الرسالة[mi1] الخامسة
حَباب
من عُمّان([1]) القُرآن الحكيم
خداى بركرم خود ملك خودرامى خِرَد أز تو
براى تونكه دارد بهاء بى كران داده ([2])
بسم اللّٰه الرحمن الرحيم
الحَمدُ للّٰه ربّ العالَمينَ.
والصَلاةُ والسَّلامُ على سيّد المُرسلينَ. وعلى آلهِ وَصَحبهِ أجمَعين.
اعلم أيها المؤمن المصلي الذاكر، إذا قلت: «أشهدُ أن لا إلهَ إلاّ اللّٰه» أو «محمدٌ رسولُ اللّٰه» أو «الحمد للّٰه».. مثلاً: حكمتَ بحكمٍ، ادّعيتَ دعوى، وأعلنت اعتقاداً، يشهد لك في دعواك في آن تلفّظك ملايينُ، وقبلَك ملايينُ ملايينَ من المؤمنين المتكلمين بما تكلمتَ به؛ كأنهم يصدّقونك.. وكذا يؤيدُك في دعواك، ويُثبت حكمَك ويزكّي شهداءك، كلُّ ما قام على صدق الإسلامية، وكلُّ ما أثبت حُكماً من أحكامها، وكلُّ ما استند عليه جزءٌ من أجزاء قَصر الإسلام من الشواهد والبراهين ومسامير الدلائل.. وكذا اندمج في ملفوظك وتوضَّعَ عليه أمرٌ عظيم، ويُمنٌ جسيمٌ من الفيوضات والبركات القدسية.. وكذا اتصل بملفوظك وأحاطَ به معنىً جاذب، وروحٌ جالب من شرارات جَذَبات توجهات جمهور المؤمنين، ومن رشاشات رشحات رشفات قلوب الموحّدين الشاربين ماءَ الحياة من عيون تلك الكلمات المباركة..
اعلم أنه قد تقرر في الأصول: «أن المثبِت يرجَّح على النافي». وسرُّه: أن النفي ينحصر في موضعه، والإثبات يتعدى. ولو نفى ألفٌ، وأثبته ألفٌ كان كلٌّ من المثبتين كألفٍ. بسرّ: أنه إذا رأى واحدٌ الشمسَ من مشكاةٍ، وآخر من أخرى، وهكذا؛ فكلٌّ يؤيد كُلاً، لاتحاد المَرئي والمشهودِ مع تعدد المناظر.. وإذا لم يره واحدٌ لعدم المشكاة، وآخر لضعف البصر، وآخر لعدم النظر، وهكذا.. فقوةُ كلٍّ في نفسهِ فقط، والانتفاءُ عنده، لا يدل على الانتفاء في نفس الأمر، فلا يؤيد أحدٌ أحداً لاختلاف الأسباب مع تعدد المدَّعى؛ لأن الانتفاء مقيّدٌ عند النافي بـ«عندي» مثلاً.
فإذا تفهّمت هذا السر؛ فاعلم أن اتفاق كلِّ أهل الضلالة والكفر على نفي مسألةٍ من المسائل الإيمانية، فاتفاقهم لا تأثير فيه، بل كحُكم واحدٍ. مع أنه حجةٌ قاصرة ينحصر على النافي فقط. وأما اتفاقُ أهل الهدى على المسائل الإيمانية فكلٌّ يتأيد بكلٍّ، كأن الكلَّ شواهد كلِّ واحدٍ.
اعلم أنه كما أن الأجزاء والأحجار في البناء المتساند يستند كلُّ واحدٍ بقوة الكل، ويزول ضعفُ كلٍّ بتساند الكلِّ، كأن الكلَّ عَوَنَةُ كلِّ واحدٍ ومساميره.. وأيضاً كما أن الأغصان والأثمار في الشجرة تستند معرفةُ صفاتِ كل واحدٍ بالكلِّ، فكلٌّ للكلِّ معرِّفٌ، كأن كلَّ واحدٍ لكلِّ واحدٍ منفذٌ نظّار، ولمعرفته معيار.. كذلك إنّ تفاصيلَ لمعات الإيمان والإسلام ومسائلَهما يستند كلُّ جزئي بقوة الكلِّ، فبازدياد التفاصيل والجزئيات يزداد وضوحُ فهم كلِّ جزء وقوةُ معرفة كلِّ جزئي، وإذعانُ كلِّ حكم، وإيقانُ كلِّ مسألة. ومع كلِّ ذلك، فالنفسُ الشيطانة تعكس فتنتكس. فتزعم ضعفَ الجزء سببَ ضعفَ الكلِّ..
اعلم أن كلَّ جزء من كلِّ الكون واحد قياسيّ لإمكانات سائر الأجزاء. وبالعكس؛ فأجزاء الكائنات مقاييس للإمكانات بينها كلٌّ لكلٍّ..
اعلم أن أصغر جزءٍ؛ من أعظم كلٍّ، يحتاج إلى ما يحتاج إليه كلُّ الكلِّ كَمّاً، فالثمرةُ تحتاج إلى كلِّ ما يحتاج إليه كلُّ الشجرة. فخالقُ الثمرة بل حُجيرةٍ من حُجيراتها لابد أن يكون خالقَ الشجرة، بل خالقَ الأرض، بل خالقَ شجرة الخلقة.
اعلم أن المسألة التي طرفاها في غاية التباعد، كل طرف كنواة تَسَنبلَت وأشجرت وتفرعت، لابد أن لا يتوضّع عليها الشكوك والأوهام؛ إذ التباسُ نواةٍ بنواة ممكن ما بقيت النواةُ نواةً مستورة. وأما إذا صارت شجرة وأثمرت، ثم شككتَ في جنس النواة شهدت الثمراتُ عليها، ولو توهمتَها غيرها، كذّبتْكَ تلك الثمرات.
مثلاً: لا يتيسر لك فرضُ النواة التي انقلبت شجرةَ التفاح نواةَ حنظلةٍ، إلاّ بتوهمها إياها، أو تبديل كلِّ ما أثمرت من التفاحات حنظلات وهو محال.
النبوة نواةٌ، أَنبتت شجرةَ الإسلامية بأزاهيرها وثمراتها، والقرآنُ شمسٌ أثمرت سياراتِ أركان الإسلامية الأحد عشر.([3])
اعلم([4]) أنه كما أن مَن يرى قشر بيضة انقشعت عن طير همائي([5]) تكمَّل وطار في السماء، ثم يتحرى ما يسمع من كمالاتِ ذلك الطير الطائر في فضاء العالَم([6]) في تلك القشرة اليابسة، لابد أن يغالط نفسه، أو يكذّب.([7]) وكذا لو نظر إلى فلقتَي نواةٍ انكشفت عن شجرةٍ تكمّلت وأثمرت، ومددت أغصانها في جو السماء، ثم تحرّى ما قرع سمعَه من عظمتها وثمراتها وأزهارها في تلك القشرة المطروحة في التراب، لابد أن يتبلّه أو ينكر..
كذلك إن مَن نظر إلى صورة ما نقله التواريخ من مبادي ظهور نبيّنا عليه الصلاة والسلام نَظراً مادياً وسطحياً وصورياً، لا يتيسر له دركُه وتقديرُ قيمته ومعرفة شخصيته المعنوية؛ بل لابد أن ينظر إلى ما نقله التواريخ والسِير بنظر قشر رقيقٍ انشقَّ عن قمريٍّ([8]) -كقمر- في جو الملكوت. ويرى ما يرى من لوازم البشرية، والأحوال الصورية كقشر نواة انكشفت منها شجرة طوبى المحمدية، التي تُسقى بماء الفيض الإلهي، وتنمو بإمداد الفضل الرباني على مرّ الدهور. فكلما مرّ على سمعه شيءٌ من الأحوال الصورية والمبدئية، فلابد أن لا ينحبسَ عليه ذهنهُ، بل ليرفعْ رأسه بسرعة وفي كل مرة منه إلى ما ترقى وتصاعد إليه الآن مما لا يدرك منتهاه.
وكذا إن ممّا يشط النظر لاسيما نظر المتحرّي الشاكّ، أنه لا يفرق بين المصدرية والمظهرية، بين المنبعية والمعكسية، وبين المعنى الاسمي والحرفي، وبين الذاتي والتجلّي. فكونه عليه السلام عبداً محضاً، وأعبدَ خلق اللّٰه للّٰه؛ يستلزم أن يُنظَر إليه بأنه مَظهرٌ ومَعكِسٌ لتجلياته تعالى. وكلُّ ما فيه من الكمالات من فيضه تعالى.
نعم، قد ذكرنا مراراً أن الذرة لاتسع مصدريةً ولو رأسَ ذبابة، ولكن تسع مظهريةً ولو نجوم سماوات. ونظرُ الغفلة ينظر أولاً وبالذات إلى الذاتي الاسمي والمصدرية، فيتوهم الصنعةَ الإلهية طبيعةً طاغوتية..
اعلم أن الدعاء أنموذج لأسرار التوحيد والعبادة؛ إذ الداعي في نفسه خُفيةً، لابد أن يعتقد سماعَ المدعو لهواجسِ نفسه وقدرتَه على تحصيل مطلبه، فيستلزم هذا الاعتقاد، اعتقادُ أن المدعو عليمٌ بكلِّ شيءٍ، وقديرٌ على كلِّ شيء.
اعلم أنه كما يمكن دخول هذه الشمس -سراج العالم - في عين الذباب بالتجلي فتتنور، ولا يمكن دخول شرارة من كبريتٍ في عينها بالأصالة، بل لو دخلتْ لانطفت العين.. كذلك يمكن بل يجب مظهرية كل ذرة لتجليات أسماء شمس الأزل، ولا يمكن بل يمتنع أن تكون ذرةٌ مصدراً وظرفاً لمؤثر حقيقي، ولو كان أصغر وأقل من الذرة.
اعلم يا «أنا» المتمردُ المغرور المتكبر، انظر إلى درجة ضعفك وعجزك وفقرك ومسكنتك!.. إذ يبارِزك ويصارعك -فتخرّ صعقاً - الحُوَينُ الذي لا يُرى إلاّ بتكبيره مرات ودرجات..
اعلم ومن صُغر الإنسان أنه يجول في خردلة حافظته، وتصير تلك الخردلة عليه كصحراءٍ عظيمة يسري دائماً ولا يقطعها إلى جانب. فقس درجة مَن يسري دائماً ولا يتم دَورَ خردلةٍ([9])، ومع أن الخردلة الحافظة تصير كصحراء عظيمة على عقل الإنسان، كذلك يصير ذلك العقلُ كبحر يبتلع الدنيا.. فسبحان مَن جعل الخردلة لعقل الإنسان كالدنيا، وجعل الدنيا له كخردلة!.
اعلم أن من أشد ظلم البشر إعطاءَ ثمرات مساعي الجماعة لشخصٍ، وتوهّمَ صدورها منه، فيتولد من هذا الظلم شركٌ خفيٌ؛ إذ توهّمُ صدورِ محصّل كسبِ الجماعة، وأثَرِ جُزئهم الاختياري من شخصٍ، لا يمكن إلاّ بتصور ذلك الشخص ذا قدرة خارقة ترقت إلى درجة الإيجاد، وما آلهة اليونانيين والوثنيين، إلاّ تولدت من أمثال هذه التصورات الظالمة الشيطانية..
اعلم أن الإنسان كدوائرَ متداخلة متحدة المركز. ففي دائرةٍ: لباسُه جسمُه، وفي أخرى: بلدُه، وفي أخرى: وجهُ الأرض، وفي أخرى: عالم الشهادة وهكذا.. ولكنه لا فِعلَ ولا تأثير له إلاّ في الدائرة الصغرى، وفيما سواها من الدوائر عاجزٌ مسكين، منفعلٌ وقابلٌ لأخذ الفيض فقط. لو تَفَعَّل ([10]) ما فعل إلا تغييرَ صورة الفيض بالقصور والنقصان اللذين هما من ألوان العدم..
اعلم أن في الذاكر لطائفَ مختلفةً في الاستفاضة؛ بعضُها يتوقف على شعور العقل والقلب، واستفادةُ بعضٍ لا شعوري تحصل من حيث لا يُشعَر. فالذكر مع الغفلة أيضاً لا يخلو من الإفاضة..
اعلم أن اللّٰه خلق الإنسان في تركيب عجيب، ووحدةٍ في كثرة؛ بسيطٌ وهو مركب، فردٌ وهو جماعة، له أعضاء وحواس ولطائف، لكلٍّ في ذاته ألمٌ ولذة مع تألمه وتلذذه من انفعالات الكل وتأثرات إخوانه؛ بدليل سرعة التعاون والإمداد بينها. فمن حكمة هذه الخلقة جَعلُ الإنسان مَظهراً لأنواع اللذائذ ولأقسام النِعَم ولأصناف الكمال -لاسيما في الآخرة- إن سلكَ في سبيل العبودية.. وكذا جعله محلاً لأنواع الآلام ولأشكال العذاب ولأقسام النقم، إن ضلَّ في طريق الأنانية. فألمُ وَجَع السنِّ غيرُ ألَم وجع الأذن. ولذةُ العينِ غيرُ لذة اللسان، واللمس والخيال والعقل والقلب وهكذا..
اعلم أن كثرةَ فوائد عدمِ تعين الآجال؛ دليلٌ نيِّر على تعيُّنها في علم الباري، ولو تعينت لَتُوهِّمَ عدمُ تعيُّنها من جهة العلم بتوهم تفويض تَعيّنها على القانون الفطري، وإذ لم تتعين فيما بين الحدين المعيّنين؛ لا حقّ للوَهم أن يدّعي عدمَ التعيّن..
اعلم أن الذكر من شأنه أن يكون من الشعائر، والشعائر أرفع من أن تنالها أيدي الرياء..
اعلم أن تكرارَ كلمة التوحيد؛ لتجريد القلب من أنواع العلاقات، وطبقات المعبودات الباطلة، ولأن في الذاكر أنواعاً من لطائف وطبقاتٍ من حواس؛ لكلٍّ توحيدٌ وتجريدٌ من الشرك المناسب له..
اعلم أن الفاتحة المقروءة، مثلاً؛ لا تفاوتَ بين إهداء مثلِ ثوابها لواحدٍ، ولألوفٍ، أو لملايين، كمثل الكلمة الملفوظة، سواءٌ في استماعها الفردُ والألوفُ، لسرٍ لطيف في سرعة التناسل والاستنساخ في اللّطيف.. ولرمزٍ شريفٍ في التكثّر مع الوحدة في النوراني، كمصباح قابلَه مرآةُ فردٍ، أو ألوفٌ من المرايا..
اعلم أن الصلاة على النبي عليه الصلاة والسلام كإجابة دعوة المُنعم الذي أفاضَ فيضُه، وبسَطَ مائدةَ إنعامه على مقام صاحب المعراج. وإذا وصف المصلّي النبيَّ بصفةٍ، لابد أن يتأمل في مناط تلك الصفة ليشتاق المصلّي لتصليةٍ جديدة.([11])
اعلم أيها العالم الديني!. لا تحزن على عدم الرغبة في عملك وقلّة أُجرتك؛ إذ المكافأة الدنيوية تنظر إلى جهة الاحتياج، لا إلى درجة القيمة الذاتية، إذ جهة المزية الذاتية ناظرة إلى المكافأة الأخروية، لا يجوز لك أن تشتريَ بها ثمناً قليلاً من متاع الغرور.
اعلم أيها المحرّر والخطيب العمومي بلسان الجريدة! لك أن تتواضع وتهضم نفسك وتعلن قصورك تندماً. ولا حقّ لك أن تتمرد بالتجاهر بما يضاد شعائر الإسلام. فأين جاز لك، ومَن وكّلَكَ، وبأيّ حقّ تتجاسر على إعلان القصور الديني([12])، بل إشاعة الضلالة بحساب الملة وباسم الأمة، وتظن الملّة على قلبك الضال؟! ([13]).. فلا يجوز لأحدٍ -فضولياً- أن يهضم نفسَ غيره حتى نفسَ أخيه. فمن أين جاز لك أن تزيِّفَ عامة الملّة الإسلامية بإساءة الظن بهم بإعراضهم عن الشعائر الإسلامية.. ولا ريب أن نشر ما لا يقبله جمهور المؤمنين في الجرائد العمومية من المستحدثات دعوةٌ إلى الضلالة، فناشرُها داعٍ إلى الضلالة، فلا يُجاب بالضرب على فمه فقط، بل يُعنّف بالأخذ على يده..
اعلم أن الكفار لاسيما الأوربائيون ولاسيما شياطين في إنكلترة وأباليس الفرنك ([14])، أعداءٌ ألدّاء، وخُصماء معاندون أبداً للمسلمين وأهل القرآن.. بسر أن القرآن حَكَم على مُنكري القرآن والإسلام وعلى آبائهم وأجدادهم بالإعدام الأبدي، فهم محكومون بالإعدام أبداً، والحبس في جهنم سرمداً بنصوص ذلك القرآن الحكيم. فيا أهل القرآن كيف توالون مَن لا يمكن أن يوالوكم أو يحبوكم أبداً؟.. فقولوا: ﴿حَسْبُنَا اللّٰه ونِعمَ الوَكيل﴾( آل عمران: 173) ﴿نِعمَ المَولى ونِعمَ النَّصير﴾( الأنفال: 40)...
اعلم أن الفرق بين مدنية الكافرين ومدنية المؤمنين، أن الأولى: وحشةٌ مستحالة ظاهرُها مزيّن، باطنُها مشوّه، صورتها مأنوسة، سيرتها موحشة.. ومدنية المؤمنين باطنُها أعلى من ظاهرها، معناها أتمّ من صورتها، في جوفها أُنسيةٌ وتحبّب وتعاون. والسر: أن المؤمن بسر الإيمان والتوحيد يرى أخوةً بين كل الكائنات، وأُنسيةً وتحبباً بين أجزائها، لاسيما بين الآدميين ولاسيما بين المؤمنين. ويرى أخوةً في الأصل والمبدأ والماضي، وتلاقياً في المنتهى، والنتيجة في المستقبل. وأما الكافر فبحكم الكفر له أجنبيةٌ([15]) ومفارقة بل نوعُ عداوةٍ مع كل شيء لا نفع له فيه، حتى مع أخيه؛ إذ لا يرى الأخوة إلاّ نقطة اتصال بين افتراق أزلي ممتد، وفراق أَبدي سرمد؛ إلاّ أنه بنوع حَميّةٍ ملّية أو غيرة جنسية تشتد تلك الأخوة في زمان قليل، مع أن ذلك الكافر لا يحب في محبة أخيه، إلاّ نفسَ نفسه. وأما ما يُرى في مدنية الكفار من المحاسن الإنسانية والمعالي الروحية، فمن ترشحات مدنية الإسلام، وانعكاسات إرشادات القرآن وصيحاته، ومن بقايا لمعات الأديان السماوية.
فإن شئتَ فاذهب بخيالك إلى مجلس «سيدا»([16]) قُدّس سره في قرية «نورشين».. وما أظهرت من المدنية الإسلامية بصحبته القدسية، تَرَ فيها ملوكاً في زي الفقراء وملائكة في زي الأناسي. ثم اذهب إلى «باريس» وادخل في لجنة الأعاظم تَرَ فيها عقاربَ، تلبسوا بلباس الأناسي، وعفاريتَ تصوَّروا بصور الآدميين. وقد بينتُ الفروق بين مدنية القرآن والمدنية الحاضرة في « لمعات» ([17])«وسنوحات» ([18]) فراجعهما لترى فيهما أمراً عظيماً، تغافلَ عنه الناس..
اعلم يا من يطلب الاجتهاد في مسائل الدين في هذا الزمان! إن باب الاجتهاد مفتوح، لكن لا يجوز لكم الدخول فيه لستة أمور:
فأولاً: لأن عند هبوب العاصفات في الشتاء يُسَدّ المنافذ الضيقة، فكيف تُفتح الأبواب؟ وعند إحاطة سيل المنكَرات والبدعيات وتَهاجم المخرّبات لا يُشقّ الجدار بفتح منافذ..
وثانياً: إن الضروريات الدينية التي لا مجال للاجتهاد فيها، والتي هي في حكم الغذاء والقوت للمسلمين قد أُهملَت وتزلزلت، فلابد صرفُ كلِّ الهمّة لأقامتها وامتثالها وإحيائها، ثم بعد اللَّتيّا والّتي([19]) تَمَسّ الحاجة إلى الاجتهاد في النظريات التي توسعت باجتهادات السلف، بحيث لا يضيق عن حاجات كل الزمان..
وثالثاً: إن لكل زمان متاعاً مرغوباً، يشتهر في سوقه، تُجلَب إليه الرغبات وتُوجَّه وتنجذب الأفكار إليه، كالسياسة وتأمين الحياة الدنيوية الآن.. وكاستنباط مرضيات خالق العالم من كلامه، وتأمين السعادة الأبدية في زمان السلف. فلأجل توجُّه الأذهان والقلوب والأرواح في الجمهور إلى معرفة مرضيات ربّ السماوات والأرض في ذلك الزمان، صار كلُّ مَن له استعداد جيد يتدرّس قلبُه وفطرتُه من حيث لا يشعر من كل ما يجري في ذلك الزمان من الأحوال والوقوعات والمحاورات، كأن كلَّ شيء معلِّمٌ يلقن فطرتَه استعداداً إحضارياً للاجتهاد، حتى يكاد زيت ذهنه يضيء ولو لم تمسسه نارُ كَسب. فإذا توجه إلى الاجتهاد صار له نورٌ على نور. وأما الآن فلتشتتِ الأفكار والقلوب، وانقسامِ العناية والهمة، وتحكّم السياسة والفلسفة في الأذهان، لا يمكن لمن كان في ذكاء «سفيان بن عيينه»(*) مثلاً أن يحصِّل الاجتهادَ إلاّ بعشرة أمثال وقت ما حصَّل سفيان الاجتهادَ فيه. إذ إن سفيان يبتدئ تحصيلُه الفطري من حيث التمييز. فيتهيأ استعدادُه كالكبريت للنار. وأما نظيره الآن -فبسر ما مرّ آنفاً- يتباعد استعدادُه بدرجة تبحّره في الفنون الحاضرة و يتقاسى عن قبول الاجتهاد بدرجة تغلغله في العلوم الأرضية..
ورابعاً: إنَّ ميلَ التوسيع والاجتهاد إن كان من الداخلين بحق في دائرة كمال الإسلام بمظهرية التقوى الكاملة وامتثال الضروريات، يكون ذلك الميل كمالاً وتكملاً. وأما إن كان ممن يهمل الضروريات ويرجّح الحياة الدنيوية على الآخرة يصير ذلك الميل ميلَ تخريبٍ، ووسيلةً لحل ربقة التكليف عن عنقه..
وخامساً: إنَّ المصلحةَ حِكمةٌ مرجِّحة، وليست بعلّة للحُكم. ونظرُ هذا الزمان يصيِّر المصلحةَ علّةً للحُكم. وكذا نظرُ هذا الزمان يتوجه أولاً وبالذات إلى السعادة الدنيوية، مع أن نظرَ الشريعة متوجه أولاً وبالذات إلى السعادة الأخروية، وثانياً وبالعرض إلى الدنيا من حيث هي وسيلة الآخرة.. وكذا إن كثيراً من الأمور التي ابتُلي الناسُ بها، وعمّت البليةُ بها حتى صارت من «الضروريات»؛ فلتولدها من سوء الاختيار، ومن الميول الغير المشروعة «لا تبيح المحظورات» ولا تصير مداراً لأحكام الرّخَصية. كما أن مَن سَكر بشرب حرامٍ لا يُعذر في تصرفاته في حالة السُكر.. وهكذا فالاجتهادات بهذا النظر في هذا الزمان تصيرُ أرضية، لا سماويّة. فالتصرف في أحكام خالق السماوات والأرض وفي عباده بلا إذنه مردود.
مثلاً: يَستحسِن بعضُ الغافلين الخطبةَ بالتركية لتفهيم السياسة الحاضرة لعامة المسلمين، فهذا الغافل المسكين لا يعلم أن السياسةَ الحاضرةَ بكثرة الكذب والحيلة والشيطنة فيها صارت كأنها وسوسةُ الشياطين، فلا حقَّ لهذه الوسوسة السياسية أن ترتقيَ إلى مقام تبليغ الوحي. وكذا لا يَفهم هذا الجاهل أن أكثر الأمة إنما يحتاجون لإخطار الضروريات وتذكير المسلّمات والتشويق على امتثال الحقائق المتعارَفة بين المؤمنين، من أركان الإيمان والإسلام ومراتب الإخلاص والإحسان. فبكثرة التسامع يتساوى العوامُ والعلماء في التذكر والتخطر بسماع القرآن. إذ العجمي يفهم المآل إجمالاً وإن لم يعرف المعنى. وكذا لا يَعقلُ ذلك الغافلُ أن عربية الخطبة وَسْمٌ سماوي مسدّد ومُزيَّن في سماء وحدة الإسلام، وبالتغيير يصير وَشماً مشتِتاً مشيناً.([20])
اعلم يا من أحاطَ به الغفلة وأظلمت عليه الطبيعة حتى صار «أعمى وأصم» يعبد الأسباب في ظلمات الطبيعة الموهومة!. إني أُترجم لك لساناً واحداً من خمسة وخمسين ألسنة يتكلم بها كلُّ واحدٍ من مركبات الكائنات وذراتها شاهداتٍ على وجوب وجوده تعالى ووحدته في ألوهيته وربوبيته جل جلاله([21]).. وهو أن اضطرابات الأرواحِ والعقول الناشئةَ من ضلالاتها الناشئةِ من استنكاراتها الناشئةِ من الاستبعاد والاستغراب والحيرة في إسناد الأشياء إلى أنفسها، وإلى الأسباب الإمكانية تلجئ الأرواحَ والعقولَ للفرار إلى الواجب الوجود الواحد الأحد الذي بقدرته يحصل إيضاحُ كل مُشكل، وبإرادته يحصل فتحُ كلِّ مغلَق، وبذكره تطمئن القلوب.
فإن شئت تحقيقه فانظر إلى هذه الموازنة وهي: أن الموجودات إما فاعلُها جانبُ الإمكان والكثرة وإما جانبُ الوجوب والوحدة. فما يُتوهم بقصور النظر من الكلفة والاستبعاد، والاستغراب في إسناد كل شيء إلى الواجب الوجود، تصير محققةً عند الإسناد إلى الكثرة، لقصور أي سبب كان، وضعفِه عن تحمل أي مسبَّب كان، في جانب الكثرة دون الوحدة. فما يُتوهمُ هناك متحقق هنا. ثم بعد هذا تتضاعف الكلفة والاستبعاد والاستغراب عدد أجزاء الكائنات مع أنها في الإسناد الأول كانت واحدةً موهومة وصارت هنا حقيقةً متضاعفة عدد أجزاء الكائنات؛ إذ في الإسناد إليه تعالى نسبةُ كثيرٍ غيرِ محدود إلى واحدٍ مباين الماهية لها، وفي جانب الكثرة نسبةُ واحدٍ إلى كثير غير محدود متماثلة الماهية؛ إذ النحلة مثلاً، لو لم تُسنَد إلى الواجب الواحد، لزِمَ اشتراكُ السماوات والأرض في إيجادها لعلاقتها بأركان العالم. مع أن صدورَ الكثير عن الواحد أسهلُ بمراتب من صدور الواحد عن الكثيرين المتشاكسين الصُم العُميِ الذين لا يزيد اختلاطُهم إلاّ أعميتَهم وأصمّيتَهم. ثم مع ذلك إن الكلفة لو كانت في الإسناد الأول مثلَ ذرة، تترقى في الإسناد الثاني إلى أمثال الجبال؛ إذ الواحد بالفعل الواحد يحصِّل وضعيةً ونتيجة للكثير، لا يتيسر للكثير لو أُحيلت عليهم أن يحصّلوا تلك الوضعيةَ، أو يصلوا إلى تلك النتيجة إلاّ بأفعال كثيرة وتكلفاتٍ عظيمة؛ كالأمير مع نفَراته، والفوارة مع قطراتها، والمركز مع نقاط دائرته. ثم مع ذلك إن الاستبعاد والاستغراب الموهومَين في الإسناد الأول، ينقلبان في الإسناد الثاني إلى محالات متسلسلة.
من بعض المحالات: فرضُ صفات الواجب في كل ذرة؛ إذ كمال الصنعة ونقوشها وإتقانها تقتضي علماً محيطاً، وبصراً مطلقاً، وقدرة تامةً وإرادةً شاملةً..
ومنها فرضُ شركاء غير متناهية في الألوهية والوجوب اللذين لا يقبلان الشركة أصلاً؛ إذ لو لم تُسند الأشياء إلى الواحد الواجب، للزم أن يكون لكل واحدٍ وفي ضمنه واحد من الآلهة..
ومنها فرض كل ذرة حاكماً على الكل، ومحكوماً للكلِّ ولكلٍّ، كالأحجار في البناء المعقد لو انتفى الباني، لزِمَ أن يكون كل حجر كالباني عالماً مهندساً بانياً؛ إذ النظام والانتظام والإتقان والحِكمُ هكذا تقتضي، لا محل للتصادف فيها..
ومنها فرض الشعور المحيط والعلم التام والبصر المطلق في كل ذرة وسبب؛ إذ الموازنة والتناظر والتساند والتعاون يقتضي شعوراً محيطاً وبصراً مطلقاً وهكذا، من الصفات المحيطة. فلو أُسندت الأشياءُ إلى أنفسها لزم تصوّر هذه الصفات في أنفسها، ولو أُسندت إلى الأسباب لزم تصور هذه الصفات في أسبابها، بل في كل ذرة من ذراتها.. وهكذا من المحالات المتسلسلة والممتنعات العقلية والأباطيل التي تمجّها الأوهام.
وأما إذا أُسندت إلى صاحبها الحقيقي وهو صاحب مرتبة الوجوب والوحدة، لا يلزم إلاّ أن تصير الذراتُ ومركباتها -كقطرات المطر الحاملة لتماثيل الشمس بالانعكاس- مظاهرَ لتجلياتِ لمعات القدرة النورانية المطلقة المحيطة الأزلية الغير المتناهية، المستندة بل المتضمنة للعلم والإرادة الأزليين الغير المتناهيين. وهي القدرة التي شهدت عليها معجزات المخلوقاتُ، التي لمعتُها الفذة أجلّ من شمس الإمكان والكثرة بسر التجزؤ والتوزيع والانقسام في جانب الإمكان والكثرة، دون جانب الوجود والوحدة. وأن ذرةَ تلك القدرة أعظم من جبال الأسباب، بسر أن جزء تجلي النوراني مالكٌ لخاصية الكل، كأن الكلّ كلّيٌّ، ولو في جانب الإمكان، حتى ترى الشمس بتمامها في ذرة زجاجية. فكيف نور الأنوار المتظاهر من جانب الواجب الوجود الواحد الأحد؟!
فالفرق بين الإسناد الأول والإسناد الثاني، كالفرق بين تجلي الشمس بخاصيتها في قطرة بل في ذرة بالتجلي. وبين دعوى وجود شمس بالأصالة في تلك القطرة؛ ومحاليةُ هذه الدعوى أظهر من أن تَخفى.. ومع كل ذلك لا كلفةَ ولا معالجةَ ولا تَعَمُّلَ في عمل تلك القدرة المجهولة الأزلية، بل تتساوى بالنسبة إليها الذراتُ والنجوم والجزء والكل والفرد والنوع والقليل والكثير والصغير والكبير وأنت والعالم والنواة والشجرة. والسرُّ في أنه لا كلفة بالنسبة إليها؛ أن تلك القدرة لازمةٌ ذاتية ضرورية ناشئة للذات الأزلي، فلذاتيتها محالٌ تداخلُ ضدّها في ما بينها. فإذ لا عجزَ فلا مراتب فيها، فإذ لا مراتب فيها تتساوى بالنسبة إليها أصغرُ الأشياء وأعظمُها.
فإن شئت تقريبَ هذه الحقيقة إلى الفهم بتمثيلات في دائرة الإمكان والكثرة، فاستمع مثلاً: (وللّٰه المثل الأعلى):
يتساوى في أخذ تجلي الشمس في تمثالها الذراتُ الزجاجية، والبحور الأرضية، والسيارات السماوية بسر «الشفافية».. وأن المصباح المركزي للمرايا المحيطة يتساوى بالنسبة إلى المصباح زجاجةٌ من زجاجات أصغر دائرة، ومجموع الزجاجات في أكبر الدائرة، بسر «المقابلة».. وأن النور والنوراني تتساوى بالنسبة إلى الاستضاءة والاستفاضة الواحدُ والألوفُ لا تَزاحُمَ فيه بسر «النورانية»، فلنوع نورانيةٍ في لطافة الكلمة يتساوى في الاستماع الواحدُ والألوف.. ومثلاً: إن الميزان الحساس بدرجةٍ يتحسس بذرة، لو كان في كفتيه شمسان أو جوزتان، ما تفاوت بين رفع كفةٍ إلى الثريا وكفة إلى الثرى، بوضع جوزة أخرى في كفة بسر «الموازنة».. ومثلاً: إن أعظم السفن لا يتعسر سوقُها وتحريكها على صبي كما لا يتعسرُ عليه تحريك سفينته التي هي ملعبته في كفه، أو تحريكُ ساعته بسر «الانتظام».. ومثلاً: إن (القماندان)([22]) لا فرق في أمره بـ(آرش) بين نفر وفيلق، يتساوى في التحريك والتحرك النفرُ، وكلُ العسكر بسر التزام «الامتثال».. ومثلاً: إن الماهية المجردة في الأنواع والكليات، يتساوى بالنسبة إليها فردٌ من أصغر الأفراد وأكبرُ الأفراد وكلُ الأفراد الغير المحدودة بسر «التجرد».. وهكذا من الأمثلة الدالة على أنه يمكن عدم التفاوت بين القليل والكثير والصغير والكبير بالنسبة إلى شيء.([23])
فبسر «شفافية» الملكوتية في كل شيء، وبسر «مقابلة» وجه كل شيء للقدرة، وبسر «نورانية» تلك القدرة، وبسر «الموازنة» الإمكانية، وبسرّ «الانتظام» بقوانين القضاء والقدر، وبسر «امتثال» كل ذرة من ذرات الكائنات بكمال الشوق واللذة للأوامر التكوينية المندمجة في أمر «كن»، وبسرّ «تجرد» الواجب الوجود عن الماديات. فبهذه الأسرار الستة تتساوى بالنسبة إلى قدرته إحياء البعوضة وإحياء الأرض، وخلق النحلة وخلق السماوات والأرض، وإيجاد الذرة وإيجاد الشمس. بل إن التساويَ وعدمَ التفاوت ثابتٌ بالحدس القطعي والمشاهدة؛ إذ تلك القدرة المجهولة بماهيتها، والمعلومة بمعجزاتها تفعل بمثل غصن دقيق -كخيط رقيق- أمثالَ العناقيد التمرية والعنبية وغيرهما، تلك الخوارق الحيوية التي لو احيلَت صنعتُها على الأسباب لاحتاجت إلى ما لا يحد من التكلفات، وتتجلى تلك القدرة بجلوات الوجود في سُمّ الخياط على الشفافات والعيون الناظرة إلى الخيال بالتماثيل البرزخية، لو احيلَت على الأسباب لامتنعت أو لاحتاجت إلى ما لا يحد من المعالجات.
الحاصل: أن ما يُرى من إيجاد القدرة للأشياء الحيوية والوجودية والنورية يدل على أمور ثلاثة:
الأول: أنَّ الوسائط والأسباب الظاهرية حُجُبٌ ضعيفة وضِعَت لمحافظة عزة القدرة في المباشرة الظاهرية في وجه المُلك الكثيف الخسيس فقط..
والثاني: أنَّ الحياةَ والوجود والنور -لشفافيةِ وجه مُلكها كملكوتيتها - ما وضعت الحُجُب الكثيفة على يد القدرة، بل ترقرقت الوسائط فيها..
والثالث: لا تكلّف ولا تَعمُّل ولا معالجة في تأثير تلك القدرة؛ إذ مَن يصنع بنواة تينةٍ شجرةَ تينة بعظمتها، وبخيطٍ دقيق عنقوداً من حبات العنب، وكل حَبة فيها ما فيها؛ لا يتعسّر عليه شيء.. ولا ريب في الحقيقة إن ظهور صاحب تلك القدرة الأزلية أشدُّ بمراتب من ظهور الكائنات. إذ كلُّ مصنوع دلالته على نفسه بوجوه قليلة مرئية، وعلى صانعه بوجوه كثيرة مشهودة وعقلية وغيرهما. وأي مصنوع كان لو أُحيل على الأسباب، واجتمعت عليه الأسبابُ الأرضيةُ والسماوية لم يَأتُوا بمِثلِهِ وَلَو كانَ بعضُهَمْ لبَعضٍ ظهيراً. إذ حبة نواة في حبة تينة ليست بأقلَّ جزالةً من شجرة تينة، وليس الإنسان أقلَّ جزالةً وأدنى صنعة من الأرض. فالقدرة التي أوجدت النواة والإنسان لا يتعسّر عليها إبرازَ الشجر والعالم.
فيا مَن ضلّ بالاستبعاد والاستغراب والحيرة والاستنكاف في جانب الحق! فقد سمعت بهذه التحقيقات أن الاستبعادَ بلا نهاية، والاستغرابَ بلا غاية، والحيرة بلا حد، وتحقق الكلفة بما لا يُحصى مع محالات عجيبة، فقد سمعتَها موجودة في جانب باطلك الذي ابتُليتَ به من نسبة الأشياء بالأصالة إلى أنفُسها وأسبابها. فاضطرابات الأرواح والعقول الناشئةُ من هذه الضلالة؛ تُلجئ القلوبَ إلى الفرار بالتسليم إلى الواجب الوجود الواحد الأحد الذي لا يحصُل إيضاحُ شيء من الأشياء إلاّ بإضافته إلى قدرته، ولا يحصل فتحُ شيء من المغلقات إلاّ باتصاله بإرادته، ولا يطمئنُ قلبٌ ولا يستقر يقينٌ في مسألة من المسائل إلاّ بربطها بذكره واسمِه جل جلاله..
اعلم أن ميدانَ اشتغال الإنسان، ومسايرَ جولان الهمة، أوسعُ من أن يُحاط به. فقد يجول في ذرة، ويسبَح في قطرة، وينحبس في نقطة، مع أنه قد يضع العالَم نصب عينيه، وقد يُدخل الكائنات في عقله حتى يتطاول إلى رؤية الواجب الوجود ومشاهدته. فقد يكون الإنسان أصغر من ذرة، وقد يصير أكبرَ من السماوات، فيدخُلُ في القطرة مع أنه يدخل فيه الفِطرةُ بأنواعها وأركانها..
اعلم أن كل ما أَنعم اللّٰه به على الإنسان، له شرائط ومفاتيح بعضها آفاقي وبعضها أنفسي. مثلاً: إن اللّٰه أنعم بالضياء والهواء والغذاء والصدى، وعلّق الاستفادةَ منها على فتح العين والأنف والفم والسمع وهكذا.. مع أن هذه الفتوح الأنفسية من كسبنا، فلا يتحصل إلاّ بخلقه وإيجاده تعالى. فلا تتخيّلن أيها الغافل هذه النعمَ سدىً مهملة تسئم([24]) فيها كيف تشاء بلا منّة ولا حساب. كلا!.. بل تُساق إليك بقصدِ مُنعمها فتُلتَقَم باختيارك ثم تنتشر على مظان حاجاتك بإرادة مُحسنها عمّ نوالُه..
اعلم أن أواخرَ الأشياء ونهاياتِها ليست بأقلَّ انتظاماً وإتقاناً من أوائلها؛ ولا ظواهرَها ولا صورَها بأحسن صنعةً وحكمةً من بواطنها. فلا تحسبنَّ أواخرَ الأشياء وبواطنَها سدىً مهملةً تلعب بها يدُ التصادف. ألا ترى الثمرة مع الزهرة، أظهرَ حكمةً من الجرثوم النابت من النواة. فالصانع جل جلاله هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم.
اعلم أن إعجازَ القرآن، حَفظَ القرآن عن التحريف، فلا يتيسر لكلام مفسِّر أو مؤلّفٍ أو مترجم أو محرّف وغيرهم، أن يلتبس بالآيات أو يلبسَ زيّها كما التبست واختلطت سائر الكتب المنـزلة حتى صارت محرفة..
اعلم أن تكرار آية: ﴿فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ﴾ في مقاطع الآيات التنـزيلية المشيرة إلى الآيات التكوينية المتنوعة المختلفة في سورة «الرحمن» يدل على أن أكثر عصيان الجن والإنس وأشدَّ طغيانهما وأعظم كفرانهما يتولد من عدم رؤية الإنعام في النعمة.. والغفلة عن المنعم.. وإسنادِ النعم إلى الأسباب والتصادفات.. حتى يصيرا مكذِّبَين بآلاء اللّٰه. فلابد للمؤمن من أن يبسمل بَدء كلّ نعمةٍ قاصداً بها أنها منه، أنا آخذها باسمه وبحسابه، لا بحساب الوسائط، فله الشكر والمنة.
اعلم أيها المتوسوس المتخطر بإلقاآت الشيطان، وإخطار مرض القلب والخيال، وبإمرار خسّة النفس ولؤمِها مزخرفاتٍ([25]) شتّى على عين عقلك عند توجهك إلى الحقائق الإلهية، حتى قد تمر على عينيك سحائبُ مظلمة ممطرةً رذائلَ وفواحشَ وشتوماً تقشعر منها عند نظرك إلى شمس الحقائق، كأنك تمدّ يد التنـزيه والتقديس، وترسل عينَك للتسبيح والتمجيد؛ والحال أن يدَك تتنجس بأرجاس خيالك، ويستقذر نظرُك ممّا يمر عليه من سفاسف خبثِ نفسك، ثم تنعكس تلك المستقذراتُ على المقدسات في نظرك، فتتألم فتتأمل في المستقذرات. لا تيأس ولا تتأثر ولا تلقِ نفسَك في الغفلة للفرار من هذه الحال، والنجاة من هذا اللوم الأليم؛ إذ لا ضررَ إلاّ ضررُ توهّمِ الضرر، فتتكرر فتتضرر. ألا ترى أنك إذا نظرت إلى الشمس وضيائها، والسماءِ ونجومِها، والجنةِ وأزاهيرها، في مسامات ثوبٍ مستقذَر بمزخرفات شتى، لا يمكن أن تسري تلك إليها وتتكدر هي بها، بل تنفعل أنت منها. فلا تهتم بها لتذهبَ؛ إذ هذه الوهميات والهوائيات كالهوام والزنابير؛ إن دافعتَهم قاتلوك، وإن تركتَهم فارقوك..
اعلم أيها المتفلسف المرجِّح للعقل على النقل، فتُؤوِّل النقلَ بل تُحرِّف؛ إذ لم يسعه عقلُك المتفسخ بالغرور والتغلغل في الفلسفيات! إنني كنتُ في حينٍ كما كنتَ، ثم شاهدتُ قصراً شاهقاً شارقاً اتصل سطحُه بسقف السماء، قد أرسلت متدليةً من شبابيكها العالية زنابيلُ([26]) متفاوتةٌ، حبالُها في المبدأ والمنتهى. فبعضُها قريبٌ من الأرض فيقذف الإنسانُ الموفَّق نفسَه في ذلك الزنبيل فيرتفع إلى أعلى المنازل، وبعضُها أخفض مبدأ وأرفعُ منتهى. وهكذا.. ثم رأيت بعضَ الناس الخاسرين المغرورين لا يبالون بتلك الزنابيل، فيتشبثون للصعود بجمع الأحجار والأشياء ويضعونها تحت أرجلهم، فيتصاعدون قليلاً ثم يتساقطون، وأنّى لهم الصعود!.. وشاهدتُ بعض المعتمدين على أنفسهم المتفرعنة، يدقون مسامير في جدار القصر فيضعون أرجلهم عليها متصاعدين فيخرّون فتندقّ أعناقُهم وهكذا.. ورأيت أن ما جُهزوا به من مكاسبهم وآلاتهم إنما أُعطوها ليستعملوها على قدر الاستعداد والتوفيق في الصعود إلى الزنبيل، لا إلى المنازل. فعقلُكَ عقالُكَ، وبالنقل نقلتُك. مَن توكّل على اللّٰه فهو حسبه..
اعلم يا من تحيّرَ في سبب غلبةِ الفجار على الأبرار، وتفوُّقِ الطالحين على الصالحين في الحياة الدنيوية. أني قد شاهدتُ في واقعةٍ قصوراً،([27]) في كل قصر سرادقات متداخلة متصاعدة، سكان طبقاتها متفاوتون في اللطافة والعلوية والنورانية، فمن في المركز العالي كالسلطان، وتحته منازل فيها سكان متفاوتون في القيمة والنورانية، وهكذا إلى الباب. ومن عند الباب خادم مظلم كثيف، وقدام الباب كلبٌ متملق. ثم رأيت بعض القصور تلألأت ساحةُ بابه، فتأملتُ فيها فرأيت ملك القصر يلعب مع الكلب قدّام الباب، والمخَدّرات([28]) يداعبن مكشوفاتٍ رؤوسُهن مع الصبيان وقد تعطلت الوظائف النـزيهة في الطبقات، وتشعشعت وظائف الكلب والصبيان وسَفَلة الخدام، فتفتق القصر عن مكنوناته متفسقاً، مُشرقاً مقتدراً قوياً ظاهر الباب، مظلماً معطلاً ذليلاً في الداخل. وفسوقُه كفتوق فلقتي الرمان مثلاً عن حباته. فعلمت أن تلك القصور هي الأناسي، حتى رأيتُ كل إنسان قصراً، حتى رأيت نفسي العاصية أيضاً قصراً.. وسقوطَ أهل القصور على مراتب مختلفة نزولاً أدنى فأدنى. فشاهدت أن ما يزعم أهلُ المدنية ترقياً ما هو إلاّ سقوطٌ، واقتداراً ما هو إلا ابتذال، وانتباهاً ما هو إلاّ انغماس في نوم الغفلة، و(نزاكة)([29]) ما هي إلاّ رياءٌ نفاقي، و(ذكاوة)([30]) ما هي إلاّ دسيسة شيطانية، وإنسانيةً ما هي إلاّ قلبُ الإنسانية حيوانيةً. لكن يلوح على هذا الشخص الساقط العاصي لوائحُ اللطافة والجاذبية لاختلاط لطائفه النورانية بنفسه الظلمانية؛ خلافاً للمتدين المطيع الذي عند الباب نفسُه المتكدرة فقط. إلاّ أنه قد يتنازل لطائفُ الصالح أيضاً، لا للهوسات السفلية، بل لإرشاد الناس الخارجين من الحدود وإمدادهم بإرجاعهم إلى ما هم خُلقوا لأجله، إن اللّٰه سبحانه، إذا أحبّ عبداً لا يحبب إليه محاسن الدنيا بل يُكرهها إليه بالمصائب.
أيواه! واأسفا!. قد أظهرت هذه المدنيةُ السفيهة خوارقَ جلابة وملاهيَ جذابة، يتساقط إليها سكان قصور الإنسان ومخدراتُها، كتساقط الفَراش على النور المشرق المنقلب إلى النار المحرقة..
اعلم أيها السعيد الشقي! ما هذا الغرور والغفلة والاستغناء؟ ألا ترى أن ليس لك من الاختيار إلاّ شعرة، وليس من الاقتدار إلاّ ذرة، وليس من هذه الحياة إلاّ شعلة تنطفئ، وليس من العمر إلاّ قليل مثل دقيقة تنقضي، وليس من الشعور إلاّ لمعة تزول، وليس من الزمان إلا آنٌ يسيل، وليس من المكان إلا مقدار القبر!.. ولك من العجز ما لا يُحدّ، ومن الاحتياج ما لا يتناهى، ومن الفقر ما لا يُحصى، ومن الآمال ما لا غاية لها، وهكذا.. فمَن كان بهذه الحالة من العجز، وفي هذه الدرجة من الحاجة، هل يتوكل على ما في يده ويعتمد على نفسه.. أو يتوكلُ على اللّٰه الرحمن الرحيم الذي من ظروف خزائن رحمته وصناديق نعمته: هذه الشموس وهؤلاء الأشجار المملوءة من الأنوار والأثمار، ومن موازيب حوض فيضه ومسيلاتِ رحمته: الماء والضياء.
اعلم يا من يستعظم النتيجةَ ويستضعف دليلَها! إنه ما من دليل يشهد على حقيقةٍ من الحقائق الإيمانية، إلاّ ويزكّيه ويؤيّده ويقوّيه ويمدّه كلُّ ما قام على صدق شيء ما من الإسلامية. فكأن كلَّ ما لا يعد من الشواهد والشهداء والبراهين والأمارات، كل منها يضعُ إمضاءه على سند كلٍ من أخواتها، فيختم كلٌّ منها خاتمَ تصديقه على منشور كلِّ واحدٍ بسرّ ما مرّ -في بداية هذه الرسالة- خلافاً للنافي؛ إذ للمنافاةِ بين النافي والمثبِتِ يُنفى منَ النَّافي ما يُثبَتُ للمُثبِتِ. فألفُ نافٍ كفردٍ..
اعلم أنه قد تصير شدةُ محبة الشيء سبباً لإنكاره، وكذا شدةُ الخوف، وكذا غايةُ العظمة، وكذا عدم إحاطةُ العقل..
اعلم أني قد تيقنتُ -كأني شاهدتُ بحدس قطعي- أن جهنم مندمجةٌ بالقوة([31]) في بذر الكفر كاندماج شجرة الحنظلة في نواتها.. وأن الجنة مندمجة في حبة الإيمان كاندراج شجرة النخلة في نواتها. فكما لا غرابة في استحالة النواة وانقلابها إلى شجرة الحنظلة أو شجرة النخلة، كذلك لا استبعاد في تحول معنى الضلالة متجسماً جهنماً ([32]) تعذِّب، ولا في تمثل أنوار الهداية جنةً تُستَعذب. وفي «اللوامع»([33]) نبذة من هذه الشهود في هذا العالم أيضاً..
اعلم كما أن الحبة من بذور الحبوبات ونوى الثمرات إذا ثُقبت في قلبها، لا تتكبر بالتنبّت. كذلك حبة «أنا» إذا ثُقبت بشعاع ذكر: اللّٰه.. اللّٰه.. لا تتعاظم تلك الأنانية متفرعةً بالانتعاش ومتفرعنةً بالغفلة، ومستحصنةً ومستندةً بآثار النوع، ومبارزةً بالعصيان لجبّار السماوات والأرض. والأولياء النقشبنديون موفَّقون لفتح حبة القلب وكشف طريقٍ قصير بثقب جبل «أنا» وكسر رأس النفس بمثقاب الذكر الخفي. كما أن بالذكر الجهري تُخرّب طاغوت الطبيعة أو تمزَّق..
اعلم أن أبعدَ وأوسعَ وأرقَّ دوائر الكثرة وطبقاتها يتلألأ عليها أيضاً أثرُ الحكمة والإتقان والاهتمام. فإن شئتَ فانظر إلى نهاية ما انبسط وانتشر إليه التكثّر من جلد الإنسان وصورته، لترى كيف يحشّي قلمُ القدرة صحيفةَ جبهته ووجهه وكفيه بخطوط ونقوش وآلات دالات على معاني في روح الإنسان، وعلى طائره المعلق في عنقه المشير إلى القَدر المكتوب في فطرته، حتى لم يترك هذه التحشيةُ منفذاً لدخول التصادف الأعمى والاتفاقية العوراء..
اعلم يا من ابتُلي بحب هذه الحياة حتى حسبتَ أن العلة الغائية في الحياة وبقائها، وأن كل ما أودعتْه القدرةُ الأزلية في جوهر الإنسانية وذوي الحياة من الجهازات العجيبة والتجهيزات الخارقة، إنما أعطاها الفاطر الحكيم لحفظ هذه الحياة السريعةِ الزوال، ولأجل البقاء. كلا ثم كلا!. إذ لو كان بقاء الحياة هو المقصود من كتاب الحياة، لصار أظهرُ وأبهرُ وأنورُ دلائلِ الحكمة والعناية والانتظام وعدم العبثية بإجماع شهادات نظامات الكائنات؛ أعجَبَ وأغربَ وأنسَبَ مثال العبثية والإسراف، وعدم الانتظام وعدم الحكمة. كمثل شجرٍ -كجبل- ليس لها إلاّ ثمرة فردة كخردلة. بل يرجع إلى الحي من ثمرات الحياة وغاياتها بمقدار درجة مالكية الحي للحياة وتصرفه الحقيقي فيها. ثم سائر الثمرات والغايات راجعةٌ إلى المحيي جلّ جلاله بالمظهرية لتجليات أسمائه، وبإظهار ألوان وأنواع جلوات رحمته في جنته في الحياة الأخروية التي هي ثمرات بذور هذه الحياة الدنيوية وهكذا..
إذ كما أن الشخص الموظف بأن يجسّ ويضع إصبعه عند اللزوم على الجهازات التي تتحرك بها السفينة العظيمة للسلطان، لا يرجع إليه من فوائد السفينة إلا بمقدار علاقته وخدمته، أي من الألوف واحد.. كذلك درجة تصرّف كل حي في سفينة وجوده. بل هناك يمكن أن يستحق من الألوف واحداً، لكن لا يستحق بالذات هنا من ملايين ملايين واحداً أيضاً..
اعلم يا قلبي أن لذائذ الدنيا وزينتَها بدون معرفة خالقنا ومالكنا ومولانا -ولو كانت جنة- فهي جهنم. هكذا ذقتُ وشاهدتُ. حتى في نعمة الشفقة كما في «قطرة» ومعرفته تُغني عن كل ما في الدنيا حتى عن الجنة أيضاً..
اعلم يا قلبي: إن كل ما يجري في هذه الدنيا له وجهان: وجه إلى الدنيا والنفس والهوى، ووجه إلى الآخرة. فأما الوجه الدنيوي فأعظمُ الأمور وأثقلُها وأثبتها هو في نفس الأمر بدرجة من الصغر والخفة والزوال، بحيث لا يساوي ولا يوازي ولا يليق لأن يُشوَّش له القلب (بالمرق) والتضجر، والتألم وشدة التأمل..
اعلم يا قلبي هل ترى أحمقَ وأبلهَ وأجهل ممن يرى تمثالَ الشمس مثلاً في ذرةٍ شفافة، أو تجليها في صبغة زهرة؛ ثم يطلب في الشُميسة المرئية في الذرة ومن لون الزهرة وصبغتها، كلَّ لوازمات السراج الوهاج في سقف العالم، حتى جذبَها للسيارات ومركزيتها للعالم. ثم إذا زال بعارض ما رآه في هذه الذرة والزهرة، شرع -بسبب قصر النظر وانحصاره- ينكر وجودَ الشمس في وسط النهار، مع وجود شهادات سائر الذرات وكل (الشبنمات) ([34]) والرشاشات والقطرات والحبابات والحياض والبحور والسيارات في ضحوة النهار الصحو.
ثم إن ذلك الأجهل يلتبس عليه «الوجود الظلي» بالتجلي بمقدار لياقة قابلية الشيء المرسمة بالقَدَر بـ«الوجود بالأصالة». فإذا رأى الشمس في ذرة شفافة يقول: أين عظمة الشمس، وأين حرارتها الخارقة، وكيف وكيف؟. إلى آخر بَلاهاته!..
وقد يريد أن يقتبسَ من نارها أو يحسَّها بيده أو يؤثر في ذاتها تأثيراً بوجه ما، ولا يتفطنُ أن قربها منه بالتأثير فيه، لا يستلزم قربه منها حتى تتأثر الشمسُ من فعله. ثم إنه يرى في صغار الأشياء وخسائسها إتقاناً عجيباً واهتماماً غريباً وصنعة فائقة وحكمة رائقة، فيزعم -بالقياس الباطل- أن صانع هاتيك تكلَّفَ في صنعها وتعمَّل كثيراً؛ فيقول: ما قيمة الذباب مثلاً، حتى يُصرَف له هذا المصرف المهم من صانع حكيم؟ حتى يصير ذلك المسكين سوفسطائياً.
فيا هذا ﴿وللّٰه المَثَلُ الأعلى﴾( النحل: 60) ﴿اللّٰه خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ﴾( الزمر: 62) لابد أن تعلم أُموراً أربعة ينحل بها الإشكال.
الأول: أن كل شيء من الذرات إلى الشموس يصفه تعالى بما لَهُ([35]) في كمال ربوبيته، لكن لا يتصف بما له لأجل مظهريته لتجليه..
الثاني: أنه ينفتح من كل شيء إلى نوره تعالى بابٌ، لكن بانسداد باب واحد في نظرٍ قاصر لا ينسد ما لا يُحد من الأبواب، وإن أمكن فتحُ الكل بفتح واحدٍ.
والثالث: أن القدرَ المنعكس من العلم المحيط قد قيَّد ورَسَم لكل شيء حصة لائقة من فيض تجلي الأسماء المطلقة النورانية.
والرابع: ﴿إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾( يس: 82). و﴿مَّا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ﴾( لقمان: 28). وأما إذا أُسنِد بالغفلة الأشياءُ إلى أنفسها وإلى الأسباب الإمكانية، للزم على كل العقلاء أن يقبلوا المحالات الناشئة من حكم ذلك الأجهل الأبله.
اعلم أن القرآن المعجز البيان يعبّر كثيراً عن تبيين الحقائق بضرب المثل، بسر أن الحقائق المجردة الإلهية متمثلةٌ في دائرة الممكنات بقيود الأمثال، فالممكن المسكين ينظر إلى الأمثال في دائرة الإمكان، ويلاحظ من خلفها شؤون دائرة الوجوب (وللّٰه المَثَل الأعلى).
اعلم أن العرش كالقلب، فقلبك فيك مُلكاً ([36]) وأنت في قلبك ملكوتاً. ففي دائرة الاسم «الظاهر» العرش العظيم محيط بالكل، وفي دائرة الاسم «الباطن» كالقلب للكون. وفي الاسم «الأول» يشار إليه بـ﴿وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاء﴾( هود: 7) وفي الآخر يرمز إليه بـ:(وسقف الجنة عرش الرحمن)([37]) إذ لعرش مَن﴿هو الأولُ والآخرُ والظاهرُ والباطِنُ﴾( الحديد: 3) حصةُ الأولية والآخرية والظاهرية والباطنية..
اعلم أن العجز معدن النداء، وأن الاحتياج منبع الدعاء.
فيا ربي ويا خالقي ويا مالكي! حُجتي عند ندائي حاجتي. وعُدتي عند دعائي فاقَتي. ووسيلتي انقطاعُ حيلتي. وكنـزي عجزي. ورأسُ مالي آمالي وآلامي. وشفيعي حبيبُك ورحمتك. فاعف عني واغفر لي وارحمني يا اللّٰه، يا رحمـن، يا رحيم.
هذه المناجاة تخطرت إلى القلب هكذا باللسان الفارسي
يَا رَبْ! بَه شَشْ جِهَتْ نَظَرْ مِى كَرْدَمْ، دَرْدِ خُودْرَا دَرْمَانْ نَمِى دِيدَمْ
دَرْ رَاسْت مِى دِيدَمْ كِه: دِى رُوزْ مَزَارِ پَدَرِ مَنْست
وَدَرْ چَپْ دِيدَمْ كِه: فَرْدَا قَبْرِ مَنْست
وَإ ِيمْرُوزْ: تَابُوتِ جِسْمِ پُرْ اِضْطِرَابِ مَنْست
بَرْ سَرِ عُمُرْ جَنَازَءِ مَنْ اِيسْتَادَه اَسْت
دَرْ قَدَمْ: آبِ خَاكِ خِلْقَتِ مَنْ وَخَاكِسْتَرِ عِظَامِ مَنْ اَستْ
چُونْ دَرْ پَسْ مِينِكَرَمْ، بِينَمْ: اِيْن دُنْيَاءِ بِى بُنْيَادْ هِيچْ دَرْ هِيچَسْت
وَدَرْ پِيشْ: اَنْدَازَءِ نَظَرْ مِيكُنَمْ، دَرِ قَبِرْ كُشَادَه اَسْت
وَرَاهِ اَبَدْ بَدُورِدِرَازْ بَدِيدَارسْت
مَرَا جُزْ جُزْءِ اِخْتِيَارِى چِيزِى نِيسْت دَرْ دَسْت
كِه اوُجُزْءْ هَمْ عَاجِزْ، هَمْ كُوتَاهُ، وَهَمْ كَمْ عَيَارَاسْت
نَه دَرْ مَاضِى مَجَالِ حُلُولْ، نَه دَرْ مُسْتَقْبَلْ مَدَارِ نُفُوذَاسْت
مَيْدَانِ أُو إِينْ زَمَانِ حَالْ، وَيَكْ آنِ سَيَّالَسْت
بَا إِينَ هَمَه فَقْرَهَا وَضَعْفَهَا، قَلَمِ قُدْرَتِ تُو آشِكَارَه
نُوِشْتَه اَسْت، "دَرْ فِطْرَتِ مَا": مَيْلِ اَبَدْ وَاَمَلِ سَرْمَدْ
بَلْكِه هَرْچِه هَسْت، هَسْت
دَاۤئِرَءِ اِحْتِيَاجْ مَانَنْدِ دَآئِرَءِ مَدِّ نَظَرْ بُزُرْكِى دَارَسْت
خَيَالْ كُدَامْ رَسَدْ اِحْتِيَاجْ نِيزْرَسَدْ
دَرْ دَسْت هَرْچِه نِيسْت دَرْ اِحْتِيَاجْ هَسْت
دَآئِرَءِ اِقْتِدَارِ هَمْچُو دَآئِرَءِ دَسْتِ كُوتَاهِ كُوتَاهَسْت
پَسْ فَقْرُو حَاجَاتِ مَا بَقَدَرِ جِهَانَسْت
سَرْمَايَهءِ مَا هَمْچُو: «جُزْء لاَ يَتَجَزّٰا» اَسْت
اِينْ جُزْءِ كُدَامْ وَاِينْ كَاۤئِنَاتِ حَاجَاتِ كُدَامَسْت؟
پَسْ دَرْرَاهِ تُو، أَزْاِينْ جُزْءْ نِيزْ بَازْمِى كُذَشْتَنْ چَارَءِ مَنْ اَسْت
تَا عِنَايَتِ تُو دَسْتَكِيرِ مَنْ شَوَدْ، رَحْمَتِ بِى نِهَايَتِ تُوپَنَاهِ مَنْ اَسْت
آنْ كَسْ كِه بَحْرِ بِى نِهَايَتِ رَحْمَتْ يَافْتَ اسْتْ، تَكْيَه
نَه كُنَدْ بَرْاِينْ جُزْءِ اِخْتِيَارِى كِه يَكْ قَطْرَه سَرَابَسْت
أَيْوَاهْ! اِينْ زَنْدِكَانِى هَمْ چُو خَابَسْت
وِينْ عُمْرِ بِى بُنْيَادْ هَمْ چوُ بَادَسْت
اِنْسَانْ بَزَوَالْ دُنْيَا بَفَنَا اَسْت، آمَالْ بِى بَقَا آلاَمْ بَبَقَا اَسْت
بِيَا اَىْ نَفْسِ نَا فَرْجَامْ! وُجُودِ فَانِى خُودْرَا فَدَا كُنْ
خَالِقِ خُودْرَا كِه اِينْ هَسْتِى وَدِيعَه هَسْت
وَمُلْكِ اُو وَاُودَادَه فَنَا كُنْ تَا بَقَا يَابَدْ، اَزْاَنْ
سِرِّى كِه: «نَفْىِ النَفْى» اِثْبَاتَ سْت
خُدَاىِ پُرْ كَرَمْ خُودْ مُلْكِ خُودْرَا مِى خَرَدْ اَزْتُو
بَهَاىِ بِى گِرَانْ دَادَه بَرَاىِ تُو نِگَاهْ دَارَاسْت
ترجمة المناجاة ([38]) التي تخطرت إلى القلب باللسان الفارسي
[[ يا رب! لقد بحثتُ في الجهات كلها (الجهات الست) فلم أجد دواءً لدائي.
فنظرت نحو اليمين، وإذا بقبر أبي بالأمس.
ورنا بصري نحو اليسار، فإذا قبري في الغد.
وهذا اليوم هو تابوت يحمل جسمي المضطرب.
فجنازتي ماثلة أمامي فوق رأس عمري.
وتحت الأقدام ماء خلقتي ورميم عظامي ممزوجين.
وكلما نظرت إلى الخلف رأيت هذه الدنيا سراباً في سراب.
وإذا ما امتد نظري إلى الأمام، فالقبر فاغرٌ فاه. وطريق الأبد يتراءى من بعيد.
وإنني لا أملك سوى «الجزء الاختياري» وهو عاجز، قاصر، عديم الجدوى.
إذ لا مجال له للحلول في الماضي، ولا النفوذ إلى المستقبل.
وإنما ميدان تجواله هو: زمان الحال، وآنٌ واحدٌ سيال.
وعلى الرغم من هذا الفقر والضعف فقد كتب قلمُ قدرتك في الفطرة مَيلاً إلى الأبد وأملاً في الخلود.
فدائرة الاحتياج واسعةٌ سعةَ امتداد النظر، فأينما يصلُ الخيالُ تصل الحاجةُ أيضاً.
بينما دائرة اقتداري قاصرةٌ كاليد.
ففقري وحاجتي بسعةِ الدنيا إذن.
ورأس مالي مثل «الجزء الذي لا يتجزأ» فأين هذا الجزء من تلك الحاجات التي تسع الكائنات؟
ولكني انطلق في سبيلك من هذا الجزء كي أحظى بعنايتك.
إن رحمتك المطلقة ملاذي.
فالذي يجد فيضاً من الرحمات، لا يعتمد على هذا الجزء الاختياري، الذي هو قطرة من سراب.
يا رب! هذه الدنيا ما هي إلاّ كالمنام، وهذا العمر يذهب أدراج الرياح.
والإنسان فانٍ بفناء الدنيا، والآمال الفانية آلامٌ في البقاء.
تعالي أيتها النفس التي لا حدود لها ضَحّي بوجودِكِ الفاني.
فخالقك الذي بيده الوجود.. موجود.
له الملك وهو المعطي، فافنِ نفسكِ كي تجد النفسُ البقاء.
وذلك بسر: نفيُ النفي إثبات.
يا إلهي يا ذا الجود والكرم هب لي مُلكاً من عندك.
واعطني قيمةً لا حدود لها، فإنك أنت الحفيظ. ]]
* * *
خطاب إلى مجلس الأمة ([39])
بسم اللّٰه الرحمن الرحيم
﴿إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَّوْقُوتًا﴾(النساء :103)
يا أيها المبعوثون! إنكم لمبعوثون ليوم عظيم.
أيها المجاهدون! ويا أهل الحل والعقد!
أرجو أن تعيروا سمعاً إلى مسألة يُسديها إليكم هذا الفقير إلى اللّٰه في بضع نصائح وفي عشر كلمات:
أولاً: إن النعمة الإلهية العظمى في انتصاركم هذا تستوجب الشكر، لتستمر وتزيد، إذ إن لم تُستقبل النعمة بالشكر فستزول وتنقطع. فمادمتم قد أنقذتم القرآن الكريم من إغارة العدو -بفضل اللّٰه تعالى- فعليكم إذن الامتثالَ لأمره الصريح وهو الصلاة المكتوبة، كي يظل عليكم فيضُه وتدوم أنواره بمثل هذه الصورة الخارقة.
ثانياً: لقد أبهجتم العالمَ الإسلامي بهذا الانتصار، وكسبتم ودّهم وإقبالهم عليكم، ولكن هذا الودّ والتوجّه نحوكم إنما يدومان بالتزام الشعائر الإسلامية؛ إذ يحبكم المسلمون ويَوَدّونكم لأجل الإسلام.
ثالثاً: لقد توليتم قيادةَ مجاهدين وشهداء في هذا العالم وهم بمثابة أولياء صالحين، فمن شأن أمثالكم من الغيارى السعيُ والجدّ لامتثال أوامر القرآن الكريم لنيل صحبة أولئك النورانيين، والتشرف برفاقتهم في ذلك العالم. وإلاّ فستضطرون إلى التماس العون والمدد من أبسط جندي هناك، في حين أنتم قادة هنا. فهذه الدنيا بما فيها من شهرة وشرف لا تستحق أن تكون متاعاً ترضي كراماً أمثالَكم، ولا تكون لكم غاية المنى ومبلغَ العلم.
رابعاً: إن هذه الأمة الإسلامية مع أن قسماً منهم لا يؤدون الصلاة. إلاّ أنهم يتطلعون أن يكون رؤساؤهم صالحين أتقياء حتى لو كانوا هم فسقة. بل إن أول ما يبادر أهل كردستان (الولايات الشرقي) مسؤوليهم هو سؤالهم عن صلاتهم. فإن كانوا مقيمين لها، فبها ونِعمَت ويثقون بهم، وإلاّ فسيظل الموظف المسؤول موضع شك وارتياب رغم كونه مقتدراً في أداء واجباته. ولقد حدثت في حينه اضطرابات في عشائر «بيت الشباب» فذهبتُ لأستقصي أسبابها، فقالوا: إن كان مسؤولنا «القائمقام» لا يقيم الصلاة ويشرب الخمر، فكيف نطيع أوامر أمثال هؤلاء المارقين من الدين؟ هذا علماً أن الذين قالوا هذا الكلام هم أنفسهم كانوا لا يؤدون الصلاة، بل كانوا قطّاعَ طرق!.
خامساً: إنَّ ظهور أكثر الأنبياء في الشرق وأغلب الفلاسفة في الغرب رمزٌ للقَدر الإلهي بأن الذي يستنهض الشرقَ ويقوّمه إنما هو الدين والقلب، وليس العقل والفلسفة.. فمادمتم قد أيقظتم الشرقَ ونبهتموه، فامنحوهم نهجاً ينسجم مع فطرته. وإلاّ فستذهب مساعيكم هباءاً منثوراً، أو تظل سطحية موقتة.
سادساً: إن خصومَكم وأعداءَ الإسلام الأفرنج قد استغلوا ولا يزالون يستغلون إهمالكم أمور الدين، حتى أستطيعُ أن أقول: إن الذين يستغلون تهاونَكم هذا يضرون بالإسلام بمثل ما يضرّ به أعداؤكم فينبغي لكم باسم مصلحة الإسلام وسلامة الأمة تحويلُ هذا الإهمال إلى أعمال. ولقد تبيّن لكم كيف لاقى زعماء «الاتحاد والترقي» نفوراً وازدراءً من الأمة في الداخل رغم ما بذلوه من تضحية وفداء وعزم وأقدام، حتى كانوا سبباً -إلى حدٍ ما- في هذه اليقظة الإسلامية، وذلك لعدم اكتراث قسم منهم بالدين وبشعائره، بينما المسلمون في الخارج قد منحوهم التقديرَ والاحترام لعدم رؤيتهم تهاونَهم وإهمالَهم في الدين.
سابعاً: على الرغم من تمكن عالم الكفر في الإغارة على العالم الإسلامي منذ مدة مديدة فإنه لم يتغلب عليه دينياً مع جميع إمكاناته وقدراته ووسائله الحضارية وفلسفته وعلمه ومبشّريه. فبقيت الفرقُ الضالة جميعها -في الداخل- أقليةً محكومة. لذا ففي الوقت الذي حافظ الإسلامُ على صلابته ومتانته بأهل السنة والجماعة لن يتمكن تيار بدعي مترشح من الجانب الخبيث للحضارة الأوروبية، أن يجدَ سبيلاً إلى صدر العالم الإسلامي. أي إن القيام بحركة انقلابية جوهرية لا يمكن أن تحدث إلاّ بالانقياد لدساتير الإسلام، وإلاّ فلا. علماً أنه لم يحدث مثل هذه الحركة في السابق، ولو كانت قد حدثت فلقد تلاشت سريعاً وأفَلَت.
ثامناً: ليس بالإمكان القيام بعمل إيجابي بنّاء مع التهاون في الدين، حيث اقتربت الحضارة القرآنية من الظهور وأوشكت الحضارة الأوربية الضالة المسؤولة عن ضعف الدين على التمزق والانهيار. أما القيام بعمل سلبي فليس الإسلام بحاجة إليه، كفاه ما تعرض له من جروح ومصائب.
تاسعاً: إن الذين يولونكم الحبَّ قلباً ولساناً، ويثمّنون خدماتكم وانتصاراتكم في «حرب الاستقلال» هذه هم جمهور المؤمنين، وبخاصة طبقة العوام، وهم المسلمون الصادقون. فهم يحبونكم بجد، ويعتزون بكم بصدق، ويساندونكم بإخلاص، ويقدّرون تضحياتكم، ويمدّونكم بأضخم ما تنبه لديهم من قوة. وأنتم بدوركم ينبغي لكم الاتصالُ بهم والاستناد إليهم اتباعاً لأوامر القرآن الكريم ولأجل مصلحة الإسلام، وإلاّ فإن تفضيلَ المتجردين من الإسلام والمبتوتي الصلة بالأمة من مقلدي أوربا المعجَبين بها، وترجيحهم على عامة المسلمين منافٍ كلياً لمصلحة الإسلام؛ وسيولّي العالم الإسلامي وجهه إلى جهة أخرى طلباً للمساعدة والعون.
عاشراً: إنْ كان في طريقٍ تسعةُ احتمالات للهلاك، واحتمالٌ واحد فقط للنجاة، فلا يسلكها إلاّ مجنون طائش لا يبالي بحياته.. ففي أداء الفرائض الدينية نجاة بتسع وتسعين بالمائة، علماً أنه لا يستغرق -هذا الأداء - إلاّ ساعة واحدة في اليوم، مقابلَ ما قد يمكن أن يكون احتمال ضرر واحد فقط يصيب الدنيا ومن حيث الغفلة والكسل. بينما إهمال الفرائض وتركها فيه احتمال تسع وتسعين بالمائة من الضرر مقابل واحد بالمائة من احتمال النجاة من حيث الغفلة والضلالة.. فيا ترى أي مسوّغٍ وأيّ مبرر يمكن ابتداعه في ترك الفرائض الذي يصيب ضررُه الدينَ والدنيا معاً ؟ وكيف تسمح حميةُ الفرد ونخوته بذلك التهاون؟
إن تصرفات هذه القافلة المجاهدة من أعضاء هذا المجلس العالي بالغةُ الأهمية، إذ إنها سوف تُقلَّد.. فالأمة إما أنها تقلِّد أخطاءهم أو تنتقدُها، وكلاهما مليء بالأضرار والأخطار. فتمسكهم بحقوق اللّٰه وتوجّهَهم لأداء الفرائض يتضمن حقوق العباد أيضاً.
إن عملاً جاداً لا يُنجز مع أولئك الذين يَرضون بأوهام براقة نابعة من سفسطة النفس ووسوسة الشيطان ويُصمّون آذانهم عن البلاغ المبين والبراهين الساطعة بالتواتر والإجماع.. ألا إن الحجر الأساس لهذا الانقلاب العظيم يجب أن يكون متيناً صلداً.
إن الشخصيةَ المعنوية لهذا المجلس العالي قد تعهّدت معنى «السلطنة» بما تتمتع به من قوة، فإن لم يتعهد -هذا البرلمان- معنى «الخلافة» وكالةً أيضاً ولم يقم بامتثال الشعائر الإسلامية ولم يأمر الآخَرين بالقيام بها، أي إذا أخفق في تقديم «معنى الخلافة» ولم يستوفِ حاجةَ الأمة الدينية -هذه الأمة التي لم تفسد فطرتها والمحتاجة إلى الدين أكثر من حاجتها لوسائل العيش- والتي لم تَنس حاجتَها الروحية تحت كل ضغوط المدنية الحاضرة ولهوها، فإنها تضطر إلى منح معنى الخلافة إلى ما ارتضيتموه -تماماً - من اسم ولفظ. فتمنح له القوة والإسناد أيضاً لإدامة ذلك المعنى. والحال إن مثل هذه القوة التي ليست بيد المجلس ولا تأتي عن طريقه تسبب الانشقاق، وشقّ عصا الطاعة يناقض أمر القرآن الكريم الذي يقول: ﴿وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّٰه جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ﴾( آل عمران: 103)
إنَّ هذا العصر عصر الجماعة، إذ الشخصية المعنوية -التي هي روح الجماعة- أثبتُ وأمتن من شخصية الفرد. وهي أكثر استطاعةً على تنفيذ الأحكام الشرعية. فشخصية الخليفة تتمكن من القيام بوظائفها استناداً إلى هذه الروح المعنوية. إن الشخصية المعنوية تعكس روحَ العامة فإن كانت مستقيمة فإن إشراقَها وتألّقها يكون أسطع وألمع من شخصية الفرد، أما إن كانت فاسدة فإن فسادها يستشري وفق ذلك. فالشر والخير محددان في الفرد، بينما لا يحدهما حدود في الجماعة. فإياكم أن تمحقوا المحاسنَ التي نلتموها تجاه الخارج بإبدالها شروراً في الداخل.
أنتم أعلم بأن أعداءكم الدائميين وخصومكم يحاولون تدميرَ شعائر الإسلام، مما يستوجب عليكم إحياءَ هذه الشعائر والمحافظة عليها. وإلاّ فستُعينون -بغير شعورٍ منكم- العدو المتحفز للانقضاض عليكم.
إنَّ التهاون في تطبيق الشعائر الدينية يفضي إلى ضعف الأمة، والضعف يُغرى العدو فيكم ويشجعه عليكم ولا يوقِفه عند حدّه.
حسبنا اللّٰه ونعم الوكيل.. نعم المولى ونعم النصير.
* * *
([1]) عمان: المقصود: البحر العظيم
([2]) [[ إن اللّٰه ذا الكرم الواسع يشتري ملكه منك، ويحافظ عليه لأجلك، وقد أعطى قيمة غالية..]]
طبعت هذه الرسالة لأول مرة بمطبعة «علي شكري» بأنقرة سنة 1341هـ (1923م)
([3]) أي: الأركان الخمسة للإسلام والستة للإيمان. أ فتبقى شبهة في البذرة بعد مشاهدة ثمراتها اليانعة ؟ حاش وكلا (ت: 78).
([4]) هذه المسألة موضحة في الأساس السادس من الإشارة الرابعة للمكتوب التاسع عشر.
([5]) طير في غاية الجمال كالطاووس (ت: 78)
([6]) أي أن شهرته وكمالاته أطبقت الآفاق (ت: 78)
([7]) حيث لا يرى ما يسمعه في القشرة ( ت: 78)
([8]) لعله القُمْرِيُّ: وهو طائر يُشْبه الحَمامَ القُمْرَ البيضَ.
([9]) أي لا يتم دوراناً حجم خردلة!.
([10]) أي: لو أظهر الفعل مع عجزه..
([11]) أي: بتكرار الصلوات عليه.
([12]) أي: إشاعة شبهات باطلة حول الدين (ت: 80).
([13]) فتحسب الأمة جميعاً ضالين مثلك (ت: 80).
([14]) أي الإفرنج الذي أطلق على الفرنسيين أولاً ثم شمل الأوربيين.وفي (ط1) أمريقا.
([15]) أي الإحساس بالغربة في هذا الكون.
([16]) وهو مرادف لكلمة الأستاذ. والمقصود هنا وليّ مشهور من الصالحين في جنوب شرقي تركيا.
([17]) اللوامع - مجلس في عالم المثال - من مجلد «الكلمات».
([18]) السانحات، في مجلد «صيقل الإسلام».
([19]) اللتيا والتي: هي الداهية الكبيرة والصغيرة .(مجمع الأمثال للميداني).
([20]) أما الأمر السادس فمذكور ضمناً هنا، وهو موضح في «الكلمة السابعة والعشرين» (رسالة الاجتهاد).
([21]) قد ذكرت تلك الألسنة إجمالاً في «قطرة» وما هنا إيضاح لسانٍ واحدٍ فقط. المؤلف.
([22]) القماندان:القائد العسكري.
([23]) في «الكلمة العاشرة» و«الكلمة التاسعة والعشرين» وفي السانحات ( مجلد صيقل الإسلام) توضيح وافٍ لهذه الأسرار الستة.
([24]) الكلمة مأخوذة من سامت الماشية ، أي: خرجت إلى المرعى ، وليست من سئم ، بمعنى ملّ وضجر.
([25]) مزخرفات: المقصود بها المستقذرات.
([26]) إن إيضاح هذه المسألة قد ذكر في بيان الطرق الثلاثة في آخر «الفاتحة» في رسالة «أنا» [الكلمة الثلاثون] وفي [اللوامع] في سياحة خيالية ختام «الكلمات». والزنابيل المتدلية إشارة إلى الحقائق القرآنية التي هي الصراط المستقيم.. (المؤلف).
([27]) الكلمة الثالثة والعشرون توضح هذه الحالة بالتفصيل.
([28]) أي النساء.
([29]) نزاكة: اللطف والرأفة .
([30]) ذكاوة: الذكاء والفطنة.
([31]) المقصود بالقوة: بالاستعداد والقابلية الكامنة في الشيء. أما بالفعل فيعني: بالمشاهدة والماثل أمام العين.
([32]) لا تنصرف جهنم إلاّ إن نكّرت فتنصرف.
([33]) يراجع بالتفصيل: كل الآلام في الضلالة وكل اللذائذ في الإيمان- اللوامع من مجلد «الكلمات».
([34]) الندى.
([35]) يصف اللّٰه تعالى بما له من صفات جليلة.
([36]) أي كما أن قلبك فيك في حالة مُلك ، وأنت في قلبك في حالة ملكوت، أي كما ان الإنسان من حيث الملك ظرف لقلبه ومن حيث الملكوت مظروف.. (ت: 96).
([37]) الديلمي، المسند 2/ 338؛ القرطبي، الجامع لأحكام القرآن 17/41؛ ابن حجر، فتح الباري 3/35.
([38]) تفضل مشكوراً الأخ الكريم فاروق رسول يحيى بترجمة نص هذه المناجاة. أما ترجمتها الوافية ففي الكلمة السابعة عشرة وفي الرجاء السابع من اللمعة السادسة والعشرين «رسالة الشيوخ».
([39]) أُلقي هذا الخطاب في مجلس الأمة التركي في 19/ 1 /1923 (1339) وهو محفوظ في سجلات المجلس، وكانت الدولة عندئذٍ على مفترق الطرق.. وكان من تأثير هذا الخطاب البالغ أن أقبل كثير من النواب (المبعوثين) إلى أداء الفرائض. وقد نشر كلّه بالتركية في الكتاب فترجمناه كاملاً.
[mi1]الى هنا
