودته من الأسر:]

"بعد ما عاد عمي من الأسر سنة 1334رومي (1918م) عيّن في دار الحكمة الإسلامية دون رضاه،([3]) ولم يشارك في اجتماعاتها، لما كان يحس من حاجة ماسة إلى الراحة بعد أن قاسى ما قاسى في أيام الأسر. فأرسل عدة مرات طلباً يرجو فيه إعفاءه من العضوية، إلاّ أن طلبه رفض. ولهذا باشر بالدوام([4]) وكنت أراقب حالاته، فما كان يأخذ من المرتّب المخصص له سوى ما يقيم أوده، وعندما يُستفسر عن سبب ذلك كان يقول: "أريد أن أعيش كالسواد الأعظم، فهم يتداركون معيشتهم بهذا القدر من المبلغ، ولا أريد أن أتبع الأقلية المسرفة". وبعد أن يضع المبلغ المخصص لحد الضرورة يدفع الباقي إليّ قائلاً: "احفظ هذا". ولكني كنت أصرفه دون علمه مستنداً إلى شفقته الواسعة. ولكن قال لي يوماً: "لا يحل لنا هذا المال، لأنه ملك الأمة، فلِم صرفته؟ فقد عزلتك عن صرف المال، ونصبتُ نفسي بدلاً عنك".

مرت الأيام وخطر له أن يطبع ما ألّفه من رسائله الاثنتي عشرة،([5]) فدفع ما ادّخره من مرتّبه إلى مصاريف الطبع ووزع الرسائل مجاناً سوى رسالة أو رسالتين. وعندما سألته: لِمَ لا يبيع مؤلفاته، قال: لا يجوز لي من هذا المرتّب إلاّ حدّ الضرورة. والباقي للأمة، فأنا بدوري أعدت المال إلى أهله".([6])

«وقد صرفت كثيراً من مرتّبي الذي كنت قد قبضته وأنا في دار الحكمة الإسلامية وادخرت قليلاً منه لأداء فريضـة الحج. وقد كفتني تلك النقود القليلة ببركة القناعة والاقتصـاد، فلم يرق مني ماء الوجه. وما زالت بقية من تلك النقود المباركة موجودة.([7]) حيث ما قبلت مرتّباً إلاّ لمدة سنتين تقريباً عندما كنت عضواً في "دار الحكمة الإسلامية" وهذا أيضاً صرفته لطبع كتبي وتوزيعها مجاناً على الناس، فرددت بضاعتهم إليهم».([8])

ودار الحكمة الإسلامية تابعة للمشيخة الإسلامية العامة للدولة العثمانية، وكانت لا تضم إلاّ كبار العلماء الأفاضل، كمحمد عاكف،(*) وإسماعيل حقي إزميرلي، وحمدي ألماليلي، وأمثالهم.([9])

[ولكن لما سئل في زمن احتلال إسطنبول:]

- لِمَ لم تستطع "دار الحكمة الإسلامية" القيام بواجبها على الوجه الأتم؟

أجاب: إن عدم قيامها بالخدمة -في الوقت الحاضر- أفضل خدمة لها، وعدم نشاطها اعظم نشاط لها، لأن قوة الأجانب الحاكمة حالياً تشد الخناق على كل حركة ونأمة ونشاط ليست في صالحها. ولقد شـاهدنا أن من قاموا بنشاط أكرهوا على الدعاء للكفار ودفعوا إلى إصدار فتوى بجواز قتل المجاهدين، ففي خضم هذه العاصفة الهوجاء لم تُستغل دار الحكمة أداة طيعة، حيث قوة الأجنبي -التي هي المانع القوي لنشاطها- قد مدت الفساد وشجعته بكل قوة.

والسبب الثاني هو أن أعضاء دار الحكمة غير قادرين على الامتـزاج فيما بينهم، بل حتى على الاختلاط، فلكل منهم مزايا خاصة به، ولم تتولد بينهم روح الجماعة، إذ "أنا" كلٍّ منهم قوي إلى حد لا ينخرق ولا يتمزق كي يتحول إلى "نحن" لذا اضطلعوا في مساعيهم بدستور المشاركة فيما أهملوا دستور التعاون. فالمشاركة في الماديات تعظم النتائج وتجعلها فوق المعتاد، بينما تصغرها بل تجعلها بسـيطة وقبيحة في المعنويات. أما دستور التعاون فهو خلاف هذا تماماً إذ يكون في الماديات وسيلة لنتائج جليلة بالنسبة للشخص، ولنتائج صغيرة جداً بالنسبة للجماعة. بينما في المعنويات تصعد النتائج إلى حيث الأمور الخارقة.

ثم إن انتقاداتهم صارت شديدة عنيفة جداً، لا يقاومها فكر، بل يتشتت أمامها ويضمحل. لأنه أحياناً يضيع الحق لدى التنقيب عن "الأحق" فإن كان الاتفاق في الحق اختلافاً في الأحق يكون الحق أحق من الأحق. ففي أثناء تحرى الأحق هناك تسامح لوجود الباطل. أي يكون الحَسن أحياناً أحسن من الأحسن.([10])

«وقد كانت تيارات بعيدة عن روح الإسلام تحاول التدخل في أمور دار الحكمة الإسلامية ولا سيما الأجنبية منها، فكان بديع الزمان يقف أمام هذه التيارات صلباً كالجبال متصدياً للفتاوى الخاطئة بلا تردد، إذ كان الموت نصب عينيه دائما».([11])

[نورد منها جوابه الآتي للفتاوى الصادرة من المشيخة الإسلامية ضد حركة التحرير في الأناضول:]

"إنها ليست فتوى خالصة، بل فتوى تتضمن القضاء. لأن الذي يميز الفتوى عن القضاء كون موضوعها عاماً وغير معيَّن، فضلاً عن أنها غير ملزمة، بينما القضاء معيَّن مُلزم. فكل من يطّـلع على الفتوى -المذكورة- يجدها معيَّنة، يفهم المراد منها بالضـرورة، وأصبحت ملزمة حيث إن سوق عوام المسلمين ضد الحركة سبب واضح فيها. فمادامت هذه الفتوى تتضمن القضاء، والاستماع إلى كلا الخصمين ضرورة في القضاء، فكان ينبغي أن تُستجوَب حركة التحرير في الأناضول لتبدي ما لديها من مدّعيات ودعاوى، وبعد الاستماع إليها من قبل السياسيين والعلماء وتقييمها وفق المصلحة الإسلامية يمكن إصدار الفتوى، إذ حصل انقلاب في بعض الحقائق، حيث استبدلت الأضداد أسماءها ومواقعها، فيطلق العدالة على الظلم، والبغي على الجهاد، والحرية على الأسر".([12])

[واقترح لإصلاح الأوضاع في دار الحكمة الآتي:]

"إن استخدام أي شيء في غير موضعه يكون مآله التعطل، ولا يبين أثره المرجو منه. فدار الحكمة الإسلامية التي أنشئت لغاية عظيمة، إذا خرجت من طورها الحالي أشركت في الشورى مع رؤساء الدوائر الأخرى في المشيخة وعُدّت من أعضائها، واستُدعي لها نحو من عشرين من العلماء الأجلاء الموثقين من أنحاء العالم الإسلامي كافة، عندها يمكن أن يكون هناك أساس لهذه المسألة الجسيمة".([13])

 

[1]() الشعاعات، الشعاع الرابع عشر.

[2]() اللمعات، اللمعة السادسة والعشرون، الرجاء الثالث عشر. وقد تأسست دار الحكمة الإسلامية في 25/8/1918 ودامت حتى سنة 1922.

[3]() وقد عيّن بتوصية من وزارة الحربية في 26/8/1918 أي في نهاية الشهر الثاني من عودته من الأسر وبراتب شهري قدره خـمسون ليرة ذهبية، ثم بطلب من وزير الحربية "أنور باشا" أيضاً عرض شيخ الإسلام "موسى كاظم" على السلطان "وحيدالدين خان" منح بديع الزمان مرتبة علمية عالية، وفعلاً تم تصديق السلطان عليه في 9/9/1918.

 

[4]() كان ذلك في 6/1919 أي إن مجموع عمله الفعلي عبارة عن عشرة أشهر إلا أربعة أيام حيث تخللته إجازات مرضية.

[5]() والرسائل هي الآتية:

    1- إشارات الإعجاز في مظان الإيجاز (ط. 1918) باللغة العربية.

    2- نقطة من نور معرفة اللّٰه جل جلاله (ط. 1919) باللغة التركية.

    3- سنوحات (ط. 1920) باللغة التركية.

    4- حقيقت جكردكلري / 1 (ط. 1920) باللغة التركية.

    5- طلوعات (ط. 1921) باللغة التركية.

    6- شعاعات من معرفة النبي r (ط. 1921) باللغة التركية.

    7- قزل إيجاز على السلم (ط. 1921) باللغة العربية.

    8- رموز (ط. 1921) باللغة التركية.

    9- إشارات (ط. 1921) باللغة التركية. 

    10- لمعات (ط. 1921) باللغة التركية.

    11-خطوات ستة (بدون تاريخ) باللغة العربية والتركية.

    12- حقيقت جكردكلري / 2 (ط. 1921) باللغة التركية (ذيل تاريخجهء حياة لعبد الرحمن).

    وطبع أيضاً في هذه الفترة: محاكمات (ط. 1911) باللغة التركية. وقد طبع من قبل كلاً من:

    1- رجتة العوام ورجتة العلماء (صيقل الإسلام) (ط. 1912) باللغة العربية.

    2- الخطبة الشامية -دواء اليأس- (ط. 1911و 1912) باللغة العربية.

    3- مناظرات (ط. 1911) باللغة التركية.

    4- تشخيص العلة (ط. 1912) باللغة التركية.

    5- نطق (ط. 1912) باللغة التركية. 

    6- ديوان حرب عرفي (ط. 1911 و1912) باللغة التركية.

[6]() T. Hayat, ilk hayatı.

 

[7]() الشعاعات، الشعاع الرابع عشر. وقد فضُل منه 90 ليرة ذهبية دفعها إلى ناشري رسائل النور في سنة 1946مشاركاً في مصاريف الورق والطبع بالرونيو. (ب) 1/511.

[8]() الملاحق، ملحق أميرداغ 1؛ المكتوبات، المكتوب السادس عشر.

    يقول ابن أخيه "عبد الرحمن" في رسالة بعث بها إلى عَمه عبدالمجيد:

    "إنني محتار من أحوال عمّي (سعيد) فقد أطفأ عندي جميع الآمال الدنيوية، فالحكومة تعطيه مرتّباً جيداً، وأنا أقوم بادّخار ما يفضل عن مصاريفنا، وقد ألف كتباً عدة واستدعاني مرة قائلاً: اذهب واستدع مدير المطبعة الفُلانية. ذَهبت، وعندما قدّم مؤلفاته إلى المدير قال لي: يا عبدالرحمن! هات ما ادخرته من نقود، وادفعها للسيد المدير فنفذت له ما أراد، وعندما ذهب المدير امتلأت عيناي بالدموع، ولكنّي بدأت أعزي نفسي قائلاً:

    هذه الكتب ستطبع وستباع، وإن النقود سترجع وسأدخرها. ولكن بعد عدة أيام أرسلني مرة أخرى لاستدعاء المدير، وفي هذه المرة قال للمدير: أرجو أن تكتب على كتبي بأنها توزع مجاناً على الأمة الإسلامية".

    عندما خرج المدير شعرتُ بأن الرابطة الروحية التي كنت أحسها تجاه عمي الكبير قد تزحزحت، ولم أستطع أن أتمالك نفسي عن البكاء. فقلت له: يا عمي! كنتُ أدّخر بعض النقود لكي أقوم بتعمير بيتنا الذي خربته الحرب، والآن فقد قتلت ذلك الأمل.. أيجوز ذلك؟ وابتسم عمي قائلاً لي: "يا ابني.. يا عبد الرحمن! إن الحكومة كانت تعطينا مرتّباً كبيراً وليس لي أن آخذ منه الاّ كفاف النفس، أما ما زاد عن ذلك، فيجب إعادته إلى بيت المال، لذا فإنني قمت بإعادته إلى المسلمين، ولا أعتقد بأنك ستفهم هذا، ولكن اعلم بأن اللّٰه إن شاء فسيعطيك بيتاً في أي مكان كان من هذا الوطن".(ش) 185-187عن مجلة أهل السنة 2/41 في 1/11/1948.

[9]() T.Hayat, ilk hayatı. يروي المؤرخ "إسماعيل حقي" أنه استفسر من أستاذه شيخ الإسلام مصطفى صبري عن سبب ضم النورسي إلى دار الحكمة، أجابه: لأنه ضليع بعلم الحديث النبوي، وأبدى آخرون السبب نفسه " Aydınlar Konuşuyor " ص 303 لنجم الدين شاهين أر.

 

[10]() طلوعات (عثمانية).

[11]()       T. Hayat, ilk hayatı. حيث أصدر شيخ الإسلام عبد اللّٰه درّي زادة ما يقارب خمس فتاوى ضد الحركة في 11/4/1920م، (ش)  250.

 

[12]() (ب)  392 عن آثار بديعية، طلوعات ص 105.

[13]() صيقل الإسلام، السانحات.

 

Ekranı Genişlet