{  يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱعۡبُدُواْ رَبَّكُمُ ٱلَّذِي خَلَقَكُمۡ وَٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِكُمۡ لَعَلَّكُمۡ تَتَّقُونَ (21) ٱلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ ٱلۡأَرۡضَ فِرَٰشٗا وَٱلسَّمَآءَ بِنَآءٗ

وَأَنزَلَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءٗ فَأَخۡرَجَ بِهِۦ مِنَ ٱلثَّمَرَٰتِ رِزۡقٗا لَّكُمۡۖ فَلَا تَجۡعَلُواْ لِلَّهِ أَندَادٗا وَأَنتُمۡ تَعۡلَمُونَ (22) }

 

مقدمة

اعلم أن العبادة هي التي ترسِّخ العقائد وتُصيِّرها حالاً ومَلَكة؛ إذ الأمور الوجدانية والعقلية إن لم تنمِّها وتربِّها العبادةُ -التي هي امتثال الأوامر واجتناب النواهي- تكن آثارُها وتأثيراتها ضعيفة. وحال الإسلام([1]) الحاضرة شاهدة.

واعلم أيضاً أن العبادة سببٌ لسعادة الدارين، وسبب لتنظيم المعاش والمعاد، وسبب للكمال الشخصيّ والنوعيّ، وهي النسبة الشريفة العالية بين العبد وخالقه.

أما وجهُ سببيتها لسعادة الدنيا التي هي مزرعةُ الآخرة فمن وجوه:

منها: أن الإنسان خُلِق ممتازاً ومستثنى من جميع الحيوانات بمزاج لطيف عجيب، أنتج ذلك المزاجُ فيه ميلَ الانتخاب وميلَ الأحسن وميلَ الزينة، وميَلاناً فطرياً إلى أن يعيش ويحيى بمعيشة وكمال لائقين بالإنسانية.. ثم لأجل تلك الميول احتاج الإنسان في تحصيل حاجاته في مأكله وملبسه ومسكنه إلى تلطيفها وإتقانها بصنائع جمّة، لا يقتدر هو بانفراده على كلِّها. ولهذا احتاج إلى الامتزاج مع أبناء جنسه ليتشاركوا، فيتعاونوا، ثم يتبادلوا ثمرات سعيهم. لكن لمّا لم يحدد الصانعُ الحكيم قوى البشر الشهوية والغضبية والعقلية بحدٍّ فطريّ لتأمين ترقّيهم بزَمْبَرَكِ([2]) الجزء الاختياريّ -لا كالحيوانات التي حُدّدت قواها- حصل انهماكٌ وتجاوز.. ثم لانهماك القوى وتجاوزها -بسر عدم التحديد- تحتاج الجماعةُ إلى العدالة في تبادل ثمرات السعي.. ثم لأن عقلَ كل أحد لا يكفي في درْك العدالة احتاج النوع إلى عقل كلّي للعدالة يستفيد منه عقل العموم. وما ذلك العقل إلاّ قانون كلّيّ، وما هو إلاّ الشريعة.. ثم لمحافظة تأثير تلك الشريعة وجريانها لابد من مقنّنٍ وصاحب ومبلّغ ومرجِع، وما هو إلاّ النبيّ عليه السلام..

 

144
___________________

 

ثم إن النبيّ لإدامة حاكميته في الظواهر والبواطن وفي العقول والطبائع يحتاج إلى امتياز وتفوّق مادةً ومعنى، سيرةً وصورة، خَلْقاً وخُلُقاً. ويحتاج أيضاً إلى دليل على قوة المناسبة بينه وبين مالكِ الملك صاحبِ العالَم، وما الدليل إلاّ المعجزات.. ثم لتأسيس إطاعة الأوامر وتأمين اجتناب النواهي يحتاج إلى إدامة تصوّر عظمةِ الصانع وصاحب المُلك في الأذهان وما هو إلا تجلي العقائد.. ثم لإدامة التصور ورسوخ العقائد يحتاج إلى مذكِّر مكرَّرٍ وعمل متجدد، وما المذكِّر المكرر إلا العبادة.

ومنها: أن العبادة لتوجيه الأفكار إلى الصانع الحكيم، والتوجّهُ لتأسيس الانقياد، والانقيادُ للإِيصال إلى الانتظام الأكمل والارتباط به، واتباعُ النظام لتحقيق سرّ الحكمة. والحكمةُ يشهد عليها إتقان الصُنع في الكائنات.

ومنها: أن الإنسان كالشجر الذي عُلّق على ذروته كثيرٌ من خطوط الآلة البرقية، قد التفّت على رأسه رؤوسُ نظامات الخِلقة، وامتدت مشرَعةً إليه قوانينُ الفطرة، وانعكست متمركزة فيه أشعةُ النواميس الإلهية في الكائنات. فلابد للبشر أن يتمّمها ويربطها وينتسب إليها ويتشبث بأذيالها ليسري بالجريان العمومي حتى لا يُزلَق ولا يُطرَد ولا يُلقى عن ظهر هذه الدواليب المتحركة في الطبقات. وما هي إلاّ بالعبادة التي هي امتثال الأوامر واجتناب النواهي.

ومنها: أن بامتثال الأوامر واجتناب النواهي يحصل للإنسان نِسَبٌ كثيرة إلى مراتب عديدة في الهيئة الاجتماعية، فيصير الشخصُ كنوعٍ؛ إذ كثيرٌ من الأوامر لاسيما التي لها تماسّ بالشعائر والمصالح العمومية كالخيط الذي نيط به حيثيات ونُظّم فيه حقوق، لولاه لتمزقت وتطايرت.

ومنها: أن الإنسان المسلم له مناسباتٌ ثابتة وارتباط قوي مع كل المسلمين. وهما سببان لأُخوةٍ راسخة ومحبةٍ حقيقية بسبب العقائد الإيمانية والمَلَكات الإسلامية. أما سبب ظهور تلك العقائد وتأثيرها وصيرورتِها مَلَكة راسخة فإنما هي العبادة.

وأما جهة الكمال النفسيّ، فاعلم أن الإنسان مع صِغَر جِرمه وضَعفه وعَجزه وكونه حيواناً من الحيوانات ينطوي على روح غالٍ ويحتوي على استعداد كامل،

 

145
___________________

 

ويتبطّن ميولا لا حصر لها، ويشتمل على آمالٍ لا نهاية لها، ويحوز أفكاراً غير محصورة، ويتضمن قوى غير محدودة، مع أن فطرته عجيبة كأنه فهرستة للأنواع والعوالم.

فالعبادة هي السبب لانبساط روحه وجِلاء قيمتِه.. وأيضاً هي العلةُ لانكشاف استعداده ونموّه ليناسبَ السعادة الأبدية.. وكذا هي الذريعةُ لتهذيب ميوله ونزاهتها.. وهي الوسيلة لتحقيق آماله وجعلها مُثمرة ريانة.. وكذلك هي الواسطة لتنظيم أفكاره وربطها.. وأيضاً هي السببُ لتحديد قواه وإلجامها.. وأيضاً هي الصَيْقل لرَيْن الطبيعةِ على أعضائه المادية والمعنوية التي كلٌّ منها كأنه منفذٌ إلى عالم مخصوص ونوع إذا شفَّ.. وأيضاً هي المُوصل للبشر إلى شرفِه اللائق وكماله المقدَّر، إذا كانت بالوجدان والعقل والقلب والقالب.. وكذلك هي النسبة اللطيفة العالية، والمناسبةُ الشريفة الغالية بين العبد والمعبود. وتلك النسبة هي نهايةُ مراتب كمال البشر.

ثم إن الإخلاص في العبادة هو: أن تفعل لأنه أُمر بها، وإن اشتمل كلُّ أمر على حِكَم كلٌ منها يكون علةً للامتثال، إلاّ أن الإخلاص يقتضي أن تكون العلةُ هي الأمر، فإن كانت الحكمةُ علةً فالعبادة باطلة، وإن بقيت مرجِّحة فجائزة.

* * *

ثم إن المخاطبين لما سمعوا ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا﴾ استفسروا بلسان الحال: ما الحكمة؟ ولِمَ؟ وما المجبورية؟ ولأيّ شيء؟.

أما الحكمة فقد سمعتَ في المقدمة. وأما العلة فأجاب القرآنُ بإثبات الصانع وتوحيده بقوله: ﴿رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ..﴾ الخ. وإثبات النبوّة بقوله: ﴿وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا..﴾ الخ.

مقدمة في نكات هذه الآية

اعلم أن البرهان إما "لِمِّيٌّ" وهو الاستدلال بالمؤثِّر على الأثر.([3]) وإما "إنّيّ" وهو الاستدلال بالأثر على المؤثِّر،([4]) وهذا أسلمُ.

 

146
___________________

 

وهو إما "إمكانيّ" بالاستدلال بتساوي الطرفين على المرجِّح، وإما "حدوثيّ" بالاستدلال بالتحوّل والتبدّل على المُوجِد.. وكلٌّ منهما إما باعتبار ذوات الأشياء أو باعتبار صفاتها.. وكلٌّ منها إما بإعطاء الوجود أو بإدامة البقاء.. وكل منها إما "دليل اختراعيّ" أو "دليل عِنَايَتيّ". وهذه الآية إشارة إلى هذه الأنواع، فالملخَّص منها هنا، وقد فصلناه في كتاب آخر.([5])

أما "دليل العناية" على إثبات الصانع الذي تلوِّح به هذه الآية، هو: "النظام المندمج في الكائنات"؛ إذ النظام خيطٌ نيط به المصالحُ والحِكم. فجميع الآيات القرآنية التي تَعُدّ منافع الأشياء وتذكُر حِكَمها إنما هي نسّاجةٌ لهذا الدليل، ومظاهرُ لتجلِّي هذا البرهان؛ إذ النظام المرعي به المصالحُ والحِكم كما يُثبِت وجود نظّام، كذلك يدل على قصد الصانع وحكمته وينفي من البَيْن وهْمَ التصادف الأعمى والاتفاقية العمياء.

يا هذا! إن لم يُحِط نظرُك بهذا النظام العالي المزيَّن بفصوص الحِكَم، ولا تقتدرُ على الاستقراء التام؛ فانظر بجواسيس الفنون -التي هي الحواسّ لنوعك- الحاصلةِ من تلاحق الأفكار -الذي هو في حُكم فكر النوع- لترى نظاماً يبهر العقولَ، وتعلمَ أن كلّ فن من فنون الكائنات كشّاف بكلية قواعده عن اتساق وانتظام لا يُعقل أكملُ منهما؛ إذ كل نوع من الكائنات إما تَشكّلَ فيه فنٌ أو يقبل أن يتشكل. والفن عبارة عن قواعد كلية. وكليةُ القاعدة تدلّ على حُسن النظام؛ إذ ما لا نظام له لا تجري فيه الكلية. ألاَ ترى أن قولَنا: "كل عالِم فهو ذو عمامة بيضاء" إنما يصدُق كليّةً، إذا كان في ذلك النوع انتظام. فأنتج أن كل فن من الفنون الكونية، بسبب كليةِ قواعدِه ينتجُ بالاستقراء التام نظاماً كاملاً شاملاً.. وأن كل فن برهانٌ نيّر يشير إلى المصالح والثمرات المتدلية كالعناقيد في حلقاتِ سلاسلِ الموجودات، ويلوِّح إلى الحِكَم والفوائد المستترة في معاطف انقلابات الأحوال. فتَرْفع الفنونُ أعلامَ الشهادة على قصد الصانع وحكمته، كأن كلَّ فن نجمٌ ثاقب في طرد شياطين الأوهام.

وإن شئت فعليك بهذا المثال مع قطع النظر عن العموم وهو: أن الحيوان المكروسكوبيّ الذي لا يُرى بالعين بلا واسطة، اشتملت صورتُه الصغيرة على ماكينة دقيقة بديعة إلهية. فبالضرورة والبداهة أن تلك الماكينة الممكنة في ذاتها وصفاتها ما وُجدت بنفسها بلا علة، لإمكان ذاتها وصفاتها وأحوالها. والممكن متساوي الطرفين ككفتَي الميزان، ولو وجد الترجّح لكان في العدم.

 

147
___________________

 

فباتفاق العقلاء لابد لها من علّة مرجِّحة.. ومن المحال أن تكون العلةُ أسباباً طبيعية؛ إذ ما فيها من النظام الدقيق يقتضي نهايةَ علمٍ وكمالَ شعورٍ لا يمكن تصورُهما في تلك الأسباب التي يخادعون أنفسهم بها. مع أنها أسبابٌ بسيطة قليلة جامدة لم يتعين مجاريها، ولم يتحدد محاركُها، مع ترددها بين ألوف من الإمكانات التي لا أولَويةَ لبعضها. فكيف تجري في مجرى معيّن، وتتحرك على مَحْرَك محدود، وكيف يترجَّح بعضُ وجوه الإمكانات حتى يتولد هذه الماكينةُ العجيبة المنتظمة التي حيَّرت العقولُ في دقائق حِكَمها، بل إنما تقنع نفسُك وتطمئن بتولّدها منها إن أَعطيت لكلِّ ذرّة شعورَ "أفلاطون"(*) وحِكمةَ "جالينوس"(*) واعتقدتَ بين تلك الذرات مخابرةً عمومية. وما هذه إلاّ سفسطة يَخجل منها السوفسطائيُّ. مع أن أُس الأسباب المادية وجودُ القوة الجاذبة والقوة الدافعة معاً، في جزءٍ لا يتجزأ والجوهر الفرد، وإن هذا كاجتماع الضدين.

نعم، قانونُ الجاذبة والدافعة وأمثالهما أسماءٌ لقوانينِ عادات اللّٰه تعالى وشريعته الفطرية المسماة بالطبيعة. فهذه القوانين مقبولةٌ بشرط أن لا تنتقل من القاعدية إلى الطبيعية، وأن لا تخرج من الذهنية إلى الخارجية، وأن لا تتحول من الاعتبارية إلى الحقيقية، وأن لا تترقى من الآلَتِيَّة إلى المؤثِّرية.

فإذ تفهّمت ما في هذا المثال ورأيت عظمتَه مع صِغَره، ووسعتَه مع ضيقِه؛ فارفع رأسك وانظر في الكائنات ترَ وضوحَ "دليل العناية" وظهورَه بمقدار درجة وُسعة الكائنات. فكلُّ الآيات القرآنية العادّة لنِعَم الأشياء والمذكِّرة لفوائدها مظاهرُ لهذا الدليل، فكلما أمرَ القرآنُ بالتفكر فإنما أشار مخاطِباً للعموم إلى طريق هذا الاستدلال ﴿فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ﴾(الملك:3). ثم إنَّ الذي يومئ إلى هذا الدليل من هذه الآية قوله تعالى: ﴿اَلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَكُمْ﴾.

وأما "الدليل الاختراعيّ" المشار إليه بقوله تعالى: ﴿اَلَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ﴾ فهو: أن اللّٰه تعالى أعطى لكل فردٍ ولكل نوع وجوداً خاصاً هو منشأُ آثاره المخصوصة، ومنبعُ كمالاته اللائقة؛ إذ لا نوعَ يتسلسل إلى الأزل لإِمكانه، ولبطلان التسلسل، ولأن هذا التغيّر في العالَم يثبت حدوث بعضٍ بالمشاهدة، وبعضٍ آخر بالضرورة العقلية.

 

148
___________________

 

ثم إنه قد ثبت بعلم الحيوانات والنباتات تكثّر الأنواع إلى أزيدَ من مائتي ألفِ نوع، ولكل نوع آدم وأبٌ عال. فبسرّ الحدوث والإمكان يثبت بالضرورة صدورُ تلك الأوادم والآباء للأنواع عن يد القدرة الإلهية بلا واسطة. ولا يُتوهَّم فيها ما يُتوَهم في السلسلة. وتوهمُ انشقاق الأنواع بعضها عن بعض باطلٌ؛ لأن النوع المتوسط لا يتسلسل بالتناسل في الأكثر، فلا يكون رأسَ سلسلة. فإذا كان المبدأ والأصل هكذا، فأجزاءُ السلسلة كذلك بالطريق الأولى.

نعم، كيف يُتصوّر أن تكون الأسبابُ الطبيعية البسيطة الجامدة التي لا شعورَ لها ولا اختيار قابلةً لإِيجاد تلك السلاسل التي تحيّرت الأفهامُ فيها، ولاختراع أفرادها التي كلٌّ منها صنعةٌ عجيبة من معجزات القدرة. فكلُّ الأفراد مع سلاسلها تشهد بلسان حدوثها وإمكانها شهادةً قاطعة على وجوب وجود خالقها جلّ جلالُه.

- إن قلت: فمع هذه الشهادة القاطعة كيف يعتقد الإنسانُ بأمثال ضلالاتِ أزليةِ المادة وحركتِها؟.

قيل لك: إن النظر التبعيّ قد يَرى المحالَ ممكناً، كالمستهلّ الذي رأى الشعرةَ البيضاء من أهدابه هلالَ العيد؛ لأن الإنسان بسبب جوهره العالي وماهيته المكرّمة إنما يدور خلفَ الحق والحقيقة. وإنما يقع الباطلُ والضلال في يده بلا اختيار ولا دعوة ولا تحرٍّ، بل بنظره السطحيّ التبعيّ فيقبله اضطراراً؛ لأنه لمّا تغافل عن النظام الذي هو خيطُ الحِكَم، وتعامى عن ضدية الحركة والمادة للأزلية، احتمل عند نظره التبعي إسنادُ هذا النقش البديع والصنعة العجيبة إلى التصادف الأعمى والاتفاق الأعور. كما قال "الجسريّ"(*) في مَنْ دخل قصراً مزينا مشتملاً على آثار المدنية، من أنه حينما لا يرى صاحبَه فيعتقد عدمَه يضطر لإِسناد زينته وأساساته إلى الاتفاق والتصادف وناموس الانتخاب الطبيعيّ.

وأيضاً لما تعامى وتغافل عن شهادة كلِّ الحِكم والفوائد في نظام العالَم على اختيارٍ تام وعلم شامل وقدرةٍ كاملة، احتمل في نظره التبعي إثباتُ تأثيرٍ حقيقيٍ لهذه الأسباب الجامدة.

فيا هذا! مع قطع النظر عن دقائق صنعته جلّ جلالُه تأمّلْ في أظهر الآثار التي تسمى "طبيعة" وهو الارتسام -بشرط أن تمزِّق حجابَ الألفة- كيف تُقنع نفسَك ويقبل عقلُك أن خاصيةَ وجهِ المرآة علّة مؤثّرةٌ مناسبة لكشطِ وجهِ السماء، وجَلْبِ صورةِ ارتفاعها ونقشها بنجومها في زُجَيْجَتها؟.

 

149
___________________

 

وكيف يَقنع عقلُك بأن الأمر الوهميّ في الحقيقة المسمّى بالجاذب العموميّ علةٌ مؤثرة كخيط المنجنيق لإِمساك الأرض والنجوم وتحريكها وتدويرها بانتظام محكَم؟

الحاصل: أنَّ الإنسان إذا نظر نظراً سطحياً تبعيّاً إلى الأمر الباطل المُحال ولم يرَ العلة الحقيقية احتمل صحتُه عنده. إلاّ أنه إذا نظر إليه قصداً وبالذات وتحرّاه مشترياً له لا يمكن أن يقبل شيئاً من تلك المسائل التي يطنطنون بها في الحكميات، إلاّ أن يَتَبَلَّه بفرض عقلِ الحكماء وحِكمة السياسيّين في الذرّات.

- إن قلت: فما الطبيعة والنواميس والقُوَى التي يدَمدمون بها ويسلّون أنفسهم بها؟([6])

قيل لك: إنَّ الطبيعة مِسْطرٌ([7]) لا مصدر.. ومطبعةٌ لا طابع.. وقوانين لا قوة. بل إنما هي شريعة فطرية إلهية أوقعت نظاماً بين أفعالِ أعضاءِ جسدِ عالَم الشهادة. كما أن الشريعة محصَّلُ وخلاصةُ قواعد الأفعال الاختيارية، ونظامُ الدولة مجموعُ الدساتير السياسية. فكما أن الشريعة والنظام أمران معقولان اعتباريان؛ كذلك الطبيعةُ أمرٌ اعتباريّ ملخَّصُ عادةِ اللّٰه الجارية في الخِلقة. وأما توهّم وجودها الخارجيّ فكتَوهّم الوحشي الذي يرى فرقةَ العسكر يتحركون بانتظام، وجودَ أمر خارجيّ ربط بينهم. فمن كان وجدانُه وحشياً يتخيل الطبيعة بسبب الاستمرار موجوداً خارجياً مؤثراً.

الحاصل: أنَّ الطبيعة صنعةُ اللّٰه تعالى وشريعتُه الفطرية. وأما نواميسُها فمسائلها. وأما قواها فأحكام تلك المسائل.

أما "دليل التوحيد" الذي أشار اليه ﴿اعْبُدُوا﴾ على تفسير ابن عباس أي "وحِّدوا"،([8]) فاعلم أن القرآن المعجزَ البيانِ ما ترك من دلائل التوحيد شيئاً. وما تضمنته آيةُ ﴿لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللّٰهُ لَفَسَدَتَا﴾(الأنبياء:22) من "برهان التمانع" دليلٌ كاف ومنار نيِّر على أن الاستقلال خاصة ذاتية ولازم ضروري للألوهية، ثم في هذه الآية رمز إلى دليل لطيف على التوحيد،

 

150
___________________

 

وهو: أنَّ تعاونَ الأرض والسماء ومناسبتهما في توليد الثمرات -لتُعَيِّش نوعَ البشر وجنسَ الحيوان- ومشابهةَ آثار العالم وتعانقَ أطرافه وأخذَ بعضٍ يد بعضٍ بتكميل بعضٍ انتظامَ بعضٍ، وتجاوبَ الجوانب وتلبيةَ بعضٍ لسؤال حاجة بعض، ونظرَ الكل إلى نقطةٍ واحدة، وحركةَ الكل بالانتظام على محور نظام واحد؛ تلوِّح بل تصرِّح بأن صانعَ هذه الماكينة الواحدة واحد وتتلو على كلٍ:

وَفِي كُلِّ شَيْءٍ لَهُ آيَةٌ          تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ وَاحِدٌ([9])

ثم اعلم أن الصانع كما أنه واجب الوجود وواحد؛ كذلك أنه متصف بجميع الأوصاف الكمالية؛ لأن ما في المصنوع من فيض الكمال إنما هو مقتبسٌ من ظلِّ تجلي كمال صانعِه. فبالضرورة يوجد في الصانع جل جلاله من الجمال والكمال والحُسن ما هو أعلى بدرجات غير متناهية من عمومِ ما في عموم الكائنات من الحُسن والكمال والجمال؛ إذ الإحسان فرعٌ لثروة المُحسِن ودليل عليها، والإيجاد لوجودِ الموجِد، والإيجابُ لوجوب الموجب، والتحسين لحُسن المحسّن المناسب له.

وكذلك إن الصانع منـزَّه عن جميع النقائص، لأن النواقص إنما تنشأ عن عدم استعداد ماهيات الماديات، وهو تعالى مجرّد عن الماديات.

وكذلك إنه تعالى مقدّس عن لوازمَ وأوصافٍ نشأت من إمكانِ ماهيات الكائنات، وهو سبحانه واجب الوجود ليس كمثله شيء جلّ جلاله. ولقد أشار إلى هاتين الحقيقتين بقوله: ﴿فَلاَ تَجْعَلُوا لِلّٰهِ أَنْدَادًا﴾.

أما "الدليل الإمكانيّ" المشار إليه بقوله تعالى: ﴿وَاللّٰهُ الْغَنِيُّ وَأَنتُمُ الْفُقَرَاءُ﴾(محمد:38) فاعلم أنّ كل واحدة من ذَرات الكائنات باعتبار ذاتها، وباعتبار فردٍ فردٍ من صفاتها، وباعتبار واحدٍ واحدٍ من أحوالها، وباعتبار جهةٍ جهةٍ من وجوهها؛ بينما تراها تتردد بين الإمكانات الغير المتناهية في الذات والصفات والأحوال والوجود، إذاً انتعشت وقامت وسلكَت طريقاً معيناً منها ولبِست صفة مخصوصة، وتكيّفت بحالة منتظمة، وركبت على قانون مسدَّد، وتوجّهت إلى مقصد معيّن، فأنتجت حكمةً ومصلحةً لا تَحصلان إلاّ بذلك الطرز المعين..

 

151
___________________

 

أفلا تنادي بلسانها المخصوص، وتصرّح بقصد صانعها وحكمته؟ فكما أن كل ذرة بنفسها دليل على الانفراد؛ كذلك تتزايد دلالتُها باعتبار كونها جزءاً من مركبات متداخلةٍ متصاعدة؛ إذ لها في كل مركّبٍ مقامٌ.. وفي كل مقام لها نسبة.. وفي كل نسبة لها وظيفة.. وفي كل وظيفة تثمر مصالحَ.. وفي كل مرتبة تتلو بلسانها دلائل وجوبِ وجودِ صانعها.. مثلُها كمثل جنديّ في "طاقمه وطابوره وفرقته... الخ".

* * *

ولنشرع في نظم هذه الآية باعتبار نظم مجموعها بما قبلها، ثم نظمِ جُمَلها بعضٍ مع بعض، ثم نظم هيئاتِ كلّ جملةٍ جملة.

أما نظمُ المجموع بما قبله فاعلم أن القرآن لمّا بيّن أقسامَ البشر وأنواعَ المكلَّفين من المؤمنين المتّقين والكافرين المعاندين والمنافقين المذبذبين توجّه إليهم كافة مخاطباً بقوله: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا﴾ عقّبه ورتّبه على سابقه ترتيبَ البناء على الهندسة، والأمرِ والنهي بالعمل على قانون العلم، والقضاءِ على القدر، والإنشاء والإيجادِ على القصة والحكاية؛ إذ لمّا ذكرَ مباحث الفِرَق الثلاث، وذكر خاصةَ كلٍّ وعاقبةَ كلٍّ، تهيأ الموضعُ وانتبه السامعُ فالتفت مخاطباً بذلك الخطاب.. ثم إن في هذا الالتفات -أعني ذكرَهم أولاً بالغَيبة ثم الخطابَ معهم هنا- نكتةً عمومية في أسلوب البيان، وهي: أنه إذا ذُكر محاسنُ شخص أو مساويه شيئاً فشيئاً يتزايدُ بحُكم الإيقاظ والتهييج ميلانُ استحسانٍ أو ميلُ نفرةٍ. ويتقوى ذلك الميل شيئاً فشيئاً إلى أن يُجبرَ صاحبَه على المشافهة مع ذلك الشخص، وبالنظر إلى المقام يقتضي ميولات السامعين لأوصافه أن يُحضر المتكلمُ ذلك الشخص ويجرّه إلى حضورهم فيتوجه إليه بالخطاب..

وفيه نكتة خصوصية هنا وهي تخفيفُ أعباء التكليف بلذّة الخطاب.. وفيه أيضاً إشارة إلى أنْ لا واسطةَ في العبادة بين العبد وخالقه.

وأما نظم الجمل فـ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا﴾ خطابٌ لكل إنسان من الفِرق الثلاث في الأزمنة الثلاثة من كلِّ طبقات الفِرَق. أي أيها المؤمنون الكاملون اعبدوا على صفة الثبات والدوام.. وأيها المتوسطون اعبدوا على كيفية الازدياد..

 

152
___________________

 

وأيها الكافرون افعلوا العبادة مع شرطها من الإيمان والتوحيد.. وأيها المنافقون اعبدوا على كيفية الإخلاص. فالعبادة هنا كالمشتَرَك المعنوي فتأمل!

﴿رَبَّكُمْ﴾ أي اعبدوه لأنه ربٌّ يربيكم فلابد أن تكونوا عباداً تعبدونه.

تذييل: في ﴿رَبَّكُمْ﴾ رمزٌ دقيق إلى دليل إمكان الذوات. وفي ﴿جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا﴾ إلى دليل إمكان الصفات. وفي ﴿الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ﴾ إلى دليل حدوث الذوات والصفات. والذي ينصّ على دليل إمكان الذوات قوله تعالى: ﴿وَاللّٰهُ الْغَنِيُّ وَأَنتُمُ الْفُقَرَاءُ﴾ وأيضاً: ﴿إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى﴾(النجم:42) وأيضاً: ﴿فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِّي إِلاَّ رَبَّ الْعَالَمِينَ﴾(الشعراء:77) وكذلك: ﴿قُلِ اللّٰهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ﴾(الأنعام:91) وأيضاً: ﴿فَفِرُّوا إِلَى اللّٰهِ﴾(الذاريات:50) وكذلك: ﴿أَلاَ بِذِكْرِ اللّٰهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾(الرعد:28) وقس، فتأمل!

وأما جملة ﴿الَّذِي خَلَقَكُمْ﴾ فاعلم أن اللّٰه تعالى لمّا أمر بالعبادة وهي تقتضي ثلاثة أشياء: وجود المعبود، ووحدته، واستحقاقه للعبادة.. أجاب عن هذه الأسئلة المقدَّرة بالإشارة إلى دلائلها الثلاثة:

فدلائل الوجود قسمان: آفاقي وأنفسي. والأنفسي نوعان: نفسيّ وأصوليّ. فأشار إلى النفسي الأقربِ الأوضحِ بقوله: ﴿الَّذِي خَلَقَكُمْ﴾ وإلى الأصولي بقوله: ﴿وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ﴾.

وأما نظمُ ﴿لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ فاعلم أن القرآن لمّا علّق العبادةَ على خَلقِهم وآبائهم، اقتضى ترتيبُ العبادة على خَلق البشر نقطتين:

إحداهما: أن تكون خلقتُهم باستعداد العبادة، وجبليّتُهم على قابلية التقوى؛ حتى مَن يرى ذلك الاستعداد يأمل ويرجو منهم العبادةَ، كمن يرى المَخالِبَ يأمل الافتراس.

والثانية: أن يكون المقصدُ من خلقتهم ووظيفتهم التي هم مأمورون بها وكمالُهم الذي يتوجهون اليه، هو التقوى الذي هو كمال العبادة.

و﴿لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ أي المقصد من خلقكم وكمالكم والذي هُيئ له استعدادُكم إنما هو التقوى.

153
___________________

 

وأما جملة: ﴿الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشاً﴾ فإشارة إلى أقرب الدلائل الآفاقية على وجوده تعالى.. وأيضاً فيها رمز إلى ردِّ التأثير الحقيقي للأسباب الذي هو منشأٌ لنوعِ شرك. أي تمهيدُ الأرض بجعله تعالى، لا بالطبيعة.

وأما: ﴿وَالسَّمَاءَ بِنَاءً﴾ فإشارة -بذكر السماء التي هي لصيقُ الأرض- إلى أعلى الدلائل الآفاقية البسيطة.

ثم أشار بقوله: ﴿وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ﴾ إلى وجه دلالةِ المركبات والمواليد على وجود صانعها.

ثم إن كلاً من الجُمل السابقة كما تدل على إثبات الوجود؛ كذلك المجموعُ يلوّح بالوحدة. وصورةُ الترتيب المشيرِ إلى النظام الملوِّحِ بالنِعم مع دلالة: ﴿رِزْقاً لَكُمْ﴾ تُثبت استحقاقه تعالى للعبادة، لأن شكْرَ المُنْعِم واجبٌ. وفي ﴿رِزْقاً لَكُمْ﴾ إشارة إلى أنه كما أن الأرض والمواليد تخدم لك لابد أن تخدم لمَن سخّرها لك.

وأما نظم: ﴿فَلاَ تَجْعَلُوا لِلّٰهِ أَنْدَاداً﴾ فاعلم أنه قد امتدت من نظمها خطوطٌ إلى ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ﴾ وإلى ﴿الَّذِي خَلَقَكُمْ﴾ وإلى ﴿الَّذِي جَعَلَ لَكُم﴾ وإلى ﴿وَأَنزَلَ﴾. أي إذا عبدتُم ربَّكم فلا تشركوا له لأنه هو الرب، ولأنه هو الخالقُ لكم ولنَوعكم، فلا يجعلْ بعضُكم بعضاً أرباباً من دون اللّٰه، ولأنه هو الذي خلق الأرض وفرَشها ومهّدها لكم، ولأنه هو الذي خلق السماء وجعلها سقفا لبنائكم، فلا تعتقدوا تأثيراً حقيقياً للأسباب الطبيعية التي هي منشأ الوثنية، ولأنه هو الذي أرسل الماء إلى الأرض لرزقكم ومعيشتكم، ولا نعمةَ إلاّ منه، فلا شكرَ ولا عبادةَ إلاّ له.

وأما نظم كيفياتِ وهيئاتِ جملةٍ جملةٍ:

فاعلم أن كلمة ﴿يَا أَيُّهَا﴾ في جملة: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا﴾ قد أكثر التنـزيلُ من ذكرها لنُكت دقيقة ولطائفَ رقيقة، إذ هذا الخطاب مؤكّد بوجوه ثلاثة: بما في ﴿يَا﴾ من الإيقاظ، وما في "أَيُّ" من التوسم،([10]) وما في "ها" من التنبيه.

فالخطاب هنا رمز إلى فوائدَ ثلاث: مقابلة مشقة التكليف بلـذّة الخطاب..

 

154
___________________

 

وأنّ ترقي الإنسان من حضيض الغيبة إلى مقام الحضور إنما هو بواسطة العبادة..([11]) وأيضاً إشارة إلى أن المخاطَب مكلّف بجهات ثلاث: باعتبار قلبه بالتسليم والانقياد، ومن جهة عقله بالإيمان والتوحيد، وبالنظر إلى قالبه بالعمل والعبادة.. وأيضاً إيماء إلى أن المخاطبين ثلاثُ فرق([12]).. وأيضاً تلويح إلى الطبقات الثلاث من الخواص، والمتوسطين، والعوام.. وأيضاً تلميح إلى الطرز المألوف والنسق المأنوس وهو أن المرء أولاً ينادي أحدا فيُوقِفه. ثم يتوسمه فيوجّهه. ثم يخاطبه فيُخدِمُه.([13])

فبناء على هذه النكت تكون التأكيداتُ في الخطاب مؤسسةً من تلك الجهات.

أما النداء في ﴿يَا﴾ فلأن المُنادَى هو الناس المشتمل على الطبقات المختلفة من الغافلين والغائبين والساكنين والجاهلين والمشغولين والمُعرضين والمحبين والطالبين والكاملين يكون هذا النداء للتنبيه، وكذا للإحضار، وكذا للتحريك، وكذا للتعريف، وكذا للتفريغ، وكذا للتوجيه، وكذا للتهييج، وكذا للتشويق، وكذا للازدياد، وكذا لهزّ العِطف..

وأما البُعد في ﴿يَا﴾ مع أن المقام مقام القُرب، فإشارة إلى جلالةِ وعظمةِ أمانة التكليف.. وأيضاً إيماءٌ إلى بُعد درجة العبودية عن مرتبة الألوهية.. وأيضاً رمز إلى بُعد أعصار المكلفين عن محلِّ وزمانِ ظهور الخطاب. وأيضا تلويح إلى شدة غفلةِ البشر.

وأما "أَيُّ" الموضوعُ للتوسّم من العموم، فرمز إلى أن الخطاب لعموم الكائنات. فيخصص من بينها الإنسان، بتحمل الأمانة على طريق فرض الكفاية. فإذن قصورُ الإنسان تجاوزٌ لحقِّ مجموع الكائنات.. ثم في "أَيُّ" جزالةُ الإجمال ثم التفصيل.([14])

وأما "ها" فمع كونه عِوَضا عن المضاف إليه، إشارة إلى تنبيه مَن حضر بـ﴿يَا﴾.

وأما ﴿النَّاس﴾ فإشارة -بحكم تلميح الوصفية الأصلية- إلى العتاب، أي "أيها الناس كيف تنسون الميثاق الأزلي؟" وأيضاً إلى العذر، أي "أيها الناس لابد أن يكون قصوركم عن السهو والنسيان لا بالعمد والجد!"

 

155
___________________

 

أما ﴿اعْبُدُوا﴾ فبحكم جوابيته للنداء العامِّ مناداهُ للطبقات المذكورة يدل على الإطاعة، ويشير إلى الإخلاص، ويرمز إلى الدوام، ويلوّح إلى التوحيد. أي أطيعوا.. وأخلصوا.. وثبِّتوا.. وازدادوا.. ووحّدوا.

وأما ﴿رَبَّكُم﴾ فإشارة إلى أن العبادة كما ينبغي أن يُرغَّب فيها، لأنها نسبةٌ شريفة ومناسبة عالية؛ كذلك لابد أن تُطلَب لأنها شكر وخدمة لمن هو يربيكم وتحتاجون اليه.

أما هيئاتُ ﴿الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ﴾

فاعلم أن ﴿الَّذِي﴾ الذي جهةُ معلوميته الصلةُ([15]) يشير إلى أن معرفة اللّٰه تعالى إنما تكون بأفعاله وآثاره لا بكُنهه.

وأن "خَلَق" الممتاز عن الإيجاد والإنشاء بكونه على وجه مقدَّرٍ مستوٍ، إشارة إلى أن استعداد البشر مسدَّد للتكليف.. وأيضا رمز إلى أن العبادة وظيفة، لأنها نتيجة الخلقة وأُجرتُها. فما الثواب إلاّ من محض فضل اللّٰه تعالى.

وأن ﴿الَّذِينَ﴾ بناءً على إبهامه إيماء إلى أن الذين سبقوكم انقرضوا فماتوا فذهبوا.. فلم يبقَ منهم جهةُ المعلومية إلاّ كونُهم مخلوقين قبلكم.. فأنتم على شفا جُرف القبر.. فاعتبِروا.. فلا تغتروا بالدنيا.. فتشبثوا بأذيال العبادة التي هي وسيلةُ السعادة الأبدية.

أما كيفيات ﴿لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ فاعلم أن "لعل" للرجاء، ففي المرغوب يُقال إطماع، وفي المكروه إشفاق. فالرجاءُ في حق المتكلم هنا حقيقةً محالٌ. فهو إما باعتباره لكن مجازا، وإما باعتبار المخاطَب، وإما باعتبار المشاهدين والسامعين:

أما باعتبار المتكلم فاستعارةٌ تمثيلية، كما أن من جهّز أحدا بأسبابِ خدمةٍ يرجو منه -عُرفا- تلك الخدمة؛ كذلك إن اللّٰه جهّز البشر باستعداد الكمال وقابلية التكليف وواسطة الاختيار. ففي الاستعارة إشارة إلى أن حكمةَ خلق البشر هي التقوى.. وكذا رمز إلى أن نتيجة العبادة مرتبةُ التقوى.. وكذلك إيماء إلى أن التقوى أكبرُ المراتب.. وأيضاً تلميح إلى طرز أسلوب الملوك بالإطماع والرمز في موضع الوعد القطعيّ.

 

156
___________________

 

وأما باعتبار المخاطَب فكأنه يقول: "اعبدوا حال كونِكم راجين للتقوى، ومتوسطين بين الرجاء والخوف". وفي هذا الاعتبار إشارة إلى أنه لابد أن لا يعتمد الإنسان على عبادته.. وكذا إيماء إلى أنه لابد أن لا يكتفي بما هو فيه، بل لزم أن يكون مصداقا لـ"عليك بالحركة غيرِ السكون" فينظرَ في كل مرتبة إلى ما فوقها.

وأما باعتبار المشاهدين والسامعين، فكأن من شاهد البشر مجهّزا ومسلّحا باستعدادات، يأمل ويرجو منه العبادة، كمن يرى مخالبَ حيوان وأنيابه، يأمل منه الافتراس.. وكذلك إشارة إلى أن العبادة مقتضى الفطرة.

أما لفظ ﴿تَتَّقُونَ﴾ فإشارة -بحكم ترتّبه على عبادة الطبقات المذكورة- إلى مراتب التقوى وهي: التقوى عن الشرك، ثم التقوى عن الكبائر، ثم التقوى بحفظ القلب عما سواه تعالى.. وكذا التقوى بالتجنب عن العقاب.. وأيضاً التقوى بالتحرز عن الغضب.. وكذا رمز إلى أن العبادة بالإخلاص تكون عبادةً.. وأيضاً إيماء إلى أن العبادة مقصودةٌ بالذات لا وسيلة محضة.. وكذلك رمز إلى أن العبادة لابد أن لا تكون لأجل الثواب والعقاب.

أما هيئات آيةِ ﴿الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاءَ بِنَاءً﴾

فاعلم أنها إشارة إلى التهييج على العبادة ببيان عظمةِ قدرة الصانع، وإلى التشويق عليها بالامتنان. كأنه يقول: أيها الإنسان! إن الذي سخّر لك الأرض والسماء يستحق أن تعبده.. وكذا إيماء إلى فضيلة البشر وعلوّ قيمته ومُكرَّمِيَّتِه عند اللّٰه، كأنه يقول: "إنَّ الذي أكرمكم بأنْ هيّأ الأجرامَ العلوية والسفلية بعظمتها لاستفادتكم، لابد أن تُظهروا لياقتكم للكرامة بعبادته.." وكذا تلميح إلى ردِّ التصادف والاتفاق وتأثيرِ الطبيعة، أي إن كل ما ترون بصفاتها إنما هي بجعلِ جاعلٍ وقصدِ قاصدٍ وتخصيصِ مخصِّص ونظمِ نظَّام جلّت حكمتُه.. وكذا تلويح إلى ردِّ مذهب أهل الطبيعة ومذهب الصابئين المولِّدِ لمذهب الوثنيين.. وايضاً تنبيه إلى أن صفات الأجسام بإمكانها تدل على الصانع؛ إذ الأجسام متساويةٌ ذراتُها في قابلية الأحوال والكيفيات العمومية، فكل صفة ممكنةٌ مترددة بين احتمالات كثيرة، فكل جسم باعتبار كل صفة وكيفية يحتاج إلى قصد وحكمة وتخصيصِ مخصِّص.

 

157
___________________

 

أما تقديم ﴿لَكُم﴾ فإشارة إلى أن تفريش الأرض لأجل الإنسان، لا أن المفترِش والمستفيد هو الإنسان فقط، حتى يكون الزائدُ عبثاً، فتأمل!

وأما ﴿فِرَاشاً﴾ فإشارة إلى نكتة البلاغة التي هي نقطة الغرابة، وهي قيدُ "مع اقتضاء طبعها الانغماس في الماء".. وإيماء إلى أن التفريش بالجَعل خلاف الطبيعة؛ إذ مقتضى طبيعة الكرة استيلاء الماء عليها وإحاطته بها، فالصانع بحكمته ومرحمته أَظهر قسماً منها وفرشه ووضع عليه مائدة نِعَمه.. وكذا تنبيه -بقاعدةِ: "إذا ثبت الشيءُ ثبت بلوازمه"- إلى أن الأرض كأرض البيت مبسوطة، فأنواع النباتات والحيوانات فيها كأساسات البيت إنما وضعت بقصدٍ وحكمةٍ.. وكذا إيماء إلى أن الأرض توسطت بقصدٍ وحكمة بين المائع الذي لا يتمسك عليه الأقدام، وبين الصلب الشديد الذي لا يقبل الاستفادة والزراعة فيكون عبثاً، ولو كان ذهباً. فبالتوسط إشارة إلى أنه بتخصيصِ وجعلِ وقصدِ حكيم.

أما ﴿وَالسَّمَاءَ بِنَاءً﴾ فإشارة إلى أنه تعالى لما جعل لكم السماء سقفاً وبناءً صارت نجومُها قناديل لكم، فلا يُتوهم التصادف في تفريق تلك القناديل وانتشارِها كما يُتوهم التصادف في وضعية الجواهر التي تُرمى على الأرض منتثرة.

اعلم أن في هذه الآية إشارة ورمزاً وإيماء إلى سرّ عجيب دقيق غال وهو:

إن قلت: إنَّ الإنسان ذرة بالنسبة إلى أرضه، وأرضُه ذرة بالنسبة إلى الكائنات. وكذا فردُه ذرة([16]) إلى نوعه، ونوعُه ذرة بالنسبة إلى شركائه في الاستفادة في هذا البيت العالي. وكذا جهةُ استفادة البشر بالنسبة إلى فوائدِ وغايات هذا البيت ذرة، والغايات التي تُحِسّ بها العقولُ ذرةٌ بالنسبة إلى فوائده في الحكمة الأزلية والعلم الإلهي، فكيف جُعِل العالمُ مخلوقاً لأجل البشر واستفادتُه علةً غائية؟.

قيل لك: نعم، ولكن مع كلِّ ما مرّ؛ لأجل وُسعة روح الإنسان وتبسّطِ عقله وانبساطِ استعداده وكثرةِ وانتشار استفادته من الكائنات.. وأيضاً لأجل عدم المزاحمة والتجزي والمدافعة في جهة الاستفادة كنسبة الكلّي إلى جزئياته -إذ الكلّي بتمامه موجود في كلٍ مِن جزئياته لا مزاحمةَ ولا تجزّيَ- جَعَل القرآنُ جهةَ استفادة البشر التي هي غايةٌ فذّة من ألوفِ ألوف غايات السماء والأرض، في منـزلة العلة الغائية.

 

158
___________________

 

كأنها هي العلة بالنظر إلى الإنسان. أي إن الإنسان يستفيد من الأرض عرصةً لبيته والسماء سقفاً له والنجوم قناديل والنباتات ذخائر، فحقٌّ لكل فرد أن يقول: شمسي وسمائي وأرضي. فتأمل وعقلُك معك!

أما كيفياتُ: ﴿وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَكُمْ﴾ فاعلم أن نسبة أنزل إلى الضمير إشارةٌ إلى أن القطرات إنما تُنـزَل بميزانِ قصدٍ وتُرسل بحكمةٍ، حتى إن كل قطرة محفوفة بنظام مخصوص، بأمارةِ عدم مصادمتها لأخواتها في تلك المسافة البعيدة مع تلعّب الهواء بها. فيؤذِنُ أنْ ليست غواربها على أعناقها،([17]) بل زمامُ كلٍّ في يد مَلَك ممثِّل لنظام ومَعكِس له.

أما ﴿مِنَ السَّمَاءِ﴾ فإشارة بإقامة الظاهر مقامَ الضمير، إلى أن الغرض من هذه السماء جهتُها لا جِرمُها المخصوص.([18])

أما ﴿مَاءً﴾ مع أن المُنـزَل ثلج وبَرَد ومطر، فإشارة إلى المنشأ القريب للاستفادة ﴿وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ﴾(الأنبياء:30). أما تنكيره فإشارة إلى أنه ماءٌ عجيبٌ شأنُه، غريبٌ نظامُه، مجهولٌ لكم امتزاجاتُه الكِمْيَوِية.

أما فاء ﴿فَأَخْرَجَ﴾ الموضوعة للتعقيب بلا مهلة، مع المهلة بين نزول الماء وخروج الثمر، فتلويح إلى فـ"اهتزت الأرضُ وربَت.. واخضرّت.. وانبتت من كل زوج بهيج.. فأخرج". أما نسبة ﴿أَخْرَجَ﴾ إلى الضمير فإشارة إلى أن خروج الثمار ليس بتولّد وتركّب فقط، بل الصانعُ الحكيم ينشئها ويرتبها بصفات وخواص لا توجد في مادتها.

أما ﴿بِهِ﴾ فبسبب تشرب المعنى الحقيقي -وهو الإلصاق- للسببية رمز إلى لطافة طراوة الثمار، فيعلو إليها الماء -خلاف طبيعته- بوساطة "الآثار الشَعرية" فيملأ أقداح الثمرات ملصقاً بها.

أما ﴿مِنَ الثَّمَرَاتِ﴾ فلعدم خلوّها من معنى الابتداء عند سيبويه يشير إلى مفعولٍ يتنوع بتعيّن فهم السامع، أي إن من الثمرات أنواعاً كما تشتهون.

 

159
___________________

 

أما تنوين ﴿رِزْقاً﴾ فإشارة إلى أنه رزقٌ، مجهولٌ لكم أسبابُ حصوله، فيجيء من حيث لا يُحتسب.

أما ﴿لَكُمْ﴾ فإشارة إلى تأكيد معنى الامتنان.. وأيضاً إيماءٌ إلى أن الرزق لأجلكم، فلا بأس من استفادة غيركم منه تبعاً.. وكذا رمز إلى أنه تعالى كما خصّكم بالنِعم فخُصّوه بالشكر.

أما نظم هيئات ﴿فَلاَ تَجْعَلُوا لِلّٰهِ أَندَاداً﴾

فالفاء ينظر إلى الفقرات الأربعة: أي لأنه هو المعبود فلا تشركوا، ولأنه هو القادر المطلق والأرض والسماء في قبضته فلا تعتقدوا له شريكاً، ولأنه المُنعم فلا تشركوا في شكره، ولأنه هو خالقكم فلا تتخيلوا له شريكاً.

أما ﴿تَجْعَلُوا﴾ بدل تعتقدوا فإشارة إلى معنىَ: ﴿إِنْ هِيَ إِلاَّ أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا﴾ (النجم:23) أي أسماء لا معنى لها، تتخيلون لها وجوداً بجعلكم.

أما تقديم ﴿للّٰه﴾ فمع الاهتمام بجعله نُصبَ العين، إيماء إلى أن منشأ النهي كون الشريك للّٰه.

أما ﴿أَنْدَاداً﴾ فلفظ الندّ بمعنى المِثل، ومِثلُه تعالى يكون عينَ ضدِّه، وبينهما تضادٌّ، ففيه إيماء لطيف إلى أن الندّ بيّن البطلان بنفسه.. أما الجمعُ فإشارة إلى نهاية جهالة المشركين وإيماء إلى التهكّم بهم. أي كيف تجعلون للّٰه الذي لا شبيه له بوجهٍ مّا جماعةً من أمثال وأضداد؟". وكذا رمز إلى ردِّ كل أنواع الشرك. أي لا شريك له في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله.. وتلويح إلى ردّ طبقات المشركين من الوثنيين والصابئين وأهل التثليث وأهل الطبيعة المعتقدين بالتأثير الحقيقي للأسباب.

تذييل: منشأ الوثنية والأصنام إما تأليهُ النجوم أو تخيّل الحلول أو توهّم الجسمية.

أما ﴿وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ فمع أخواتها من الفواصل، إشارة إلى أن منشأ الإسلامية هو العلم وأساسُها العقل، فمن شأنه أن يقبل الحقيقةَ، ويردّ سفسطة الأوهام. ثم إنه أطنبَ بإيجازِ تركِ المفعول، أي ﴿وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ أن لا معبودَ حقيقياً ولا خالق ولا قادر مطلقاً ولا منعم إلاّ هو.. وكذا وأنتم تعلمون أن الآلهة والأصنام ليست بشيء، لا تقتدر على شيء، وأنها مخلوقة مجعولة تتخيلونها. فتدبّر!

*  *  *

 

160
___________________

 

----------------------

[1]() العالم الإسلامي. (ت: 92).

[2]() النابض.

[3]() كدلالة النار على الدخان.

[4]() كدلالة الدخان على النار. (ت: 96).

[5]() المقصود المقالة الثالثة من كتاب "محاكمات عقلية" المنشور ضمن مجلد "صيقل الإسلام".

[6]() بحث الأستاذ هذا الموضوع في مواضع عدة من رسائل النور وخصه برسالة مستقلة وهي اللمعة الثالثة والعشرون (رسالة الطبيعة).

[7]() مِسطَر: ما يُسطر به الكتّاب.

[8]() انظر: تنوير المقباس من تفسير ابن عباس ص4.

[9]() لأبي العتاهية في ديوانه. وينسب إلى الإمام علي كرم اللّٰه وجهه.

[10]() توسم الشيء: تفرسه وتأمل فيه.

[11]() وأن لا واسطة في العبادة بين العبد وخالقه. (ش).

[12]() المؤمنون والكفار والمنافقون. (ت: 108).

[13]() فيستخدمه. (ب).

[14]() لأن في كلمة "أيّ" إجمالا وإبهاما حيث ذكرت غير مضافة، إلاّ أن كلمة ﴿النَّاس﴾ تزيل ذلك الإبهام وتفصّل ذلك الإجمال. (ت: 109).

[15]() فإذا قيل مثلاً: "الذي جاءك" فجهته المعلومة لديك هي المجيء إليك. أما سائر جهاته فمجهولة. (ت:110).

[16]() ذرة بالنسبة إلى نوعه (ش).

[17]() سبق التنبيه إليه.

[18]() لأن المقام مقام الضمير، فإذا عدل عنه إلى الظاهر يكون المراد به غير الأول... (ب).

 

 

 

« Önceki Sayfa  | | Sonraki Sayfa »
Ekranı Genişlet