الرسالة الثالثة

لاسيما

[ المقام الثاني العربي من الكلمة الثامنة والعشرين ]

[وأساس «الكلمة العاشرة» ] ([1])

 

بسم اللّٰه الرحمن الرحيم

 

الحمد للّٰه الذي شهدتْ على وجوب وجوده ووحدته ذراتُ الكائنات ومركباتُها بلسان عجْزها وفقرها.

والصلاة والسلام على نبيّه الذي هو كشاف طلسمِ الكائنات ومفتاحُ آياتها، وعلى آله وصحبه وعلى إخوانه من النبيين والمرسَلين وعلى الملائكة المقربين، وعلى عباد اللّٰه الصالحين من أهل السماوات والأرضين.

اعلم، يا من سَدَّت عليه الطبيعةُ والأسباب بابَ الشكر، وفتحتْ له باب الشرك! إنَّ الشرك والكفر والكُفرانَ تأسست على محالاتٍ غير محدودة، فانظر من تلك المحالات إلى هذا المحال الواحد وهو:

أن الكافر إذا ترك سُكْر الجهالة ونظر إلى كفره بعين العلم، يَضطر -للإذعان بكفره- أن يحمل على ظهر ذرةٍ واحدةٍ ألفَ قنطار، وأن يقبل في كل ذرةٍ ذرّةٍ ملايينَ مطبعاتٍ للطبيعة، واطلاعاً -مع مهارة- على جميع دقائقِ الصنعة في جميع المصنوعات؛ إذ كلُّ ذرة من الهواء -مثلاً- تصلُح أن تمرّ على كل نباتٍ وزهرة وشجرة وثمرة، وأن تعمل في بنيتها، فلابد لهذه الذرة والقوة البسيطة المستترة فيها -إن لم تكن مأمورةً، تعمل باسم مَن بيده ملكوت كل شيء- أن تعرف كيفيةَ جهازاتِ كلِ ما دخلت الذرةُ في بنيتها وكيفيةَ صنعته وتشكيله، مع أن الثمرة مثلاً متضمنةٌ لمثال مصغر للشجر، وأن نواتها كصحيفة أعمال الشجر، وفيها تاريخ حياته. فالثمرة تنظر إلى كل الشجرة بل إلى نوعها بل إلى الأرض أيضاً. ومن هذه الحيثية فالثمرة بعظمة صنعتها ومعناها في جسامة صنعة الأرض بوجه، فمَن بناها بهذه العظمة المعنوية الصنعوية، لابد أن لا يعجزَ عن حمل الأرض وبنائها.

فيا عجباً للكافر المنكِر كيف يدّعي العقل والذكاوة مع أنه يتبطن -بكفره- في قلبه مثلَ هذا الحمق والبلاهة..

واعلم أن لكل شيء صورتين:

أما إحداهما: فمادية محسوسة كقميصة قُدّتْ على مقدار قامة الشيء بتقدير القَدَر بغاية الانتظام..

وأما الأُخرى: فمعقولة مركبة من أشتاتِ صُوَر الشيء في حركته في بحر الزمان، أو مرور نهر الزمان عليه، كصورة الدائرة النورانية المخيَّلة الحاصلة من جولان الشعلة، فهذه الصورة المعنوية للشيء هي تاريخ حياة الشيء، وهي مدارُ القَدَر المشهور وهي المسماة بـ«مُقدَّرات الأشياء». فكما أن الشيء -كالشجرة مثلاً- في الصورة المادية، له نهايات منتظمة مثمرة، وله غايات موزونة متضمنة لمصالح حِكَمية، كذلك له في صورته المعنوية أيضاً نهايات منتظمة متضمنة لمصالح، وله حدود معينة تعينت لحِكَم خفية. فكأن القُدرة في الصورة الأولى كالباني، والقَدَر كالهندسة، وفي الثانية كالمصدر، والقَدَر كالمِسطَر.([2]) فتَكتب القدرةُ كتابَ المعاني على رسوم مِسطَر القدر.

فيا أيها الكافر!.. تضطر في كفرانك وكفرك، عند المراجعة إلى العلم والحقيقة أن تقبل في كل ذرةٍ وقوّتِها الجزئية الصغيرة معرفةَ صنعةِ خياطةٍ بدرجة تقتدر تلك الذرة -وطبيعة السببية- على أن تقُدّ وتخيط ألبسةً وأقمصة مختلفة متنوعة بعدد أشتات الأشياء، التي يمكن أن تذهب إليها الذرة مع اقتدارها على تجديد الصور المتخرقة بأشواك الحادثات في مرور الزمان، مع أن الإنسان الذي هو ثمرةُ شجرة الخلقة وأقدر الأسباب -بزعمه- وأوسعُها اختياراً لو جَمع كلَّ قابليةِ صنعةِ خياطته ثم أراد أن يخيط قميصاً لشجرة ذاتِ أشواك على مقدار أعضائها، ما اقتدر. مع أن صانعَها الحكيم يُلبسها في وقتِ نَمائها أقمصةً متجددة، منتظمة طرية لا تشففها الشمس، وحُللاً خَضِرة متزينة موزونة بكمال السهولة والسرعة بلا كُلفة ولا معالجة. فسبحان مَن: ﴿إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ * فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُون﴾( يس: 82، 83).

اعلم، أن للأحد الصمد على كل شيء سكةً وخاتماً وآيةً، بل آياتٍ تشهد بأنه له وملكُه وصُنعه. فإن شئت فانظر -مما لا يحد ولا يعد من سكات أحديته وخواتم صمديته- إلى هذه السكة المضروبة على صحيفة الأرض في فصل الربيع بمرصاد هذه الفقرات الآتية المتسلسلة المتعانقة المتداخلة، لترى السكةَ كالشمس في رابعة النهار، وهي:

أنا نشاهد في صحيفة الأرض إيجاداً بديعاً حكيماً: في جُودٍ واسع عظيم في سخاوة مطلقة في إتقان مطلق، في سهولةٍ مطلقة في انتظام مطلق، في سرعة مطلقة في اتزان مطلق، في وُسعة مطلقة في حُسنِ صُنعٍ مطلق، في رخيصيةٍ مطلقة وقيمتُه في غلو مطلق، في خِلطة مطلقة في امتياز مطلق، في بُعدةٍ مطلقة في اتفاق مطلق، في كثرة مطلقة في أحسن خلقة.

على أن كلاً من هذه الفقرات بانفرادها تكفي لإظهار السكة؛ إذ:

نهاية السخاوة نوعاً مع غاية الإتقان وحسن الصنعة في فردٍ فردٍ، تختص بمَن لا يُشغلهُ شيء عن شيء، وله قدرة بلا نهاية.

وكذا إن نهاية السهولة مع غاية الانتظام، تختص بِمَن لا يُعجزه شيء، وله علم بلا نهاية.

وكذا إن نهاية السرعة مع غاية الاتزان والموزونية، تختص بمن استسلم كلُّ شيء لقدرته وأمره.

وكذا إن نهاية وُسعة التصرف -بانتشار النوع- مع غاية حسنِ صنعِ كل فردٍ فرد، تختص بمن ليس عند شيء، وهو عند كل شيء بقدرته وعلمه.

وكذا إن نهاية الرخيصية والمبذولية مع غاية غلوّ قيمة الفرد باعتبار الصنعة تختص بمَن له غَناء بلا غاية وخزائن بلا نهاية.

وكذا إن نهاية الاختلاط والاشتباك -في أفراد الأنواع المختلفة- مع غاية الامتياز والتشخيص بلا مَرْج([3]) ومزج وبلا خلط وغلط، تختص بمن هو بصير بكل شيء، وشهيد على كل شيء لا يمنعه فعل عن فعل، ولا يختلط عليه سؤال بسؤال.

وكذا إنّ الفعالية؛ مع نهاية التباعد بين الأفراد المنتشرة في أقطار الأرض، مع غاية التوافق في الصورة والتشكيل والإيجاد والوجود، حتى كأن أفراد كل نوعٍ نوعٍ منتظرٌ أمراً يخصّها من مدبرٍ واحد، تختص بمن الأرضُ جميعاً في قبضةِ تصرّفه وعلمه وحُكمه وحِكمته.

وكذا إن نهاية الكثرة في أفراد النوع مع غاية مُكَمَّليةِ خِلقةِ فردٍ فردٍ وحُسن إيجادِ جزءٍ جزءٍ، تختص بالقدير المطلق الذي تتساوى بالنسبة إليه الذراتُ والنجوم والقليل والكثير.

على أن في كل فقرة آيةً أخرى على صنع القدير المطلق وهي التضاد بين السخاوة والإتقان الاقتصادي، وبين السرعة والموزونية، وبين الرخيصية وغلو القيمة، وبين الاختلاط الأطم والامتياز الأتم... وهكذا.

فإذا كان كل فقرة بانفرادها كافيةً لإظهار خاتم الأحدية، فكيف إذا اجتمعت متداخلة متآخذة في فعالية واحدة؟! .. ومن هذا ترى سرَّ ﴿وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ﴾( الزمر: 38) أي إنَّ المنكِر المتعنّد إذا سُئل منه -بتنبيه عقله- يضطر لأن يقول: "اللّٰه"..

اعلم، أن بين الإيمان باللّٰه والإيمان بالنبي والإيمان بالحشر والتصديق بوجود الكائنات تلازماً قطعياً، وارتباطاً تاماً؛ للتلازم في نفس الأمر بين وجوب الألوهية وثبوت الرسالة، ووجودِ الآخرة وشهود الكائنات بدون غفلة.

إذ كما لا يمكن وجود كتاب -لاسيما إذا تضمن كلُّ كلمة منه كتاباً وكل حرف قصيدةً منتظمة- بلا كاتب.. كذلك لا يمكن شهود كتاب الكائنات -بدون سُكر- بلا إيمان بوجوب وجودِ نقّاشه الأزلي.

وكما لا يمكن وجود بيت -لاسيما إذا اشتمل على خوارق الصنعة وعجائب النقوش وغرائب التزيينات حتى في كل حجر منه- بلا بانٍ وصانع، بلا منشئ وصاحب.. كذلك لا يمكن التصديق بوجود هذا العالم -بدون سُكر الضلالة- بلا تصديق بوجود صانعه.

وكما لا يمكن شهود تلمعات الحَبابات في وجه البحر، وتلألؤ القطرات المائية وتشعشع الزُجيجات الثلجية في وسط النهار مع إنكار وجود الشمس، إذ يلزم حينئذ قبول وجود شُميسات بالأصالة بعدد الحبابات والقطرات والزجيجات الثلجية.. كذلك لا يمكن -لمن له عقل لم يفسد- شهودُ هذه الكائنات المتحولة دائماً في انتظام، المتجددة في انسجام، بلا تصديقٍ بوجوبِ وجودِ خالقها وبانيها، الذي أسس ذلك البيت المحتشم، والشجر المعظم، بأصول مشيئته وحكمته، وفصّله بدساتير قضائه وقَدَره، ونظّمه بقوانين عادته وسنته، وزيّنه بنواميس عنايته ورحمته، ونوّره بجلوات أسمائه وصفاته..

نعم، وبعدم قبول الخالق الواحد يُضطر إلى قبول آلهات غير متناهية بعدد ذرات الكائنات ومركباتها، بحيث يَقتدر إله كلِّ واحدٍ على خلق الكل؛ بسرِّ أن كل جزئيٍ ذي حياة كأنموذج للكل؛ فخالقهُ لابد أن يقتدر على خلق الكل!!

ثم إنه كما لا يمكن وجود الشمس بلا نشر ضياء، كذلك لا يمكن الألوهية بلا تظاهر بإرسال الرسل..

ولا يمكن جمال في نهاية الكمال بلا تبارز وبلا تعرُّف بواسطة رسول معرِّف..

ولا يمكن كمال صنعةٍ في غاية الجمال بلا تشهير بواسطة دلّال ينادي عليه..

ولا يمكن سلطنة ربوبية عامة، بلا عبودية كلية، بإعلان وحدانيته وصمديته في طبقات الكثرة بواسطة مبعوثٍ ذي الجناحين..

ولا يمكن حُسنٌ لانهاية له، بلا طلب ذي الحسن، ومحبته لمشاهدة محاسن جماله ولطائف حسنه في مرآة، وبلا إرادته لإشهاد أنظار المستحسنين عليه وإراءته لهم بواسطة عبد حبيب يتحبب إليه، ورسول يحببه إلى الناس. أي هو بعبوديته مرآةٌ لشهود ذي الجمال، جمالَ ربوبيته، وبرسالته مدارُ إشهاده..

ولا يمكن وجود كنوز مشحونةٍ بعجائب المعجزات، وغرائبِ المرصعات، بلا إرادة صاحبِها ومحبته لعرْضها على الأنظار، وإظهارِها على رؤوس الأشهاد، لتبيِّن كمالاتِه المستورة بواسطة معرِّفٍ صرّاف ومُشهِّر وصّاف.

فإذ هذا هكذا، فهل ظهر في العالم أجمعُ لهذه الأوصاف من سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام؟ كلا، بل هو أجمعُ وأكملُ وأرفعُ وأفضلُ. فهو سلطان الرسل المظهرين المبلّغين المعرّفين المُشهرين الدلّالين العابدين المعلنين المرشدين الشاهدين المشهدين المشهودين المحبوبين المحبين المحببين الهادين المهديين المهتدين، عليه وعليهم وعلى آلهم أفضل الصلوات وأجمل التسليمات، مادامت الأرض والسماوات.

*   *   *

ثم انظر إلى قوة حقانية الحشر والآخرة، وهي أنه:

كما لا يمكن سلطان بلا مكافأة للمطيعين وبلا مجازاة للعاصين:

لاسيما: إذا كان له كرمٌ عظيم يقتضي الإحسان، وعزةٌ عظيمة تقتضي الغيرة..

ولاسيما: إذا كان له رحمة واسعة تقتضي فضلا يليق بوسعة رحمته، وله جلالُ حيثيةٍ تقتضي تربية مَن يستخف به، ولا يوقّره..

ولاسيما: إذا كان له حكمة عالية، تقتضي حمايةَ شأنِ سلطنته بتلطيف الملتجئين إلى جناحه، وله عدالة محضة تقتضي محافظةَ حشمةِ مالكيته بمحافظة حقوق رعيته..

ولاسيما: إذا كان له خزائن مشحونة مع سخاوة مطلقة، تقتضي وجود دارِ ضيافةٍ دائمة، وتقتضي دوامَ وجودِ محتاجين بأنواع الحاجات فيها. وكذا له كمالاتٌ مستورة تقتضي التشهير على رؤوس المشاهِدين المقدِّرين المستحسِنين. وكذا له محاسنُ جمال معنوي بلا مثل، وله لطائفُ حُسن مَخفيّ بلا نظير، تقتضي الشهود لحُسنه بنفسه في مرآة، والإشهادَ لغيره، والإراءةَ بوجود مستحسِنين متنـزِّهين ومشتاقين متحيرين بل دوامِ وجودهم؛ إذ الجمال الدائم لا يرضى بالمشتاق الزائل!..

ولاسيما: إذا كان له شفقة رحيمة في إغاثة الملهوف، وإجابة الداعي، بدرجةٍ يُراعي أدنى حاجةٍ مِن أدنى رعية، تقتضي تلك الشفقة اقتضاءً قطعياً يقيناً أن تُسعِفَ أعظمَ الحاجة من مقبول السلطان، وبالخاصة إذا كانت الحاجة عامة مع أنها يسيرة سهلة عليه، ومع اشتراك العموم في تضرع مقبول السلطان.

ولاسيما: إذا شوهد مِن إجراآته آثارُ سلطنته في نهاية الاحتشام، مع أن ما يُرى من رعيته إنما اجتمعوا في منـزلٍ مُعَدٍّ للمسافرين، يُملأ ويُفرغ في كل يومٍ، وحضروا في ميدانِ امتحانٍ يتبدل في كل وقت، وتوقفوا قليلاً في مَشهَر قد أُعدّ لإراءة أنموذجِ غرائبِ صنعةِ المَلك، ونمونات([4]) إحساناته؛ وهذا المشهر يتحول في كل زمان. فهذه الحالة تقتضي بالضرورة أن يوجَد خلفَ هذا المنـزل والميدان والمشهر وبعدَها قصورٌ دائمة، ومساكن مستمرة، وخزائن مفتحة الأبواب، مشحونة بجيّداتِ أصول الأنموذجات المغشوشات.

ولاسيما: إذا كان الملك في نهاية الدقة في وظيفة الحاكمية، بحيث يكتب ويستكتب أدنى حاجة وأهونَ عمل وأقل خدمة، ويأمر بأخذ صورةِ كلِّ ما يجري في ملكه، ويستحفظ كل فعل وعمل. فهذه الحفيظية تقتضي المحاسبة، وبالخاصة في أعظم الأعمال من أعاظم الرعية.

ولاسيما: إذا كان الملك قد وعد وأوعد مكرراً، بما إيجادُهُ عليه هيّن يسير، ووجودُهُ للرعية في نهاية الأهمية، وخُلفُ الوعدِ في غاية الضدية لعزّة اقتداره.

ولاسيما: إذا أخبر كلُّ مَن ذهب إلى حضور ذلك الملك، أنه أعدّ للمطيعين والعاصين دار مكافأة ومجازاة، وأنه يَعِد وَعداً قوياً ويُوعِد وعيداً شديداً، وهو أجلّ وأعز من أن يذِل ويتنـزل بخُلف الوعد، مع أن المخبِرين متواترون، قد أجمعوا على أن مدار سلطنته العظيمة إنما هو في تلك المملكة البعيدة عنا. وما هذه المنازل في ميدان الامتحان إلاّ مؤقتة، سيبدّلها –البتة- بقصور دائمة؛ إذ لا يقوم مثل هذه السلطنة المستقرة المحتشمة على هذه الأمور الزائلة الواهية المتبدلة السيالة.

ولاسيما: إذا أظهر ذلك المَلِكُ في كل وقت في هذا الميدان المؤقت كثيراً من أمثال ذلك الميدان الأكبر ونموناته. فيُعلَم من هذه الكيفية، أن ما يُشاهَد من هذه الاجتماعات والافتراقات، ليست مقصودة لذاتها، بل إنما هي تمثيل وتقليد لتؤخذ صورُها، وتُركَّب وتُحفظ نتائجها، وتُكتب لتدوم. وتدور المعاملة في المجمع الأكبر، والمشاهدة في ذلك المحضر عليها، فتثمر الفانيةُ صوراً ثابتة وأثماراً باقية.

ولاسيما: إذا أظهر ذلك الملك في تلك المنازل الزائلة والميادين الهائلة والمشاهر الراحلة آثارَ حكمة باهرة، وعناية ظاهرة، وعدالة عالية، ومرحمة واسعة، بدرجة يَعرِف باليقين مَن له بصيرة أنه لا يمكن أن يوجَد أكملُ من حكمته، وأجملُ من عنايته، وأشملُ من مرحمته، وأجلُّ من عدالته. فلو لم يكن في دائرة مملكته أماكنُ دائمة عالية ومساكنُ قائمة غالية، وسواكنُ مقيمة خالدة لتكون مظاهرَ لحقيقة تلك الحكمة والعناية والمرحمة والعدالة، لَلَزم حينئذ إنكار هذه الحكمة المشهودة، وإنكار هذه العناية المبصَرة، وإنكار هذه المرحمة المنظورة، وإنكار هذه العدالة المرئية؛ وللزم قبول كون صاحب هذه الأفاعيل الحكيمة الكريمة سفيهاً لعّاباً وظالماً غداراً. فيلزم انقلاب الحقائق بأضدادها، وهو محال باتفاق جميع أهل العقل غير السوفسطائي الذي ينكر وجود الأشياء حتى وجود نفسه.

وهكذا مما لا يعد ولا يحصى من دلائل، أنه سينقل رعيته من هذه المنازل المؤقتة إلى مقر سلطنته الدائمة، ومما لا يحد ولا يستقصى من أمارات تبديله، هذه المملكة السيارة بتلك المملكة المستمرة.

كذلك([5]) لا يمكن -بوجه من الوجوه قطعاً وأصلاً- أن يوجِد هذا العالَمَ ولا يوجِد ذلك العالم، وأن يبدع الفاطر هذه الكائنات ولا يُبدعَ تلك الكائنات، وأن يخلق الصانعُ هذه الدنيا ولا يخلقَ تلك الآخرة؛ إذ شأن سلطنة الربوبية يقتضي المكافأة والمجازاة.

ولاسيما: يُعلَم بالآثار أن لصاحب هذه الدار كرماً عظيماً، ومثلُ هذا الكرم يقتضي كمال الإحسان، وحسنَ المكافأة. وأن له عزة عظيمة تقتضي كمالَ الغيرة وشدة المجازاة؛ مع أن هذه الدار لا تفي بعُشر مِعشار عَشير ما يقتضيه ذلك الكرم وتلك العزة..

ولاسيما: أن لصاحب هذا العالم رحمةً وسعت كلَّ شيء، ومن لطائف تلك الرحمة شفقةُ الوالدات مطلقاً، حتى النباتات على أولادها، وسهولةُ أرزاق أطفال الحيوانات وضعفائها، وهذه الرحمة تقتضي فضلاً وإحساناً يليقان بها. انظر أين مقتضى هذا الرحمة، ثم أين هذه التنعمات الزائلة المنغّصة في هذه الدنيا الفانية -في هذا العمر القصير- التي لا تفي بقطرة من بحر تلك الرحمة؟ بل الزوال بلا إعادة يصيّر النعمةَ نقمةً، والشفقةَ مصيبةً، والمحبة حرقة، والعقل عقاباً، واللذة ألماً، فتنقلب حقيقةُ الرحمة. فتلزم المكابرة بإنكار الرحمة المشهودة، كإنكار الشمس مع شهود امتلاء النهار من ضيائها. وكذا يُعلم من تصرفات صاحب هذا العالم أن له جلالَ حيثيةٍ وعزةٍ، يقتضيان تأديب من لا يوقّره وقهرَ من يستخف به، كما فعل بالقرون السالفة في هذه الدنيا، ما يدل على أنه لا يهمل وإن أمهل. وكذا يُفهم من إجراآته أن له غيرةً عظيمة على استخفاف أوامره ونواهيه.

نعم، ومن شأن من يتعرف إلى الناس بأمثال هذه المصنوعات المنظومات، ويتودد إليهم بأمثال هذه الأزاهير الموزونات، ويترحّم عليهم بأمثال هذه الثمرات المزينات، ثم لا يعرفونه بالإيمان، ولا يتحببون إليه بالعبادة، ولا يحترمونه بالشكر إلاّ قليل.. أن يُعِدّ لهم في مقر ربوبيته الأبدية دارَ مجازاة ومكافأة.

ولاسيما: أن لمتصرِّف هذا العالم حكمةً عامةً عالية، بشهاداتِ رعاية المصالح والفوائد في كل شيء، وبدلالات الانتظامات والاهتمامات وحسن الصنعة في جميع المخلوقات. فهذه الحكمة الحاكمة في سلطنة الربوبية، تقتضي تلطيف المطيعين الملتجئين إلى جناحها.. وكذا يشاهد أن له عدالة محضة حقيقية بشهادات وضعه كل شيء في الموضع اللائق، وإعطاء كل ذي حق حقه الذي يستعد له؛ وإسعاف كل ذي حاجة حاجته التي يطلبها -لوجوده أو حفظ بقائه- وإجابة كل ذي سؤال سؤاله. وبالخاصة: إذا سُئِل بلسان الاستعداد أو بلسان الاحتياج الفطري أو بلسان الاضطرار.. فهذه العدالة تقتضي محافظة حشمة مالكيته، وربوبيته، بمحافظة حقوق عباده في محكمةٍ كبرى؛ مع أن هذه الدار الفانية أقل وأحقر وأضيق وأصغر من أن تكون مظهراً لحقيقة تلك العدالة؛ فلابد حينئذ لهذا الملك العادل والرب الحكيم ذي الجمال الجليل والجلال الجميل من جنة باقية وجهنم دائمة.

ولاسيما: أن لصاحب هذا العالم والمتصرِّف فيه بهذه الأفعال، سخاوةً وَجوداً عظيماً، وخزائن مشحونة. ومن ظرائف ظروف تلك الخزائن هذه الشموسُ المملوءة من الأنوار، وهاتيك الأشجار المشحونة من الأثمار. وهذه السخاوة السرمدية مع هذه الثروة الأبدية تقتضيان وجود دارِ ضيافةٍ أبدية، ودوامَ وجودِ محتاجين بأنواع الحاجات فيها؛ إذ الكرم بلا نهاية يقتضي الامتنانَ والتنعيم بلا نهاية؛ وهما يقتضيان قبول المنة والتنعم بلا نهاية؛ وهما يقتضيان دوام وجود الشخص المكرم عليه، ليُقابِل بدوامه في التنعم شكرَ المنة الدائمة، وإلاَّ لانحصر مقابلة كل واحد في دقائق عمره الزائل، ولصار بحيث لا يهتم بما لا يرافقه، بل يتنغص عليه ذلك التنعم الجزئي أيضاً.

وكذا لفاعل هذه الأفعال الحكيمة الكريمة كمالات مستورة، يُفهم من تظاهره بهذه المعجزات المزينات، أنه يحب أن يشهر تلك الكمالات على رؤوس الأشهاد المستحسِنين المقدِّرين.

نعم، إن من شأن الكمال الدائم التظاهرَ بالدوام، ووجودَ نظر المستحسِن الدائميّ.. فالناظر الذي لا يدوم يسقط مِن نظرِ محبته قيمةُ الكمالات.

وكذا لصانع هذه المصنوعات الجميلات المليحات المزينات المنورات، محاسنُ جمالٍ مجرد معنوي بلا مثل، وله لطائف حُسن مخفي يليق به بلا نظير؛ بل في كل اسم من أسمائه كنوز مخفية من جلوات ذلك الحسن المنـزه والجمال المجرد.

نعم، أين عقولنا وأين فهم جمالِ مَن مِن بعض مراياه الكثيفةِ وجهُ الأرض المتجددة التي تُظهر وتصف لنا في كل عصر، بل في كل فصل، بل في كل وقت، ظلالَ جلوات ذلك الجمال الدائم التجلي، مع تفاني المرايا وسَيَّالية المظاهر.. ومِن بعض أزاهيره ونقشه: الربيعُ.؟

ثم إنه من الحقائق المستمرة الثابتة أن كل ذي جمال فائقٍ يُحب أن يشاهِد جمالَه بنظره، وبنظر غيره؛ ويَنظر إلى محاسنه بالذات، وبالواسطة؛ ويشتاقُ إلى مرآةٍ فيها جلوة جماله المحبوب، والى مشتاقٍ فيه مقاييس درجاتِ حُسنه المرغوب. فالحُسن والجمال يقتضيان الشهود والإشهاد؛ وهما يقتضيان وجود مستحسِنين متنـزهين في مناظرهما، ووجودَ مشتاقين متحيرين في لطائفهما. ثم لأن الجمال سرمدي، يقتضي أبديةَ المستحسِن المتحيّر؛ إذ الجمال الدائم الكامل لا يرضى بالمشتاق الزائل الآفل؛ إذ بسرِّ أن الشخص المقيّد بنفسه، له نوع عداوة لما لا يصل إليه فهمُهُ أو يدُهُ، ولمن يردّه أو يطرده من دائرة حضوره. فيحتمل حينئذ أن يقابِل هذا الشخصُ ذلك الجمالَ -الذي يستحق أن يقابَل بمحبة بلا نهاية، بشوق بلا غاية واستحسانٍ بلا حد- بعداوة وحقد وإنكار.

الحاصل: إن هذا العالم كما يستلزم صانعَه بالقطع واليقين، كذلك يستلزم صانعهُ الآخرةَ بلا شك ولا ريب..

ولاسيما: أن لمالك هذا العالم رحيميةً شفيقة في سرعة إغاثةِ الملهوف المستغيث، وفي إجابة الداعي المستجير؛ إذ قد نرى أنه يراعي أدنى حاجة من أدنى خلقه، بدليل قضائها وقتَ وجودها من حيث لا يحتسب، وانه يسمع أخفى نداء من أخفى خلقه، بدليل إسعاف مسؤوله ولو بلسان حاله.

فانظر إلى حُسن تربيةِ أطفال ذوي الحياة وضعفائها، كي ترى هذه الشفقة كالشمس في ضيائها. فهذه الشفقة الرحيمة الكريمة تقتضي اقتضاءً ضرورياً قطعياً أن تسعف أعظمَ حاجة وأشدَّها، مِن أعظم عباده وأحب خلقه إليه..

وبالخاصة إذا كانت الحاجة عامة بحيث يؤمِّن على دعاء ذلك الحبيبِ جميعُ الخلق بألسنةِ الأقوال والأحوال..

وبالخاصة إذا كانت مُهمةً عند كل شيء، لكونها سبباً لصعود قيمة الأشياء إلى أعلى عليين، وبدونها تسقط قيمة كل شيء إلى أسفل سافلين. فحينئذ يشترك في تضرعِ ذلك الحبيبِ جميعُ الموجودات بألسنة استعداداتها..

وبالخاصة إذا كانت مطلوبةً لكل الأسماء المتجلية في الكائنات.

نعم، تلك الحاجة كمخزن الغايات لتلك الأسماء ولكمالاتها في ظهورها بإجراء أحكامها، فحينئذ تَشْفَع جميعُ الأسماء عند مسمّاها لإسعاف حاجة ذلك الحبيب..

وبالخاصة إذا كانت تلك الحاجة كلمح البصر سهلة يسيرة على مالكها الكريم..

وبالخاصة إذا تضرع ذلك الحبيب بأنواع التضرعات الحزينة، متذللا بأنواع الافتقارات المشفَّعة، متحبباً بأنواع العبادات المقبولة. وقد اصطف خلفَه -مؤتمّين به مؤمّنين على دعائه- جميعُ أفاضلِ ثمراتِ شجرةِ الخلقة من الأنبياء والأولياء والأصفياء، وهو إنما يطلب من ربه الكريم الجنةَ، والبقاء، والسعادة الأبدية والرضاء.

فبالضرورة لا يمكن بوجه من الوجوه أن يقبل جمالُ هذه الشفقة الشاملة المشهودة بآثارها، قبحاً غدَّاراً بعدم قبول مثل هذا المطلوب المعقول، مِن مثل ذلك المحبوب المقبول!..

نعم، كما أن ذلك الحبيب الذي هو مدار الشهود والإشهاد للشاهد الأزلي رسولٌ؛ وبرسالته كاشفُ طلسمِ الكائنات، ودلاّل الوحدة في غمرات الكثرة، وسببٌ لوصول السعادة في الجنة.. كذلك عبدٌ؛ فبعبوديته كشافُ خزائن الرحمة، ومرآة ٌلجمال الربوبية، وسببٌ لحصول مدار السعادة، وسبب لوجود الجنة. فلو فُرض عدم جميع الأسباب الغير المحصورة المقتضية للجنة إلاّ مثلُ هذا الطلب من مثل ذلك الحبيب، لكفى لإيجاد هذه الجنة ووجودها مِن جُودِ جَوادٍ يوجِد في كل ربيع جِناناً مزيَّنة كأنموذجات تلك الجنة. فما هذه بأسهل من تلك، وما هي بأصعب عليه من هذه. فكما يحقّ، وحقٌ أن يُقال، وقد قيل: "لولاك لولاك لما خلقت الأفلاك" يستحق أن يقال: لو لم يكن إلاّ دعاؤك لخلقت الجنة لأجلك.

اللّٰهُمَّ صَلِّ وَسَلِّمْ عَلٰى ذٰلِكَ الْحَبِيبِ الَّذِي هُوَ سَيِّدُ الْكَوْنَيْنِ وَفَخْرُ الْعَالَمَيْنِ وَحَيَاةُ الدَّارَيْنِ وَوَسِيلَةُ السَّعَادَتَيْنِ وَذُو الْجَنَاحَيْنِ وَرَسُولُ الثَّقَلَيْنِ وَعَلٰى آلِهِ وَصَحْبِهِ أجْمَعِينَ وَعَلٰى إخْوَانِهِ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالْمُرْسَلِينَ، آمِينَ

ولاسيما: أنه يُشاهَد في جريان هذا العالم آثارُ سلطنةٍ محتشمة في تسخير الشموس والأقمار والأشجار والأنهار. فيُعلم أن لمتصرف هذه الموجودات سلطنةً محتشمة في ربوبيةٍ معظمة؛ مع أن هذه الدار بسرعةِ تحوّلها أو زوالها، كمنـزلٍ في خانٍ أُعدّ للمسافرين، يُملأ ويفرغ في كل يوم، وكميدان امتحان يتبدل في كل وقت، وكمشهر أُحضِرَ لإراءة أنموذجاتِ غرائبِ صنعةِ صاحبِ الموجودات، ونمونات إحساناته. وهذا المشهر يتحول في كل زمان. مع أن الخلق والعِباد الذين هم كالرعية ومدار السلطنة اجتمعوا في ذلك المنـزل، وهم على جناح السفر في كل آن. وحضروا ذلك الميدان مستمعين ناظرين بمقدار سؤال وجواب، وهم على نية الخروج في كل زمان. وتوقفوا قليلاً في ذلك المشهر وهم على قصد التفرق في كل وقت وأوان.

فهذه الحالة تقتضي بالضرورة أن يوجَد خلف هذا المنـزل الفاني والميدان المتغير وبعد هذا المشهر المتبدل، قصورٌ دائمةٌ ومساكن أبدية وخزائن مفتحة الأبواب مشحونة من جيّدات أصول تلك الأنموذجات المغشوشات لتَقوم تلك السلطنة السرمدية المشهودة عليها؛ إذ من المحال أن يكون قيام هذه الربوبية المحتشمة بأمثال هذه الفانيات الوانيات([6]) الزائلات الذليلات!

نعم، كما يَتفطن مَن له أدنى شعور إذا صادف في طريقه منـزلاً أعده ملِكٌ كريم في الطريق لمسافريه الذين يذهبون إليه، ثم إن الملك قد صرف ملايين الدنانير لتزيين المَنـزل لتَنـزُّه ليلة واحدة، ثم رأى أن أكثر المزينات صور وأنموذجات!.. ثم رأى المسافرين يذوقون من هذا وذلك للطعم([7]) لا للشبع، إذ لا يشبعون من شيء، ويأخذ كل واحد بـ(فُوطُوغْرَافِه) المخصوص صورَ ما في المنـزل، ويأخذ خُدّامُ الملك أيضاً صور معاملاتهم بغاية الدقة.. ثم رأى أن الملك يخرّب في كل يوم أكثر تلك المزينات الغاليات القِيمةِ، ويجدد لضيوفه الجديدين مزيناتٍ أخرى.. ويَتفهم بلا شك أن لصاحب هذا المنـزل المؤقت منازلَ عالية دائمة، وثروةً غالية مخزونة، وسخاوة عظيمة كريمة؛ وهو يريد أن يشوّق إلى ما عنده ويرغّبهم فيما ادَّخره لهم..

كذلك؛ لابد أن يتفطن الإنسان: أن هذه الدنيا ليست لذاتها وبذاتها، بل إنما هي مَنـزلٌ تُملأ وتُفرغ بحلول وارتحال، وأن ساكنيها مسافرون، يدعوهم رب كريم إلى دار السلام.. وأن هذه التزيينات ليست للتلذذ بالتنـزه فقط، بدليل أنها تُلِذُّك آناً، ثم تؤلمك بفراقها أزماناً، وتذيقك وتفتح اشتهاءك، ثم لا تشبعك لقِصَر عُمرها أو قصر عمرك، بل إنما هي للعبرة وللشكر، وللشوق إلى أصولها الدائمة ولغايات علوية.. وأن هذه المزينات صور وأنموذجات لِما ادّخره الرحمن في الجنان لأهل الإيمان، وأن هذه المصنوعات الفانيات ليست للفناء، بل اجتمعت اجتماعاً قصيراً لتؤخَذ صورُها وتماثيلُها ومعانيها ونتائجها، فيُنسج منها مناظر دائمة لأهل الأبد، أو يَصنع منها مُحَوّلُها ما يشاء في عالم البقاء.

ومن الدليل على أن الأشياء للبقاء لا للفناء، بل الفناء الصوري تمام الوظيفة وترخيص له، أن الفاني يفنى بوجهٍ ويبقى بوجوهٍ غير محصورة!.. مثلاً: انظر من كلمات القدرة إلى هذه الزهرة التي تنظر إلينا في وقت قصير، ثم تفنى؛ تراها كالكلمة التي تزول لكن تودِعُ بإذن اللّٰه في الآذان ألوفَ تماثيلها، وفي العقول -بعدد العقول- معانيَها؛ إذ هي وقت تمام الوظيفة تُبقي وتُودع في حافظتنا وفي حافظة كل مَن رآها في الشهادة، وفي بذورها في الغيب صورَها ومعانيَها؛ حتى كأن حافظة كلِّ مَن نظر إليها وكلَّ بُذيراتها (فوطوغرافاتٌ) لحفظ زينةِ صورها، ومنازلُ لبقائها. وقس عليها ما فوقها وما فوق ما فوقها من ذوي الأرواح الباقية.

وإن الإنسان ليس سدىً غاربهُ على عنقه([8]): يسرح كيف يشاء، بل تؤخذ صور أعماله، وتُكتب وتحفظ نتائج أفعاله ليحاسَب؛ وإن التخريبات الخريفية للمصنوعات الجميلات الربيعية، إنما هي ترخيصات بتمام الوظيفات وتفريغات لوفود مخلوقات جديدات، وإحضارات لنـزولِ مصنوعاتٍ موظفات، وتنبيهات للغفلات والسكرات. وإنّ لِصانع هذا العالم عالماً آخر باقياً يسوق إليه عبادَه ويشوّقهم إليه، وإنه قد أعد لهم ما لا عينٌ رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.([9])

ولاسيما: أن لمتصرف هذا العالم حفيظيةً تامة بحيث لا تغادر صغيرة ولا كبيرة إلا تحفظها في كتاب مبين. ومن أبواب هذا الكتاب المبينِ النظامُ والميزانُ المشهودان، إذ نشاهد أن كل ما تمّ عمرُه بتمام وظيفته، وذهب عن الوجود في عالم الشهادة، يُثبت فاطرهُ كثيراً من صوره في ألواح محفوظة، وينقُش أكثرَ تاريخ حياته في نواتاته ونتائجه، ويُبقيه في مرايا متعددة غيباً وشهادة، حتى كأن كثيراً من الأشياء موظفون بأخذ صورةِ جريان معاملة الأشياء المجاورين لها.

فإن شئت فانظر إلى حافظة البشر وثمرة الشجر ونواة الثمر وبذر الزهر، لتفهم عظمةَ إحاطة قانون الحفظ والحفيظية، حتى في السيالات الزائلات. فقس من هذا قوةَ جريان هذه الحفيظية في الأمور المهمة المثمرة في العوالم الغيبية والأخروية. فيُفهم من هذه المحافظة التامة أن لصاحب هذه الموجودات اهتماماً عظيماً بانضباط ما يجري في ملكه، وأن له نهايةَ دقةٍ في وظيفةِ حاكميته، وانتظاماً تاماً في سلطنة ربوبيته، بحيث يَكتب ويَستكتب أدنى حادثة وأهونَ عمل وأقلَّ خدمة، ويأمر -بالأمر التكويني- بأخذ صورةِ كل ما يجري في ملكه، ويَحفظ ويستحفظ كلَّ فعل وعمل. فهذه الحفيظية تشير بل تصرح بل تستلزم المحاسبة. وبالخاصة في أعظم الأعمال وأهمها من أكرم المخلوقات وأشرفها أي الإنسان، لأن الإنسان كالشاهد على كليات شؤون الربوبية، وكالدلّال على الوحدانية الإلهية في دوائر الكثرة، وكالمشاهِد والضابط على تسبيحات الموجودات، وهكذا.. مما لا يعد من أسباب تكريمه بالأمانة وتقليده بالخلافة.

فمع هذا ﴿أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى﴾( القيامة: 36) ولا يُسألَ غداً؟ كلا.. بل لَيحاسَب على السَبَد واللَبد،([10]) وسيذهب إلى الحشر والأبد. وما الحشر والقيامة بالنسبة إلى قدرته إلاّ كالربيع والخريف. فكل الوقوعات الماضية معجزاتُ قدرته تشهد قطعاً على أنه قدير على كل الإمكانات الاستقبالية.

ولاسيما: أن مالك هذا العالم قد وَعد مكرراً بما إيجادُه عليه هيّن سهل يسير، ووجوده لخلقه وعباده مهمّ بلا نهاية، وغال بلا غاية. مع أن خُلف الوعد في غاية الضدية لعزّة اقتداره ومرحمة ربوبيته؛ إذ خُلفُ الوعد نتيجةُ الجهل أولاً والعجز آخراً. فخلف الوعد محال على العليم المطلق والقدير المطلق. فليس إيجاد الحشر بانقلاباته وبجنّاته بأعسر عليه من إيجاد الربيع بتحولاته وبجنانه. وأما وعدُه سبحانه فثابت بتواتر كل الأنبياء بإجماع جميع الأصفياء. استمع قوةَ وعدِه سبحانه من هذه الآية: ﴿اللّٰه لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لاَ رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللّٰه حَدِيثًا﴾( النساء: 87).. ﴿قُتِلَ الإِنسَانُ مَا أَكْفَرَهُ﴾( عبس: 17) لا يصدِّق حديثَ مَن هذه الموجودات كلماتُه الصادقة بالحق، وهذه الكائنات آياتُه الناطقة بالصدق؛ ويعتمد على هذيانات وهمِه وحماقات نفسِه وأباطيل شيطانه. نعوذ باللّٰه من الخذلان ومن شر النفس والشيطان..

ولاسيما: أنّا نشاهد في هذا العالم تظاهراتِ ربوبيةٍ محتشمة سرمدية، وآثارَ سلطنةٍ مشعشعةٍ مستقرة. وقس عظمة صاحب هذه الربوبية من كون هذه الأرض بسَكَنَتها كحيوان مسخّر مذلل تحت أمره يحييها ويميت، ويربّيها ويدبّر. والشمس بسياراتها مسخرةً منظمة بقدرته ينظمها ويدَوِّر، ويقدرها ويكوّر. مع أن هذه الربوبية السرمدية المستمرة والسلطنة المستقرة المحيطة -بشهادة تصرفاتها العظيمة المحيّرة للعقول- لا تقومان على هذه الأمور الزائلة الواهية المتبدلة السيّالة، ولا تُبْنَيان على مثل هذه الدنيا الفانية المغيّرة المتخاذلة المنغّصة. بل لا يمكن أن تكون هذه الدنيا في سرادقات هذه الربوبية إلا كميدان بُنيت فيها منازلُ مؤقتة للتجربة والامتحان والتشهير والإعلان، ثم تُخرَّب وتبدل بقصور دائمة ويساق إليها الخلق. فبالضرورة لابدّ أن يوجَد لربّ هذا العالم الفاني المتغير عالمٌ آخر باقٍ مستقر. ومع ذلك قد أَخبر كلُّ مَن ذهب من الظاهر إلى الحقيقة من ذوي الأرواح النيّرة والقلوب المنوّرة والعقول النورانية، ودخل في حضور قُربه سبحانه أنه أعدّ للمطيعين والعاصين دارَ مكافأة ومجازاة، وأنه يَعِدُ وعداً قوياً ويوعد وعيداً شديداً، وهو أجلُّ وأقدس من أن يَذِلّ ويتذلّل بخُلف الوعد، وأعلى وأعزّ من أن يَعجز عن إنجاز الوعيد. مع أن المخبِرِين الذين هم الأنبياء والأولياء والأصفياء متواترون، وأهلُ اختصاص لمثل هذه المسألة، وقد أجمعوا واتفقوا -مع تخالفهم في المسالك والمشارب والمذاهب- على هذا الإخبار الذي تؤيده الكائنات بآياتها. فهل عندك أيها الإنسان حديثٌ أصدقُ من هذا الحديث؟ فهل يمكن أن يكون خبر أصدقَ من هذا الخبر وأحقَّ؟.

ولاسيما: أن متصرف هذا العالم يُظهِر في كل وقت – يوماً وسَنة وقرناً ودَوراً – في ميدان الأرض الموقت الضيّق كثيراً من أمثال ذلك الميدان الأكبر الأوسع، ومن نموناته ومن إشاراته.. فإن شئت فتأمل في كيفية إحياء الأرض في الحشر الربيعي، كي ترى قريباً من ثلاثمائة ألف حشر ونشر بكمال الانتظام في مقدار ستة أيام، وبكمال الامتياز والتشخيص مع غاية اختلاط تلك الأموات الغير المحصورة المشتبكة المنتشرة، متداخلة في صحيفة الأرض!.. فمن يفعل هذا كيف يؤوده شيء؟.. وكيف لا يخلق السماوات والأرض في ستة أيام؟.. وكيف لا يكون حشرُ الإنسان كلمح البصر بالنسبة إليه؟!..

نعم، مَن يكتب ثلاثمائة ألف كتاب قد انمحت حروفُها في صحيفة واحدة معاً، ومختلطاً بلا غلط ولا مرج ولا مزج، كيف يعجز عن استنساخِ كتابٍ عن حافظته -هو ألّفه أولاً ثم محاه-كتابةً ثـانيةً؟ فإن شئت فانظر إلى آيةِ ﴿فَانظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللّٰه كَيْفَ يُحْيِي الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾( الروم: 50) لِترى في تلك الكيفية حقيقة هذا التمثيل. فيُفهَم من هذه التصرفات ويُتحدَّس من هاتيك الشؤونات، أن ما يشاهَد من هذه الاجتماعات والافتراقات، ليست مقصودةً لذاتها، لعدم المناسبة بين تلك الاحتفالات المهمة وبين الثمرات الجزئية الفانية في زمان قصير!.. بل إنما هي تمثيل وتقليد لتؤخَذ صورُها، وتُركَّب وتحفَظ نتائجُها، وتكتب لتدور المعاملة في المجمع الأكبر عليها، وتدومَ المشاهدة في المحضر الأشهر بها؛ فتثمر هذه الفانيات صوراً دائمة وأثماراً باقية ومعاني أبدية وتسبيحات ثابتة. فما هذه الدنيا إلاّ مزرعة، والبيدرُ الحشرُ، والمخزنُ الجنةُ والنار.

ولاسيما: إذا أظهر ذلك الربُّ السرمدي والسلطان الأزلي الأبدي، في تلك المنازل الزائلة والميادين الآفلة والمشاهر الراحلة، آثارَ حكمةٍ باهرة ماهرة، وعنايةٍ ظاهرة زاهرة، وعدالة عالية غالية، ومرحمة واسعة جامعة؛ بدرجةٍ يَعرِف باليقين مَن لم يكن على عينه غين وفي قلبه رين، أنه ليس في الإمكان أكملُ من حكمته، وأجمل من عنايته، وأشمل من مرحمته، وأجلّ من عدالته. فلو لم تكن في دائرة مملكته – في ملكه وملكوته – أماكنُ دائمة عالية، ومساكن قائمة غالية، وسواكن مقيمة خالدة، لتكون تلك الأمور مظاهر لتَظاهُر حقائق تلك الحكمة والعناية والرحمة والعدالة، لَلزم حينئذٍ إنكار هذه الحكمة المشهودة لذي عقل، وإنكارُ هذه العناية المُبصَرة لذي بصيرة، وإنكارُ هذه الرحمة المنظورة لذي قلب، وإنكار هذه العدالة المرئية لذي فكر؛ وللزم قبول كون صاحب هذه الأفعال الحكيمة الرحيمة الكريمة العادلة -حاشا، ثم حاشا!- سفيهاً لعّاباً، وظالماً غدّاراً، فيلزم انقلاب الحقائق بأضدادها، وهو محال باتفاق جميع أهل العقل غير السوفسطائي الذي ينكر وجود الأشياء، حتى وجودَ نفسه. فمن لم يصدِّق فهو كالسوفسطائي، أحمقُ من هبنّقة المشهور الذي كان لا يعرِف إلاّ نفسَه، ولا يعرف نفسَه إلاّ بقلنسوته، حتى إذا رآها على رأس أحدٍ ظن أنه نفسه!.. ففِكرُ المنكِر كقلنسوة هذا!..

*  *  *

فيا من رافقني بفهمه من أول المسألة إلى هنا! لا تظنّن انحصار الدلائل فيما سبق. كلا!.. بل يشير القرآن الحكيم إلى ما لا يعد ولا يحصى من أمارات: أن خالقنا سينقلنا من هذا المشهر المؤقت إلى مقرّ سلطنة ربوبيته الدائمة.. ويلوّح إلى ما لا يحد ولا يستقصى من علامات: أنه سيبدل هذه المملكة السيّالة السيارة بتلك المملكة المستمرة السرمدية..

وكذا لا تحسبنّ أنّ ما يقتضي الآخرة والحشر من الأسماء الحسنى، منحصرٌ على:«الحكيم والكريم والرحيم والعادل والحفيظ». كلا، بل كل الأسماء المتجلية في تدبير الكائنات، تقتضيها بل تستلزمها.

الحاصل: إن مسألة الحشر مسألة قد اتَّفق عليها:

الحقُ سبحانه بجماله وجلاله وجميع أسمائه..

والقرآنُ المبين المتضمن لإجماعِ كلِ كتبِ الأنبياء والأولياء والأصفياء..

وأكملُ الخلق محمدٌ الأمينُ عليه الصلاة والسلام، الحاملُ لسرّ اتفاق ذوي الأرواح النيّرة الصافية العالية، من الرسل والنبيين ومن أهل الكشف والصديقين..

وهذه الكائناتُ بآياتها، حتى إن لكلٍ من هذه الموجودات -كلاً وجزءاً وكلياً وجزئيا- وجهين:

فوجه؛ ينظر إلى خالقه وفي ذلك الوجه ألسنةٌ كثيرة، تشهد وتشير إلى الوحدانية..

ووجه آخر؛ ينظر إلى الغاية والآخرة، وفي هذا الوجه أيضاً ألسنةٌ كثيرة تدل وتشهد على الدار الآخرة واليوم الآخر.

مثلاً: كما تدل أنت -بوجودك في حُسن صنعةٍ- على وجوب وجودِ صانعك ووحدته.. كذلك تدل -بزوالك بسرعةٍ مع جامعية استعدادك الممتد آمالُه إلى الأبد- على الآخرة، فتأمل!..

وقد يتحد الوجهان؛ مثلاً: إن ما يُشاهَد على كل الموجودات من انتظام الحكمة، وتزيين العناية، وتلطيف الرحمة، وتوزين العدالة، وحسن الحفظ؛ كما تشهد على الصانع الحكيم الكريم الرحيم العادل الحفيظ، كذلك تشير بل تصرح بحقانية الآخرة وبقرب الساعة وبتحقيق السعادة.

اللّٰهُمَّ اجْعَلْنَا مِنْ أهْلِ السَّعَادَةِ وَاحْشُرْنَا فِي زُمْرَةِ السُّعَدَاءِ وَأدْخِلْنَا الْجَنَّةَ مَعَ السُّعَدَاءِ بِشَفَاعَةِ نَبِيِّكَ الْمُخْتَارِ. فَصَلِّ وَسَلِّمْ عَلَيْهِ وَعَلى آلِهِ كَمَا يَلِيقُ بِرَحْمَتِكَ وَبِحُرْمَتِهِ آمِينَ آمِينَ آمِينَ

والحمد للّٰه رب العالمين.

 

*  *  *

 

 

 

([1]) هذه الرسالة عبارة عن خلاصة قيمة لرسالة «الحشر» وهي «الكلمة العاشرة» التي فصّلت فيها مسائل هذه الرسالة بأمثلة كثيرة ، وتنسيق جديد وفق تجليات الأسماء الحسنى بعد تمهيد للأذهان بحوار لطيف وبيان صور الحشر.

([2]) المِسطَر: ما يُسطِّر به الكُتّاب.

([3]) مَرَج الشيء بالشيء: خَلَطَه.

([4]) نماذج وعينات.

([5]) جواب كما لا يمكن سلطان بلا مكافأة...

([6]) ونى: فَتَر وضعف قال تعالى:﴿ وَلا تَنِيَا فِي ذِكْرِي﴾(طه 42).

([7]) أي للتذوق.

([8]) أصل المثل: "حبلُكِ على غاربك"، ويستعمل في كنايات الطلاق. والغارب: الكاهل. يقال: ألقى حبلَ الشخص على غاربه: تركه يذهب حيث يشاء (مجمع الأمثال).

([9]) عن أبى هريرة رضي اللّٰه عنه قال: قال رسول اللّٰه r: قال اللّٰه عز وجل: «أعددتُ لعبادي الصالحين ما لا عينٌ رأت ولا أذنٌ سمعت ولا خطر على قلب بشر. واقرأوا إن شئتم: ﴿فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ﴾(السجدة: 17). رواه البخاري ومسلم برقم ( 2824) ولم يذكر الآية، والترمذي (3195) تحقيق أحمد شاكر.

([10]) السبد: ج أسباد: القليل من الشعر ، يقال: ماله سبد ولا لبد، أي لا شعر له ولا صوف ، يقال لمن لا شيء له (مجمع الأمثال)

« Önceki Sayfa  | | Sonraki Sayfa »
Ekranı Genişlet