رسول الله صلى الله عليه وسلم لما بعث معاذا رضي الله عنه على اليمن ،
قال : [ إنك تقدم على قوم أهل كتاب ، فليكن أول ما تدعوهم إليه عبادة الله ، فإذا عرفوا الله ، فأخبرهم : أن الله قد فرض عليهم خمس صلوات في يومهم وليلتهم ، فإذا فعلوا ، فأخبرهم أن الله فرض عليهم زكاة من أموالهم ، وترد على فقرائهم ، فإذا أطاعوا بها ، فخذ منهم ، وتوق كرائم أموال الناس]. (1)
والله يريدك أن تعرفه
تأمل الأيات التي يخاطبنا فيها الله ويقول اعلموا ثم يذكر اسمين من أسمائه أو وصف من أوصافه
معرفة الله هي أصل الدين وركن التوحيد وأول الواجبات الشرعية في الإسلام فمن لم يؤمن بالله ليس في ملة الإسلام مطلقا.
والعلم بالله :
إما أن يكون علم بالله دون العلم بأمر الله .
أوعلم بأمر الله دون العلم بالله .
أوعلم بالله مع العلم بأمر الله وهو العلم بالله وأسمائه وصفاته والعلم بأحكام الشريعة والفقه والحلال والحرام،
فمما يقال: من عرف الله وعرف أمره تفنن في طاعته .
لكن من عرف أمر الله ولم يعرف الله تفنن في التفلت من أمره .
الله هو عَلم على الذات الواجد المستحق لجميع المحامد، وهو الإله الحق لجميع المخلوقات ولا معبود بحق إلا هو. والله واحد، أحد، فرد، صمد، ليس له مثيل ولا نظير ولا شبيه ولا صاحبة ولا ولد ولا والد ولا وزير له ولا مشير له، ولا عديد ولا نديد ولا قسيم.
واعلم أن الحق تعالى أجل من أن يقاس بمعقول، أو محسوس ،أو يحل فيه صفات كحلول الأعراض في محلها أو تعالجه العقول العامية ،أو تتناوله الألفاظ العرفية، ولا بد من تعريفه الى الناس ،ليكملوا كمالهم الممكن لهم، فوجب أن تستعمل الصفات بمعنى وجود غاياتها ،لا بمعنى وجود مباديها ،فمعنى الرحمة افاضة النعم ،لا انعطاف القلب والرقة ،وأن تستعمل تشبيهات بشرط ألا يقصد الى أنفسها، بل الى معاني مناسبة لها في العرف ،وأن يسلب عنه كل ما لايليق به .
هو الله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة الرحمن الرحيم الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيزالجبار
المتكبر الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يدبر الأمر ما من شفيع إلا من بعد إذنه حي له الحياة قدير له صفة القدرة مريد له صفة الإرادة كلم موسى تكليما وتجلى للجبل فجعله دكا هشيما فوق سماواته مستو على عرشه بائن من خلقه يرى من فوق سبع سماوات ويسمع ضجيج الأصوات باختلاف اللغات على تفنن الحاجات ويرى دبيب النملة السوداء على الصخرة الصماء في غياهب الظلمات لا تتحرك ذرة إلا بإذنه ولا تسقط ورقة إلا بعلمه ولا يعزب عن علمه مثقال ذرة في الأرض والسموات ترفع إليه الحاجات وتصعد إليه الكلمات الطيبات وينزل من عنده الأمر بتدبير المخلوقات له القوة كلها والعز كله والجمال كله والعلم كله والكمال كله وهو الحي القيوم الذي لا تأخذه سنة ولا نوم موصوف بكل جمال منزه عن كل نقص وعيب لا تضرب له الأمثال ولا يشبه بالمخلوقات فعال لما يريد لوجهه سبحات الجلال وهو الجميل الذي له كل الجمال إحدى يديه للجود والفضل والأخرى للقسط والعدل يقبض سماواته السبع بإحدى يديه والأرضين السبع باليد الأخرى ثم يهزهن ثم يقول أنا الملك
لا ينام ولا ينبغي له أن ينام يخفض القسط ويرفعه يرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار وعمل النهار قبل عمل الليل حجابه النور لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه قريب مجيد رحيم ودود لطيف خبير
الحمد لله الأول الآخر، الباطن الظاهر، الذي هو بكل شيء عليم، الأول فليس قبله شيء، الآخر فليس بعده شيء،الظاهر فليس فوقه شيء، الباطن فليس دونه شيء، الأزلي القديم الذي لم يزل موجودًا بصفات الكمال، ولا يزال دائمًا مستمرًا باقيًا سرمديًا بلا انقضاء ولا انفصال ولا زوال. يعلم دبيب النملة السوداء، على الصخرة الصماء، في الليلة الظلماء، وعدد الرمال. وهو العلي الكبير المتعال، العلي العظيم الذي خلق كل شيء فقدره تقديرًا.
فَسبحانَ الذي بيده مَلكوتُ كُلِّ شيءٍ والَيْهِ تُرْجَعُون
اللهم يا من علم عجزي عن حمده ، أسألك بأكمل حامديك الذي كشفت له عن حقائق أسمائك وصفاتك ، ودقائق تجليات ذاتك ، فعرفك معرفة تليق بكمالاتك اللهم إلا زدتنا معرفة بجلالك
( لا إله إلاّ الله، وحده، لا شريك له، له الملك، وله الحمد يحيي، ويميت، وهو حي لا يموت، بيده الخير، وهو على كل شئ قدير، وإليه المصير )
اهمية الايمان بالله ومعرفته ومحبته
بديع الزمان سعيد النورسي في مقدمة مكتوبه العشرين يقول:
اعلم يقيناً أن اسمى غاية للخلق، واعظم نتيجة للفطرة الانسانية.. هو " الايمان بالله ".. واعلم ان أعلى مرتبة للانسانية، وافضل مقام للبشرية.. هو " معرفة الله " التي في ذلك الايمان.. واعلم ان أزهى سعادة للانس والجن، وأحلى نعمة.. هو " محبة الله " النابعة من تلك المعرفة.. واعلم أن اصفى سرور لروح الانسان، وانقى بهجة لقلبه.. هو " اللذة الروحية " المترشحة من تلك المحبة.
أجل! ان جميع انواع السعادة الحقة، والسرور الخالص، والنعمة التي ما بعدها نعمة، واللذة التي لا تفوقها لذة، انما هي في " معرفة الله ".. في " محبة الله ". فلا سعادة، ولا مسرة، ولا نعمة حقاً بدونها.
فكل من عرف الله تعالى حق المعرفة، وملأ قلبه من نور محبته، سيكون أهلاً لسعادة لا تنتهي، ولنعمة لا تنضب، ولأنوار واسرار لا تنفد، وسينالها إما فعلاً وواقعاً أو استعداداً وقابلية.بينما الذي لا يعرف خالقه حق المعرفة، ولا يكنّ له ما يليق من حب وود، يصاب بشقاء مادي ومعنوي دائمين، ويظل يعاني من الآلام والأوهام ما لا يحصر.
نعم ! ان هذا الانسان البائس الذي يتلوى ألماً من فقده مولاه وحاميه، ويضطرب من تفاهة حياته وعدم جدواها، وهو عاجز وضعيف بين جموع البشرية المنكودة.. ماذا يغنيه عما يعانيه ولو كان سلطان الدنيا كلها !!
فما اشد بؤس هذا الانسان المضطرب في دوامة حياة فانية زائلة وبين جموع سائبة من البشر ان لم يجد مولاه الحق، ولم يعرف مالكه وربه حق المعرفة ! ولكن لو وجد ربه وعرف مولاه ومالكه لالتجأ الى كنف رحمته الواسعة، واستند الى جلال قدرته المطلقة.. ولتحولت له الدنيا الموحشة روضة مؤنسة، وسوق تجارة مربحة.(*)
﴿مَا مِنْ دَابَّةٍ إلاّ هو آخِذٌ بناصِيَتها﴾(هود: 56)
لقد تراءى لعقلي في شهر ذي القعدة وانا نزيل سجن (اسكي شهر) تجلٍ عظيمٌ من أنوار اسم الله الأعظم (القيوم) الذي هو الاسم الأعظم، أو السادس من الأنوار الستة للاسم الأعظم. كما تراءت نكتة من نكات هذه الآيات الكريمة المشيرة الى القيومية الإلهية.
بيد أن ظروف السجن المحيطة بي تحول دون أن أوفي حق هذه الانوار من البيان. وحيث ان الأمام علياً رضي الله عنه قد أبرز الاسم الأعظم في قصيدته المسماة بـ(أرجوزة السكينة) لدى بيانه لسائر الاسماء الجليلة من قصيدته (البديعة). يولي أهمية خاصة لتلك الاسماء الستة، فضلاً عما يمنحه لنا – بكرامة من الله – السلوان والعزاء اثناء بحثه لتلك الأسماء، لذا سنشير باشارات مختصرة الى بيان هذا النور الأعظم لإسم الله (القيوم) - كما فعلنا مع الاسماء الخمسة الأخرى - وسنجعل تلك الاشارات في خمسة أشعة.
الشعاع الأول:
ان خالق هذا الكون ذا الجلال (قيومٌ). أي: أنه قائم بذاته، دائم بذاته، باقٍ بذاته، وجميع الأشياء والموجودات قائمة به، تدوم به، تبقى في الوجود به، وتجد البقاء به. فلو انقطع هذا الانتساب للقيومية من الكون بأقل من طرفةِ عينٍ يُمحى الكونُ كله.
ثم ان ذلك الجليل مع قيوميته ﴿لَيْسَ كَمثلِه شئٌ﴾ كما وصفه القرآن الكريم. أي لا نظير له ولا مثيل ولا شبيه ولا شريك: في ذاته.. في صفاته.. وفي أفعاله.
نعم، ان الذي يمسك الكون كله أن يزول في قبضة ربوبيته ويدير جميع شؤونه ويدبّر جميع أحواله وكيفياته بكمال الإنتظام ومنتهى التدبير وغاية الرعاية، وفي سهولة مطلقة كادارة قصر أو بيت محالٌ ان يكون له مثلٌ او مِثيلٌ أو شريك أو شبيه.
نعم، ان مَن كان خلق النجوم سهلاً عليه وهيناً كخلق الذرات.. ويسخّر أعظم شئ في الوجود كأصغره ضمن قدرته المطلقة.. ولا يمنع شئ شيئاً عنه، ولا فعلٌ فعلاً، فالأفراد غير المحدودين نصبَ نظره كالفرد الواحد، والأصوات جميعُها يسمعها معاً، ويوفي حاجات الكل في آن واحد ودفعةٍ واحدة، ولا يخرج شئ مهما كان، ولا حالةٌ مهما كانت من دائرة مشيئته ونطاق ارادته - بشهادة الأنظمة والموازين الجارية في الكون - وكما انه لا يحدّه مكانٌ فهو بقدرته وبعلمهِ حاضرٌ في كل مكان، وكما ان كل شئ بعيدٌ عنه بُعداً مطلقاً، فهو أقرب اليه من أيّ شئ.. فهذا (الحي القيوم) ذو الجلال، لابد أنه ﴿لَيْسَ كَمثلِه شئٌ﴾ فلا نظير له ولاشريك ولاوزير ولاضد ولاندّ. بل محال في حقه كل ذلك. اما شؤونُه المنزّهة الحكيمة، فيمكن ان يُنظَر اليها بمنظار المَثَل والتمثيل (وجميع أنواع الأمثال والتمثيلات والتشبيهات الواردة في رسائل النور انما هي من هذا النوع من المثل والتمثيل).
فهذا الذات الأقدس الذي لا مثيل له، وهو الواجب الوجود، والمجرّد عن المادة المنزّه عن المكان، المحال عليه التجزؤ والانقسام، والممتنع عليه التغيّر والتبدل، والذي لا يمكن أن يُتصورَ عجزه واحتياجه ابداً، هذا الذات الأقدس قد أعطى قسمٌ من أهل الضلالة احكامَ ألوهيته العظيمة الى بعضِ مخلوقاته، وذلك بتوهمهمان تجلياته سبحانه المتجلية في صفحات الكون وطبقات الموجودات هي الذات الأقدس نفسه، ففوض قسم من هؤلاء بعض آثار تجلياته سبحانه الى الطبيعة والاسباب، والحال انه قد ثبت ببراهين متعددة ناصعة وفي عديد من رسائل النور:
أن الطبيعة: ما هي الاّ صنعة الهية ولا تكون صانعاً، وهي كتاب رباني ولا تكون كاتباً، وهي نقشٌ بديع ومحال ان تكون نقّاشاً مُبدعاً، وهي كراسٌ ولا تكون واضعة القوانين وصاحبة الكراس، وهي قانونٌ ولا تكون قدرةً، وهي مسطرٌ ولا تكون مصدراً للوجود، وهي شئ منفعل ولا تكون الفاعل، وهي نظام ومحال ان تكون ناظماً، وهي شريعة فطرية وممتنع ان تكون شارعاً مشرّعاً.
ولو أفترض محالاً وأحيل خلقُ أصغر كائن حي الى الطبيعة، وقيل لها - فرضاً -: هيا أوجدي هذا الكائن - مثلاً - فينبغي للطبيعة عندئذٍ ان تهئ قوالبَ مادية ومكائن - بعدد أعضاء ذلك الكائن لكي تستطيع ان تؤدي ذلك العمل!! وقد أثبتنا محالية هذا الفرض في مواضع كثيرة من رسائل النور.
ثم ان قسماً من أهل الضلالة الذين يطلق عليهم (الماديون) يشعرون بالتجلي الأعظم للخلاقية الإلهية والقدرة الربانية في تحولات الذرات المنتظمة، ولكنهم يجهلون مصدر ذلك التجلي، ويعجزون عن ان يدركوا من أين تُدار تلك القوة العامة النابعة من تجلي القدرة الصمدانية.. فلأنهم يجهلون كل ذلك فقد شرعوا باسناد اثار الألوهية الى الذرات نفسها والى حركاتها عينها، فتوهموا أزلية المادة والقوة. فسبحان الله!! أفيمكن لإنسانٍ ان يتردى الى هذا الدرك السحيق من الجهالة والخرافة المحضة، فيسند الآثار البديعة للخالق البديع والأفعال الحكيمة للعليم البصير - وهو المتعال عن المكان والزمان - الى ذراتٍ مضطربة بتيارات المصادفات، جامدةٍ عمياء غير شاعرة، لاحول لها ولا قوة، والى حركاتها!.. أفيمكن ان يقرّ بهذا أحد؟. فمن كان له مسكةٌ من عقل لابد ان يحكم بان هذا جهلٌ ما بعده جهل، وخرافة ما بعدها خرافة.
ان هؤلاء التعساء قد وقعوا في عبادة الهة كثيرة لأنهم أعرضوا عن الوحدانية المطلقة. أي لأنهم لم يؤمنوا بالهٍ واحد، أصبحوا مضطرين الى قبول ما لا نهاية له من الآلهة!.. أي لأنهم لم يستوعبوا بعقولهم القاصرة أزلية الذات الأقدس وخلاّقيته - وهما صفتان لازمتان ذاتيتان له سبحانه - فقد اصبحوا - بحكم مسلكهم الضال - مضطرين الى قبول أزلية ذرات جامدة لا حدّ لها ولا نهاية، بل الى قبول ألوهية الذرات!
فتأمل مبلغ الحضيض الذي سقطوا فيه، وسحيق الدرك الاسفل من الجهل الذي تردّوا فيه!
نعم! ان التجلي الظاهر (للحي القيوم) في الذرات قد حوّلها الى ما يشبه الجيش المهيب المنظم بحول الله وقوته وأمره، فلو سُحب أمرُ القائد الأعظم لأقل من طرفة عين من تلك التي لا تحد من الذرات الجامدة والتي لاشعور لها ولاعقل، لظلت سائبة، بل تمحى نهائياً من الوجود.
ثم ان هناك من يتظاهرون ببُعد النظر، فيسوقون فكراً أجهل من السابق وأوغل في الخرافة منه حيث يتوهمون ان مادة الأثير هي المصدر وهي الفاعل، لقيامها بمهمة المرآة العاكسة لتجليات ربوبية الخالق سبحانه! علماً انها ألطف وأرق وأطوع صحيفة من صحائف اجراءات الصانع الجليل واكثرها تسخيراً وانقياداً، وهي وسيلة لنقل أوامره الجليلة. وهي المداد اللطيف لكتاباته، والحلّة القشيبة الشفيفة لايجاداته، والخميرة الاساس لمصنوعاته، والارض الخصبة لحبّاته.
فلا شك ان هذا الجهل العجيب المرعب يستلزم محالات لاحد لها ولا نهاية، وذلك لأن مادة الأثير هي ألطف من مادة الذرات التي
غرق بها الماديون في مستنقع الضلالة، وهي اكثف من الهيولي(3) التي ضلّ فيها الفلاسفة القدماء وتاهوا. وهي مادة جامدة لاأرادة لها ولاأختيار ولاشعور، فإسناد الافعال والآثار الى هذه المادة القابلة للأنقسام والتجزؤ والمجهّزة للقيام بوظيفة النقل وخاصة الإنفعال، والى ذراتها التي هي اصغر من الذرات لاشك انه جريمة وخطأ فاحش بعدد ذرات الأثير؛ لأن تلك الافعال والآثار الربانية لا يمكن ان تحدث الاّ بارادة من يقدِر على رؤية كل شئ في أي شئ كان ومَن يملك علماًِ محيطاً بكل شئ.
نعم! ان فعل الايجاد المشهود في الموجودات يتسم بكيفية معينة واسلوب منفرد بحيث يدل دلالة واضحة على ان الموجِد هو صاحبُ قدرةٍ قادرة واختيار طليق، يرى اكثر الاشياء، بل الكون كله لدى ايجاده أيَّ شئ كان، ولاسيما الكائن الحي ويعلم كل ما يرتبط به من الأشياء، ثم يضع ذلك الشئ في موضعه الملائم له، ويضمن له البقاء في ذلك الموقع، أي ان الاسباب المادية الجاهلة لا يمكن ان تكون بحال من الأحوال فاعلاً لها.
نعم، ان فعلاً ايجادياً - مهما كان جزئياً - يدل دلالة عظيمة - بسر القيومية - على انه فعلُ خالِق الكون فعلاً مباشراً. فالفعل المتوجّه الى ايجاد نحلة - مثلاً - يدلنا بجهتين على أنه يخص خالق الكون ورب العالمين.
الجهة الاولى
ان قيام تلك النحل مع أمثالها في جميع الأرض بالفعل نفسه في الوقت نفسه يدلنا على ان هذا الفعل الجزئي الذي نشاهده في نحلة واحدة انما هو طرفٌ لفعلٍ يحيط بسطح الارض كله. أي ان من كان فاعلاً لذلك الفعل العظيم الواسع ومالكاً له فهو صاحب ذلك الفعل الجزئي.
الجهة الثانية
لأجل ان يكون أحدٌ فاعلاً لهذا الفعل الجزئي المتوجه الى خلقِ هذه النحلة الماثلة أمامنا، ينبغي ان يكون - الفاعل - عالماً بشروط حياة تلك النحلة وأجهزتها وعلاقاتها مع الكائنات الاخرى وكيفية ضمان حياتها ومعيشتها، فيلزم اذن ان يكون ذا حكم نافذ على الكون كله ليجعل ذلك الفعل كاملاً. أي ان أصغر فعلٍ جزئي يدل من جهتين على أنه يخصّ خالقَ كل شئ. ولكن اكثر ما يحيّر الانسان ويجلب انتباهه هو: ان الأزلية والسرمدية التي هي من أخص خصائص الألوهية وألزم صفةٍ للذات الأقدس المالك لأقوى مرتبة في الوجود وهو (الوجوب) وأثبت درجة في الوجود وهو (التجرد من المادة) وأبعد طور عن الزوال وهو (التنزه عن المكان) واسلم صفة من صفات الوجود وأقدسها عن التغير والعدم وهو (الوحدة).
أقول: ان الذي يحير الانسان ويثير قلقه، ويجلب انتباهه انما هو: منح صفة الأزلية والسرمدية الى الأثير والذرات وما شابهها من المواد المادية التي لها أضعف مرتبة من مراتب الوجود، وأدق درجة فيه، واكثر أطواره تغيراً وتحولاً، وأعمها انتشاراً في المكان، ولها الكثرة التي لا تحد.. فإسناد الأزلية الى هذه المواد وتصورها أزليةً، وتوهم نشوء قسم من الآثار الألهية منها، ما هو الاّ مجافاة وأي مجافاة للحقيقة وأمرٌ منافٍ أي منافاة للواقع، وبعيد كل البعد عن منطق العقل وباطل واضح البطلان وقد أثبتنا هذا في كثير من الرسائل ببراهين رصينة.
الشعاع الثاني: وهو مسألتان:
المسألة الاولى: قال تعالى:
﴿لا تأخذُهُ سِنةٌ ولا نَومٌ﴾(البقرة: 255)
﴿ما مِنْ دابةٍ الاّ هو آخذٌ بناصِيَتِها﴾(هود: 56)
﴿لهُ مقاليدُ السّموات والارض﴾(الزمر: 63)
وأمثالها من الآيات التي تتضمن حقيقة عظمى تشير الى التجلي الأعظم لاسم الله (القيوم).. سنورد وجهاً واحداً من تلك الحقيقة، وهو الآتي:
ان قيام الأجرام السماوية في هذا الكون ودوامَها وبقاءها انما هو مشدود بسر القيومية، فلو صَرف سر القيومية وتجلّيه وجهَه - ولو لأقل من دقيقة - لتبعثرت تلك الأجرام التي تفوق ضخامة بعضها ضخامة الكرة الأرضية بألوف المرات ولإنتثرت ملايين الأجرام في فضاء غير متناهٍ ولإصطدم بعضُها ببعض ولَهَوت الى سحيق العدم.
لنوضح ذلك بمثال:
اننا مثلما نفهم قدرة قيومية مَن يُسيّر ألوف قصور ضخمة في السماء بدل الطائرات بمقدار ثبات تلك الكتل الهائلة التي في السماء ودوامها، وبمدى انتظام دورانها وانقيادها في جريها. نفهم أيضاً: تجلي الأسم الأعظم: (القيوم) من منح القيوم ذي الجلال قياماً وبقاءاً ودواماً - بسر القيومية - لأجرامٍ سماوية لا حدّ لها في أثير الفضاء الواسع، وجريانها في منتهى الإنقياد والنظام والتقدير، واسنادها وادامتها وابقائها دون عمد ولا سند، مع ان قسماً منها أكبر من الأرض ألوف المرات وقسماً منها ملايين المرات، فضلاً عن تسخير كل منها وتوظيفها في مهمة خاصة، وجعلها جميعاً كالجيش المهيب، منقادةً خاضعة خضوعاً تاماً للأوامر الصادرة ممن يملك أمر (كن فيكون). فكما ان ذلك يمكن ان يكون مثالاً قياسياً للتجلي الأعظم لاسم (القيوم) كذلك ذرات كل موجود - التي هي كالنجوم السابحة في الفضاء - فانها قائمةٌ ايضاً بسر القيومية، وتجد دوامَها وبقاءها بذلك السر.
نعم! ان بقاء ذرات جسم كل كائن حي دون ان تتبعثر وتجمّعها على هيئة معينة وتركيب معين وشكل معين حسب ما يناسب كل عضو من اعضائه، علاوةً على احتفاظها بكيانها وهيئتها أمام سيل العناصر الجارفة دون ان تتشتت، واستمرارها على نظامها المتقن..
كل ذلك لا ينشأ - كما هو معلوم بداهة - من الذرات نفسها، بل هو من سر القيومية الإلهية التي ينقاد لها كلٌّ فردٍ حي انقيادَ الطابور في الجيش، ويخضع لها كلُّ نوعٍ من أنواع الأحياء خضوعَ الجيش المنظم.
فمثلما يُعلن بقاءُ الأحياء والمركبات ودوامُها على سطح الأرض وسياحةُ النجوم وتجوالُها في الفضاء (سرَّ القيومية) تعلنه هذه الذرات أيضاً بألسنة غير معدودة.
المسألة الثانية:
هذا المقام يقتضي الاشارة الى قسم من فوائد الأشياء وحِكَمها المرتبطة بسر القيومية. ان حكمة وجود كل شئ، وغايةَ فطرته، وفائدةَ خلقه، ونتيجة حياته - كلاً منها - انما هي على أنواع ثلاثة.
النوع الاول: وهو المتوجه الى نفسه والى الانسان ومصالحه.
النوع الثاني: (وهو الأهم من الأول): هو ان كل شئ في الوجود بمثابة آية جليلة، ومكتوب رباني، وكتاب بليغ، وقصيدة رائعة، يستطيع كلُّ ذي شعور ان يطالعها ويتعرّف من خلالها على تجلّى اسماء الفاطر الجليل. أي ان كل شئ يعبّر عن معانيه الغزيرة لقرائه الذين لا يحصيهم العد.
أما النوع الثالث: فهو يخص الصانَع الجليل، وهو المتوجه اليه سبحانه، فلو كانت فائدةُ خلقِ الشئ في نفسه واحدةً فالتي يتطلع منها الى الباري الجليل هي مئات من الفوائد، حيث أنه سبحانه يجعله موضع نظره الى بدائع صنعه، ومحطّ مشاهدة تجلي أسمائه الحسنى فيه، فضمن هذا النوع الثالث العظيم من حكمة الوجود يكفي العيش لثانية واحدة.
هذا وسيوضح في (الشعاع الثالث) سرٌ من أسرار القيومية الذي يقتضي وجود كل شئ.
تأملتُ ذات يوم في فوائد الموجودات وحكمها من زاوية انكشاف(طلسم الكائنات) و (لغز الخلق) فقلت - في نفسي -: (لماذا ياتُرى، تعرض هذه الأشياء نَفسَها وتُظهِرُها ثم لاتلبث أن تختفي وترحل مسرعةً؟).. انظر الى أجسامها وشخوصها فاذا كل منها منظم منسق قد اُلبس وجوداً على قدِّه وقدره بحكمةٍ واضحة وزُيّن بأجمل زينة وألطفها، واُرسل بشخصية ذات حكمة وجسم منسق ليُعرَض أمام المشاهدين في هذا المعرض الواسع.. ولكن ما أن تمر بضعة أيام - أو بضع دقائق - الاّ وتراه يتلاشى ويختفي من دون أن يترك فائدة أو نفعاً.!! فقلت: تُرى ما الحكمة من وراء هذا الظهور لنا لفترة قصيرة كهذه؟..
كنت في لهفة شديدة للوصول الى معرفة السر.. فادركني لطفُ الرب الجليل سبحانه.. فوجدت - في ذلك الوقت - حكمةً مهمة من حِكَم مجئ الموجودات - ولا سيما الأحياء - الى مدرسة الأرض، والحكمة هي: ان كل شئ - ولا سيما الأحياء - انما هي كلمة إلهية ورسالة ربانية وقصيدةٌ عصماء، واعلانٌ صريح في منتهى البلاغة والحكمة. فبعد ان يصبح ذلك الشئ موضع مطالعة جميع ذوي الشعور، ويفي بجميع معانيه لهم ويستنفد أغراضه، تتلاشى صورتهُ الجسدية وتختفي مادتُه تلك التي هي: بحكم لفظ الكلمة وحروفها،تاركة معانيها في الوجود. لقد كفتني معرفة هذه الحكمة طوال سنة.. ولكن بعد مضيها انكشفت أمامي المعجزات الدقيقة في المصنوعات والاتقان البديع فيها ولا سيما الأحياء. فتبيّن لي:
ان هذا الأتقان البديع جداً والدقيق جداً في جميع المصنوعات ليس لمجرد افادة المعنى أمام أنظار ذوي الشعور؛ اذ رغم ان ما لا يحد من ذوي الشعور يطالعون كلَّ موجود الاّ ان مطالعتهم - مهما كانت - فهي محدودة، فضلاً عن أنه لا يستطيع كل ذي شعور ان ينفذ الى دقائق الصنعة وابداعها في الكائن الحي ولا يقدر على اكتناه جميع أسرارها.
فأهم نتيجة اذاً في خلق الأحياء وأعظم غاية لفطرتها انما هي:
عرضُ بدائع صنع (القيوم الأزلي) أمامَ نظره سبحانه، وابرازُ هدايا رحمته وآلائه العميمة التي وهبها للأحياء، أمام شهوده جل وعلا.. لقد منحتني هذه الغاية اطمئناناً كافياً وقناعة تامة لزمن مديد. وأدركت منها:
ان وجود دقائق الصنع وبدائع الخلق في كل موجود - ولا سيما الأحياء - بما يفوق الحد، انما هو لعرضها أمام (القيوم الأزلي) أي ان حكمة الخلق هي:
مشاهدة (القيوم الازلي) لبدائع خلقه بنفسه.. وهذه المشاهدة تستحق هذا البذل العميم وهذه الوفرة الهائلة في المخلوقات.
ولكن بعد مضي مدة.. رأيت أن دقائق الصنع والاتقان البديع في شخوص الموجودات وفي صورتها الظاهرة لاتدوم ولاتبقى، بل تتجدد بسرعة مذهلة، وتتبدل آناً بعد آن، وتتحول ضمن خلق مستمر متجدد وفعالية مطلقة.. فأخذتُ أوغل في التفكير مدة من الزمن.
وقلت: لابد ان حكمة هذه الخلاقية والفعالية عظيمةٌ عظمَ تلك الفعالية نفسها.. وعندها بدت الحكمتان السابقتان ناقصتين وقاصرتين عن الايفاء بالغرض. وبدأت أتحرى حكمة أخرى بلهفة عارمة، وابحث عنها باهتمام بالغ.. وبعد مدة - و لله الحمد والمنة - تراءت لي حكمةٌ عظيمة لاحد لعظمتها وغاية جليلة لامنتهى لجلالها، تراءت لي من خلال فيض نور القرآن الكريم ونبعت من سر القيومية..
فأدركت بها سراً إلهياً عظيماً في الخلق، ذلك الذي يطلق عليه (طلسم الكائنات) و (لغز المخلوقات)!
سنذكر في (الشعاع الثالث) هنا بضع نقاط من هذا السر ذكراً مجملاً حيث انه قد فصل تفصيلاً كافياً في (المكتوب الرابع والعشرين) من المكتوبات.
نعم! انظروا الى تجلي سر القيومية من هذه الزاوية وهي :
ان الله أخرج الموجودات من ظلمات العدم ووهب لها الوجودومنحها القيام والبقاء في هذا الفضاء الواسع، وبوأ الموجودات موقعاً لائقاً لتنال تجلياً من تجليات سر القيومية كما بينته الآية الكريمة: ﴿الله الذي رفعَ السمواتِ بغير عَمَدٍ تَرَوْنها﴾(الرعد:2). فلولا هذه الركيزة العظيمة وهذا المستند الرصين للموجودات، فلا بقاء لشئ بل لتدحرج كل شئ في خضم فراغ لا حدّ له، ولهوى الى العدم.
وكما تستند جميع الموجودات الى (القيوم الأزلي) ذي الجلال في وجودها وفي قيامها وبقائها، وان قيام كل شئ به سبحانه.. كذلك جميعُ أحوال الموجودات قاطبة وأوضاعها كافة وكيفياتها المتسلسلة كلها مرتبطةٌ بداياتُها أرتباطاً مباشراً بسر القيومية، كما توضحها الآية الكريمة: ﴿واليه يُرجَع الأمرُ كُلُّه﴾(هود: 123) اذ لولا استناد كل شئ الى تلك النقطة النورانية، لنتج ما هو محال لدى أرباب العقل من ألوف الدور والتسلسل، بل بعدد الموجودات. ولنوضح ذلك بمثال:
أن الحفظ، أو النور، أو الوجود، أو الرزق أو ما شابهه من أي شئ كان، انما يستند - من جهة - الى شئ آخر، وهذا يستند الى آخر، وهذا الى آخر وهكذا.. فلابد من نهاية له، اذ لا يعقل الاّ ينتهي بشئ. فمنتهى امثال هذه السلاسل كلها انما هو في (سر القيومية).
وبعد أدراك هذا السر (سر القيومية) لايبقى معنىً لأستناد أفراد تلك السلاسل الموهومة بعضها بالبعض الآخر، بل تُرفع نهائياً وتزال. فيكون كل شئ متوجهاً توجهاً مباشراً الى (سر القيومية).
الشعاع الثالث:
سنشير في مقدمة أو مقدمتين الى طرفٍ من انكشاف (سر القيومية) الذي تتضمنه الخلاقية الإلهية والفعالية الربانية كما تشير اليها امثال هذه الآيات الكريمة:
﴿كُلَّ يَوم هو في شأن﴾(الرحمن: 29)
﴿فعّالٌ لِمَا يُريدُ﴾(البروج:16)
﴿يَخْلُقُ ما يَشَاءُ﴾(الروم:54)
﴿بِيَدِهِ مَلكُوت كلِّ شىءٍ﴾(يس:83)
﴿فانْظُر الى آثارِ رَحْمتِ الله كَيْفَ يُحيي الأرض بَعْدَ مَوتِهَا﴾(الروم:50)
حينما ننظر الى الكائنات بعين التأمل، نرى: ان المخلوقات تضطرب في خضم سيل الزمان وتتعاقب قافلةً إثر قافلة. فقسمٌ منها لا يلبث ثانية ثم يغيب، وطائفة منها تأتي لدقيقة واحدة ثم تمضي الى شأنها. ونوع منها يمر الى عالم الشهادة مر الكرام ثم يلج في عالم الغيب بعد ساعة. وقسم منها يحط رحلَه في يومٍ ثم يغادر، وقسم منها يمكث سنة ثم يمضي، وقسم يمضي عصراً ثم يرحل، وآخر يقضي عصوراً ثم يترك هذا العالم.. وهكذا فكلٌ يأتي ثم يغادر بعد اداء مهمته الموكولة اليه.
فهذه السياحة المذهلة للعقول، وذلك السيل الجاري للموجودات والسفر الدائب للمخلوقات، انما تتم بنظام متقن وميزان دقيق وحكمة تامة، والذي يقود هذه الرحلة المستمرة ويمسك بزمامها، يقودها ببصيرة ويسيّرها بحكمة، ويسوقها بتدبير بحيث لو اتحدت جميع العقول واصبحت عقلاً واحداً لما بلغ معرفة كنه هذه الرحلة ولا يصل الى ادراك حكمتها، ناهيك عن ان يجد فيها نقصاً او قصوراً.
وهكذا ضمن هذه الخلاقية الربانية يسوق الخالق تلك المصنوعات اللطيفة المحبوبة اليه - ولاسيما الاحياء - الى عالم الغيب دون ان يمهلها لتتفسح في هذا العالم. ويعفيها من مهماتها في حياتها الدنيوية دون ان يدعها تنشرح وتنبسط، فيملأ دار ضيافته هذه بالضيوف ويخلّيها منهم باستمرار دون رضاهم، جاعلاً من الكرة الارضية ما يشبه لوحة كتابة - كالسبورة - يكتب فيها باستمرار قلم القضاء والقدر كتاباته ويجددها، ويبدلها، بتجليات مَن(يُحيي ويُميت).
وهكذا، فان سراً من اسرار هذه الفعالية الربانية وهذه الخلاًقيةالالهية، ومقتضياً اساساً من مقتضياتها وسبباً من الاسباب الداعية لها انما هو حكمة عظيمة لا حدّ لها ولانهاية، هذه الحكمة تتشعب الى ثلاث شعب مهمة:
فالشعبة الاولى من تلك الحكمة:
هي أن كل نوع من انواع الفعالية - جزئياً كان ام كلياً - يورث لذة، بل ان في كل فعالية لذة، بل الفعالية نفسها هي عين اللذة، بل الفعالية هي تظاهر الوجود الذي هو عين اللذة، وهو انتفاضة بالتباعد عن العدم الذي هو عين الالم.
وحيث ان صاحب كل قابلية يرقُب بلهفة ولذة ما ينكشف عن قابلياته بفعالية ما، وان تظاهر كل استعداد بفعالية انما هو ناشئٌ من لذةٍ مثلما يولّد لذةً، وان صاحب كل كمال ايضاً يتابع بلهفة ولذة تظاهر كمالاته بالفعالية، فاذا كان في كل فعالية لذة كامنة مطلوبة كهذه وكمال محبوب كهذا، والفعالية نفسها كمال، وتشاهد في عالم الاحياء تجليات أزلية لرحمة واسعة ومحبة لا نهاية لها نابعة من حياة سرمدية.. فلا شك ان تلك التجليات تدل على:
ان الذي يحبّب نفسه الى مخلوقاته، ويحبّهم ويرحمهم باسباغ نِعَمه وألطافه عليهم على هذه الصورة المطلقة، تقتضي حياته السرمدية عشقاً مطلقاً (لاهوتياً اذا جاز التعبير) ومحبة مقدسة مطلقة، ولذة - منه - منزّهة سامية.. وأمثالها من الشؤون الالهية المقدسة اللائقة بقدسيته والمناسبة لوجوب وجوده. فتلك الشؤون الالهية بمثل هذه الفعالية التي لا حد لها، وبمثل هذه الخلاقية التي لا نهاية لها، تجدّد العالَم وتبدٍّله وتخضّه خضاً.
الشعبة الثانية من حكمة الفعالية الالهية المطلقة المتوجهة الى سر القيومية:
هذه الحكمة تطل على الاسماء الالهية الحسنى.
من المعلوم ان صاحب كل جمال يرغب ان يرى جماله ويُريَه الآخرين، ويودّ صاحب المهارة ان يلفت الانظار اليه بعرض مهاراته واعلانه عنها. فالحقيقة الجميلة الكامنة، والمعنى الجميل المخبوء يتطلعان اذاً الى الانطلاق واستقطاب الانظار.
ولما كانت هذه القواعد الرصينة سارية في كل شئ، كلٍ حسب درجته. فلا بد ان كل مرتبة من مراتب كل اسمٍ من ألف اسم واسم من الاسماء الحسنى للجميل المطلق وللقيوم ذي الجلال، ينطوي على حُسنٍ حقيقي، وكمالٍ حقيقي، وجمال حقيقي، وحقيقة جميلة باهرة بشهادة الكائنات كلها، وتجليات تلك الاسماء الظاهرة عليها، واشارات نقوشها البديعة فيها، بل ان كل مرتبة من مراتب كل اسم من الاسماء الحسنى فيهامن الحسن والجمال والحقائق الجميلة ما لايحصره حدّ.
وحيث ان هذه الموجودات وهذه الكائنات هي مرايا عاكسة لتجليات جمال هذه الاسماء المقدسة.. وهي لوحات بديعة تُعرض فيها نقوش تلك الاسماء الجميلة.. وهي صحائفها التي تعبر عن حقائقها الجميلة.
فلابد ان تلك الاسماء الدائمة الخالدة ستعرض تجلياتها غير المحدودة، وتبرز نقوشها الحكيمة غير المعدودة، وتشهر صحائف كتبها امام نظر مسمّاها الحق وهو (القيوم) ذو الجلال، فضلاً عن عرضها امام انظار ما لا يعد من ذوي الارواح وذوي الشعور لمطالعتها والتأمل فيها.
ولا بد انها تجدّد الكائنات عامة وعلى الدوام بتجلياتها وتُبدِّلها إستناداً الى ذلك العشق الالهي المقدس، وبناءً على سر القيومية الالهية، وذلك لاجل ابراز لوحاتٍ لا نهاية لها من شئ محدود، وعرض شخوصٍ لا حدّ لها من شخص واحد، واظهار حقائق كثيرة جداً من حقيقة واحدة.
الشعاع الرابع:
الشعبة الثالثة من حكمة الفعالية الدائمة المحيٍّرة في الكون:
هي ان كل ذي رحمة يُسرّ بإرضاء الآخرين، وكل ذي رأفة ينشرح اذا ما أدخل السرور الى قلوب الاخرين، وهكذ يبتهج ذو المحبة بابهاج مخلوقاته الجديرة بالبهجة، كما يسعد كلُّ ذي همة عالية وصاحب غيرة وشهامة باسعاده الآخرين، ومثلما يفرح كل عادل بجعل اصحاب الحقوق ينالون حقهم ويشكرونه لوضع الحق في نصابه وانزال العقاب على المقصّرين، يزهو كلُّ صناع ماهر ويفتخر بعرض صنعته واشهار مهارته لدى قيام مصنوعاته بانتاج ما كان يتوقعه على أتم وجه يتصوره.
فكلٌ من هذه الدساتير المذكورة آنفاً، قاعدة اساسية عميقة راسخة جارية في الكون كله مثلما تجري في عالم الانسان.
ولقد وضّحنا في (الموقف الثاني من الكلمة الثانية والثلاثين) أمثلة ثلاثة تبين جريان هذه القواعد الاساسية في تجليات الاسماء الحسنى، نرى من المناسب اختصارها هنا فنقول:
ان الذي يملك رحمة فائقة وهمة عالية مع منتهى الكرم والسخاء، يسعده جداً ان يغدق على فقراء مدقعين ومحاويج مضطرين ويتفضل عليهم بكرمه وجوده، فيعدّ لهم موائد ولائم فاخرة ومأكولات نفيسة على متن سفينة عامرة تجري بهم في بحار الأرض ليُدخل البهجة والسرور في قلوبهم ضمن سياحة جميلة ونزهة لطيفة.. فهذا الشخص يستمتع من مظاهر الشكر المنبعثة من اولئك الفقراء، وينشرح صدره انشراحاً عظيماً وهو يشاهد تمتعهم بمباهج النعم والآلاء، ويفتخر بسرورهم ويزهو بفرحم.. كل ذلك بمقتضى ما أودع الله في فطرته من سجايا سامية وصفات رفيعة.
فاذا كان الانسان الذي هو بمثابة أمين على ودائع الخالق الكريم وموظف للتوزيع ليس الاّ، اذا كان يستمتع وينشرح ويتلذذ الى هذا القدر لدى اكرامه الآخرين في ضيافة جزئية، فكيف اذن ياترى بالحيالقيوم - ولله المثل الاعلى - الذي تنطلق اليه آياتُ الحمد والشكر وتُرفع اليه اكفّ الثناء والرضى بالدعاء والتضرع من مخلوقاتٍ لا حدّ لهم من الاحياء الى الانسان والملائكة والجن والارواح، الذين حملهم في سفينة الرحمن - الارض - واسبغ عليهم نِعَمه ظاهرة وباطنة بانواع مطعوماته المنسجمة تماماً مع ما غرز فيهم من اذواق وارزاق، وتفضَّل عليهم بهذه السياحة الربانية في أرجاء الكون. فضلاً عن جعله كلَّ جنةٍ من جنانه في دار الخلود، دار ضيافة دائمة معدَّة فيها كل ما تشتهيه الأنفس وتلذ الاعين... فجميع آيات الشكر والحمد والرضى المنطلقة من جميع المخلوقات قاطبة والمنبعثة من سرورهم وفرحهم وابتهاجهم بالنعم والآلاء العميمة عليهم والمتوجهة كلها الى الحي القيوم تولد من الشؤون الالهية، المقدسة التي تقتضي هذه الفعالية الدائمة والخلاقية المستمرة، تلك الشؤون التي يُعجز التعبير عنها ولم يؤذن لنا بالافصاح عنها، بل ربما يشار اليها باسماء: (الرضى المقدس) و(الافتخار المقدس) و (اللذة المقدسة) وما شابهها من الاسماء التي نُعبّر بها - نحن البشر - عن معاني الربوبية المنزّهة.
ومثال آخر:
اذا قام صنّاع ماهر، بصنع حاكٍ - بلا اسطوانة - يعبّر عما يريده منه ويعمل على افضل صورة يرغبها هو، كم يكون ذلك الصناع مفتخراً، وكم يكون متلذذاً من رؤية صنعته على هذه الصورة وكم يكون مسروراً حتى يردد في نفسه: ما شاء الله..
فاذا كانت صنعة صغيرة صورية - من دون ايجاد حقيقي - تثير في روح صانعها الى هذه الدرجة من مشاعر الافتخار والرضى. فكيف بالصانع الحكيم الذي أوجد هذه الموجودات كلها وجعلها موسيقى إلهية تعبّر عن شكرها وتسبيحها وتقديسها بأنواعٍ من النغمات وانواع من الكلام، كما جعلها مصنعاً عجيباً فضلاً عما أسبغعلى كل نوع من أنواع الكائنات، وكل عالم من عوالم الكون من صنعةٍ متقنة بديعة متباينة معجزة بخوارقها، أضف الى ذلك المكائن الكثيرة التي اودعها في رؤوس ذوي الحياة الشبيهة بالحاكي وآلات التصوير وأجهزة البث والاستقبال، بل أودع أعجب من هذه الاجهزة المعجزة حتى في رأس أصغر حيوان! بل لم يودع في رأس الانسان مجرد حاكٍ بلا اسطوانة، ولا آلة تصوير بلا عدسة، ولا هاتفاً بلا سلك بل مكائن اعجب بكثير وخوارق أعظم وأعظم مما ذكر بكثير.
فما يُنشئه عمل هذه المكائن العاملة وفق ارادته والمودَعة في رأس الانسان المخلوق في احسن تقويم من معاني الافتخار المقدس والرضى المقدس، وأمثالها من المعاني الجليلة والشؤون المقدسة للربوبية - التي هي من هذا النوع - يستلزم حتماً هذه الفعالية الدائمة المشاهدة.
ومثلاً:
ان الحاكم العادل يجد لذة ومتعة ورضىً عندما يأخذ حقَّ المظلوم من الظالم ويجعل الحق يأخذ نصابه، ويفتخر لدى صيانته الضعفاء من شرور الاقوياء، ويسر لدى منحه كل فرد ما يستحقه من حقوق.. كل ذلك من مقتضيات الحاكمية والعدالة وقواعدهما الاساس.
فلا بد ان الحاكم الحكيم العادل الذي هو (الحي القيوم) منحه شرائط الحياة في صورة حقوق الحياة للمخلوقات كافة ولاسيما الاحياء.. وباحسانه اليهم باجهزة تحافظ على حياتهم.. وبحمايته الضعفاء من شرور الاقوياء بكل رحمة ورأفة.. وبتوليه اظهار سر العدالة في الكون باعطاء كل ذي حق من الاحياء حقَّه كاملاً، وبانزال شئ من العقوبة بالظالمين - في هذه الدنيا - وبخاصة ما يحصل من التجلي الكامل للعدالة العظمى في المحكمة الكبرى ليوم الحشر الاعظم.. يحصل من كل هذا ما نعجز عن التعبير عنه من شؤون ربانية ومعانٍ قدسية جليلة هي التي تقتضي هذه الفعالية الدائمة فيالكون.
وهكذا في ضوء هذه الامثلة الثلاثة:
فان الاسماء الالهية عامة، وكلَّ اسمٍ منها خاصة، يقتضي هذه الخلاّقية الدائمة، حيث يكون محوراً لقسم من هذه الشؤون الالهية المقدسة وأمثالها ضمن هذه الفعالية الدائمة.
وحيث ان كل قابلية وكل استعداد يورث فرحاً وانشراحاً ولذةً، بمنحها الثمار والفوائد لدى انبساطها وانكشافها.. وان كل موظف يشعر - عند اتمام الوظيفة وانهائها على الوجه المطلوب - براحة وأيّ راحة.. وان جني ثمرات كثيرة من بذرة واحدة، واغتنام ربح مئات الدراهم من درهم واحد هي حالات مفرحة جداً لأصحابها وتعد تجارة رابحة لهم..
فلا بد ان يفهم مدى أهمية المعاني المقدسة وشؤون الربوبية الالهية الناشئة من الفعالية الدائمة والخلاقية الربانية التي تكشف عن جميع الاستعدادات التي لا تحد، وجميع القابليات التي لا تعد، لجميع المخلوقات غير المحدودة.. والتي تُنهي وظيفة جميع المخلوقات بعد ان تستخدمها في وظائف جسيمة وترقّيها بهذا التسريح الى مراتب أسمى وأعلى - كأن ترقى العناصر الى مرتبة المعادن، والمعادن الى حياة النباتات، والنباتات الى درجة حياة الحيوانات بما تمدّها من رزق، والحيوانات الى مرتبة الانسان الشاعرة والعالية بالشكر والحمد - والتي تجعل كل كائن يخلُف انواعاً من الوجود كروحه وماهيته وهويته وصورته بعد زوال ظاهر وجوده لتؤدي المهمة نفسها (كما وضح في المكتوب الرابع والعشرين).
جوابُ قاطع عن سؤال مهم
يقول قسم من أهل الضلالة:
ان الذي يغيّر الكائنات بفعالية دائمة ويبدلها، يلزم ان يكون هو متغيراً ومتحولاً أيضاً.
الجواب:
كلا ثم كلا. حاش لله ألف ألف مرة حاش لله!
ان تغيّر اوجه المرايا في الارض، لا يدل على تغير الشمس في السماء، بل يدل على اظهار تجدد تجليات الشمس. فكيف بالذي هو أزلي وأبدي وسرمدي وفي كمال مطلق وفي استغناء مطلق (عن الخلق) وهو الكبير المتعال المقدس عن المادة والمكان والحدود، والمنزّه عن الامكان والحدوث، فتغيّر هذا الذات الاقدس محال بالمرة.
ثم ان تغير الكائنات، ليس دليلاً على تغيّره هو، بل هو دليل على عدم تغيره، وعدم تحوّله سبحانه وتعالى. لان الذي يحرّك اشياءً عديدة بانتظام دقيق ويغيّرها، لابد الاّ يكون متغيراً والاّ يتحرك.. مثال ذلك: انك اذا كنت تحرك كرات كبيرة وصغيرة مرتبطة بعدة خيوط؛ حركة منتظمة ودائمة، وتضعها في اوضاع منتظمة، ينبغي ان تكون أنت ثابتاً في مكانك دون ان تتحول عنه والاّ اختل الانتظام.
ومن القواعد المشهورة: ان الذي يحرّك بانتظام ينبغي الاّ يتحرك، والذي يغيّر باستمرار ينبغي الاّ يكون متغيراً. كي يستمر ذلك العمل في انتظامه.
ثانياً: ان التغير والتبدل ناشئ من الحدوث، ومن التجدد بقصد الوصول الى الكمال، ومن الحاجة، ومن المادية، ومن الامكان.
أما الذات الاقدس؛ فهو قديم أزلي، وفي كمال مطلق، وفي استغناء مطلق، منزّه عن المادة، وهو الواجب الوجود، فلا بد ان التبدل والتغير محال في حقه وغير ممكن أصلاً.
الشعاع الخامس:
المسألة الاولى:
اذا اردنا ان نرى التجلي الاعظم لاسم الله (القيوم) فما علينا الاّ ان نجعل خيالنا واسعاً جداً بحيث يمكنه ان يشاهد الكون بأسره، فنجعل منه نظارتين احداهما ترى أبعد المسافات كالمرصد والاخرى تشاهد اصغر الذرات .
فاذا ما نظرنا بالمنظار الاول نرى:
ان ملايين الكرات الضخمة والكتل الهائلة التي منها ما هو اكبر من الارض بألوف المرات، قد رُفعت بتجلي اسم (القيوم) بغير عمد نراها، وهي تجري ضمن أثير لطيف ألطف من الهواء، وتسخَّر لاجل القيام بمهام عظيمة في حركاتها وفي ثباتها الظاهر.
لنرجع الآن الى المنظار الاخر.. لنرى أصغر الاشياء، فاذا بنا امام ذرات متناهية في الصغر تشكل اجسام الاحياء - بسرّ القيومية - وهي تأخذ اوضاعاً منتظمة جداً كالنجوم، وتتحرك وفق نظام معين وتناسق مخصص منجزة بها وظائف جمة، فان شئت فانظر الى الكريات الحمر والبيض تراهما تتحركان حركات خاصة شبيهة بحركات المولوية لأنجاز مهمات جسيمة في الجسم وهما تجريان في السيل الدافق للدم.
خلاصة الخلاصة :(3)
لقد ارتأينا ان ندرج هنا خلاصة تبين الضياء المقدس الحاصل من امتزاج أنوار الاسماء الستة للاسم الأعظم، كامتزاج الألوان السبعة لضوء الشمس - ولله المثل الاعلى - ولأجل مشاهدة هذا النور المقدس نسوق هذه الخلاصة:
تأمل في موجودات الكون كله وانظر اليها من وراء هذا التجلي الاعظم لاسم (القيوم) الذي منح البقاء والدوام والقيام لها ترَ: ان التجلي الاعظم لاسم (الحي) قد جعل تلك الموجودات الحية ساطعةً منورة بتجليه الباهر، وجعل الكائنات كلها منورة بنوره الزاهر، حتى يمكن مشاهدة لمعان نور الحياة على الاحياء كافة.
والآن انظر؛ الى التجلي الاعظم لاسم (الفرد) من وراء اسم (الحي) ترَه قد ضمّ جميع الكائنات بأنواعها وأجزائها واستوعبها ضمن وحدة واحدة، فهو يطبع على جبهة كل شئٍ ختم الوحدانية، ويضع على وجه كل شئ ختم الاحدية، فيجعل كل شئ يعلن تجلّيه بألسنة لا حد لها ولا نهاية.
ثم انظر من خلف اسم (الفرد) الى التجلي الاعظم لاسم (الحكم) ترَ: انه قد ضم الموجودات كلها من أعظم دائرة فيها الى أصغرها كلياً كان أم جزئياً - ابتداءً من النجوم وانتهاء الى الذرات - منح كل موجود ما يستحق من نظام مثمر وما يلائمه من انتظام حكيم وما يوافقه من انسجام مفيد. فلقد زيّن اسم (الحكم) الاعظم الموجودات كلها ورصّعها بتجليه الساطع.
ثم انظر من خلف التجلي الأعظم لأسم (الحكم) الى التجلي الاعظم لاسم (العدل) - كما اوضحناه في النكتة الثانية - ترَه يدير جميع الكائنات بموجوداتها ضمن فعالية دائمة بموازينه الدقيقة ومقاييسه الحساسة ومكاييله العادلة بحيث يجعل العقول في حيرة واعجاب، فلو فقد نجمٌ من الأجرام السماوية توازنه لثانية واحدة. أي اذا انفلت من تجلي اسم (العدل) لحلِّ الهرجُ والمرج في النجوم كلها ولأدّى - لامحالة - الى حدوث القيامة.
وهكذا فكل دائرة من دوائر الوجود وكل موجود من موجوداتها ابتداءً من الدوائر العظيمة - المسماة بدرب التبانة - الى حركات أصغر الموجودات في الجسم من كريات حمر وبيض، كلٌّ منها قدفُصّل تفصيلاً خاصاً وقُدّر تقديراً دقيقاً وقيس بمقاييس حساسة، ومُنح شكلاً معيناً ووضعاً مخصوصاً بحيث يُظهر - كل منها - الطاعة التامة والانقياد المطلق ودينونة كاملة للأوامر الصادرة من الذي يملك أمر (كن فيكون) ابتداءً من جيوش النجوم الهائلة المتلألئة في الفضاء الى جيوش الذرات المتناهية في الصغر.
فانظر الآن من خلف التجلي الاعظم لاسم الله ( العدل) ومن خلاله، وشاهد التجلي الاعظم لاسم الله (القدوس) - الذي وضحناه في النكتة الاولى - تَرَ : ان هذا التجلي الاعظم لاسم (القدوس) قد جعل موجودات الكائنات نظيفة، نقية طاهرة، براقة، صافية، زكية، مزينة، وجميلة وحوّلها الى ما يشبه مرايا جميلة مجلوة لائقة لاظهار الجمال البديع المطلق، وتناسب عرض تجليات اسمائه الحسنى.
نحصل مما تقدم:
ان هذه الاسماء والانوار الستة للاسم الاعظم، قد عمّت الكون كله وغطت الموجودات قاطبة ولَفَعَتْها باستار مزركشة ملونة بازهى الالوان المتنوعة وابدع النقوش المختلفة وأروع الزينات المتباينة.
المسألة الثانية من الشعاع الخامس:
ان جلوة من تجليات القيومية على الكون، وشعاعاً من نورها مثلما يعمّ الكون بمظاهر (الواحدية والجلال)، فانه يبرز على هذا الانسان - الذي يمثل محور الكون وقطبه وثمرته الشاعرة - مظاهر (الاحدية والجمال). وهذا يعني:
ان الكائنات التي هي قائمة بسر القيومية فهي تقوم ايضاً - من جهة - بالأنسان؛ الذي يمثل اكمل مظهر من مظاهر تجلي اسم (القيوم). أي: ان القيومية تتجلى في الانسان تجلياً يجعل منه عموداً سانداً للكائنات جميعاً، بمعنى ان معظم الحِكَم الظاهرة في الكائنات وأغلب مصالحها وغاياتها تتوجه الى الانسان.
نعم ، يصح ان يقال: ان (الحي القيوم) سبحانه قد أراد وجود الانسان في هذا الكون، فخلق الكون لاجله، وذلك لان الانسان يمكنه ان يدرك جميع الاسماء الالهية الحسنى ويتذوقها بما اودع الله فيه من مزايا وخصائص جامعة. فهو يدرك - مثلاً - كثيراً من معاني تلك الاسماء بما يتذوق من لذائذ الارزاق المنهمرة عليه، بينما لا يبلغ الملائكة الى ادراك تلك الاسماء بتلك الاذواق الرزقية.
فلأجل جامعية الانسان المهمة يُشعِر (الحي القيوم) الانسان بجميع اسمائه الحسنى، ويعرّفه بجميع انواع احسانه، ويذوّقه طعوم آلائه، فمَنحَه معدةً ماديةً يستطيع بها ان يتذوق ما أغدق عليه من نِعمٍ لذيذة قد بسطها في سُفرة واسعة سعة الارض. ثم وهب له حياة، وجعل هذه الحياة كتلك المعدة المادية تستطيع ان تتنعم بأنواع من النعم المُعَدّة على سُفرة واسعة مفروشة أمامها وتتلذذ بها بما زودها - سبحانه - من مشاعر وحواس لها القدرة ان تمتد - كالايدي - الى كل نعمة من تلك النعم، فتؤدي عند ذلك حقها من انواع الشكر والحمد.
ثم وهب له - فوق معدة الحياة هذه - معدة الانسانية، وهذه المعدة تطلب رزقاً ونعَماً ايضاً. فجعل العقل والفكر والخيال بمثابة أيدي تلك المعدة، لها القدرة على بلوغ آفاق أوسع من ميادين الحياة المشهودة، وعندها تستطيع الحياة الانسانية ان تؤدي ما عليها من شكر وحمد تجاه بارئها حيث تمتد أمامها سُفرةُ النِعَم العامرة التي تسع السماوات والارض.
ثم لأجل ان يمدّ امام الانسان سفرة نعمٍ أخرى عظيمة جعل عقائد الاسلام والايمان بمثابة معدة معنوية تطلب ارزاقاً معنوية كثيرة فمدّ سفرة مليئة بالرزق المعنوي لهذه المعدة الايمانية وبَسَطها خارج الممكنات المشاهدة. فضم الاسماء الالهية في تلك السفرة العظيمة..
ولهذا يستشعر الانسان - بتلك المعدة المعنوية - ويتمتع بأذواق رفيعة لا منتهى لها، نابعة من تجليات اسم (الرحمن) واسم (الحكيم) حتى يردد (الحمد لله على واسع رحمته وجليل حكمته).. وهكذا - مكّن الخالق المنعم الانسان - بهذه المعدة المعنوية العظمى - ليستفيد ويغنم نعماً الهية لا حد لها، ولا سيما أذواق محبته الالهية، في تلك المعدة فان لها آفاقاً لا تحد وميادين لا تحصر.
وهكذا جعل (الحي القيوم) سبحانه الانسان مركزاً للكون، ومحوراً له، بل سخّر الكون له فمدّ أمامه سفرة عظيمة عظم الكون لتتلذذ انواع معداته المادية والمعنوية.
اما حكمة قيام الكون بسر القيومية على الانسان - من جهة - فهي للوظائف المهمة الثلاث التي انيطت بالانسان:
الاولى:
تنظيم جميع انواع النعم المبثوثة في الكائنات بالانسان وربطها بأواصر المنافع التي تخص الانسان، كما تنظَّم خرز المسبحة بالخيط، فتُربط رؤوس خيوط النعم بالانسان ومصالحه ومنافعه. فيكون الانسان بما يشبه فهرساً لأنواع ما في خزائن الرحمة الالهية ونموذجاً لمحتوياتها.
الوظيفة الثانية:
كون الانسان موضع خطابه سبحانه بما أودع فيه من خصائص جامعة أهّلته ليكون موضع خطابه سبحانه وتعالى، ومقدّراً لبدائع صنائعه ومعجباً بها، ونهوضه بتقديم آلاء الشكر والثناء والحمد الشعوري التام. على ما بُسط أمامه من أنواع النعم والألاء العميمة.
الوظيفة الثالثة:
قيام الانسان بحياته بمهمة مرآة عاكسة لشؤون (الحيالقيوم)ولصفاته الجليلة المحيطة، وذلك بثلاثة وجوه:
الوجه الاول:
هو شعور الانسان بقدرة خالقه سبحانه المطلقة ودرجاتها غير المحدودة بما هو عليه من عجز مطلق. فيدرك مراتب تلك القدرة المطلقة بما يحمل من درجات العجز. ويدرك كذلك رحمة خالقه الواسعة ودرجاتها بما لديه من فقر، ويفهم أيضاً قوة خالقه العظيمة بما يكمن فيه من ضعف... وهكذا.
وبذلك يكون الانسان مؤدياً مهمة مرآةٍ قياسية صغيرة لأدراك صفات خالقه الكاملة، وذلك بما يملك من صفات قاصرة ناقصة؛ اذ كما ان الظلام كلما اشتد سطع النور اكثر، فيؤدي هذا الظلام مهمة اراءة المصابيح، فالانسان ايضاً يؤدي مهمة اراءة كمالات صفات بارئه سبحانه بما لديه من صفات ناقصة مظلمة.
الوجه الثاني:
ان ما لدى الانسان من ارادة جزئية وعلمٍ قليل وقدرة ضئيلة وتملّك في ظاهر الحال وقابلية على إعمار بيته بنفسه، يجعله يدرك بهذه الصفات الجزئية خالق الكون العظيم ويفهم مدى مالكيته الواسعة وعظيم اتقانه وسعة ارادته وهيمنة قدرته واحاطة علمه. فيدرك ان كلاً من تلك الصفات انما هي صفات مطلقة وعظيمة لا حدّ لها ولا نهاية.وبهذا يكون الانسان مؤدياً مهمة مرآة صغيرة لأظهار تلك الصفات وادراكها.
أما الوجه الثالث:
من قيام الانسان بمهمة مرآة عاكسة لكمالات الصفات الالهية فله وجهان:
lاظهاره بدائع الاسماء الالهية الحسنى المتنوعة وتجلياتهاالمختلفة في ذاته. لأن الانسان بمثابة فهرس مصغر للكون كله - بما يملك من صفات جامعة - وكأنه مثاله المصغر، لذا فتجليات الاسماء الالهية في الكون عامة نراها تتجلى في الانسان بمقياس مصغر.
lالوجه الثاني:
اداؤه مهمة المرآة العاكسة للشؤون الالهية، أي ان الانسان كما يشير بحياته الى حياة ( الحي القيوم) فانه بوساطة ما ينكشف في حياته الذاتية من حواس كالسمع والبصر وامثالها يفهم - ويبيّن للآخرين - صفات السمع والبصر وغيرها من الصفات الجليلة المطلقة (للحي القيوم).
ثم ان الانسان الذي يملك مشاعر دقيقة جداً وكثيرة جداً - وقد لا تنكشف ضمن حياته وانما عندما يحفَّز او يُثار - فتظهر تلك المشاعر بأشكال متنوعة وانفعالات مختلفة، فانه بوساطة هذه المشاعر الدقيقة والمعاني العميقة يؤدي مهمة عرض الشؤون الذاتية (للحي القيوم). فمثلاً: الحب والافتخار والرضى والانشراح والسرور وما شابهها من المعاني التي تتفجّر لدى الانسان في ظروف خاصة، يؤدي الانسان بها مهمة الاشارة الى هذه الانواع من الشؤون الالهية بما يناسب قدسية الذات الالهية وغناه المطلق وبما يليق به سبحانه وتعالى.
وكما ان الانسان وحدة قياس - بما يملك من جامعية حياته - لمعرفة صفات الله الجليلة، وشؤونه الحكيمة، وفهرس لتجلي اسمائه الحسنى، ومرآة ذات شعور بجهات عدة لذات (الحي القيوم).. كذلك - الانسان - هو وحدة قياس ايضاً لمعرفة حقائق الكون هذا، وفهرس له ومقياس وميزان.
فمثلاً: ان الدليل القاطع على وجود اللوح المحفوظ في الكون يتمثل في نموذجه المصغر وهو (القوة الحافظة) لدى الانسان. والدليل القاطع على وجود عالم المثال نلمسه في نموذجه المصغر وهو (قوة الخيال) لدى الانسان(4)،
والدليل القاطع على وجود الروحانيات في الكون ندركه ضمن نموذجها المصغر وهو (لطائف الانسان وقواه).. وهكذا يكون الانسان مقياساً مصغراً يُظهر عياناً الحقائق الايمانية في الكون بدرجة الشهود.
وهناك مهمات ووظائف وخدمات كثيرة اخرى للانسان فضلاً عمّا ذكرناه؛ اذ هو: مرآة لتجلي الجمال الباقي، وداعٍ الى الكمال السرمدي ودالّ عليه. ومحتاجٌ شاكر لأنعم الرحمة الواسعة الابدية.
فما دام الجمال باقياً والكمال سرمدياً والرحمة أبدية، فلا بد ان الانسان الذي هو المرآة المشتاقة لذلك الجمال الباقي والداعي العاشق لذلك الكمال السرمدي والمحتاج الشاكر لتلك الرحمة الابدية سيُبعث الى دار بقاء أبدية ليخلد فيها دائماً، ولابد انه سيذهب الى الابد ليرافق الباقين الخالدين هناك ويرافق ذلك الجمال الباقي وذلك الكمال السرمدي وتلك الرحمة الابدية في ابد الاباد. بل يلزم ذلك قطعاً لأن: الجمال الابدي لا يرضى بمشتاق فانٍ ومحبٍ زائلٍ. اذ الجمال يطلب محبة تجاهه مثلما يحب نفسه. بينما الزوال والفناء يحولان دون تلك المحبة ويبدلانها الى عداء.
فلو لم يرحل الانسان الى الابد، ولم يبق هناك خالداً مخلداً فسيجد في فطرته عداءً شديداً لما يحمل من سر مغروز فيه وهو المحبة العميقة نحو الجمال السرمدي. مثلما بينا ذلك في حاشيةٍ في الكلمة العاشرة (رسالة الحشر): ان حسناء بارعة الجمال عندما طردت - ذات يوم - احد عشاقها من مجلسها، انقلب عشقُ الجمال لدى العاشقالمطرود قبحاً وكرهاً حتى بدأ يسلّى نفسه بقوله: تباً لها ما أقبحها! فانكر الجمال وسخط عليه.
نعم فكما ان الانسان يعادي ما يجهله، فانه يتحرى النقص والقصور فيما تقصر يدُه عنه، ويعجز عن الاحتفاظ به ومسكه.. بل تراه يتحرى فيه عن القصور بشئ من عداء وحقد يضمره، بل يتخذ مايشبه العداء له.
فما دام الكون يشهد بان المحبوب الحقيقي والجميل المطلق سبحانه يحبّب نفسَه الى الانسان بجميع اسمائه الحسنى، ويطلب منه مقابل ذلك حباً عظيماً له، فلابد انه سبحانه لايدع هذا الانسان الذي هو محبوبه وحبيبه يسخط عليه، فلا يودع في فطرته ما يثير عداءً نحوه - أي بعدم احداث الاخرة - ولا يغرز في فطرة هذا المخلوق المكرم الممتاز، المحبوب لدى الرب الرحيم والمخلوق اصلاً للقيام بعبادته، ما هو منافٍ كلياً لفطرته من عداء خفي، ولا يمكن ان يحمّل روحه سخطاً عليه سبحانه قط؛ لأن الانسان لا يمكنه ان يداوى جرحه الغائر الناشئ من فراقه الابدي عن جمال مطلق يحبّه ويقدّره الا بالعداء نحوه، أو السخط عليه، أو انكاره؛ وكون الكفار اعداء الله نابع من هذه الزاوية.. لأجل هذا فسيجعل ذلك الجمال الازلي حتماً هذا الانسان الذي هو مرآة مشتاقة اليه مبعوثاً الى طريق أبد الآباد، ليرافق ذلك الجمال المطلق والبقاء والخلود، ولا ريب ان سيجعله ينال حياة باقية في دار باقية خالدة.
وما دام الانسان مشتاقاً فطرةً لجمال باقٍ وقد خُلقَ محباً لذلك الجمال.. وان الجمال الباقي لا يرضى بمشتاق زائل.. وان الانسان يسكّن آلامه وأحزانه الناجمة عما لا تصل اليه يدُه او يعجز عن الاحتفاظ به او يجهله، بتحري القصور فيه بل يسكّنها بعداء خفي نحوه، مسلياً نفسه بهذا العداء.. وما دام الكون قد خُلق لاجل هذاالانسان، والانسان مخلوق للمعرفة الالهية ولمحبته سبحانه وتعالى.. وخالق الكون سرمديٌ باسمائه الحسنى وتجلياته باقية دائمة.. فلا بد ان هذا الانسان سيُبعث الى دار البقاء والخلود، ولا بد ان ينال حياة باقية دائمة.
هذا وان الرسول الاكرم صلى الله عليه وسلم وهو الانسان الاكمل والدليل الاعظم على الله قد أظهر جميع ما بيّناه من كمالات الانسان وقيمته ومهمته ومثله، فأظهر تلك الكمالات في نفسه، وفي دينه، بأوضح صورة وأكملها، مما يدلنا على: ان الكائنات مثلما خُلقت لأجل الانسان، أي انه المقصود الاعظم من خلقها والمنتخب منها، فان اجلّ مقصود من خلق الانسان ايضاً وافضل مصطفى منه، بل أروع واسطع مرآة للأحد الصمد انما هو محمد عليه وعلى آله وأصحابه الصلاة والسلام بعدد حسنات أمته...
فيا الله يارحمن يارحيم يا فرد يا حيُّ با قيوم يا حكم ياعدل ياقدوس.
نسألك بحق فرقانك الحكيم وبحُرمة حبيبك الاكرم صلى الله عليه وسلم
وبحق اسمائك الحسنى وبحرمة إسمك الاعظم
ان تحفظنا من شر النفس والشيطان ومن شر الجن والانسان. آمين
(1) إن لم يكن قارئ هذه الرسالة على اطلاع واسع على العلوم، فعليه الأ يقرأ هذا الشعاع، او يقرأه في الختام، وليشرع من الشعاع الثاني.- المؤلف.
(2) الهيولي: لفظ يوناني معناه عند الفلاسفة: المادة الاولى المجردة عن الصورة من حجم وامتداد ولون ومااشبه ذلك. - المترجم.
(3) هذه الخلاصة هي الاساس الذي تستند اليها الرسائل الصغيرة للّمعة الثلاثين، وهي زبدة موضوعاتها التي تحمل أسرار الأسماء الستة الحسنى للاسم الأعظم.-المؤلف.
(4) نعم! ان عناصر الانسان مثلما تشير الى عناصر الكون وعظامه تنبئ عن أحجاره وصخوره، وأشعاره توحي الى نباتاته واشجاره، والدم الجاري في جسمه والسوائل المختلفة المترشحة من عيونه وانفه وفمه تخبر عن عيون الارض وينابيعها ومياهها المعدنية، كذلك تخبر روحُ الانسان عن عالم الارواح وحافظته عن اللوح المحفوظ وقوة خياله عن عالم المثال. وهكذا يخبر عن كلُ جهاز عن عالم ويشهد على وجوده شهادة قاطعة. - المؤلف.
(*) كليات رسائل النور - اللمعات - ص: 573
4-)
احدى نكات اسم الله الفرد
بِسْمِ الله الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
﴿قلْ هُوَ اللهُ اَحدٌ﴾
بينما انا نزيل سجن (اسكي شهر) في شهر شوال اذ تراءت لي نكتة دقيقة من النكات اللطيفة لهذه الآية الجليلة، ولاح لي قبس من انوار اسم الله الاعظم: (الفرد) - او هو أحد انواره الستة - الذي يتضمن اسمي (الواحد والأحد) من الاسماء الإلهية الحسنى.
سنبين هنا باختصار شديد التوحيد الحقيقي الذي يُظهره ذلك التجلي الاعظم. وذلك في سبع اشارات موجزة.
الاشارة الاولى:
لقد وضع اسم الله الاعظم: (الفرد) بتجليه الاعظم على الكون كله بصمات التوحيد المميز، واختامَ الوحدانية الواضحة، على مجموع الكون، وعلى كل نوعٍ فيه، وعلى كل فردٍ فيه.
ولما كانت (الكلمة الثانية والعشرون) و(المكتوب الثالث والثلاثون) قد تناولا بيان ذلك التجلي بشئ من التفصيل، نكتفي بالاشارة فقط الى ثلاث بصماتٍ واختام منها دالّة على التوحيد:
الختم الأول
ان التجلي الاعظم للفردية قد طبع على وجه (الكون) كله طابعاً مميزاً للتوحيد، وختماً واضحاً للوحدانية وضوحاً حوّل الكون كلَّه بحكم (الكل) الذي لايقبل التجزئة مطلقاً بحيث:
ان مَن لايقْدِر على أن يتصرف في الكون كله لا يمكن أن يكون مالكاً مُلكاً حقيقياً لأي جزء منه.
ولنوضح هذا الختم المميز:
ان موجودات الكون، بانواعها المختلفة، تتعاون فيما بينها تعاوناً وثيقاً، ويسعى كلٌّ جزء منها لتكملة مهمة الآخر وكأنها تمثل بمجموعها واجزائها تروس معمل بديع ودواليبه - الذي يشاهد فيه هذا التعاون بوضوح - فهذا التساند، وهذا التعاون بين الأجزاء، وهذه الاستجابة في اسعاف كلٍ منها لطلب الآخر، وامداد كلِ جزء للجزء الآخر، بل هذا التعانق والاندماج بين الأجزاء، يجعل من اجزاء الكون كله وحدةً متحدة تتعصَّى على الانقسام والانفكاك. يشبه في هذا وحدةَ أجزاء جسم الانسان الذي لا يمكن فكّ بعضها عن البعض الآخر.
نفهم من هذا ان الذي يمسك زمام عنصر واحد في الوجود، ان لم يكن زمام جميع العناصر بيده لا يستطيع أن يسيطر على ذلك العنصر الواحد أيضاً.
اذاً فـ(التعاون) و(التساند) و(التجاوب) و(التعانق) الواضحة على وجه الكون، انما هي أختام كبرى وبصمات ساطعة للتوحيد.
الختم الثاني:
ان التجلي الباهر لاسم الله (الفرد) يجعلنا نُشاهد - على وجه الارض ولا سيما في الربيع - ختماً لامعاً للأحدية، وآية جلية للوحدانية بحيث:
ان من لايدير جميع الأحياء على وجه الارض كلها بافرادها واحوالها وشؤونها كافة، والذي لايرى ولايخلق ولايعلم جميعها معاً،
لا يمكن أن يكون له تدخل في أي شئ من حيث الايجاد.
فلنوضح هذا الختم:
تأمل في هذه البُسُط المفروشة على الارض التي لحمتُها وسُداها مئتا ألف طائفة ونوع من أنواع الحيوانات وطوائف النباتات بأفرادها المتنوعة التي لا تعد ولا تحصى والتي تضفي الزينة وتنثر البهجة على نسيج الحياة على سطح الارض - وبخاصة في الربيع - تأمّلها جيداً وأدِم النظر فيها، فانها مع اختلاف اشكالها، وتباين وظائفها، واختلاف ارزاقها وتنوع اجهزتها، وامتزاجها بعضها مع البعض الآخر تشاهد: ان رزق كل ذي حياة يأتيه رغداً من كل مكان ومن حيث لا يحتسب، بلاسهو ولا نسيان، بلا انشغال ولا ارتباك، بلا خطأ ولا التباس.. فيعُطى بميزان دقيق حساس كل ما يحتاجه الفرد، في وقته المناسب، من دون تكلف ولا تكليف، مع تمييز لكلٍ منها، وهو يموج في هذا الامتزاج الهائل وفي هذا الخضم من الموجودات المتداخلة، فضلاً عما يُخْبئ باطنُ الارض من آيات التوحيد الرائعة المتلمعة من انتظام المعادن والعناصر الجامدة.
لذا فان هذا (التدبير والادارة) المشاهد في هذا الأمر الدائب على وجه الارض وباطنها انما هو آيةٌ ساطعة للأحدية، وختمٌ واضح للوحدانية، بحيث:
ان مَن لم يكن خالقاً لجميع تلك الموجودات من العدم، ومدبّراً لجميع شؤونها في آن واحد، لا يقدر على التدخل - من حيث الربوبية والايجاد - في شئ منها، لأنه لو تدخل لأفسد تلك الادارة المتوازنة الواسعة. الاّ ما يؤديه الانسان من وظيفة ظاهرية - بإذن إلهي ايضاً - لكشف تلك القوانين الربانية وحُسن سيرها.
الختم الثالث: في وجه الانسان
ان شعار التوحيد وختمه واضح وضوحاً بيناً لكل مَن يتأمل وجه أي أنسان كان، وذلك:
ان لكل انسان علامة فارقة في وجهه تُميِّزه عن غيره. فالذي لايستطيع ان يضع تلك العلامات في كل وجه، ولا يكون مطّلعاً على جميع الوجوه السابقة واللاحقة منذ آدم عليه السلام الى يوم القيامة، لا يمكنه ان يمد يده من حيث الخلق والايجاد ليضع تلك الفوارق المميزة الهائلة في ذلك الوجه الصغير لإنسان واحد.
نعم، ان الذي وضع في وجه الانسان ذلك الطابع المميز وتلك الآية الجلية بتلك العلامات الفارقة، لابد أن أفراد البشر كافة هم تحت نظره وشهوده، وضمن دائرة علمه حتى يضع ذلك الختم للتوحيد في ذلك الوجه. بحيث إنه مع التشابه الظاهر بين الاعضاء الاساس - كالعيون والانوف وغيرها من الاعضاء - لا تتشابه تشابهاً تاماً، بسبب علامات فارقة في كلٍ منها.
وكما أن تشابه الأعضاء - من عيون وأنوف - في وجوه البشر كافة دليل قاطع على وحدانية خالق البشر سبحانه وتعالى، كذلك فان العلامات الفارقة الموضوعة على كل وجه - لصيانة حقوق كل فرد في المجتمع، ولمنع الالتباس، وللتمييز، ولحِكَم أخرى كثيرة - هي الأخرى دليل واضح على الارادة المطلقة والمشيئة الكاملة لذلك الخالق الواحد سبحانه وتعالى، وآية بديعة جلية ايضاً للأحدية، بحيث:
ان الذي لا يَقدر على خلق جميع البشر والحيوانات والنباتات بل جميع الكون لا يمكنه ان يضع تلك السمة المميزة في أحد.
الاشارة الثانية:
ان عوالم الكائنات المختلفة وانواعها المتنوعة وعناصرها المتباينة قد اندمجت اندماجاً كلياً وتداخل بعضُها مع البعض الآخر، بحيث:
ان مَن لم يكن مالكاً لجميع الكون لا يمكنه ان يتصرف بنوعٍ منه أو عنصر فيه تصرفاً حقيقياً، لأن تجلي نور التوحيد لاسم الله (الفرد) قد اضاء ارجاء الكون كله، فضمّ اجزاءها كافة في وحدة متحدة،
وجعل كل جزء منه يعلن تلك الوحدانية.
فمثلاً: كما ان كون الشمس مصباحاً واحداً لهذه الكائنات يشير الى أن الكائنات بأجمعها ملكٌ لواحد، فان كون الهواء هواءً واحداً يسعى لخدمة الأحياء كلها.. وكون النار ناراً واحدة توقد بها الحاجات كلها.. وكون السحاب واحداً يسقي الارض.. وكون الامطار واحدة تأتي لأغاثة الاحياء كافة.. وانتشار أغلب الاحياء من نباتات وحيوانات انتشاراً طليقاً في ارجاء الارض كافة مع وحدة نوعيتها، ووحدة مسكنها.. كل ذلك اشارات قاطعة وشهادات صادقة أن: تلك الموجودات ومساكنها ومواضعها انما هي ملكٌ لمالك واحدٍ أحد.
ففي ضوء هذا وقياساً عليه نرى: ان تداخل الأنواع المختلفة للكائنات واندماجها الشديد ببعضها قد جعل مجموعَها بمثابة (كل) واحد لا يقبل التجزئة قطعاً من حيث الايجاد. فالذي لا يستطيع ان يُنفِّذ حكمَه على جميع الكون لا يمكنه - من حيث الخلق والربوبية - أن يُخضِع لربوبيته أي شئ فيه، حتى لو كان ذلك الشئ ذرة أو أصغر منها.
الاشارة الثالثة:
لقد تحول الكون كله - بالتجلي الاعظم لاسم الله (الفرد) - الى ما يشبه رسائل صمدانية ومكاتيب ربانية متداخلة بعضها في البعض الآخر، تزخر كلُ رسالة منها بآيات الوحدانية واختام التوحيد، وتحمل كل رسالة بصمات الأحدية بعدد كلماتها، بل ان كل كلمة فيها تُفصح عن وحدانية كاتبها؛ اذ كما يدل الختمُ أو التوقيع في الرسالة على كاتبها، فان كل زهرة وكل ثمرة، وكل عشب، وكل حيوان، وكل شجر، انما يمثل ختم الأحدية وطغراء الصمدانية وكأنها أختام لمواضعها التي تتخذ هيئة الرسائل فتبين كاتبها.
فزهرة صفراء - مثلاً - في حديقةٍ ما. هذه الزهرة هي بمثابة ختم يدل بوضوح على مصور الحديقة، فمن كان مالكاً لذلك الختم - الزهرة - فهو مالكٌ لجميع أنواع تلك الزهرة ومثيلاتها المبثوثة علىالارض كافة، ويدل ايضاً على ان تلك الحديقة كتابته.
اي ان كل شئ يُسند جميع الاشياء الى خالقها ويشير الى تجلٍ باهر عظيم لوحدانيته سبحانه.
الاشارة الرابعة:
لقد أوضحت رسائل النور في أجزائها الكثيرة ببراهين متعددة أن التجلي الاعظم لاسم الله (الفرد) مع أنه واضح وضوح الشمس، فهو مقبول في الاعماق الى حد السهولة المطلقة، وهو مستساغ عقلاً ومنطقاً الى حد الوجوب والبداهة. وبعكسه (الشرك) المنافي لذلك التجلي، فهو معقد الى أقصى حدود التعقيد، وغير منطقي اطلاقاً، وهو بعيد جداً عن المعقول الى حد المحال والامتناع.
سنبين هنا (ثلاث نقاط) من تلك الأدلة فقط، ونحيل تفاصيلها الى الرسائل الاخرى.
النقطة الاولى:
لقد أثبتنا ببراهين قاطعة في ختام (الكلمة العاشرة) وفي (الكلمة التاسعة والعشرين) اثباتاً مجملاً، وفي ختام (المكتوب العشرين) مفصلاً أنه:
من السهولة واليسر على قدرة (الأحد الفرد) سبحانه، خلقُ أعظم جِرم، وخلقُ أصغرِ شئ على حدّ سواء، فهو سبحانه يخلق الربيع الشاسع بيُسرِ خلقِ زهرةٍ واحدة، ويُحدِث في كل ربيع بسهولة بالغة آلافاً من نماذج الحشر والنشور - كما هو مشاهَد - ويُراعي شجرة ضخمة باسقة بيُسر مراعاته فاكهة صغيرة.
فلو أسنِد أيٌ من ذلك الى الأسباب المتعددة، لأصبح خلقُ كلِّ زهرةٍ فيه من المشكلات ما للربيع الشاسع، وخلقُ كل ثمرةٍ فيه من الصعوبات ما للشجرة الباسقة.
نعم، ان كان تجهيز الجيش بأكمله بالمؤن والعتاد بأمر صادر من قائد واحد، من مصدر واحد، سهلاً وبسيطاً كتجهيز جندي واحد،
يكون صعباً بل ممتنعاً ان كان كل جندي يتجهز من معامل متفرقة ويتلقى الاوامر من ادارات متعددة كثيرة، اذ عندئذٍ يحتاج كل جندي الى معامل بقدر افراد الجيش باكمله!!
فكما ان الأمر يسهل بالوحدة ويصعب بالكثرة هكذا، كذلك اذا أسنِد الخلقُ والايجادُ الى (الفرد الأحد) جل وعلا، فان خلقَ افرادٍ غير محدودة لنوعٍ واحد يكون سهلاً كخلق فرد واحد، بينما لو اُسنِد الى الأسباب، فان خلقَ كلَّ فردٍ يكون مُعضلاً وصعباً كخلق النوع الواسع الكثير.
اجل! ان الوحدانية والتفرد تجعل كل شئ منتسباً ومستنداً الى الذات الإلهية الواحدة، ويصبح هذا الانتساب والاستناد قوة لاحدّ لها لذلك الشئ، حتى يمكنه ان يُنجز من الاعمال الجسيمة، ويولّد من النتائج العظيمة ما يفوق قوته الذاتية الوفَ المرات معتمداً على سر ذلك الاستناد والانتساب.
أما الذي لا يستند ولا ينتسب الى صاحب تلك القوة العظمى ومالكها (الفرد الأحد) فسينجز من الاعمال ما تتحمله قوتُه الذاتية المحدودة جداً، وتنحسر نتائجُها تبعاً لذلك.
فمثلاً:
ان الذي انتسب الى قائد عظيم واستند اليه بصفة الجندية، يصبح له هذا الانتساب والاستناد بمثابة قوة ممدّة لا تنفد، فلا يضطر الى حمل ذخيرته وعتاده معه، لذا قد يَقْدِم على أسر قائد جيش العدو المغلوب مع آلاف ممن معه، بينما السائب الذي لم ينخرط في الجندية، مضطر الى حمل ذخيرته وعتاده معه، ومهما بلغ من الشجاعة فلا يستطيع ان يقاوم بتلك القوة الاّ بضعة افراد من العدو، وقد لا يثبت امامهم الاّ لفترة قليلة.
ومن هنا نرى أن قوة الاستناد والانتساب - التي في الفردية والوحدانية - تجعل النملة الصغيرة تقدم على اهلاك فرعون عنيد، وتجعل البعوضة الرقيقة تجهز على نمرود طاغية، وتجعل الميكروب البسيط يدمر باغياً اثيماً.. كما تمدّ البذرة الصغيرة لتحمِل على ظهرها شجرة صنوبر باسقة شاهقة.. كل ذلك باسم ذلك الانتساب وبسر ذلك الاستناد.
نعم، ان قائداً عظيماً شهماً يستطيع ان يستنفر جميع جنوده ويحشّدهم لانقاذ جندي واحد وامداده، والجندي بدوره يستشعر كأن جيشاً جراراً يسنده ويمدّه بقوة معنوية عالية حتى تمكّنه من ان ينهض باعمال جسام باسم القائد.
فالله سبحانه وتعالى (وله المثل الاعلى) لانه فرد واحد أحد، فلا حاجة في اية جهة الى أحدٍ غيره، واذا افترضت الحاجة في جهة ما، فانه يستنفر الموجودات كلها لأمداد ذلك الشئ واسناده، فيحشر سبحانه الكون كله لأجله.
وهكذا يستند كلُّ شئ الى قوة عظيمة هائلة تملك مقاليد الكون بأسره.. وهكذا يستمد كل شئ في الوجود قوته من تلك القوة الإلهية العظيمة المطلقة.. من ذلك (الفرد الأحد) جلّ وعلا.
فلولا الفردية.. لفقَد كل شئ هذه القوة الجبارة، ولسقط الى العدم وتلاشت نتائجه.
فما تراه من ظهور نتائج عظيمة هائلة من اشياء بسيطة تافهة، ترشدنا بالبداهة الى (الفردية) و (الأحدية). ولولاها لبقيت نتائج كل شئ وثماره منحصرة في قوته ومادته الضئيلة، وتصغر عندئذٍ النتائج بل تزول. الا ترى الاشياء الثمينة النفيسة كالفواكه والخضر وغيرها مبذولة ومتوافرة امامنا. ما ذلك الاّ بسر الوحدانية والانتساب وحشر جميع القوى، فلولا الفردية لما كنا نحصل بآلاف الدراهم ما نحصله اليوم من بطيخ او رمان بدراهم معدودة. فكل ما نشاهده من بساطة الامور والاشياء وسهولتها ورخصها وتوفرها انما هي من نتائج الوحدانية وتشهد بالفردية.
النقطة الثانية:
ان الموجودات تُخلق وتظهر الى الوجود بوجهين:
الاول: الخلق من العدم، وهو ما يعبَّر عنه بـ(الابداع والاختراع).
الثاني: انشاؤها من عناصر موجودة، وتركيبها ومنح الوجود لها من أشياء حاضرة، أي بـ(التركيب والانشاء).
فاذا نظرنا الى الموجودات من زاوية سر الاحدية وتجلي الفردية، نرى ان خلقها وايجادَها يكون سهلاً وهيّناً الى حد الوجوب والبداهة، بينما ان لم يُفوَّض امرُ الخلق والايجاد الى الفردية والوحدانية، فستتعقد الامور وتتشابك، وتظهر امورٌ غير معقولة وغير منطقية الى حد المحال والامتناع. وحيث اننا نرى الموجودات قاطبة تظهر الى الوجود من دون صعوبة وتكلف، ومن غير عناء، وعلى اتم صورة وكيفية، يثبت لنا بداهة اذاً تجلي الفردية، ويتبين لنا: أن كل شئ في الوجود انما هو من ابداع الاحد الفرد ذي الجلال والاكرام.
نعم، ان اسند أمر الخلق الى (الفرد الواحد الاحد) يخلق كل شئ من العدم في لمح البصر وبكل سهولة ويسر، وبقدرته المطلقة العظيمة بآثارها المشهودة. ويقدّر لكل شئ بعلمه المحيط المطلق ما يشبه قوالب معنوية وتصاميم غيبية.. فكل شئ عنده بمقدار.
فكما ان الجنود المطيعين في الجيش المنظم يساقون لأخذ مواضعهم بامر من القائد وحسب خطته الموضوعة في علمه، كذلك الذرات المطيعة للاوامر الربانية فانها تساق بالقدرة الربانية - بكل سهولة ويسر - لتأخذ مواقعها وتحافظ عليها حسب تصميمٍ موجود، وصورة موجودة، في مرآة العلم الإلهي الازلي. حتى لو لزم جمع الذرات من الانحاء المختلفة، فان جميع الذرات المرتبطة بقانون العلم الإلهي المحيط، والموثوقة الصلة بدساتير القدرة الإلهية، تصبح بمثابة الجنود المنقادين في الجيش المنظم، فتأتي مسرعة بذلك القانون وبسَوق القدرة لأخذ مواقعها في ذلك القالب العلمي والمقدار القدري المحيطين بوجود ذلك الشئ.
بل كما تظهر الصورةُ المثالية المتمثلة في المرآة على الورقة الحساسة في آله التصوير وتلبس وجوداً محسوساً خارجياً، وكما تظهر وتشاهَد الكتابة المخفية السرية بامرار مادة كيمياوية عليها، كذلك الأمر في صورة جميع الموجودات، وماهية جميع الاشياء الموجودة في مرآة العلم الإلهي الفرد الاحد، فان القدرة الإلهية المطلقة تُلبسها - بكل سهولة ويسر - وجوداً خارجياً محسوساً، فتظهر للعيان في عالم الشهادة، بعد ان كانت في عالم المعنى والغيب.
ولكن ان لم يُسند أمرُ الخلق الى (الفرد الاحد) فعندئذٍ يلزم لخلق ذبابة واحدة مسح وتفتيش سطح الارض وغربلة عناصرها جميعاً وذراتها المعينة لوجود معين ثم وزنها بميزان دقيق حساس، لوضع كل ذرة في موضعها المخصص لها، حسب قوالب مادية بعدد اجهزتها واعضائها المتقنة، وذلك لكي يأخذ كل شئ مكانه اللائق به، فضلاً عن جلب المشاعر والاحاسيس الروحية الدقيقة واللطائف المعنوية من العوالم المعنوية والروحية بعد وزنها ايضاً بميزان دقيق حسب حاجة الذبابة!!
ألا يكون - بهذا الاعتبار - خلق ذبابة واحدة صعباً ممتنعاً كايجاد جميع الكائنات؟! أليس فيه الصعوبات تلو الصعوبات والمحالات ضمن المحالات؟!
لذا اتفق جميع اهل الايمان والعلم: انه لا يخلق من العدم الاّ الخالق (الفرد) سبحانه وتعالى.ولهذا لوفوّض الأمر الى الاسباب والطبيعة يستلزم لوجود شئ واحد الجمع من اكثر الاشياء.
النقطة الثالثة:
لقد اوردنا امثلة كثيرة في رسائل شتى تشير الى: ان اسناد الخلق الى الفرد الواحد الاحد يجعل خلق جميع الاشياء سهلاً كالشئ الواحد، وبعكسه اذا اُسنِد الى الطبيعة والاسباب فخلق الشئ الواحد يكون صعباً ممتنعاً كخلق جميع الاشياء..
نقتصر منها هنا على ثلاثة أمثلة فقط:
المثال الاول:
اذا اُحيلت ادارة الف جندي الى ضابط واحد، واُحيلت ادارةُ جندي واحد الى عشرة ضباط، فان ادارة هذا الجندي تكون ذات مشكلات وصعوبات بمقدار عشرة اضعاف ادارة تلك الفرقة من الجنود وذلك:
لأن الأمراء العديدين سيعادي بعضُهم بعضاً، وستتعارض اوامرُهم حتماً، فلا يجد ذلك الجندي راحة بين منازعة امرائه. بعكسه تماماً ذلك الضابط الذي يدير باوامره فرقة كاملة من الجنود وكأنه يدير جندياً واحداً، وينفّذ خطته وما يريده من الفرقة بتدبيره كل شئ بسهولة ويسر، علماً انه يتعذر الوصول الى هذه النتيجة اذا ترك الامر الى جنود سائبين.
المثال الثاني:
اذا سُلّم أمر بناء قبة جامع (أيا صوفيا) الى بنّاء ماهر، فانه يقوم به بكل سهولة ويسر، بينما اذا سُلم بناؤها الى احجارها، للزم ان يكون كل حجرٍ حاكماً مطلقاً على سائر الاحجار، ومحكوماً لها في الوقت نفسه كي تأخذ القبة المعلقة الشامخة شكلها! فبينما كان البنّاء الماهر يصرف جهداً قليلاً - لسهولة الأمر لديه - تصرف الآن مئات من البنّائين - الاحجار - اضعاف اضعاف ذلك الجهد من دون الحصول على نتيجة!!.
المثال الثالث:
ان الكرة الارضية مأمورة وموظفة من لدن (الفرد الواحد) سبحانه، وهي كالجندي المطيع لله الواحد الأحد، فحينما تستلم الأمر الواحد، الصادر من آمرها الأحد، تهبّ منتشية بأمر مولاها وتنغمر في جذبات وظيفتها في شوق عارم، وتدور كالمريد المولوي العاشق - عند قيامه للسماع - فتكون وسيلة لحصول المواسم الاربعة، واختلاف الليل والنهار وظهور الحركات الرفيعة العظيمة، والكشف عن مناظر خلابة لقبة السماء المهيبة وتبديلها باستمرار كتبدل المشاهد السينمائية.. ويكون سبباً لحصول امثال هذه النتائج الجليلة، حتى لكأن الارض هي القائد لتلك المناورة العسكرية المهيبة بين نجوم الكون.
ولكن ان لم يُسند الأمر الى (الفرد الأحد) الذي احاط بحاكمية ألوهيته وسلطان ربوبيته الكون كله، والذي ينفذ حكمه وأمره في كل صغيرة وكبيرة في الوجود، فعندئذٍ يلزم وجود ملايين النجوم التي تكبر الارض بالوف المرات، ولابد من ان تسير هذه النجوم في مدار اكبر واوسع بملايين المرات من مدار الارض كي تظهر تلك المناورة السماوية والارضية وتلك النتائج نفسها التي تتولد من حركتي الارض السنوية واليومية بكل سهولة ويسر.
وهكذا فان حصول هذه النتائج الجليلة الناشئة من حركتي الارض حول محورها ومدارها - حركة تشبه حركات المولوي العاشق - يظهر لنا مدى السهولة والفطرية والبساطة في الأحدية والفردية، ويبين لنا في الوقت نفسه كم هي مملوءة طريق الشرك والكفر بالمحالات التي لا حد لها وبالامور الباطلة غير المعقولة.
وبعد..
فلاحظ الآن بمنظار هذا المثال الآتي جهل المتشدقين بالطبيعة وعبّاد الاسباب، لتعلم في أي دَرَك من وحل الحماقة يتمرغون وفي اي بيداء وهمٍ يتيهون، وقس عليه مدى بُعدهم كل البعد عن ميدان المنطق والعقل السليم:
معمل عظيم.. كتاب رائع.. قصر مشيد.. ساعة دقيقة.. لاشك ان الذي صنع كلاً من هذه قد نظمه ونسقه بدقة وعناية، ويجيد ادارته ويرعاه، ولاشك انه أراد في صنع كل منها اظهار محاسن صنعته وابراز بدائع عمله.
فان احال احدُهم ادارة المعمل العظيم الى دواليب المعمل نفسه، وفوّض بناء القصر المنيف الى احجار القصر نفسه، واسند معاني الكتاب الجميلة الى الحروف نفسها، فكأنه قد جعل كل جزء من أجزاء المعمل ذا قدرة عظيمة لتنظيم نفسه وغيره! وجعل كل حرف من حروف الكتاب بل الورق والقلم شيئاً خارقاً يبدع الكتاب نفسه! اي انه يحيل روعة الانتظام في المعمل الى دواليب المعمل، ويسند جمال المعنى في الكتاب الى توافق الحروف من تلقاء نفسها!!
ايّ هذرٍ هذا! وايّ وَهْم! أليس الذي يتفوه به بعيداً كل البعد عن سلامة العقل؟ فالذين يحيلون أمر الخلق والايجاد في هذا الكون البديع الى الاسباب والى الطبيعة يهوون في جهل مركب سحيق كهذا. وذلك لأن مظاهر الابداع واضحة على الاسباب والطبيعة نفسها، فهي مخلوقة كسائر المخلوقات. فالذي خلقها – على هذه الصورة البديعة – هو الذي يخلق آثارها ونتائجها ايضاً، ويظهرها معاً.. فالذي خلق البذرة هو الذي أنشأ عليها شجرتها، وهو الذي يخرج اثمارها وازهارها من اكمامها..
بينما ان لم يُسند خلق الاسباب والطبيعة مع اثارهما الى الواحد الأحد، يلزم لوجود انواع الاسباب وانماط الطبيعة المختلفة، انواع من الاسباب والطبيعة المنتظمة المنسقة المختلفة . وهكذا تستمر سلسلة موهومة ممتنعة لا معنى لها ولا نهاية!
وهذا من أعجب عجائب الجهل واتعسه!!
الاشارة الخامسة:
لقد أثبتنا في مواضع متعددة من الرسائل وببراهين دامغة: ان الاستقلال والانفراد من أخص خصائص الحاكمية، حتى ان هذا الانسان الذي هو عاجز عجزاً شديداً، ولا يملك من الحاكمية سوى ظل باهت، نراه يردّ بكل قوة اي فضول كان من الآخرين، ويرفض بكل شدة اي تدخل كان منهم في شؤونه، صوناً منه لاستقلاله وانفراده في الأمر. بل ذُكِر في التاريخ ان كثيراً من السلاطين قد سفكوا دماءً زكية لأبنائهم الأبرياء واخوانهم الطيبين حينما شعروا بتدخل منهم في شؤونهم.
اذن فالاستقلال والانفراد ورفض مداخلة الآخرين هو من أخصّ خصائص الحاكمية الحقة، لا فكاك لها عنه. بل هو لازمها ومقتضاها الدائم.
فالحاكمية الإلهية التي هي في ربوبية مطلقة تردّ بكل شدة الشرك والاشتراك مهما كان نوعه، ولا تقبل تدخلاً ما من سواها قط، ومن هنا نرى القرآن الكريم يفيض في بيان التوحيد الخالص ويردّ الشرك والمشاركة باسلوب شديد وبتهديد مروّع..
فكما اقتضت الحاكمية الإلهية - التي هي في الربوبية المطلقة - التوحيد والوحدانية بقطعية تامة، واظهرت مقتضى شديداً وداعياً قوياً لها، كذلك النظام المتقن والانسجام البديع المشاهدان في الكون - ابتداء من النجوم والنباتات والحيوانات والأرض والمعادن وانتهاء بالجزئيات والافراد والذرات - كل منهما شاهدُ عدلٍ، وبرهان باهر على تلك الوحدانية والفردية، فلا يسمح قط لريبة أو لشبهة، إذ لو كان هناك تدخل مما سوى الواحد الأحد، لفسد هذا النظام البديع الرصين، واختل هذا التوزان المحكم المشاهَد في جميع اجزاء الكون، فصدق الله العظيم الذي قال: ﴿لو كانَ فيهما آلِهةٌ إلاّ الله لَفَسَدتا ﴾(الانبياء: 22)
نعم، لو كان هناك اي تدخل مهما كان لظهرت آثارُه باديةً، الاّ أن الدعوة الصريحة في الاية الكريمة: ﴿فارجِعِ البَصَرَ هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ﴾(الملك:3) تريك هذا النظام البديع بكل وضوح وجلاء حتى لا ترى ثغرة ولا لبساً ولا نقصاً في جهة من الجهات ابتداءً من الذرات الى المجرات.
اذاً فالنظام الرصين في الكون، والانتظام الرائع في المخلوقات كافة، والموازنة الدقيقة بين الموجودات.. يظهر لنا التجلي الاعظم لاسم (الفرد) ويشهد شهادة واضحة على الوحدانية.
ثم ان اي مخلوق مهما كان صغيراً، انما هو مثال مصغر للكون كله ونموذجه، وفهرسه المختصر، بمقتضى تجلي الأحدية. فلا يكون مالكاً لذلك المخلوق الحي الصغير الاّ مَن كان بيده زمام الكون كله وله الأمر جميعاً. وحيث ان كل بذرة متناهية في الصغر ليست بأقل ابداعاً في الخلق من شجرة ضخمة، وأن كل شجرة باسقة تضاهي في خلقها خلق الكائنات، وكل كائن حي صغير انما هو بحكم عالم مصغّر، وكون صغير فان تجلي الأحدية هذا يجعل الشرك والاشتراك محالاً ممتنعاً.
ثم ان في هذا الكون في ضوء هذا السر - سر الأحدية - ليس كلاً يستعصي على التجزئة وحدها بل ايضاً هو كلّي من حيث الماهية، لا يقبل الانقسام والاشتراك والتجزئة وتدخل الايدي المتعددة قط، فإن كل جزء فيه بحكم جزئي وفرد منه وكل الكون هو بحكم الكلي، فليس فيه موضع للاشتراك في أية جهة كانت.
فهذا التجلي الاعظم لأسم (الفرد) يثبت حقيقة التوحيد بهذا السر للأحدية، بدرجة البداهة.
نعم، ان اندماج انواع الكائنات واندغامها فيما بينها، وتوجه وظيفة كل منها الى عموم الكائنات مثلما يجعل الكون كلاً واحداً يستعصي على التجزئة قطعاً – من حيث الخلق والربوبية - كذلك الافعال العمومية المحيطة بالكائنات والتي تظهر أثارها وفعالياتها في الكائنات عموماً تجعل الكون ايضاً كلاً واحداً - من حيث تداخلها ببعضها - حتى يرفض التجزئة ويردّها ردّاً قوياً. ولتوضيح ذلك
نسوق المثال الآتي:
حالما توهب الحياة للكائن يظهر فعل الاعاشة والإرزاق فيه مباشرة. وضمن افعال الاعاشة والإحياء هذه، يشاهَد مباشرةً فعلُ تنظيمِ جسد ذلك الكائن وتنسيق اعضائه، وتجهيزه بما يحتاج ويلزم. وحينما تظهر افعالُ الاعاشة والإحياء والتنظيم والتجهيز يفعل التصويرُ والتربية والتدبير فعلَه في الوقت نفسه.. وهكذا.
فتداخل امثال هذه الافعال المحيطة العامة بعضها بالبعض الآخر، واتحادها ببعضها، وامتزاجها كامتزاج الالوان السبعة في الطيف الشمسي، ثم احاطة كل فعل من تلك الافعال وشموله - مع وحدته من حيث الماهية - للموجودات كلها في وحدة واحدة، وكون كل فعلٍ منها فعلاً وحدانياً.. يدل دلالة واضحة على أن فاعلَه واحدٌ أحد فرد..
وكما أن استيلاء كل فعل - من تلك الافعال - وهيمنته على الكائنات قاطبة، واتحاده مع سائر الافعال في تعاون وثيق، يجعل الكون كلاً غير قابل للتجزئة.. كذلك فان كل مخلوق حي من حيث كونه بمثابة بذرة الكون وفهرسه ونموذجه يجعل الكون كلياً غير قابل للانقسام والتجزئة - من حيث الربوبية - بل يجعل انقسامه محالاً وخارجاً عن الامكان، أي أن الكون بهذا هو كلٌّ لا يتجزأ، فلا يكون اذاً ربُّ الجزء الاّ من كان رباً للكل. وهو كلي ايضاً بحيث يكون كل جزء منه بحكم فرد، فلا يكون رباً للفرد الواحد الاّ من كان زمام ذلك الكلي بيده.
الاشارة السادسة:
كما ان انفراد الله سبحانه وتعالى بالربوبية،وتوحيده بالالوهية هو اساس جميع الكمالات(1) ومنشأ المقاصد السامية، ومنبع الحِكَم
المودَعة في خلق الكون، كذلك هو الغاية القصوى، والبلسم الشافي، لتطمين رغبات كل ذي شعور وذي عقل ولاسيما الانسان، فلولا الفردية لانطفأت شعلةُ رغباته ومطالبه كلها وتنمحي جميعُ الحِكَم المودَعة في خلق الكون، وتتلاشى اكثرُ الكمالات الموجودة والثابتة وتنعدم.
فمثلا: ان رغبة (حب البقاء) بل عشقه، عميقة في الانسان.. هذه الرغبة العريقة لايحققها ولا يسكّنها ويُطمئنُها الاّ مَن هو مالك لمقاليد الكون، الذي يفتح باب البقاء السرمدي أمام الانسان بالآخرة، بعد أن يُنهي هذه الدنيا الفانية ويغلق ابوابها كسهولة غلق غرفة وفتح اخرى.
وهناك رغبات اخرى كثيرة جدا ًللانسان امثال هذه الرغبة، كلها ممتدة الى غير نهاية معلومة ومتشعبة في ثنايا الكائنات جميعاً.. فهذه الرغبات جميعها مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بحقيقة التوحيد، ومشدودة مع سر الفردية. فلولا ذلك السرّ لبقيت هذه الرغبات عقيمة دون نتائج، قاصرة عن بلوغ مداها، مبتورة منكمشة. ولولا تصرف الواحد الأحد في الكون كله لما اطمأنت ولا حصلت تلك الرغبات ولو حصلت حصلت مبتورة.
فالايمان بالوحدانية، وبقدرة (الفرد الواحد الأحد) المطلقة اذاً هو وحده الكفيل باحلال الطمأنينة والسكون في تلك الرغبات المتأججة لدى الانسان.
من اجل هذا السر العظيم نرى القرآن الكريم يذكر التوحيد والوحدانية بكل حرارة وشوق، ويكررها بكل حلاوة وذوق، وان الانبياء - عليهم السلام - والاصفياء والعلماء والاولياء الصالحين يجدون بغيتهم وذوقهم السامي، بل منتهى سعادتهم في افضل ما قالوه: (لا إله إلاّ هو).
الاشارة السابعة:
ان هذا التوحيد الحقيقي، بجميع مراتبه، وبأتم صورته الكاملة، قد أثبته واعلنه وفهّمه وبلّغه محمد صلى الله عليه وسلم ، فلابد ان رسالته ثابتة وقاطعة كقطعية ثبوت التوحيد نفسه؛ لانه: لما كان التوحيد هو اعظم حقيقة في عالم الوجود، وان الرسول الاعظم صلى الله عليه وسلم هو الذي تولى تبليغه وتعليمه بجميع حقائقه، فلابد ان جميع البراهين التي تثبت التوحيد، تكون بدورها براهين لاثبات رسالته وادلة على صدق نبوته واحقية دعوته صلى الله عليه وسلم ، فرسالة كهذه الرسالة العظمى التي تضم الوفاً من امثال هذه الحقائق السامية وتكشف عن حقيقة التوحيد وترشد اليه وتلقنه، لا شك انها رسالة يقتضيها ذلك التوحيد وتلك الفردية.
فمَن ذا غير محمد صلى الله عليه وسلم الذي أدىّ الأمانة على افضل وجه وبلّغ الرسالة على اجمل صورة؟.
سنذكر ثلاثة نماذج، مثالاً لتلك الادلة الكثيرة والاسباب العديدة التي تشهد بعظمة الشخصية المعنوية لهذا النبي الكريم صلى الله عليه وسلم وتدل على علو منزلته الرفيعة، وتبيّن انه السراج المنير لهذه الكائنات وشمسها الساطعة.
الدليل الاول:
ان ثواب جميع الحسنات التي ينالها جميع افراد الامة، وعلى مدى جميع العصور مكتوبٌ مثلُه في صحيفة حسناته صلى الله عليه وسلم ، اذ هو السبب في نيل كل ثواب تناله امتُه الى يوم القيامة، حيث (السبب كالفاعل)..
تأمل في هذا ثم فكّر في المقام المعظم اللائق الذي يقتضيه مجموع الادعية غير المحدودة من الصلوات المقبولة المرفوعة يومياً من الأمة كافة.. تدرك عندئذٍ، درجته العالية الرفيعة وتفهم ان شخصيته المعنوية شمس الكائنات والسراج المنير للخلق اجمعين.
الدليل الثاني:
ان بذرة الشجرة الوارفة للاسلام، ومنشأها، وحياتها، ومنبعها انما هي حقيقة الماهية المحمدية، بما تملك من فطرة سامية، وخلقة كاملة. فتذكّر هذا ثم فكّر في الرقي الروحي لهذا الرسول الحبيب صلى الله عليه وسلم النابع من استشعاره الكامل الأتم لجميع معاني ومراتب عبادته، واذكاره، وكلماته الشريفة، والذي يمثل بمجموعه روح الاسلام وحقيقته. لتعلم مدى علو مرتبة ولاية عبوديته صلى الله عليه وسلم الى الدرجة الرفيعة، درجة الحبيبية. وافهم مبلغ سموّها.
ولقد فتح الله عليّ يوماً في سجدةٍ في صلاةٍ، بعض المعاني والانوار المشعة من كلمة (سبحان ربي الاعلى) بما يقرب من فهم الصحابة رضوان الله عليهم اجمعين من هذه الكلمة المقدسة. فتبين لي يقيناً انها خير من عبادة شهر، فادركتُ بها المنزلة العظيمة والدرجة العالية التي يحظى بها الصحابة الكرام رضوان الله عليهم اجمعين.
نعم، ان الانوار التي تشعها الكلمات المقدسة، وفيوضاتها في بدء الاسلام لها مزايا خاصة، وذلك لجدّتها، ولها من اللطافة والطراوة واللذة ما تتناقص بمرور الزمن وتتستر تحت ستار الغفلة.
والآن، وفي ضوء ما سبق تأمل مكانة الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم الذي تناول الكلام المقدس، ورَشَفَه من المنبع الأقدس، واستوعب انواره بالوحي الإلهي بكامل جدّته وطراوته ولطافته. مع ما فُطر عليه من استعداد كامل.. فالانوار والفيوضات الكامنة في تسبيحةٍ واحدة منه صلى الله عليه وسلم هي خيرٌ وأعم من جميع الانوار التي تملأ ارجاء عبادة سنة كاملة عند غيره.!.
قس على هذا المنوال، كي تعلم كم بلغ رسولنا الحبيب صلى الله عليه وسلم من درجات الكمال التي لا حد لها ولا نهاية.
الدليل الثالث:
ان الانسان يمثل اعظم مقصد من المقاصد الإلهية في الكون، وهو المؤهَّل لإدراك الخطاب الرباني. وقد اختاره سبحانه من بين مخلوقاته، واصطفى من بين الانسان المكرّم مَن هو اكمل وأفضل واعظم انسان بأعماله وآثاره الكاملة، ليكون موضع خطابه الجليل باسم النوع الانساني كافة، بل باسم الكائنات جميعاً.
فلا ريب ان الله سبحانه الفرد الجليل الذي هيأ رسوله الحبيب صلى الله عليه وسلم لهذه المرتبة اللائقة به قد منحه من الانوار والكمالات ما لا يحد بحدود.
وهكذا وبمثل هذه الدلائل الثلاثة ودلائل اخرى كثيرة يَثبت لدينا يقيناً:
ان الشخصية المعنوية للرسول الكريم صلى الله عليه وسلم ، شمس معنوية ساطعة للكائنات. وسراج منير لامع لها، كما انها الآية العظمى من قرآن الكون، والاسم الاعظم للفرقان الاعظم، ومرآة صافية للتجلي الاعظم لانوار اسم (الفرد) عزّوجل.
فاللّهم يا أحدُ، يا فردُ، ياصمدُ، أنزِل من بركات خزينة رحمتك التي لا تنفد صلواتٍ وسلاماً على تلك الذات النبوية الشريفة، بعدد ذرات الكون مضروباً بعدد عاشرات جميع ازمنة الكون.
(1) حتى ان التوحيد هو نفسه أوضح برهان، وأسطع دليل على الكمال والجمال الإلهي، لأنه: اذا عُرف ان صانع الكون واحد أحد، فسيُعرف جميع انواع الكمال والجمال المشاهدة في الوجود، بأنها: ظلال وتجليات وعلامات لانواع الكمال المقدس وانماط الجمال المنزّه لذلك الصانع الواحد الأحد لذلك الكمال المقدس والجمال المنزه، بينما اذا لم يُعرف الصانعُ الواحد، فستحال تلك الكمالات وانواع الجمال الى الاسباب التي لاشعور لها والى مخلوقات عاجزة، وعندها يحار العقل البشري امام خزائن الكمال والجمال السرمديين، لانه فقد مفتاح تلك الكنوز الخالدة. المولف.
(*) كليات رسائل النور - اللمعات - ص: 539
5-)
احدى نكات اسم الله الحي
بِسْمِ الله الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
﴿فانْظُر الى اثارِ رحْمتِ الله كيفَ يُحْيي الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِها
إنّ ذلك لَمُحْيي الموتى وهو على كل شيءٍ قدير﴾(الروم:50)
﴿الله لا اله الاّ هو الحيُّ القيُّومُ لا تأخُذُهُ سِنَةٌ ولا نوٌم... ﴾(البقرة: 255)
لقد تراءت في افق عقلي نكتة من النكات الدقيقة للآيتين المذكورتين، وتجلٍ من تجليات نور الاسم الاعظم (الحي) أو أحد
نورَيه، أو أحد انواره الستة، وذلك. في شهر شوال عندما كنت في سجن (اسكي شهر). فلم اتَمكن ان اثبّتها في حينه، ولم استطع ان اقتنص ذلك الطائر السامي، ولكن بعدما تباعد ذلك القَبسُ الوضئ اضطررت الى الاشارة اليه بوضع رموزٍ ترمز الى اشعةِ تلك الحقيقة الكبرى، وذلك النور الاعظم.
وسأشير اليها هنا باختصار:
الرمز الأول:
ما (الحياة) التي هي تجلٍ أعظم لأسم الله (الحي المحيي)؟
وما ماهيتها؟
وما مهمتها؟
جواب هذا السؤال نُدرجه على صورة فهرس، على النحو الآتي:
الحياة هي لهذه الكائنات:
• أهمُّ غاية..
• وأعظمُ نتيجة..
• وأسطع نور..
• وألطفُ خميرة..
• وأصفى خلاصة..
• وأكملُ ثمرة..
• وأسمى كمال..
• وأزهى جمال..
• وأبهى زينة..
• وهي سرُّ وحدتها..
• ورابطةُ اتحادها..
• ومنشأ كمالاتها..
• وهي أبدع ذاتِ روحٍٍ فيها، من حيث الاتقان والماهية..
• وهي حقيقتُها المعجزة؛ تُصير أصغر مخلوقٍ عالَماً بحدّ ذاته..
• وهي اروع معجزات القدرة الإلهية؛ بجعلها الكائن الحي بمثابة كونٍ مصغر، فكأنها - اي الحياة - وسيلةٌ لأنطواء الكائنات في ذلك الكائن الحي الصغير؛ بما تُظهر فيه ما يشبه فهرس الكون العظيم، كما تجعله في رباط وثيق مع معظم الموجودات..
• وهي صنعةٌ الهية خارقة؛ تكبِّر الجزء الضئيل الى اكبر كلٍّ، حتى انها تجعل الفردَ بحكم العالَم وكأنه كلّي. وتُعرض الكونَ - من حيث الربوبية - في حكم الكلّ والكلي الذي لا يقبل التجزئة والاشتراك والانقسام..
• وهي أسطعُ برهانٍ ضمن ماهيات الكائنات، واثبتُه واكملُه، يشهد على وجوب وجوده سبحانهُ، وعلى أنه (الحي القيوم) ويدل على وحدته وأحديته جل وعلا..
• وهي أبلغ صورة لصنعة ربانية حكيمة - ضمن المصنوعات الإلهية - واخفاها وأظهرها وأثمنها وازهدها وأنزهها وألمعها.
• وهي اعجوبة الخلقة الربانية؛ اذ تجمع تجليات اسم (الرحمن، الرزاق، الرحيم، الكريم، الحكيم وأمثالها من الاسماء الحسنى) وتجعل الحقائق الكثيرة والمشاهَدة كالرزق والحكمة والعناية والرحمة تابعة لها، فتقودها، مثلما هي منشأ جميع المشاعر ومعدن الحواس العامة كالبصر والسمع والشعور..
• وهي ماكنة تنظيفٍ عظيمة، وجهاز استحالةٍ عجيبة في مصنع الكائنات حيث تقوم بالتصفية والتطهير في كل نواحيه؛ فتطهِّر الشئ وتمنحُه الرقيَ وتنوّره، وكأن الجسدَ الذي هو عشّ الحياة - دارُ ضيافةٍ لقوافل الذرات ومدرستُها ومعسكرُها؛ تتعلم فيه وظائفها، وتتدرب على اعمالها، فتتنور وتضئ .
• وهي وسيلة ينوّر بها الحيُّ المحيي سبحانه عالَم الدنيا المظلم
فاعلم من هذا: ان الذين يحصرون غاية هذه الحياة في: (عيشٍ برفاه، وتمتّع بغفلة، وتنعّم بهوى) انما يستخفّون - بجهل مستهجن قبيح - بهذه النعمة الغالية الكبرى، نعمة الحياة، وهدية الشعور، واحسان العقل، ويحقرونها وينكرونها بل يكفرون بها فيرتكبون كفراناً عظيماً واثماً مبيناً.
الرمز الثاني:
الحياة التي هي أعظم تجلٍٍّ لاسم الله (الحي) وألطف تجلٍ لاسم الله (المحيي) يحتاج في بيان مراتبها وصفاتها ووظائفها - المذكور فهرستُها في الرمز الاول - الى كتابة رسائل عدة بعدد تلك المزايا والخصائص. لذا سنشير إشارة مختصرة الى بضع منها محيلين تفاصيلها الى اجزاء رسائل النور، حيث بَيّنت قسماً من تلك الخصائص والمراتب والمهمات.
فلقد ذكر في الخاصية الثالثة والعشرين من الخصائص التسعة والعشرين للحياة:
أن وجْهَي الحياة صافيان، شفافان، رائقان. فلم تضع القدرة الربانية اسباباً ظاهرية لتصرفاتها فيها.
وسرّ هذه الخاصية هو ما يأتي:
ان كل شئ في الكون ينطوي على خير، وفيه جمالٌ وحُسن، أما الشر والقبح فهما جزئيان جداً، وهما بحُكم وحدتين قياسيتين، أي انهما وُجدا لإظهار ما في الخير وما في الجمال من مراتب كثيرة وحقائق عديدة؛ لذا يُعَدُّ الشر خيراً والقبح حُسناً من هذه الزاوية. اي من زاوية كونهما وسائل لإبراز المراتب والحقائق.
ولكن ما يبدو لذوي الشعور من مظاهر القبح والشر والبلاء والمصائب قد تدفعهم الى السخط والشكوى والامتعاض. فوُضعَت الاسبابُ الظاهرية ستاراً لتصرف القدرة الإلهية، لئلا تتوجه تلك الشكاوى الظالمة والسخط الباطل الى (الحي القيوم) جلّ وعلا.
زد على ذلك فان العقل ايضاً بنظره الظاهري القاصر، قد يرى منافاة بين امور يراها خسيسةً، خبيثةً، قبيحة، وبين مباشرة يد القدرة المنزّهة المقدسة لها. فوُضِعَت الاسبابُ الظاهرية ستاراً لتصرف القدرة الربانية لتُنَزِّه عزة القدرة الإلهية عن تلك المنافاة الظاهرية.
هذا علماً ان الاسباب نفسهَا لا يمكنها ان توجد شيئاً بحد ذاتها قط. بل هي موضوعة لصيانة عزة القدرة الإلهية وتنزيهها، ولتظل هي هدفاً مباشراً للشكاوى الظالمة والاعتراضات الباطلة.
ولقد ذكرنا في (مقدمة المقام الثاني من الكلمة الثانية والعشرين) أن مَلَك الموت (عزرائيل) عليه السلام وجد أن مهمة قبض الارواح التي اوكلَتْ اليه مهمةٌ بغيضة لبني آدم، وسيكون من جرائها موضع سخطهم ومثار امتعاضهم، فناجى رب العزة بشأن مهمته قائلاً:
- يارب ان عبادَك سيسخطون عليّ!
وجاءه الجواب:
- سأضع ستار الامراض وحجاب المصائب بين مهمتك وبينهم، فلا تُصوَّب سهام الشكاوى والاعتراضات اليك، بل الى الحُجُب.
فحسب مضمون هذه المناجاة نقول:
ان الذين لا يرون الوجه الصبوح الحقيقي للموت - المطل على أهل الايمان - ولا يدركون ما فيه من رحمةٍ مدّخرة، يبدون اعتراضات وشكاوى، فتبرز أمامهم مهمة عزرائيل - عليه السلام - حجاباً وستاراً، فلا تتوجه تلك الشكاوى الباطلة والاعتراضات المجحفة الى الذات المقدسة (للحي القيوم). ومثلما ان مهمة عزرائيل ستار، فان الاسباب الظاهرية الاخرى هي ايضاً حُجُب وأستار.
نعم، ان (العزة والعظمة) تقتضيان ان تكون الاسباب حُجُباً بين يدي القدرة الإلهية أمام نظر العقل، الاّ ان (الجلال والوحدانية) يقتضيان ان تسحب الاسباب ايديها وترفعها عن التأثير الحقيقي.
أما وجها الحياة الظاهر والباطن، المُلك والملكوت، فهما صافيان كاملان مبرّءان من النقص والتقصير، فمثلما لا يوجد فيهما مايستدعي الشكوى أو الاعتراض، فليس فيهما كذلك ماينافي عزة القدرة ونزاهتها من دَنَس مستهجَن أو قبح ظاهر؛ لذا فقد سُلِّم وجهاها مباشرةً الى اسم (المحيي) لذات الله الحي القيوم من دون إسدال أستار الاسباب وحُجُبها.
ومِثل الحياة؛ النور، وكذلك الوجود والايجاد.. وعليه نرى أن الايجاد والخَلق يتوجهان مباشرةً من دون حُجُب واستار الى قدرة الخالق سبحانه، بل حتى المطر - وهو نوع من الحياة ورحمة مهداة منه سبحانه - فلا يحكّمه قانون مطّرَد يحدد وقت نزوله؛ وذلك لئلا تُحرَم اكفّ الضراعة امام باب الرحمة من الرجاء والاسترحام وقت الحاجة؛ اذ لو كان المطر ينزل حسب قانون مطّرد - بمثل شروق الشمس وغروبها - لَمَا كان الخلقُ يتوسلون ويستغيثون كل حين استنزالاً لنعمة الحياة تلك.
الرمز الثالث:
لقد ذكر في الخاصية التاسعة والعشرين أن:
الحياة هي نتيجة الكائنات مثلما أن نتيجة الحياة هي:
الشكر والعبادة، فهما سبب خلق الكائنات وعلة غايتها، ونتيجتها المقصودة.
نعم، ان خالق الكون سبحانه (الحي القيوم) اذ يعرِّف نفسَه لذوي الحياة ويحبّبها اليهم بنِعَمه التي لاتعد ولاتحصى، يطلب منهم شكرَهم تجاه تلك النعم، ومحبَّتهم ازاء تلك المحبة، وثناءهم واستحسانهم مقابل بدائع صُنعه، وطاعتَهم وعبوديتهم تجاه اوامره الربانية.
فيكون الشكر والعبادة - حسب سرّ الربوبية هذا - اعظم غاية لجميع انواع الحياة، وبدورها يكون غاية الكون بأسره.. ومن هنا نرى ان القرآن الكريم يحث بحرارة ويسوق برفق وعذوبة الى الشكروالعبادة؛ فيكرر كثيراً ويبيّن ويوضح:
أن العبادة خاصّة لله وحده، وأن الشكر والحمد لايليقان حقاً الاّ به سبحانه، وان ما في الحياة من شؤون وامور هي في قبضة تصرفه وحده، فينفي بهذا وبصراحة تامة الوسائطَ والاسباب، مسلِّماً الحياة بما فيها الى يد القدرة (للحي القيوم) فيقول مثلاً:
﴿وهو الذي يُحيي ويُميتُ وله اختلافُ الليلِ والنهار﴾(المؤمنون:80)
﴿وهو الذي يُحيي ويُميتُ فاذا قَضى أمراً فإنما يقولُ له كُنْ فيكون﴾(المؤمن: 68)
﴿فيُحيي به الارضَ بَعد مَوتها﴾(الروم: 24)
نعم! ان الذي يدعو الى الشكر والحمد والامتنان، والذي يثير الشعور الى المحبة والثناء - بعد نعمة الحياة - انما هو الرزق والشفاء والغيث، وامثالها من دواعي الشكر والحمد.
وهذه الوسائل ايضاً محصورة كلياً بيد (الرزاق الشافي) سبحانه، فليست الاسباب الاّ أستار وحُجب ووسائط فحسب؛ اذ ان علامة الحصر والتخصيص - حسب قواعد اللغة العربية - هو الرزاق، هو الذي، واضحة في الآيات الكريمة الاتية:
﴿هو الرزاقُ ذو القوةِ المتينُ﴾(الذرايات: 58)
﴿واذا مَرِضْتُ فهوَ يَشفينِ﴾(الشعراء:80)
﴿وهو الذي يُنزِّلُ الغَيثَ مِن بَعدِ ما قَنَطوا﴾(الشورى: 28)
فهذه الآيات الكريمة وامثالها تبين:
ان الرزق والشفاء والغيث خاصةٌ به سبحانه وتعالى، وتنحصر كلياً بيد قدرة (الحي القيوم). فالذي وهب خواص الادوية والعلاج هو ذلك الشافي الحقيقي سبحانه الذي خلقها وليس غيره.
الرمز الرابع:
لقد بُيّنت في الخاصة الثامنة والعشرين من الحياة:
والعبادة؛ فيكرر كثيراً ويبيّن ويوضح:
أن العبادة خاصّة لله وحده، وأن الشكر والحمد لايليقان حقاً الاّ به سبحانه، وان ما في الحياة من شؤون وامور هي في قبضة تصرفه وحده، فينفي بهذا وبصراحة تامة الوسائطَ والاسباب، مسلِّماً الحياة بما فيها الى يد القدرة (للحي القيوم) فيقول مثلاً:
﴿وهو الذي يُحيي ويُميتُ وله اختلافُ الليلِ والنهار﴾(المؤمنون:80)
﴿وهو الذي يُحيي ويُميتُ فاذا قَضى أمراً فإنما يقولُ له كُنْ فيكون﴾(المؤمن: 68)
﴿فيُحيي به الارضَ بَعد مَوتها﴾(الروم: 24)
نعم! ان الذي يدعو الى الشكر والحمد والامتنان، والذي يثير الشعور الى المحبة والثناء - بعد نعمة الحياة - انما هو الرزق والشفاء والغيث، وامثالها من دواعي الشكر والحمد.
وهذه الوسائل ايضاً محصورة كلياً بيد (الرزاق الشافي) سبحانه، فليست الاسباب الاّ أستار وحُجب ووسائط فحسب؛ اذ ان علامة الحصر والتخصيص - حسب قواعد اللغة العربية - هو الرزاق، هو الذي، واضحة في الآيات الكريمة الاتية:
﴿هو الرزاقُ ذو القوةِ المتينُ﴾(الذرايات: 58)
﴿واذا مَرِضْتُ فهوَ يَشفينِ﴾(الشعراء:80)
﴿وهو الذي يُنزِّلُ الغَيثَ مِن بَعدِ ما قَنَطوا﴾(الشورى: 28)
فهذه الآيات الكريمة وامثالها تبين:
ان الرزق والشفاء والغيث خاصةٌ به سبحانه وتعالى، وتنحصر كلياً بيد قدرة (الحي القيوم). فالذي وهب خواص الادوية والعلاج هو ذلك الشافي الحقيقي سبحانه الذي خلقها وليس غيره.
الرمز الرابع:
لقد بُيّنت في الخاصة الثامنة والعشرين من الحياة:
ان الحياة تثبت اركان الايمان الستة وتنظر اليها وتتوجه نحوها، وتشير الى تحقيقها.
نعم! فما دامت (الحياة) هي حكمة خلق الكائنات، وأهم نتيجتها وخميرتها، فلا تنحصر تلك الحقيقة السامية في هذه الحياة الدنيا الفانية القصيرة الناقصة المؤلمة، بل ان غاية شجرة الحياة ونتيجتها وثمرتها - والتي فهم عظمتها وماهيتها بالخواص التسع والعشرين - ما هي الاّ الحياة الأبدية والآخرة والحياة الحية بحجرها وترابها وشجرها في دار السعادة الخالدة. والاّ يلزم ان تظل شجرة الحياة المجَهزة بهذه الأجهزة الغزيرة المتنوعة في ذوي الشعور - ولا سيما الانسان - دون ثمر ولا فائدة، ولا حقيقة. ولظل الانسان تعساً وشقياً وذليلاً وأحط من العصفور بعشرين درجة - بالنسبة لسعادة الحياة - مع أنه أسمى مخلوق، وأكرم ذوي الحياة وارفع من العصفور بعشرين درجة، من حيث الاجهزة ورأس مال الحياة.
بل يصبح العقل الذي هو أثمن نعمةٍ بلاءً ومصيبة على الانسان بتفكره في أحزان الزمان الغابر ومخاوف المستقبل فيعدِّب قلبَ الانسان دائماً معكراً صفو لذةٍ واحدة بتسعة آلام!. ولا شك أن هذا باطل مائة في المائة.
فهذه الحياة الدنيا اذن تثبت ركن (الايمان بالآخرة) اثباتاً قاطعاً بما تظهر لنا في كل ربيع اكثر من ثلاثمائة الف نموذج من نماذج الحشر.
فيا ترى هل يمكن لربٍّ قدير، يهئ ما يلزم حياتك من الحاجات المتعلقة بها جميعاً ويوفّر لك أجهزتها كلها سواءً في جسمك أو في حديقتك، أو في بلدك، ويرسله في وقته المناسب بحكمة وعناية ورحمة، حتى أنه يعلم رغبة معدتك فيما يكفل لك العيش والبقاء، ويسمع ما تهتف به من الدعاء الخاص الجزئي للرزق مُبدياً قبوله لذلك الدعاء بما بثّ من الاطعمة اللذيذة غير المحدودة ليُطمئِن تلك المعدة! فهل يمكن لهذا المتصرف القدير ان لايعرفك؟ ولايراك؟ ولايهئ الاسباب الضرورية لأعظم غاية للانسان وهي الحياة
الأبدية؟؟ ولايستجيب لأعظم دعاءٍ وأهمّه وأعمّه، وهو دعاء البقاء والخلود؟ ولا يقبله بعدم انشائه الحياة الآخرة وايجاد الجنة؟ ولا يسمع دعاء هذا الانسان - وهو أسمى مخلوق في الكون بل هو سلطان الارض ونتيجتها - ذلك الدعاء العام القوي الصادر من الاعماق، والذي يهز العرش والفرش! فهل يمكن ان لا يهتم به اهتمامَه بدعاء المعدة الصغيرة ولا يُرضي هذا الانسان؟ ويعرّض حكمتَه الكاملة ورحمته المطلقة للانكار؟؟ كلا.. ثم كلا ألف ألف مرة كلا.
وهل يعقل ان يسمع اخفت صوت لأدنى جزء من الحياة فيستمع لشكواه ويسعفه، ويحلم عليه ويربيه بعناية كاملة ورعاية تامة وباهتمام بالغ مسخِّراً له أكبر مخلوقاته في الكون، ثم لا يسمع صوتاً عالياً كهزيم الرعد لأعظم حياة وأسماها وألطفها وأدومها؟ وهل يعقل: ألاّ يهتم بدعائه المهم جداً - وهو دعاء البقاء - وألاّ ينظر الى تضرعه ورجائه وتوسله؟ ويكون كَمَن يجهّز - بعناية كاملة - جندياً واحداً بالعتاد، ولايرعى الجيش الجرار الموالى له!! وكمن يرى الذرة ولايرى الشمس! أو كمن يسمع طنين البعوضة ولا يسمع رعود السماء! حاشَ لله مائة ألف مرة حاشَ لله.
وهل يقبل العقل - بوجه من الاوجه - ان القدير الحكيم ذا الرحمة الواسعة وذا المحبة الفائقة وذا الرأفة الشاملة والذي يحب صنعتَه كثيراً، ويحبّب نفسَه بها الى مخلوقاته وهو أشدّ حباً لمن يحبونه، فهل يعقل أن يُفْني حياة مَن هو أكثُر حباً له، وهو المحبوب، وأهلٌ للحب، والذي يعبد خالقَه فِطرةً؟ ويُفني كذلك لبَّ الحياة وجوهرها وهو الروح، بالموت الأبدي!! ويسبب جفوةً بينه وبين محبه ومحبوبه ويؤلمه أشد الايلام! فيجعل سر رحمته ونور محبته معرّضاً للأنكار! حاشَ لله الف مرة حاشَ لله...
فالجمال المطلق الذي زيّن بتجلّيه هذا الكون وجمّله، والرحمة المطلقة التي أبهجت المخلوقات قاطبة وزيّنتها، لابد أنهما منزّهتان ومقدستان بلا نهاية ولا حدّ عن هذه القساوة وعن هذا القبح المطلق
والظلم المطلق.
النتيجة:
مادامت في الدنيا حياة، فلابد أن الذين يفهمون سر الحياة من البشر، ولايسيؤن استعمال حياتهم، يكونون أهلاً لحياة باقية، في دار باقية وفي جنة باقية.. آمنا.
ثم، ان تلألؤ المواد اللماعة على سطح الارض بانعكاسات ضوء الشمس، وتلمّع الفقاعات والحَباب والزَبَد على سطح البحر، ثم انطفاء ذلك التلألؤ والبريق بزوالها ولمعان الفقاعات التي تعقبها - كأنها مرايا لشُمَيساتٍ خيالية - يُظهر لنا بداهة ان تلك اللمعات ما هي الاّ تجلي انعكاس شمسٍ واحدة عالية. وتذكُر بمختلف الالسنة وجود الشمس، وتشير اليها بأصابع من نور... وكذلك الامر في تلألؤ ذوي الحياة على سطح الارض، وفي البحر، بالقدرة الإلهية وبالتجلي الاعظم لإسم (المحيي) للحي القيوم جلّ جلاله، واختفائها وراء ستار الغيب لفسح المجال للذي يخلفها - بعد أن رددّت (ياحي) - ما هي إلاّ شهادات واشارات للحياة السرمدية ولوجوب وجود (الحي القيوم) سبحانه وتعالى.
وكذا، فان جميع الدلائل التي تشهد على العلم الإلهي الذي تُشاهَد آثارُه من تنظيم الموجودات، وجميع البراهين التي تثبت القدرة المصرّفة في الكون، وجميع الحجج التي تثبت الارادة والمشيئة المهيمنة على ادارة الكون وتنظيمه، وجميع العلامات والمعجزات التي تثبت الرسالات التي هي مدار الكلام الرباني والوحي الإلهي.. وهكذا جميع الدلائل التي تشهد وتدلّ على الصفات الإلهية السبع الجليلة، تدل - وتشهد أيضاً - بالاتفاق على حياة (الحي القيوم) سبحانه، لأنه: لو وجدت الرؤية في شئ فلابد أن له حياة ايضاً، ولو كان له سمع فذلك علامة الحياة، ولو وجد الكلام فهو اشارة على وجود الحياة، ولو كان هناك الاختيار والارادة فتلك مظاهر الحياة، كذلك فان جميع دلائل الصفات الجليلة التي تشاهَد آثارُها ويُعلَم بداهةوجودُها الحقيقي، أمثال القدرة المطلقة، والارادة الشاملة، والعلم المحيط، تدل على حياة (الحي القيوم) ووجوب وجوده، وتشهد على حياته السرمدية التي نورََّتْ - بشعاعٍ منها - جميعَ الكون وأحيَت - بتجلٍ منها - الدار الآخرة كلها بذراتها معاً.
* * *
والحياة كذلك تنظر وتدل على الركن الايماني (الايمان بالملائكة) وتثبته رمزاً. لأن:
الحياة ما دامت هي أهم نتيجةٍ للكون، وان ذوي الحياة - لنفاستهم - هم اكثر انتشاراً وتكاثراً، وهم الذين يتتابعون الى دار ضيافة الارض قافلة إثر قافلة، فتعمَّر بهم وتبتهج.. وما دامت الكرة الارضية هي محط هذا السيل من انواع ذوي الحياة، فتُملأ وتُخلى بحكمة التجديد والتكاثر باستمرار، ويُخلق في أخس الاشياء والعفونات ذوو حياةٍ بغزارة، حتى اصبحت الكرة الارضية معرضاً عاماً للاحياء.. وما دام يُخلق بكثرة هائلة على الأرض أصفى خلاصة لترشح الحياة وهو الشعور والعقل والروح اللطيفة ذات الجوهر الثابت، فكأن الأرض تحيا وتتجمل بالحياة والعقل والشعور والارواح.. فلا يمكن ان تكون الاجرام السماوية التي هي أكثر لطافةً واكثر نوراً وأعظم أهميةً من الارض جامدةً ودون حياة وبلا شعور.
اذن فالذين سيعمِّرون السماوات ويبهجون الشموس والنجوم، ويهبون لها الحيوية، ويمثلون نتيجة خلق السماوات وثمرتها، والذين سيتشرفون بالخطابات السبحانية، هم ذوو شعور وذوو حياة من سكان السموات وأهاليها المتلائمين معها حيث يوجدون هناك بسرّ الحياة.. وهم الملائكة.
* * *
وكذلك ينظر سر ماهية الحياة ويتوجه الى (الايمان بالرسل) ويثبته رمزاً.
نعم! فما دام الكون قد خُلق لأجل الحياة وان الحياة هي اعظم تجلٍ وأكمل نقش وأجمل صنعة (للحي القيوم) جلّ جلاله، وما دامت حياته السرمدية الخالدة تظهر وتكشف عن نفسها بارسال الرسل وانزال الكتب، اذ لو لم يكن هناك (رسل) ولا (كتب) لما عُرفت تلك الحياة الازلية، فكما ان تكلم الفرد يبين حيويته وحياته كذلك الانبياء والرسل عليهم السلام والكتب المنزَلة عليهم، يبيّنون ويدلّون على ذلك المتكلم الحي الذي يأمر وينهي بكلماته وخطاباته من وراء الغيب المحجوب وراء ستار الكون. فلابد ان الحياة التي في الكون كما انها تدل - بصورة قاطعة - على (الحي الازلي) سبحانه وتعالى وعلى وجوب وجوده، تدل كذلك على شعاعات تلك الحياة الازلية وتجلياتها وارتباطاتها وعلاقاتها باركان الايمان مثل (ارسال الرسل) و (انزال الكتب) وتثبتهما رمزاً. ولا سيما (الرسالة المحمدية) و (الوحي القرآني). اذ يصح القول، انهما ثابتان قاطعان كقطعية ثبوت تلك الحياة، حيث انهما بمثابة روح الحياة وعقلها.
نعم، كما ان الحياة هي خلاصة مترشحة من هذا الكون، والشعور والحس مترشحان من الحياة، فهما خلاصتها، والعقل مترشح من الشعور والحس، فهو خلاصة الشعور، والروح هي الجوهر الخالص الصافي للحياة، فهي ذاتها الثابتة المستقلة.. كذلك الحياة المحمدية - المادية والمعنوية - مترشحة من الحياة ومن روح الكون فهي خلاصة زبدتها، والرسالة المحمدية كذلك مترشحة من حسّ الكون وشعورِه وعقِله، فهي اصفى خلاصته، بل ان حياة محمد y- المادية والمعنوية - بشهادة آثارها حياة لحياة الكون، والرسالة المحمدية شعور لشعور الكون ونور له. والوحي القرآني - بشهادة حقائقه الحيوية - روح لحياة الكون وعقل لشعوره.. أجل.. أجل.. أجل.
فاذا ما فارق نور الرسالة المحمدية الكون وغادره مات الكون وتوفيت الكائنات، واذا ما غاب القرآن وفارق الكون، جَنّ جنونه وفَقَدت الكرة الارضية صوابَها، وزال عقلُها، وظلت دون شعور، واصطدمت باحدى سيارات الفضاء، وقامت القيامة.
* * *
والحياة - كذلك - تنظر الى الركن الايماني (القدر) وتدل عليه وتثبتهُ رمزاً، اذ: ما دامت الحياة ضياءً لعالم الشهادة وقد استولت عليه وأحاطت به، وهي نتيجة الوجود وغايته، واوسع مرآةٍ لتجليات خالق الكون، وأتم فهرسٍ ونموذج للفعالية الربانية حتى كأنها بمثابة نوعٍ من خطتها ومنهجها - اذا جاز التشبيه - فلابد أن سر الحياة يقتضي ان يكون عالم الغيب أيضاً - وهو بمعنى الماضي والمستقبل - أي المخلوقات الماضية والقابلة في حياة معنوية أي في نظام وانتظام وان يكون معلوماً ومشهوداً ومتعيّناً ومتهيأً لأمتثال الأوامر التكوينية. مَثَلُها كمثل تلك البذرة الاصلية للشجرة وأصولها، والنوى والاثمار التي في منتهاها، التي تتميز بمزايا نوعٍ من الحياة كالشجرة نفسها، بل قد تحمل تلك البذور قوانين حياتية أدق من قوانين حياة الشجرة.
وكما ان البذور والأصول التي خلفها الخريف الماضي، وما سيخلفه هذا الربيع - بعد إدباره - من البذور والأصول، تحمل نور الحياة، وتسير وفق قوانين حياتية، مثل ما يحمله هذا الربيع من الحياة، فكذلك شجرة الكائنات، وكلُّ غصن منها وكلُّ فرعٍ، له ماضيه ومستقبله، وله سلسلة مؤلفة من الاطوار والاوضاع، القابلة والماضية، ولكل نوعٍ ولكلّ جزء منه وجودٌ متعدد بأطوار مختلفة في العلم الألهي، مشكّلاً بذلك سلسلة وجود علمي. والوجود العلمي هذا، الشبيه بالوجود الخارجي هو مظهرٌ لتجلٍ معنوي للحياة العامة، حيث تُؤخذُ المقدرات الحياتية من تلك الالواح القَدَرية الحية ذات المغزى العظيم.
نعم، ان امتلاء عالم الارواح - الذي هو نوع من عالم الغيب - بالارواح التي هي عين الحياة، ومادتها، وجوهرها، وذواتها، يستلزم
ان يكون الماضي والمستقبل - اللذان هما نوع من عالم الغيب وقسم ثان منه - متجلية فيهما الحياة. وكذا فان الانتظام التام والتناسق الكامل في الوجود العلمي الإلهي لأوضاع ذات معانٍ لطيفة لشئ ما ونتائجَه واطوارَه الحيوية ليبين ان له اهلية لنوع من الحياة المعنوية.
نعم، ان مثل هذا التجلي - تجلي الحياة - الذي هو ضياء شمس الحياة الازلية لن ينحصر في عالم الشهادة هذا فقط، ولا في هذا الزمان الحاضر، وفي هذا الوجود الخارجي، بل لابد أن لكل عالمٍ من العوالم مظهراً من مظاهر تجلّي ذلك الضياء حسب قابليته.
فالكونُ اذن - بجميع عوالمه - حيٌ ومشعٌ مضئ بذلك التجلي والا لأصبح كلٌّ من العوالم - كما تراه عين الضلالة - جنازة هائلة مخيفة تحت هذه الحياة الموقتة الظاهرة، وعالماً خرباً مظلماً.
وهكذا يُفهم وجهٌ واسع من أوجه الايمان بالقضاء والقدر من سر الحياة ويثبت به ويتضح. أي كما تَظهر حيويةُ عالمٍ الشهادة والموجودات الحاضرة بانتظامها وبنتائجها، كذلك المخلوقات الماضية والآتية التي تعدّ من عالم الغيب لها وجودٌ معنوي، ذو حياة معنىً، ولها ثبوتٌ علمي ذو روح، بحيث يظهر - باسم المقدرات - اثر تلك الحياة المعنوية بوساطة لوح القضاء والقدر.
الرمز الخامس:
لقد ذكر في الخاصية السادسة عشرة من خصائص الحياة أنه:
ما ان تنفذ الحياةُ في شئ تصيّره عالَماً بحدّ ذاته؛ اذ تمنحه من الجامعية مايجعله كلاً ان كان جزءاً، وما يجعله كلياً إن كان جزئياً؛ فالحياة لها من الجامعية بحيث تعرض في نفسها أغلب الاسماء الحسنى المتجلية على الكائنات كلها، وكأنها مرآة جامعة تعكس تجليات الاحدية. فحالما تدخل الحياة في جسم تعمل على تحويله الى عالم مصغّر، لكأنها تحيله بمثابة بذرة حاملة لفهرس شجرة الكائنات، وكما لايمكن ان تكون البذرة الاّ اثر قدرة خالق شجرتها كذلك الذيخلق اصغر كائن حي لابد انه هو خالق الكون كله.
فهذه الحياة بجامعيتها هذه تُظهر في نفسها أخفى اسرار الاحدية وأدقّها. أي: كما ان الشمس العظيمة توجد بضيائها وألوانها السبعة وانعكاساتها في ما يقابلها من قطرة ماء أو قطعة زجاج، كذلك الامر في كل ذي حياة الذي تتجلى فيه جميع تجليات الاسماء الحسنى وانوار الصفات الإلهية المحيطة بالكون. فالحياة - من هذه الزاوية - تجعل الكون من حيث الربوبية والايجاد بحكم الكلّ الذي لايقبل الانقسام والتجزئة، وتجعله بحكم الكلّي الذي تمتنع عليه التجزئة والاشتراك.
نعم! ان الختم الذي وَضَعه الخالق سبحانه على وجهك يدل بالبداهة على أن الذي خلقك هو خالق بني جنسك كلهم؛ ذلك لأن الماهية الانسانية واحدة، فانقسامها غير ممكن. وكذلك الامر في أجزاء الكائنات! اذ تتحول بوساطة الحياة كأنها افراد الكائنات، والكائنات كأنها نوع لتلك الافراد.
فكما تُظهر الحياة ختمَ الأحدية على مجموع الكون فانها تردّ الشرك والاشتراك وترفضه رفضاً باتاً باظهارها ختم الأحدية نفسَه وختم الصمدية على كل جزء من أجزاء الكون.
ثم ان في الحياة من خوارق الصنعة الربانية ومعجزات الابداع الباهر بحيث انه مَن لم يكن قادراً على خلق الكون يعجز كلياً عن خلق أصغر كائن حي فيه.
نعم، ان القلم الذي كتب فهرس شجرة الصنوبر الضخمة ومقدّراتها في بذرتها الصغيرة - ككتابة القرآن مثلاً على حبة حمص - هو ذلك القلم نفسَه الذي رصّع صفحات السماء بلآلئ النجوم، وان الذي ادرج في رأس النحل الصغير استعداداً يمكّنها من معرفة ازهار حدائق العالم كله، وتقدر على الارتباط مع اغلبها بوشائج، ويجعلها قادرة على تقديم ألذّ هدية من هدايا الرحمة الإلهية - وهي العسل - ويدفعها الى معرفة شرائط حياتها منذ أول قدومها الى الحياة لا شكانه هو خالق الكون كله وهوالذي اودع هذا الاستعداد الواسع والقابلية العظيمة والاجهزة الدقيقة فيها
الخلاصة:
ان الحياة آيةُ توحيد ساطعة تسطع على وجه الكائنات، وان كل ذي روح - من جهة حياته - آيةٌ للأحدية، وان الصنعة المتقنة الموجودة على كل فرد من الاحياء ختمٌ للصمدية، وبهذا جميع ذوي الحياة يصدّقون ببصمات حياتهم رسالةَ الكون هذه ويعلنون أنها من (الحي القيوم) الواحد الأحد.. فكل منها ختم للوحدانية في تلك الرسالة فضلاً عن انها ختم للأحدية وعلامة الصمدية.
فكما ان الأمر هكذا في الحياة، فكل كائن حي ايضاً ختم للوحدانية في كتاب الكون؛ كما قد وُضع على وجهه وسيماه ختم الأحدية.
نعم! ان الحياة بعدد جزئياتها وبعدد أفرادها الحية أختامٌ وبصماتٌ حية تشهد على وحدانية (الحي القيوم) مثلما ان فعل البعث - الإحياء - ايضاً يختم باختام التصديق على التوحيد بعدد الأفراد من الاحياء.
فإحياءُ الارض الذي هو مثال واحد على البعث هو شاهدُ صدقٍ ساطع على التوحيد كالشمس، لأن بعث الأرض في الربيع واحياءها يعني بعث افرادٍ لا تعد ولا تحصى لأنواع الأحياء التي تربو على ثلثمائة الف نوع، فتُبعث جميعاً معاً من دون نقص ولا قصور بعثاً متداخلاً متكاملاً منتظماً. فالذي يفعل بهذا الفعل أفعالاً منتظمة لا حدود لها فانه هو خالق المخلوقات جميعها، وأنه (الحي القيوم) الذي يحيي ذوي الحياة قاطبة، وأنه الواحد الأحد الذي لا شريك له في ربوبيته قط.
اكتفينا بهذا القدر القليل المختصر من بسط خواص الحياة محيلين بيان الخواص الاخرى وتفصيلاتها الى أجزاء رسائل النور وفي وقت آخر.
الخاتمة
ان الاسم الاعظم ليس واحداً لكل أحد، بل يختلف ويتباين، فمثلاً: لدى الامام علي رضي الله عنه هو ستة اسماء حسنى هي: فردٌ، حيٌ، قيومٌ، حكمٌ، عدلٌ، قدوسٌ.. ولدى أبي حنيفة النعمان رضي الله عنه اسمان هما: حَكَمٌ عدلٌ.. ولدى الشيخ الطيلاني قُدس سره هو اسم واحد: يا حيّ.. ولدى الامام الرباني (احمد الفاروقي السرهندي) رضي الله عنه هو: القيومُ.. وهكذا، فلدى الكثيرين من العظماء الافذاذ اسماء اخرى هي الأسم الاعظم عندهم.
ولما كانت هذه (النكتة الخامسة) تخص اسم الله (الحي) وقد أظهر الرسول الاعظم yفي مناجاته الرفيعة المسماة ب(الجوشن الكبير) معرفَته الجامعة السامية لله اظهاراً يليق به وحده؛ لذا نذكر من تلك المناجاة شاهداً ودليلاً وحجةً وتبركاً ودعاء مقبولاً وخاتمة حسنةً لهذه الرسالة، فنذهب خيالاً الى ذلك الزمان ونقول: آمين.. آمين على ما يقوله الرسول الكريم y، فنردد المناجاة نفسها على أصداء ذلك القول النبوي الكريم:
يا حيُّ قبلَ كلِّ حيّ * يا حيُّ بعد كل حيّ
يا حيُّ الذي لا يشبِهَهُ شئٌ * يَا حيُّ الذي ليسَ كمثلِه حيٌّ.
يا حيُّ الذي لا يُشاركه حيٌّ * يا حيُّ الذي لا يحتاج الى حيّ.
يا حيُّ الذي يُميت كلَّ حيّ * يا حيُّ الذي يرزُق كلَّ حيّ.
يا حيُّ الذي يحيى الموتى * يا حيُّ الذي لا يموت.
سُبحانك يا لا إله إلاّ انتَ الأمان الأمان نجنا من النار.آمين.
لقد تجلت لي نكتة من نكات هذه الآية الكريمة وتجلّ من تجليات اسم الله (القدوس ) وهو الاسم الاعظم أو أحد انوراه الستة، وانا نزيل سجن (اسكي شهر) أواخر شهر شعبان المبارك. فبيّن لي: الوجود الإلهي بوضوح تام، وكشف لي: الوحدانية الربانية بجلاء، كما يأتي:
لقد تراءى لي هذا الكون وهذه الكرة الارضية كمعمل عظيم دائب الحركة، وشبيهة بفندق واسع، او دار ضيافة تُملأ وتُخلى بلا انقطاع علماً ان دار ضيافةٍ بهذه السعة وبهذه الكثرة الكاثرة من الغادين والرائحين، تمتلئ بالنفايات والانقاض، ويصيب كل شئ بالتلوث، وتضيق فيها اسبابُ الحياة. فان لم تعمل يد التنظيف والتنسيق فيها عملاً دائماً ادّت تلك الاوساخ الى اختناق الانسان واستحالة عيشه...
بيد اننا لا نكاد نرى في معمل الكون العظيم هذا، وفي دار ضيافة الكرة الارضية هذه أثراً للنفايات، كما انه لا توجد في أية زاوية من زاواياهما مادة غير نافعة، أو غير ضرورية، أو اُلقِيَتْ عبثاً، حتى ان ظهرت مادةٌ كهذه سرعان ما تُرمى في مكائن تحويل بمجرد ظهورها، تُحيلها الى مادة نظيفة...
فهذا الامر الدائب يدلنا على: ان الذي يراقب هذا المعمل انما يراقبه بكل عناية واتقان، وان مالكه يأمر بتنظيفه وتنسيقه وتزيينه على الدوام حتى لا يُرى فيه - رغم ضخامته - أثرٌ للقاذورات والنفايات التي تكون متناسبةً مع كُبر المعمل وضخامته. فالمراعاة بالتطهير اذن مستمرة، والعناية بالتنظيف دائمة ومتناسبة مع ضخامة المعمل وسعته، لأن الانسان الفرد إن لم يستحم ولم يقم بتنظيف غرفته خلال شهر، لضاقت عليه الحياة.. فكيف بنظافة قصر العالم العظيم؟!
اذن فالطُهر والنقاء والصفاء والبهاء المشاهَد في قصر العالم البديع هذا ما هو الاّ نابع من تنظيف حكيمٍ مستمر، ومن تطهير دقيق دائم.. فلولا هذه المراقبة المستديمة للنظافة، والعناية المستمرة بالطهر، لكانت تختنق على سطح الارض - باجوائها الموبوءة - مئاتُ الآلاف من الاحياء خلال سنة.. ولولا تلك المراقبة الدقيقة والعناية الفائقة في أرجاء الفضاء الزاخرة بالكواكب والنجوم والتوابع المعرّضة للموت والاندثار، لكانت انقاضُها المتطايرة في الفضاء تحطم رؤوسَنا ورؤوس الاحياء الاخرى، بل رأس الدنيا! ولكانت تمطر علينا كتلاً هائلة بحجم الجبال، وتُرغمنا على الفرار من وطننا الدنيوي! بينما لم تسقط منذ دهور سحيقة من الفضاء الخارجي - نتيجة الاندثار - سوى بضعة نيازك، ولم تُصب احداً من الناس، بل كانت عبرةً لمن يعتبر! ولولا التنظيف الدائب والتطهير الدائم في سطح الارض، لكانت الانقاض والاوساخ والاشلاء الناتجة من تعاقب الموت والحياة اللذين يصيبان مئات الالوف من أمم الاحياء، تملأ البر والبحر معاً، ولكانت القذارة تصل الى حد ينفر كلُّ من له شعور ان ينظر الى وجه الارض الدميم، بل كان يسوقه الى الفرار منها الى الموت والعدم ناهيك عن حبه وعشقه.
نعم، مثلما ينظف الطيرُ اجنحته بسهولة تامة أو يطهر الكاتب صحائف كتابه بيُسر كامل، فان اجنحة هذه الارض الطائرة – مع الطيور السماوية في الفضاء – وصحائف هذا الكتاب العظيم – أعني الكون – ينظفان ويطهَّران ويجمَّلان ويزيّنان بمثل تلك السهولة واليسر، بل ان تطهير سطح الارض هذا وتنظيفه وتنسيقه وتزيينه هو من كمال الاتقان ما يجعل الذين لا يرون - بايمانهم - جمال الآخرةيعشقون هذا الجمال وهذه النظافة لهذا العالم الدنيوي بل قد يعبدونه!
اذن فقصر العالم الباذخ هذا، ومعمل الكون الهائل هذا، قد حَظَيا بتجلٍ من تجليات اسم الله (القدوس) عليهما، حتى انه عندما تصدر الاوامر الإلهية المقدسة الخاصة بالتطهير والتنظيف لا تصدر للحيوانات البحرية الكبيرة المفترسة، المؤدية وظيفة التنظيف والصقور البرية الجارحة وحدها، بل يستمع لها ايضاً أنواع الديدان والنمل التي تجمع الجنائز وتقوم بمهمة موظفي الصحة العامة الراعين لها في هذا العالم، بل تستمع لهذه الاوامر التنظيفية حتى الكريات الحمراء والبيضاء الجارية في الدم فتقوم بمهمة التنظيف والتنقية في حجيرات البدن كما يقوم التنفس بتصفية الدم، بل حتى الاجفان الرقيقة تستمع لها فتطهر العين باستمرار، بل حتى الذباب يستمع لها فيقوم بتنظيف اجنحته دائماً..
ومثلما يستمع كل ما ذكرناه لتلك الاوامر القدسية بالتنظيف، تستمع لها ايضاً الرياح الهوج والسحاب الثقال، فتلك تطهِّر وجهَ الارض من النفايات، والاخرى ترشّ روضَتها بالماء الطاهر فتسكّن الغبار والتراب، ثم تنسحب بسرعة ونظام حاملة ادواتها ليعود الجمالُ الساطع الى وجه السماء صافياً متلألئاً.
ومثلما تستمع لتلك الاوامر الصادرة بالتطهير والتنظيف النجوم، والعناصر، والمعادن، والنباتات باشكالها وانواعها، تستمع لها الذراتُ جميعاً، حتى انها تراعي النقاوة والصفاء في دوامات تحولاتها المحيرة للالباب، فلا تجتمع في زاوية دون فائدة، ولا تزدحم في ركن دون نفع، بل لو تلوثت تُنظَّف فوراً وتُساق سوقاً من لدن قدرة حكيمة الى أخذ أطهر الاوضاع وانظفها وأسطعها واصفاها، وأخذ أجمل الصور وانقاها وألطفها.
وهكذا فان فعلَ التطهير هذا الذي هو فعلٌ واحد، ويعبِّر عن حقيقة واحدة هوتجلٍّ اعظم من تجليات اسم (القدوس) الاعظم،يُرى ذلك التجلي الاعظم حتى في أعظم دوائر الكون واوسعها، بحيث يبين الوجود الرباني، ويُظهر الوحدانية الإلهية مع اسمائها الحسنى ظهوراً جلياً كالشمس المنيرة، فتبصره العيون النافذة النظر.
وقد ثبت ببراهين دامغة في أغلب اجزاء (رسائل النور): ان فعل التنظيم والنظام الذي هو تجلٍ من تجليات اسم الحَكَم والحكيم، وان فعل الوزن والميزان الذي هو تجلٍّ من تجليات اسم العدل والعادل، وان فعل التزيين والاحسان الذي هو تجلٍّ من تجليات اسم الجميل والكريم، وان فعل التربية والإنعام الذي هو تجلٍّ من تجليات اسم الرب الرحيم.. كل فعل من هذه الافعال، هو فعلٌ واحد، وحقيقة واحدة، تشاهَد بوضوح في آفاق الكون كله، فكل منها يشير الى وجوب وجودِ واحدٍ أحدٍ، ويبين وحدانيته بجلاء.
كذلك فعلُ التنظيف والتطهير الذي هو تجلٍ من تجليات اسم (القدوس) يدل على وجود ذلك الواجب، كالشمس، ويبين وحدانيته كالنهار..
وكما ان الافعال المذكورة من تنظيم وتقدير وتزيين وتنظيف وامثالها من الافعال الحكيمة تبين خالقاً واحداً أحداً، بوحدتها النوعية، وبظهورها في اوسع الآفاق الكونية، كذلك اكثر الاسماء الحسنى، بل كل اسم من الف اسم واسم من الاسماء الحسنى له تجلٍ أعظم في اوسع دائرة من دوائر الكون كهذا. فيُظهر الفعلُ الناتج من ذلك التجلي الواحد الاحد ظهوراً جلياً يناسب سعة ذلك الفعل ووضوحه.
نعم، ان الحكمة العامة التي تُخضع كل شئ الى قانونها ونظامها، والعناية الشاملة التي تجمّل كل شئ وتزيّنه، والرحمة الواسعة التي تُدخل السرورَ والبهجة على كل شئ وتجعله في حمدٍ دائم، والرزق العام الذي يعتاش عليه كلُ ذي حياة ويتمتع بلذائذه، والحياة والإحياء التي تربط كل شئ بالاشياء الأخرى، وتجعل الشئ ينتفع من كل شئ كأنه مالك للاشياء..
هذه الحقائق وامثالها، المشهودة بالبداهة، والمتسمة بالوحدة، والجاعلة وجهَ الكون يشرق بهاءً، ويستهل بِشراً وسروراً، تدل بداهةً على: الحكيم، الكريم، الرحيم، الرزاق، الحي المحيي، كما يدل الضوءُ على الشمس. ولله المثل الاعلى.
فكل فعل من هذه الافعال الواسعة التي تربو على المئات، دليل باهر الوضوح على الوحدانية، إن لم يُسنَد الى (الواحد الاحد) سبحانه لنتجت اذاً مئات المحالات بمئات من الأوجه.
فمثلاً: انه ليست الافعال كلها كالحكمة والعناية والرحمة والاعاشة والإحياء والاماتة التي هي من الحقائق البديهية ومن دلائل التوحيد، بل حتى فعلٌ واحد فقط منها وهو فعل التطهير لو لم يُسند الى رب العالمين للزم - في طريق الكفر والضلالة -ان يكون كلُّ شئ له علاقةٌ بالتنظيف ابتداءً من الذرات، الى الحشرات، الى العناصر، الى النجوم، على علمٍ ومعرفةٍ بتنظيف هذا الكون العظيم وتزيينه وتجميله وموازنة ما فيه!! وأن يلاحظ الامور وفقها، ويقدِر على التحرك.
أو يلزم ان يتصف كلٌ منها بالصفات القدسية الجليلة لرب العالمين!!
أو يلزم ان يكون هناك مجلس شورى واسع سعة الكون كله لتنظيم جميع تزيينات الكون وتطهيره وتقدير كل ما يلج فيه وما يخرج منه وموازنته، وان يشكل هذا المجلسَ ما لا يحد من الذرات والحشرات والنجوم!!..
وهكذا يصل سالكُ طريق الكفر الى مئات من أمثال هذه الخرافات السخيفة والمحالات السوفسطائية كي يظهر التزيين المحيط والتنظيف الشامل الظاهر في الارجاء كافة. اي لاينشأ محال واحد بل مئات الالوف من المحالات.
نعم، ان لم يسند ضوء النهار والشُميسات المتألقة المثالية في كل شئ على سطح الارضالى الشمس الواحدة، ولم تُفسَّر على انها انعكاساتٌ لتجلي تلك الشمس الواحدة، للزم وجود شمسٍ حقيقية في كل قطرة ماء لماعة، وفي كل قطعة زجاج شفافة، وفي كل بلورة ثلج مشعة، حتى في كل ذرة من ذرات الهواء، كي يظهر ذلك الضوء الذي يعم الوجود!!
وهكذا؛
فالحكمة ضياءٌ، والرحمة الواسعة ضياء، والتزيين والموازنة والتنظيم والتنظيف كلٌ منها ضياء شامل محيط وشعاع من اشعة ذلك النور الازلي سبحانه.
فانظر الآن بنور هذا الايمان لترى كيف يسقط أهل الكفر والضلالة في مستنقع آسن لا يمكنهم الخروج منه. وشاهد مدى حماقة أهل الضلالة وجهالتهم! واحمد الله قائلاً:
الحمد لله على دين الاسلام وكمال الايمان.
نعم، ان هذا التنظيف السامي الشامل المشاهَد الذي يجعل قصر العالم طاهراً نقياً نظيفاً لهو تجلٍ من تجليات اسم (القدوس) ومقتضىً من مقتضياته.
وكما تتوجه تسبيحات المخلوقات جميعها الى اسم (القدوس) وترنو اليه، كذلك يستدعي اسم (القدوس) نظافة تلك المخلوقات وطهارتها(1) حتى عدّ الحديث الشريف (النظافة من الايمان) الطهور نوراً من انواره(2) لارتباطه القدسي هذا، واظهرت الآية الكريمة انالطُهر مدعاة الى المحبة الإلهية ومدار لها، في قوله تعالى:
﴿انَّ الله يحبّ التوابينَ ويحبّ المتطهرين﴾(البقرة:222).(*)
___________________________
(1) يجب الاّ ننسى: ان الخصال القبيحة، والاعتقادات الباطلة، والذنوب والآثام، والبدع، كلها من الاوساخ المعنوية. المؤلف.
(2) وردت في هذا المعنى احاديث كثيرة منها: (الطهور شطر الايمان والحمد لله تملأ الميزان..) رواه مسلم واحمد والترمذي عن ابي مالك الأشعري، (عن كشف الخفاء للعجلوني). المترجم.
(*) كليات رسائل النور - اللمعات - ص: 517
7-)
الجملة التي تلخص التوحيد
باسمه سبحانه
ايها المستخلف المبارك
(لا إله إلاّ الله، وحده، لا شريك له، له الملك، وله الحمد يحيي، ويميت، وهو حي لا يموت، بيده الخير، وهو على كل شئ قدير، وإليه المصير)(1)
الجملة التي تلخص التوحيد
[ان هذه الجملة التي تلخص التوحيد، عبارة عن احدى عشرة كلمة، ولقراءتها عقب صلاتي الفجر والمغرب فضائل جمة، حتى وردت في احدى الروايات الصحيحة انها تحمل مرتبة "الاسم الأعظم".فلا غرو اذن أن تقطر كل كلمة من كلماتها أملاً شافياً وبشرى سارة، وان تحمل مرتبة جليلة من مراتب توحيد الربوبية، وتبين من زاوية الاسم الاعظم كبرياء الوحدانية وكمال التوحيد.(*)
__________________
(1) "كان صلى الله عليه وسلم يقول في دُبر كل صلاة مكتوبة [حين يسلم]: لاإله إلا الله وحده لاشريك له، له الملك وله الحمد (يحيي ويميت، وهو حي لايموت بيده الخير وهو على كل شيءٍ قدير). "ثلاث مرات " اللهم لامانع لما اعطيت ولامعطي لما منعت ولاينفع ذا الجدّ منك الجدّ./ صحيح: انظر تفصيل التخريج وعزو هذه الزيادات في الاحاديث الصحيحة(196) - الاحاديث التي هي خارج الاقواس موجودة في البخاري ومسلم.والزيادة الاولى المحصورة بين القوسين لأحمد وابي داود، والثانية للطبراني والثالثة للنسائي وابي خزيمة. أقول: وهذا الحديث الذي أورده الاستاذ النورسي من العجائب، اذ عندما تتبعت احاديث الورد في الصباح والمساء وبعد الصلاة وجدتها تختلف بالسياق. وجمع الزيادات بهذه الطريقة صعبة للغاية تحتاج الى مصادر واسعة وطول باع في الحديث، فياترى ما تفسير ايراد الاستاذ لهذا النص وبتلك الزيادات دونما رجوع او توفر مصادر كالتي يمتلكها المحدّثون.. ان التفسير الوحيد هو: إكرام إلهي.
(*) المكتوب العشرون - ص: 288
8-)
بشرى الكلمة الأولى لا إله إلا الله
باسمه سبحانه
ايها المستخلف المبارك
(لا إله إلاّ الله، وحده، لا شريك له، له الملك، وله الحمد يحيي، ويميت، وهو حي لا يموت، بيده الخير، وهو على كل شئ قدير، وإليه المصير(
يقول بديع الزمان سعيد النورسي:
(( كل كلمة من كلمات هذا الكلام التوحيدي الرائع تزف بشرى سارة، وتبث املاً دافئاً. وفي كل بشرى شفاء وبلسم.. وفي كل شفاء لذة معنوية وانشراح روحي.
" بشرى الكلمة الأولى: "لا إله إلا الله"
هذه الكلمة تتقطر بشرى عظيمة واملاً بهيجاً كالآتي:
ان روح الانسان المتلهفة الى حاجات غير محدودة، والمستهدفة من قبل اعداء لا يُعدّون.. هذه الروح المبتلاة بين حاجات لا تنتهي واعداء لا يحصرون، تجد في هذه الكلمة العظيمة منبعاً ثراً من الاستمداد، بما يفتح لها ابواب خزائن رحمة واسعة ترد منها ما يطمئن جميع الحاجات وتضمن جميع المطاليب.. وتجد فيها كذلك مرتكزاً شديداً ومستنداً رضياً يدفع عنها جميع الشرور، ويصرف عنها جميع الاضرار. وذلك بما تري الانسان من قوة مولاه الحق، وترشده الى مالكه القدير، وتدله على خالقه ومعبوده. وبهذه الرؤية السديدة والتعرف على الله الواحد الأحد، تنقذ- هذه الكلمة - قلب الانسان من ظلام الوحشة والاوهام، وتنجي روحه من آلام الحزن والكمد، بل تضمن له فرحاً ابدياً، وسروراً دائماً )) (*)
______________________________
(*) المكتوب العشرون - ص: 290
9-)
انوار المعرفة الالهية ثلاثة اقسام
انوار المعرفة الالهية ثلاثة اقسام
ما يقتضي كل قسم.
باسمه سبحانه
ايها المستخلف المبارك
(لا إله إلاّ الله، وحده، لا شريك له، له الملك، وله الحمد يحيي، ويميت، وهو حي لا يموت، بيده الخير، وهو على كل شئ قدير، وإليه المصير)
يشير بديع الزمان سعيد النورسي الى انوار المعرفة الالهية باقسامها ومقتضى كل منها فيقول :
(( ايها السعيد الغافل المتخبط بسوء حاله! اعلم، ان الوصول الى نور معرفة الحق سبحانه، والى مشاهدة تجلياته في مرايا الآيات والشواهد والنظر اليه من مسامات البراهين والدلائل يقتضي الاّ تتجسّس بأصابع التنقيد على كل نورٍ جرى عليك، وورَد الى قلبك، وتظاهر الى عقلك، والاّ تنقده بيد التردد. فلا تمدّن يدك لأخذ نورٍ اضاء لك. بل تجرّد من اسباب الغفلة، وتعرّض لذلك النور، وتوجّه اليه، فاني قد شاهدت أن شواهد معرفة الله وبراهينها ثلاثة اقسام:
قسم منها: كالماء، يُرى ويُحسّ، ولكن لا يُمسك بالاصابع. ففي هذا القسم عليك بالتجرّد عن الخيالات، والانغماس فيه بكليتك، فلا تتجسس باصبع التنقيد، فانه يسيل ويذهب، اذ لا يرضى ماءُ الحياة ذلك ، بالاصبع محلاً.
القسم الثاني: كالهواء، يُحسّ ولكن لا يُرى، ولا يُتخذ ولا يُستمسك، فتوجه لنفحات تلك الرحمة، وتعرّض لها، وقابلها بوجهك وفمك وروحك، فان نظرت الى هذا القسم بيد التردد والريب ومددت اليه يد التنقيد، بدلاً من الانتعاش روحياً، فانه ينطلق، إذ لا يتخذ يدك مسكناً له ولا يرضى بها منزلاً.
القسم الثالث: فهو كالنور، يُرى ولكن لايُحس، ولايؤخذ ولا يستمسك، فتعرّض له وقابله ببصيرة قلبك ونظر روحك، وتوجّه اليه ببصرك، ثم انتظر، فلربما يأتي بذاته
ومن نفسه. لان النور لا يؤخذ باليد، ولا يُصاد بالاصابع، بل بنور البصيرة يُصاد. فاذا مددت اليه يداً مادية حريصةً، ووزنته بموازين مادية، فانه يختفي وإن لم ينطفئ، لان نوراً كهذا مثلما انه لا يرضى بالماديّ حبساً، ولا يدخل بالقيد ابداً،فانه لا يرضى بالكثيف مالكاً وسيداً عليه.)) (*)
لقد تراءت لي نكتة لطيفةٌ من لطائف هذه الآية الكريمة، ونور من انوار تجليات اسم الله: (العدل) الذي هو اسم الله الاعظم، أو هو نور من أنواره الستة.
تراءى لي ذلك النور من بعيد - كما هو الحال في النكتة الاولى - وانا نزيل سجن (اسكي شهر) ولأجل تقريبه الى الافهام نسلك أيضاً طريق ضرب الامثال. فنقول:
هذا الكون قصر بديع يضم مدينة واسعة تتداولها عوامل التخريب والتعمير، وفي تلك المدينة مملكة واسعة تغلي باستمرار من شدة مظاهر الحرب والهجرة، وبين جوانح تلك المملكة عالم عظيم يسبَح كل حين في خضم الموت والحياة.. ولكن على الرغم من كل مظاهر الاضطراب، فان موازنةً عامة وميزاناً حساساً، وعملية وزنٍ دقيق تسيطر في كل جوانب القصر ونواحي المدينة وتسود في كل ارجاء المملكة واطراف العالم، وتهيمن عليها هيمنة، بحيث تدل بداهة:
ان ما يحدث ضمن هذه الموجودات التي لا يحصرها العدّ من تحولات، وما يلجُ فيها وما يخرج منها لا يمكن أن يكون الاّ بعملية وزنٍ وكَيْلٍ، وميزان مَن يرى انحاء الوجود كلها في آن واحد، ومن تجري الموجوداتُ جميعُها أمامَ نظر مراقبته في كل حين... ذلكم الواحد الأحد سبحانه.
والاّ فلو كانت الاسباب الساعية الى اختلال التوزان، سائبة أو مفوضة الى المصادفة العشواء أو القوة العمياء أو الطبيعة المظلمة البلهاء، لكانت بويضات سمكةٍ واحدة التي تزيد على الالوف تخل بتلك الموزانة، بل بذيرات زهرةٍ واحدة - كالخشخاش - التي تزيد على العشرين ألف تخل بها، ناهيك عن تدفق العناصرالجارية كالسيل، والانقلابات الهائلة والتحولات الضخمة التي تحدث في ارجاء الكون.. كل منها لو كان سائباً لكان قميناً أن يخل بتلك الموزانةالدقيقة المنصوبة بين الموجودات، ويفسد التوزان الكامل بين اجزاء الكائنات خلال سنة واحدة، بل خلال يوم واحد. ولكنت ترى العالم وقد حلّ فيه الهرجُ والمرج وتعرّض للاضطرابات والفساد..
فالبحار تمتلئ بالانقاض والجثث، وتتعفن.
والهواء يتسمم بالغازات المضرة الخانقة، ويفسد.
والارض تصبح مزبلة ومسلخة، وتغدو مستنقعاً آسناً لا تطاق فيه الحياة.
فان شئت فأنعم النظر، في الموجودات كلها، ابتداء من حجيرات الجسم الى الكريات الحمراء والبيضاء في الدم، ومن تحولات الذرات الى التناسب والانسجام بين اجهزة الجسم، ومن واردات البحار ومصاريفها الى موارد المياه الجوفية وصرفياتها، ومن تولدات الحيوانات والنباتات ووفياتها الى تخريبات الخريف وتعميرات الربيع، ومن وظائف العناصر وحركات النجوم الى تبدل الموت والحياة، ومن تصادم النور والظلام الى تعارض الحرارة والبرودة.. وما شابهها من أمور، كي ترى ان الكل: يوزَن ويُقدَّر بميزان خارق الحساسية، وان الجميع يُكتال بمكيال غاية في الدقة، بحيث يعجز عقلُ الانسان ان يرى اسرافاً حقيقياً في مكان وعبثاً في جزء.. بل يلمس علمُ الانسان ويشاهد اكملَ نظامٍ واتقنَه في كل شئ فيحاول أن يُريَه، ويرى اروَع توازنٍ وابدعه في كل موجود فيسعى لإبرازه.
فما العلوم التي توصَّل اليها الانسان الاّ ترجمة لذلك النظام البديع وتعبير عن ذلك التوازن الرائع.
فتأمل في الموازنة الرائعة بين الشمس والكواكب السيارة الاثنتى عشرة التي كل منها مختلفة عن الاخرى، الا تدل هذه الموازنة دلالة واضحة وضوح الشمس نفسها على الله سبحانه الذي هو (العدل القدير)؟
ثم تأمل في الارض – وهي احدى الكواكب السيارة – هذه السفينة الجارية السابحة في الفضاء التي تجول في سنة واحدة مسافة يقدَّر طولها باربع وعشرين الف سنة. ومع هذه السرعة المذهلة لا تبعثر المواد المنسقة على سطحها ولا تضطرب بها ولا تطلقها الى الفضاء.. فلو زيد شئٌ قليل في سرعتها أو أنقص منها لكانت تقذف بقاطنيها الى الفضاء، ولو أخلّت بموازنتها لدقيقة - بل لثانية واحدة - لتعثرت في سيرها واضطربت، ولربما اصطدمت بغيرها من السيارات ولقامت القيامة.
ثم تأمل في تولدات ووفيات النباتات والحيوانات واعاشتهما وحياتهما على الارض والتي يزيد عدد انواعها على الاربعمائة الف نوع، ترى موازنة رائعة ذات رحمة، تدلك دلالة قاطعة على (الخالق العادل الرحيم) جلّ جلالُه، كدلالة الضياء على الشمس.
ثم تأمل في اعضاء كائن حي من الاحياء التي لاتعد ولا تحصى، ودقق في اجهزته وفي حواسه.. تَرَ فيها من الانسجام التام والتناسق الكامل والموازنة الدقيقة ما يدلّك بداهة على الصانع الذي هو (العدل الحكيم).
ثم تأمل في حجيرات جسم كائن حي وفي اوعية الدم، وفي الكريات السابحة في الدم، وفي ذرات تلك الكريات، تجد من الموزانة الخارقة البديعة ما يثبت لك اثباتاً قاطعاً انه لا تحصل هذه الموازنة الرائعة ولا ادارتها الشاملة، ولا تربيتها الحكيمة الاّ بميزان حساسٍ وبقانونٍ نافذ وبنظام صارم للخالق الواحد الاحد (العدل الحكيم) الذي بيده ناصية كل شئ، وعنده مفاتيح كل شئ. لايحجب عنه شئ ولايعزب، ويدير كل شئ بسهولة ادارة شئ واحد.
ان الذي لا يعتقد ان اعمال الجن والانس يوم الحشر الاكبر توزن بميزان العدل الإلهي، ويستغرب منها ويستبعدها ولا يؤمن بها، أقول لو تمكّن ان يتأمل فيما هو ظاهر مشاهدَ من انواع الموازنة الكبرى امامه في هذه الدنيا لزال استبعاده واستنكاره حتماً.
ايها الانسان المسرف الظالم الوسخ.!
اعلم، ان الاقتصاد والطهر والعدالة سنن الهية جارية في الكون، ودساتير الهية شاملة تدور رحى الموجودات عليها لايفلت منها شئ الاّ انت ايها الشقي، وانت بمخالفتك الموجودات كلها في سيرها وفق هذه السنن الشاملة تلقى النفرة منها والغضب عليك وانت تستحقها..
نعم، ان الحكمة العامة المهيمنة في الكون والتي هي تجلٍ أعظم لاسم (الحكيم ) انما تدور حول محور الاقتصاد وعدم الاسراف، بل تأمر بالاقتصاد.
وان العدالة العامة الجارية في الكون النابعة من التجلي الاعظم لاسم (العدل) انما تدير موازنة عموم الاشياء، وتأمر البشرية باقامة العدل.
وان ذكر الميزان اربع مرات في (سورة الرحمن) اشارة الى اربعة انواع من الموازين في اربع مراتب وبيان لأهمية الميزان البالغة ولقيمته العظمى في الكون. وذلك في قوله تعالى: ﴿والسماء رفَعها وَوَضَع الميزان {الاَّ تَطْغَوا في الميزان{وَاقِيمُوا الوزْنَ بالقِسْطِ ولا تُخْسِروا الميزانَ﴾(الرحمن: 7- 9).
نعم، فكما لا اسراف في شئ، فلا ظلم كذلك ظلماً حقيقياً في شئ، ولا بخسَ في الميزان قط، بل ان التطهير والطهر الصادر من التجلي الاعظم لاسم (القدوس) يعرض الموجودات بأبهى صورتها وابدع زينتها، فلا ترى ثمة قذارة في موجود، ولا تجد قبحاً اصيلاً في شئ ما لم تمسّه يد البشر الوسخة.
فاعلم من هذا ان (العدالة والاقتصاد والطهر) التي هي من حقائق القرآن ودساتير الاسلام، ما أشدها ايغالاً في اعماق الحياة الاجتماعية، وما اشدها عراقة واصالة. وأدرك من هذا مدى قوةارتباط احكام القرآن بالكون، وكيف انها مدّت جذوراً عميقة في اغوار الكون فأحاطته بعرىً وثيقة لا انفصام لها. ثم افهم منها ان افساد تلك الحقائق ممتنعٌ كامتناع افساد نظام الكون والاخلال به وتشويه صورته.
ومثلما تستلزم هذه الحقائق المحيطة بالكون، وهذه الانوار العظيمة الثلاثة (العدالة والاقتصاد والطهر) الحشرَ والآخرة فهناك حقائق محيطة معها: كالرحمة والعناية والرقابة، وامثالها مئات من الحقائق المحيطة والانوار العظيمة تستلزم الحشر وتقتضي الحياة الآخرة، اذ هل يمكن ان تنقلب مثل هذه الحقائق المهيمنة على الموجودات والمحيطة بالكون الى اضدادها بعدم مجئ الحشر وبعدم اقامة الآخرة، أي ان تنقلب الرحمةُ الى ضدها وهو الظلم، وتنقلب الحكمةُ او الاقتصاد الى ضدهما وهو العبث والاسراف، وينقلب الطُهر الى ضده وهو العبث والفساد. حاشَ لله..
ان الرحمة الإلهية، والحكمة الربانية اللتين تحافظان على حق حياة بعوضةٍ ضعيفة محافظةً تتسم بالرحمة الواسعة، لا يمكن ان تضيّعا - بعدم اقامة الحشر - حقوق جميع ذوي الشعور غير المحدودين وتهضما حقوقاً غير متناهية لموجودات غير محصورة..
وان عظمة الربوبية التي تُظهر دقة متناهية وحساسية فائقة - اذا جاز التعبير - في الرحمة والشفقة والعدالة والحكمة، وكذا الالوهية الباسطة سلطانها على الوجود كله والتي تريد اظهار كمالاتها وتعريف نفسها وتحبيبها بتزييناتها الكائنات ببدائع صنائعها وبما أسبغت عليها من نِعَمٍ هل يمكن ان تسمح - هذه الربوبية العظيمة والالوهية الجليلة - بعدم اقامة الحشر الذي يسبب الحطّ من قيمة جميع كمالاتها ومن قيمة مخلوقاتها قاطبة؟.
تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً. فمثل هذا الجمال المطلق لا يرضى - بالبداهة - بمثل هذا القبح المطلق.
فالذي يريد ان ينكر الآخرة عليه ان ينكر وجود هذا الكون اولاً بجميع ما فيه من حقائق. والاّ فالكائنات مع حقائقها المتأصلة فيها تكذِّبه بالوفٍ من الألسنة، وتثبت له انه الكذّاب الأشر.
وقد أثبتت (رسالة الحشر) بدلائل قاطعة: ان وجود الآخرة ثابت وقاطع لاريب فيه كوجود هذه الدنيا.(*)
___________________________
(*) كليات رسائل النور - اللمعات - ص: 523
11-)
احدى نكات اسم الله الحكم
تشير الى النور الثالث من الانوار الستة للاسم الاعظم :
﴿ادعُ الى سَبيل ربك بالحِكْمةِ﴾(النحل:125)
لقد تراءت لي نكتة من النكات الدقيقة لهذه الآية الكريمة، ونور من أنوار تجليات اسم الله (الحَكَم) الذي هو اسم الله الاعظم، أو أحد أنواره. في شهر رمضان المبارك. فكُتبت هذه النكتة المشتملة على خمس نقاط على عجل، فأثبتّها على حالها في المسودة دون تنقيح أو تغيير.
النقطة الاولى:
مثلما ذكرنا في (الكلمة العاشرة) ان التجلي الاعظم لاسم (الحَكَم) جعل هذا الكون بمثابة كتاب عظيم كُتبتْ في كل صحيفة من صحائفه مئات الكتب، واُدرجت في كل سطر منه مئات الصفحات، وخُطَّتْ فيكل كلمة منه مئات الاسطر، وتُقرأ تحت كل حرف فيه مئات الكلمات، وحُفِظَ في كل نقطة من نقاطه فهرسٌ مختصر صغير يلخص محتويات الكتاب كله.. فهذا الكتاب بصفحاته وأسطره بل بنقاطه يدل دلالة واضحة ساطعة - بمئات الأوجه - على مصوِّرِه وكاتبه، حتى أن مشاهدة الكتاب الكوني العظيم هذا وحدَها كافية للدلالة على وجود كاتبه، بل تسوقنا الى معرفة وجوده ووحدانيته بما يفوق دلالة الكتاب على نفسه اضعافاً مضاعفة.
اذ بينما يدل الحرفُ الواحد على وجوده ويعبّر عن نفسه بمقدار حرف فأنه يعبّر عن أوصاف كاتبه بمقدار سطر..
نعم! ان سطح الارض (صحيفة) من هذا الكتاب الكبير، هذه الصحيفة تضم كتباً بعدد طوائف النباتات والحيوانات، وهي تُكتب أمام أنظارنا في موسم الربيع في غاية الكمال والاتقان من دون خطأٍ، كتابةً متداخلة، جنباً الى جنب، في آن واحد.
والبستان (سطر) من هذه الصحيفة، نشاهد فيه قصائد منظومة وهي تُكتب أمام أعيننا بعدد الازهار والاشجار والنباتات، كتابةً متداخلة، جنباً الى جنب، من دون خطأ.
والشجرة النامية الزاهية أوراقُها، المفتحة أزهارُها، وقد أوشكت أن تخرج أثمارُها من اكمامها، هذه الشجرة (كلمةٌ) من ذلك السطر، فهذه الكلمة تمثل فقرةً كاملة ذات مغزى تعبّر تعبيراً بليغاً عن ثنائها وحمدها ودلالتها على (الحكم) ذي الجمال، بعدد أوراقها المنتظمة وأزهارها المزينة وأثمارها الموزونة، حتى لكأن تلك الشجرة المفتحة الازهار قصيدةٌ عصماء تتغنى بالمدح والثناء على آلاء بارئها المصور الجليل.
وكأن (الحكيم) ذا الجلال يريد أن ينظر عباده الى ما عَرَضه من بدائع آثاره وعجائب مخلوقاته في معرض الارض البديع بألوف من العيون.
وكأن تلك الهدايا الثمينة والأوسمة الغالية والشارات اللطيفة التي منحها الله تعالى لتلك الشجرة قد أعطتها من الشكل الجميل المزيَّن،
والهيأة الموزونة المنتظمة، والابانة الحكيمة البليغة ما يهيؤها للعرض أمام أنظار الملِك العظيم في يوم عيده البهيج وعرضه العام للمخلوقات.. في الربيع الزاهي.. فتنطلق بالشهادة على وجود البارئ المصور، والدلالة على أسمائه الحسنى ألسنةٌ عديدة ووجوهٌ كثيرة متداخلة؛ من كل زهرة من أزهار الشجرة، ومن كل ثمرة من ثمارها.
فمثلاً: ان كل ما في الزهرة والثمرة موزونٌ بميزان دقيق، وذلك الميزان مقدّر وفق تناسق بديع، وذلك التناسق يسير منسجماً مع تنظيم وموازنةٍ يتجددان، وذلك التنظيم والموازنة يجريان في ثنايا زينة فاخرة وصنعة متقنة، وتلك الزينة والاتقان يظهران بروائح ذات مغزى وبمذاقات ذات حكمة.. وهكذا تشير كل زهرة الى (الحكم) ذي الجلال اشاراتٍ، وتدل عليه دلالات، بعدد أزهار تلك الشجرة.
والشجرة التي هي بمثابة كلمة، وثمارها التي هي بحكم حروف تلك الكلمة، وبذور الثمر كأنها نقاط تلك الحروف التي تضم فهرس الشجرة كاملاً وتحمل خطة اعمالها. هذه الشجرة اذا اخذناها مثالاً وقسنا عليها كتاب الكون الكبير، نرى سطورَه وصحائفه قد صارت بتجلى انوار اسم (الحكيم الحَكَم) معجزة باهرة، بل غدت كل صحيفة منه، وكل سطر منه، وكل كلمة، وكل حرف، وكل نقطة معجزة تبلغ من العظمة ما لو اجتمعت الاسباب المادية كلها على أن تأتي بمثل تلك النقطة - أي البذرة - أو بنظيرها لا تأتي بمثلها. بل تعجز الاسباب جميعُها عجزاً مطلقاً عن معارضتها.
نعم، ان كل آية كونية من آيات قرآن الكون العظيم المنظور تُعرِض للانظار معجزاتٍ نيّرات هي بعدد نقاطها وحروفها، فلا جرم أن المصادفة العشواء والقوة العمياء، والطبيعة الصماء البلهاء التي لا هدف لها ولا ميزان، لا يمكنها ان تتدخل - في أية جهة كانت - في هذا الميزان المتقن الخاص، وفي هذا الانتظام الدقيق البديع المتّسمين بالحكمة والبصيرة. فلو اُفترض تدخلها - جدلاً - لظهر أثر التدخل،بينما لا يشاهَد في أي مكان تفاوتاً ولا خللاً قط.
النقطة الثانية:
وهي مسألتان:
lالمسألة الاولى: مثلما وضح في (الكلمة العاشرة) أنه من القواعد الاساسية الرصينة:
ان الجمال الذي هو في منتهى الكمال لابد أن يَشهَد ويُشهِدَ جمالَه.
وان الكمال الذي هو في منتهى الجمال لابد أن يَشهَد ويُشهِد كمالَه.
فبناء على هذا الدستور العام فان البارئ المصور سبحانه الذي أبدع كتاب الكون العظيم هذا يعرِّف جمالَ كمالِه ويحبّبه بألسنةِ مخلوقاته - ابتداءً من أصغر جزئي الى أكبر كلي - فيعرِّف سبحانه ذاتَه المقدسَّة، ويفهّم كمالَه السامي، ويُظهر جمالَه البديع: بهذا الكون الرائع، وبكل صحيفة فيه، وبكل سطر فيه، وبكل كلمة فيه، بل حتى بكل حرف وبكل نقطة من كتابه العظيم هذا.
فيا أيها الغافل! ان هذا (الحكيم الحَكمَ الحاكم) ذا الجلال والجمال، اذ يعرّف نفسَه لك ويحبّبها اليك بكل مخلوقٍ من مخلوقاته، وبهذه الصورة الرائعة وبهذه الكثرة الكاثرة من الوسائل البديعة، اِن لم تقابِل تعريفَه هذا بالايمان به ولم تعرِفه، وإن لم تقابِل تحبيبه هذا بالعبادة له ولم تحبّب نفسَك اليه، فما أعظم جهلك اذن، وما أفدح خسارتك!. أحذر!. أنتبه!.. وأفِق من غفلتك!.
lالمسألة الثانية: انه لا مكان للشرك قط في هذا الكون الشاسع العظيم الذي أبدعه الصانع القدير الحكيم بقدرته وحكمته؛ لأن وجود منتهى النظام في كل شئ لن يسمح بالشرك ابداً، فلو تدخلت أيدٍ متعددة في خلق شئٍ ما لبان التفاوت والاختلال في ذلك الشئ، مثلما تختلط الامور اذا ما وجد سلطانان في بلاد، ومسؤولان في مدينة،ومديران في قصبة، ومثلما يرفض أبسط موظف تدخل أحدٍ في شأن من شؤونه التي تخص وظيفته..
كل ذلك دلالة على ان الخاصة الاساسية للحاكمية انما هي: (الاستقلال) و(الانفراد) فالانتظام يقتضي الوحدة كما ان الحاكمية تقتضي الانفراد.
فاذا كان ظلٌ باهت زائل للحاكمية لدى هذا الانسان العاجز الفقير يردّ المداخلة بقوة، فكيف بالحاكمية الحقيقية التي هي في مرتبة الربوبية المطلقة لدى القدير المطلق سبحانه؟ ألا تردّ الشرك وترفضه رفضاً باتاً؟.
فلو اُفترض التدخل - ولو بمقدار ذرة - لاختلط الانتظام والتناسق واختل النظام والميزان!. مع العلم ان هذا الكون قد أبدع ابداعاً رائعاً الى حد يلزم لخَلْق بذرة واحدة قدرة قادرة على خلق شجرة كاملة، ويلزم لخلق شجرة واحدة قدرة قادرة لإبداع الكون كله. واذا ما افتُرض وجود شريك في الكون كله وَجَب أن يظهر نصيبهُ في التدخل لخلقِ أصغر بذرة مثلاً - اذ البذرة نموذج الكائنات - وعندئذ يلزم استقرار ربوبيتين - لا يسَعهما الكونُ العظيم - في بذرة صغيرة، بل في ذرة!! وهذا من أسخف المحالات والخيالات الباطلة وأبعدها عن المنطق والعقل.
فاعلم من هذا! ما أتفه الشرك والكفر من خرافة! وما اكذبهما من كلمة! وما أفظعهما من افتراء! اذ يقتضيان عجز القدير المطلق الذي يمسك السموات والارض أن تزولا، والذي بيده مقاليد السموات والارض يديرهما بميزان عدله ونظام حكمته.. يقتضيان عجزه سبحانه حتى في بذرة صغيرة!!
واعلم! ما أصوبَ التوحيد من حق وحقيقة! وما أعدله من صدق وصواب! ادرك هذا وذاك وقل: الحمد لله على الايمان.
النقطة الثالثة:
ان الصانع القدير باسمه (الحَكَم والحكيم) قد أدرج في هذا العالم ألوف العوالم المنتظمة البديعة، وبوأ الانسانَ - الذي هو اكثر من يمثل الحِكَم المقصودة في الكون وأفضل مَن يظهرها - موقعَ الصدارة، وجعله بمثابة مركز تلك العوالم ومحورها؛ اذ يتطلع ما فيها من حِكَم ومصالح الى الانسان. وجعل الرزق بمثابة المركز في دائرة حياة الانسان؛ فتجد ان معظم الحِكَم والغايات وأغلب المصالح والفوائد – ضمن عالم الانسان – تتوجه الى ذلك الرزق وتتضح به؛ لذا فان تجليات اسم (الحكيم) تبدو واضحة بأبهر صورها واسطعها من خلال مشاعر الانسان، ومن تضاعيف مذاقات الرزق، حتى غدا كل علم - من مئات العلوم التي توصّل الانسان الى كشفها بما يملك من شعور - يعرِّف تجلياً واحداً من تجليات اسم (الحَكَم) في نوع من الأنواع.
فمثلا:
لو سُئل علم الطب: ما هذه الكائنات؟
لأجاب: انها صيدلية كبرى اُحضرت فيها باتقان جميع الادوية وأدّخرَت.
واذا ما سُئل علم الكيمياء: ما هذه الكرة الارضية؟
لأجاب: انها مختبر كيمياء منتظم بديع كامل.
على حين يجيب علم المكائن: انها معمل منسَّق كامل لا ترى فيه نقصاً.
كما يجيب علم الزراعة: انها حديقة غنَّاء ومزرعة معطاء، تستنبت فيها انواع المحاصيل، كلٌ في أوانه.
ولأجاب علم التجارة: انها معرض تجاري فخم، وسوق في غاية الروعة والنظام، ومحل تجاري يحوي أنفس البضائع المصنوعة وأجودها.
ولأجاب علم الاعاشة: انها مستودع ضخم يضم الأرزاق كلها بأنواعها وأصنافها.
ولأجاب علم التغذية: انها مطبخ رباني تطبخ فيه مئات الالوف من الاطعمة الشهيَّة اللذيذة جنباً الى جنب بنظام في غاية الاتقان والكمال.
ولو سئل علم العسكرية عن الارض!
لأجاب: انها معسكر مهيب يُساق اليه في كل ربيع جنودٌ مسلحون جُدد يؤلفون أمماً مختلفة من النباتات والحيوانات يبلغ تعدادها اكثر من اربعمائة ألف أمة، فتُنصَب خِيَمُهم في ارجاء سطح الارض. وعلى الرغم من أن ارزاق كل أمَّة تختلف عن الاخرى، وملابسها متغايرة واسلحتها متباينة، وتعليماتها مختلفة، ورُخَصها متفاوتة، الا ان أمور الجميع تسير بانتظام رائع، ولوازم الجميع تُهيأ دون نسيان ولا التباس، وذلك بأمر من الله تعالى وبفضل رحمته السابغة صادراً من خزينته الواسعة.
واذا ما سئل علم الكهرباء!
لأجاب: ان سقف قصر الكون البديع هذا قد زُيِّن بمصابيح متلألئة لاحدَّ لكثرتها ولا منتهى لروعتها وتناسقها، حتى ان النظام البديع والتناسق الرائع الذي فيه يحولان دون انفجار تلك المصابيح السماوية المتوهجة دوماً - وهي تكبر الارض الف مرة وفي مقدمتها الشمس - ودون انتقاص توازنها او نشوب حريق فيما بينها..
تُرى من أي مصدرٍ تُغذّى تلك المصابيح التي لا يحد ولا ينفد استهلاكها؟. ولِمَ لا يختل توازن الاحتراق؟ علماً ان مصباحاً زيتياً صغيراً إن لم يُراعَ ويُعتنَ به باستمرار ينطفئ نورُه ويخبُ.. فسبحانه من قدير حكيم ذي جلال كيف أوقد الشمس - التي هي أضخم من الارض بمليون مرة ومضى على عمرها أكثر من مليون سنة - حسب ما توصل اليه علم الفلك - دون ان تنطفئ ومن دون وقود أو زيت ..(1)
تأمل في هذا وسبّح باسم ربك العظيم وقل: ما شاء الله، تبارك الله، لا اله الا الله.. قلها بعدد الثواني التي مرت على عمر الشمس.. فلاشك ان نظاماً بديعاً صارماً هو الذي يهيمن على هذه المصابيح السماوية المتلألئة ولابد أن رعايتها، ومراقبتها دقيقة، حتى كأن مصدر الحرارة - والمرجل البخاري - لتلك الكتل النارية التي هي في منتهى الضخامة وفي غاية الكثرة، انما هي جهنم لا تنفد حرارتُها وترسلها الى الكل مظلمة قاتمة بلا نور. وكأن ماكنة تلك المصابيح المنورة والقناديل المضيئة التي لاتعد ولا تحصى هي جنة دائمة ترسل اليها النور والضياء فيستمر اشتعالها المنتظم بالتجلي الاعظم لاسم (الحكم والحكيم).
وهكذا قياساً على هذه الامثلة، فان كل علمٍ من مئات العلوم يشهد قطعاً: ان هذا الكون قد زُيِّن بحِكَمٍ ومصالح شتى ضمن انتظام كامل لا نقص فيه، وان تلك الانظمة البديعة والحِكَم السامية النابعة من تلك الحكمة المعجزة المحيطة بالكون قد أدرجت بمقياس اصغر، حتى في اصغر كائن حي وفي أصغر بذرة..
ومن المعلوم بداهة ان تتبع الغايات وارداف الحِكَم والفوائد بانتظام لايحصل الا بالارادة والاختيار والقصد والمشيئة، والاّ فلا. فكما ان هذا العمل البديع ليس هو من شأن الاسباب والطبيعة - اللتين لا تملكان ارادةً ولا اختياراً ولا قصداً ولا شعوراً - فلن يكون لهما تدخلٌ فيه كذلك؛ لذا فما أجهل مَن لايعرف أولا يؤمن بالفاعل المختاروبالصانع الحكيم الذي تدل عليه هذه الانظمةُ البديعة والحِكَم الرفيعة التي لاحدَّ لها وهي مبثوثة في موجودات الكون قاطبة.
نعم! ان كان هناك شئٌ يُستَغرب منه ويُثير عند الانسان العَجب في هذه الدنيا انما هو: انكار وجوده سبحانه؛ لأن الانتظام بأنواعه البديعة التي لا تعد والحِكَم بأشكالها السامية التي لا تحصى والمندرجة في كل موجود في الكون شواهد صادقة على وجوب وجوده سبحانه وعلى وحدانيته.. فبعداً لعمىً ما بعده عمى! وسحقاً لجهلٍ ما بعده جهل لمن لايرى هذا (الرب الحكيم) سبحانه! حتى يمكنني القول: أن السوفسطائيين الذين يُعَدّون حمقى لأنكارهم وجود الكون، هم أعقلُ أهل الكفر؛ لأن الاعتقاد بوجود الكون ومن بعده انكار خالقه - وهو الله سبحانه - غير ممكن قطعاً، ولا يُقبل اصلاً، لذا بدأوا بانكار الكون وأنكروا وجودهم أيضاً، وقالوا لاشئ موجود على الاطلاق. فأبطلوا عقولهم، وانقذوا أنفسهم بأقترابهم شيئاً الى العقل من متاهة الحماقة المتناهية للمنكرين الجاحدين الحمقى المتسترين تحت ستار العقل!
النقطة الرابعة:
مثلما أشير في (الكلمة العاشرة) الى أنه: اذا ما شيَّد معماري بارع حكيم قصراً منيفاً، وأودع في كل حجر من احجاره مئات الحِكَم والمصالح والفوائد، فلا يتصور مَن له شعور ان لايبني له سقفاً يحفظه من البلى والفساد؛ لان هذا يعني تعريض البناء الى العدم والتلف وضياع تلك الفوائد والحكم التي كان يرعاها ويتولاها، وهذا ما لايرضى به ذو شعور. أو أن حكيماً مطلقاً يُنشئ من درهم من البذور مئات الاطنان من الفوائد والحكم والغايات، ويتعقبها ويديرها، لا يمكن ان يَتَصور مَن له عقل صدور العبث والاسراف المنافيين كلياً للحكمة المطلقة من ذلك (الحكيم المطلق) فيقلّد الشجرة الضخمة فائدة جزئية، وغاية تافهة وثمرة قليلة، علماً أنه ينفق لإنشائها واثمارها الكثير!..
نعم، فكما لا يمكن ان يتصور هذا أو ذاك عاقلٌ قط، كذلك لا يمكن ان يتصور مَن له مسكةُ عقل أن يصدُر من (الصانع الحكيم) العبثُ والاسراف بعدم اتيان الآخرة وبعدم اقامته الحشر والقيامة بعد أن قلَّد كل موجود في قصر الكون هذا مئاتٍ من الحكم والمصالح وجهزه بمئاتِ الوظائف - حتى انه قلَّد كل شجرة حكماً بعدد ثمارها ووظائف بعدد ازهارها - فلا يمكن ان يتوارد على خاطر عاقل ان يضيّع هذا (الحكيمُ الجليل) جميعَ هذه الحِكم والمقاصد وجميع هذه الوظائف بعدم اقامته القيامة والآخرة.
اذ يعني هذا اسناد العجز التام الى قدرة القدير المطلق، وتنسيب العبث والضياع الى الحكمة البالغة للحكيم المطلق، وارجاع القبح المطلق الى جمال رحمة الرحيم المطلق، واسناد الظلم المطلق الى العدالة التامة للعادل المطلق، أي انكار كل من الحكمة والرحمة والعدالة الظاهرة المشاهدة، انكارها كلياً من الوجود! وهذا من أعجب المحالات واشدها سخفاً واكثرها بطلاناً!.
فليأت أهلُ الضلالة، ولينظروا الى ضلالتهم كيف انها مظلمة مليئة بالعقارب والحيات كقبورهم التي سيصيرون اليها! وليدركوا ان طريق الايمان بالآخرة منوَّرٌ جميل كالجنة فليسلكوه ولينعَموا بالايمان.
النقطة الخامسة:
وهي مسألتان:
lالمسألة الاولى: ان تعقب الصانع الجليل - بمقتضى اسم (الحكيم) لألطف صورة في كل شئ واقصر طريق، وأسهل طراز، وأنفع شكل.. يدل دلالة واضحة على ان الفطرة لا إسراف فيها قط ولا عبث، فما من شئ الاّ وفيه نفعه وجدواه، وإن الاسراف مثلما ينافي اسم (الحكيم) فالاقتصاد لازمُه ومقتضاه ودستوره الاساس.
فيا ايها المسرف المبذر! اعلم مدى مجانبتك الحقيقة بقعودك عن تطبيق أعظم دستور للكون المبني على الاقتصاد. وتدبّر الآية الكريمة ﴿وكُلوا واشربوا ولاتُسرفوا﴾(الاعراف: 31) لتعلم مدى رسوخ الدستور الواسع الشامل الذي ترشد اليه.
lالمسألة الثانية: يصح ان يقال: ان اسم الله (الحكم) و(الحكيم) يقتضيان بداهة نبوة محمد yورسالته، ويدلان عليها ويستلزمانها.
نعم! مادام الكتاب البليغ بمعانيه ومراميه، يقتضي بالضرورة معلماً بارعاً لتدريسه.. والجمال الفائق يقتضي مراةً يتراءى فيها، ويُري بها جمالَه وحُسنه.. والصنعةُ البديعة تستدعي منادياً داعياً اليها..
فلابد ان يوجد بين بني البشر الذي هو موضع خطاب كتاب الكون الكبير المتضمن مئات المعاني البليغة والحِكَم الدقيقة في كل حرف من حروفه، اقول:
لابد ان يوجد رائدٌ اكمل، ومعلمٌ اكبر، ليرشد الناس الى ما في ذلك الكتاب الكبير من حِكم مقدسة حقيقية.. وليعلّم وجود الحِكَم المبثوثة في ارجائه ويدل علىها.. وليكون مبعث ظهور المقاصد الربانية في خلق الكون، بل السبب في حصولها.. وليرشد الى مايريد الخالق اظهارَه من كمال صنعته البديعة، وجمال اسمائه الحسنى، فيكون كالمرآة الصافية لذلك الكمال البديع والجمال الفائق.. ولينهض بعبودية واسعة - باسم المخلوقات قاطبة - تجاه مظاهر الربوبية الواسعة، مثيراً الشوقَ وناثراً الوجدَ في الآفاق براً وبحراً ملفتاً انظار الجميع الى الصانع الجليل بدعوةٍ ودعاء، وتهليل وتسبيح وتقديس، ترنّ به ارجاء السماوات والارض.. وليقرع اسماع جميع ارباب العقول بما يلقّنه من دروس مقدسة سامية وارشادات حكيمة من القرآن الحكيم.. وليبين بأجمل صورة واجلاها بالقرآن العظيم المقاصد الإلهية لذلك الصانع (الحكم الحكيم).. وليستقبل بأكمل مقابلة وأتمهامظاهر الحكمة البالغة والجمال والجلال المتجلية في الآفاق. فانسانٌ هذه مهمته، انسان ضروري وجوده،بل يستلزمه هذا الكون،كضرورة الشمس ولزومها له.
فالذي يؤدي هذه المهمات، وينجز هذه الوظائف على اتم صورة ليس الا الرسول الاكرم yكما هو مشاهد؛ لذا فكما تستلزم الشمس الضوء، ويستلزم الضوء النهار، فالحِكَم المبثوثة في آفاق الكون وجنباته تستلزم نبوة محمد yورسالته.
نعم! مثلما يقتضي التجلي الاعظم لاسم (الحكم والحكيم) - في اوسع مداه - الرسالة الاحمدية، فان اغلب الاسماء الحسنى؛ (الله، الرحمن، الرحيم، الودود، المنعم، الكريم، الجميل، الرب) وامثالها، تستلزم الرسالة الاحمدية في اعظم تجلياتها واحاطتها بالكون كله، استلزاماً قاطعاً لا ريب فيه.
فمثلاً:
ان الرحمة الواسعة التي هي تجلي اسم (الرحيم) تظهر بوضوح بمَن هو (رحمة للعالمين)..
وان التحبب الإلهي، والتعرف الرباني - اللذين هما من تجليات اسم (الودود) - يفضيان الى نتيجتهما ويجدان المقابلة بـ(حبيب رب العالمين)..
وان جميع انواع الجمال: من جمال الذات الى جمال الاسماء، وجمال الصنعة والاتقان، وجمال المصنوعات، والمخلوقات، كل انواع الجمال – التي هي تجلٍ من تجليات اسم (الجميل) - تشاهَد في تلك المرآة الاحمدية، وتُشهد بها..
بل حتى تجليات عظمة الربوبية، وهيمنة سلطنة الالوهية انما تُعرف برسالة هذا الداعية العظيم الى سلطان الربوبية وتتبين بها، وتُفهم عنها، وتؤخذ منها وتُصدّق بها..
وهكذا فأغلب الاسماء الحسنى انما هي برهان باهر على الرسالة الاحمدية كما مر آنفاً..
نحصل مما سبق:
ما دام الكون موجوداً بالفعل ولا يمكن انكاره، فلا يمكن ان يُنكَر كذلك ما هو بمثابة ألوانِه وزينته، وضيائه واتقانه، وانواع حياته، واشكال روابطه من الحقائق المشهودة، كالحكمة، والعناية، والرحمة، والجمال، والنظام، والميزان، والزينة، وامثالها من الحقائق..
فمادام لا يمكن انكار هذه الصفات والافعال، فلا يمكن انكار موصوف تلك الصفات، ولا يمكن انكار فاعل تلك الافعال ونور شمس تلك الاضواء، اعني ذات (الله) الاقدس جلّ جلالُه (الواجب الوجود)، الذي هو الحكيم، الرحيم، الجميل، الحكم، العدل..
وكذا لا يمكن انكار مَن هو مدارٌ لظهور تلك الصفات والافعال، بل مَن هو مدارٌ لعرض كمالاتها، بل تحقق تجلياتها، ذلكم الرسول الكريم محمد y، الرائد الاكبر، والمعلم الاكمل، والداعية الاعظم، وكشاف طلسم الكائنات، والمرآة الصمدانية، وحبيب الرحمن.. فلا يمكن انكار رسالته قطعاً، لأنها اسطع نور في هذا الكون كسطوع ضياء عالم الحقيقة ونور حقيقة الكائنات .
عليه وعلى آله وصحبه الصلاة والسلام بعدد عاشرات الايام وذرات الأنام.
(1) اذا ماحُسب مايلزم مدفأة قصر الكون ومصباحه -وهو الشمس- كم تحتاج يومياً من الوقود ومن الزيت للاضاءة، نرى أنها -بحساب الفلكيين- بحاجة الى مليون ضعف حجم الكرة الارضية من الوقود والوف الاضعاف من حجم البحار من الزيوت!!
فتأمل في عظمة الخالق القدير ذي الجلال الذي يوقد تلك المدفأة ويشعل ذلك السراج الوهاج من دون وقود ولازيت، ويشعلها بلا انقطاع. تدبّر في سعة حكمته وطلاقة قدرته، وقل: سبحان الله.. ماشاء الله.. تبارك الله.. بعدد ذرات الشمس. المؤلف
(*) كليات رسائل النور - اللمعات - ص: 528
12-)
بشرى الكلمة التاسعة: "بيده الخير"
باسمه سبحانه
ايها المستخلف المبارك
(لا إله إلاّ الله، وحده، لا شريك له، له الملك، وله الحمد يحيي، ويميت، وهو حي لا يموت، بيده الخير، وهو على كل شئ قدير، وإليه المصير(
بديع الزمان سعيد النورسي يقول:
كل كلمة من كلمات هذا الكلام التوحيدي الرائع تزف بشرى سارة، وتبث املاً دافئاً. وفي كل بشرى شفاء وبلسم.. وفي كل شفاء لذة معنوية وانشراح روحي.
بشرى الكلمة التاسعة: "بيده الخير"
أي: ان الخير كله بيده، واعمالكم الخيرة كلها تسجل في سجله، وما تقدموه من صالحات الاعمال جميعها تدرج عنده.
فهذه الكلمة تنادي الجن والانس، وتزف لهم البشرى، وتهب لهم الأمل والشوق فتقول:
ايها المساكين! لا تقولوا عندما تغادرون الدنيا الى المقبرة: "أواه.. وا اسفاه.. واحسرتاه، لقد ذهبت اموالنا هباءً، وضاع سعينا هدراً، فدخلنا ضيق القبر بعد فسحة الدنيا!.. لا.. لا تصرخوا يائسين، لأن كل ما لديكم محفوظ عنده سبحانه، وكل ما قدمتموه من عمل وجهد قد سجل ودوّن عنده، فلا شئ يضيع ولا جهد ينسى، لأن ذا الجلال الذي بيده الخير كله سيثيبكم على اعمالكم، وسيدعوكم للمثول امامه بعد ان يضعكم في التراب.. مثواكم الموقت.
فما اسعدكم انتم اذن، وقد اتممتم خدماتكم، وانهيتم وظائفكم، برئت ساحتكم.. وانتهت ايام المعاناة والأعباء الثقيلة. فانتم ماضون الآن لقبض الاجور واستلام الارباح.
أجل!. ان القادر الجليل الذي حافظ على البذور والنوى- التي هي صحف اعمال الربيع الماضي ودفاتر خدماته وحجرات وظائفه - ونشرها في هذا الربيع الزاهي وفي أبهى حلة، وفي غاية التألق، وفي اكثر بركة وغزارة، وفي أروع صورة... ان هذا القدير الجليل لا ريب يحافظ ايضاً على نتائج حياتكم ومصائر اعمالكم، وسيجازيكم بها أحسن الجزاء وأجزل الثواب.(*)
___________________
(*) المكتوب العشرون - ص: 294
13-)
اثبات التوحيد الكلمة العاشرة وهو [ على كل شئ قدير ]
باسمه سبحانه
ايها المستخلف المبارك
(لا إله إلاّ الله، وحده، لا شريك له، له الملك، وله الحمد يحيي، ويميت، وهو حي لا يموت، بيده الخير، وهو على كل شئ قدير، وإليه المصير)
بديع الزمان سعيد النورسي يشير باختصار الى اثبات التوحيد من حيث الاسم الاعظم والجملة التي تلخص التوحيد فيتناولها كلمة كلمة
اثبات التوحيد الكلمة العاشرة وهو [ على كل شئ قدير ]
اي لايثقل عليه شئ. فما من شئ في دائرة الامكان الاّ وهو قادر على ان يلبسه الوجود بكل سهولة ويسر. فهذا الامر سهل عليه الى حد أنه بمجرد أمره اليه يحصل الشئ بمقتضى قوله تعالى:(انما أمره اذا اراد شيئاً ان يقول له كن فيكون) (يس:82).
اذ كما ان صناعاً ماهراً جداً، ما أن يكاد تمس يده الشئ الاّ ويبدأ بالعمل كالماكينة. ويقال تعبيراً عن تلك السرعة والمهارة: ان ذلك العمل وتلك الصنعة سهل عليه ومسخّر بيده حتى كأن العمل يتم بمجرد أمره ومسّه، فالاعمال تنجز والمصنوعات توجد.
وكذلك الاشياء ازاء قدرة القدير ذي الجلال مسخّرة في منتهى التسخير، ومنقادة انقياداً تاماً، وان تلك القدرة تعمل الاشياء وتنجزها في منتهى السهولة، وبلا معالجة ولا كلفة حتى عبّر القرآن الكريم عن ذلك بقوله تعالى (إنما أمره اذا أراد شيئاً ان يقول له كنْ فيكون) .
سنبيّن خمساً من الاسرار غير المحدودة لهذه الحقيقة العظمى وذلك في خمس نكاتٍ:
اولاها:
ان أعظم شئ سهل ويسير على القدرة الإلهية كأصغر شئ، فايجاد نوع من الاحياء بجميع أفراده سهل كايجاد فرد واحد. وخلق الجنة الواسعة يسير عليها كيسر خلق الربيع. وخلق الربيع سهل كسهولة خلق زهرة واحدة.
ولقد أوضحنا هذا السر في اواخر الكلمة العاشرة، وفي بيان الاساس الثاني من الكلمة التاسعة والعشرين وذلك في ستةٍ من الاسرار التمثيلية، وهي: سر النورانية وسر الشفافية وسر المقابلة وسر الموازنة وسر الانتظام وسر الطاعة وسر التجرد.. واثبتنا
هناك؛ بان النجوم والذرات سيّان في السهولة ازاء القدرة الإلهية وانها تخلق افراداً غير محدودين بسهولة خلق الفرد الواحد بلا تكلف ولامعالجة.
ولما كانت هذه الاسرار الستة قد وضحت في تلكما الكلمتين، نختصر الكلام هنا، ونحيل اليهما.
ثانيتها:
ان الدليل القاطع والبرهان الساطـع على ان كل شـئ سـواء بالنسبة الى القدرة الإلهية، هي اننا نشاهد بأعيننا ان في ايجاد الحيوانات والنباتات منتهى الاتقان وغاية حسن الصنعة ضمن سخاء مطلق وكثرة مطلقة.
ويشاهد فيها ايضاً منتهى الامتياز والتفريق ضمن منتهى الاختلاط والامتزاج.
ويشاهد فيها ايضاً منتهى القيمة الراقية في الصنعة وجمال الخلقة ضمن منتهى الوفرة والوسعة.
وتخلق الاشياء في سهولة وسرعة مطلقتين مع حاجتها الى اجهزة كثيرة وزمان مديد لإبراز الصنعة المتقنة. حتى كأن تلك المعجزات للصنعة البديعة تبرز للوجود دفعة من غير شئ.
فما نراه من فعالية القدرة الإلهية الواسعة على سطح الارض كافة وفي كل موسم تدل دلالة قاطعة على ان أكبر شئ ازاء هذه القدرة التي هي منبع هذه الفعالية سهل ويسير كأصغره، وان ايجاد افراد غير محدودين وادارتها يسير عليها كايجاد فرد واحد وادارته.
ثالثتها:
ان اكبـر كلّ ٍ كأصغر جـزءٍ هيّن ازاء قدرة الصانع القـدير الذي يـهيمن بافعاله وتصريفه الامور في الكون وكما هو مشاهد. فايجاد الكلي بكثرة من حيث الافراد سهل كايجاد جزئي واحد.ويمكن اظهار ابداع الصنعة المتقنة في اصغر جزئي اعتيادي.
وينبع سر الحكمة لهذه الحقيقة من ثلاثة منابع:
الاول: امداد الواحدية.
الثاني: يسر الوحدة.
الثالث: تجلي الاحدية.
المنبع الاول: وهو امداد الواحدية.
اي إن كان كل شئ وكل الاشياء ملكاً لمالك واحد فعندئذ يمكن من حيث الواحدية ان يحشد قوة جميع الاشياء وراء كل شئ، ويدبر امور جميع الاشياء بسهولة ادارة الشئ الواحد.
ولاجل تقريب هذا السر الى الافهام نقول في تمثيل:
بلد يحكمها سلطان واحد يستطيع ان يحشّد قوة معنوية لجيش كامل وراء كل جندي من جنوده وذلك من حيث قانون السلطنة الواحدة. لذا يستطيع ذلك الجندي الفرد ان يأسر القائد الاعظم للعدو بل يمكن ان يسيطر باسم سلطانه على مَن هو فوق ذلك القائد.
ثم ان ذلك السلطان، مثلما يستخدم موظفاً او جندياً، ويدبر امور جميع الموظفين وجميع الجنود ايضاً بسر السلطنة الواحدة، وكأنه يرسل كل شخص وكل شئ بسر سلطنته الواحدة لإمداد اي فرد كان.يمكن ان يستند كل فرد من افراد رعيته الى قوة جميع الافراد، اي يستطيع ان يستمد منها.
ولكن لو حلّت حبال تلك الواحدية للسلطنة، واصبحت السلطنة سائبة وفوضى؛ فان كل جندي عندئذٍ يفقد ـ بالمرة ـ قوة لاتحد، ويهوى من مقام نفوذ رفيع، ويصبح في مستوى انسان اعتيادي. وعندها تنجم مشاكل للادارة والاستخدام بعدد الافراد.
كذلك (ولله المثل الاعلى ) فصانع هذا الكون لكونه واحداً، فانه يحشّد اسماءه المتوجهة الى جميع الاشياء، تجاه كل شئ. فيوجد المصنوع باتقان تام وبصورة رائعة. وان لزم الامر يتوجه بجميع الاشياء الى الشئ الواحد، ويوجهها اليه، ويمدّه بها ويقويه بها.
وانه يخلق جميع الاشياء ايضاً بسر الواحدية، ويتصرف فيها ويدبر امورها كايجاد الشئ الواحد.
ومن هذا السر - سر إمداد الواحدية - تُشاهد في الكائنات نوعيات رفيعة قيمة متقنة جداً ضمن وفرة مطلقة ورخص مطلق.
المنبع الثاني: الذي هو يسر الوحدة:
اي ان الافعال التي تتم باصول الوحدة ومن مركز واحد بتصرفٍ واحد وبقانون واحد، تورث سهولة مطلقة. بينما ان كانت تدار من مراكز متعددة، وبقوانين متعددة، وبأيدٍ متعددة تنجم مشكلات عويصة.
مثلاً: اذا جهز جميع افراد الجيش بالاعتدة والتجهيزات من مركز واحد، وبقانون واحد، وبأمر قائد عظيم واحد، يكون الامر سهلاً سهولة تجهيز جندي واحد. بينما اذا أحيل التجهيز الى معامل متفرقة، ومراكز متعددة يلزم عندئذٍ لتجهيز جندي واحد جميع المعامل العسكرية التي تزود الجيش بالتجهيزات اللازمة.
بمعنى انه اذا اسند الامر الى الوحدة فان تجهيز الجيش كاملاً يكون سهلاً كتجهيز جندي واحد، ولكن ان لم يسند الى الوحدة فان تزويد جندي واحد بالتجهيزات الاساسية يولد مشاكل بعدد افراد الجيش.
وكذا اذا زودت ثمرات شجرة ما ـ من حيث الوحدة ـ بالمادة الحياتية من مركز واحد وبقانون واحد واستناداً الى جذر واحد. فان ألوف الثمرات تتزود بها بسهولة كسهولة ثمرة واحدة.بينما اذا ربطت كل ثمرة الى مراكز متعددة، وارسلت الى كل منها موادها الحياتية، عندها تنجم مشكلات بقدر عدد ثمرات الشجرة، لان المواد الحياتية التي تلزم شجرة كاملة تلزم كل ثمرة من الثمرات ايضاً.
وهكذا فبمثل هذين التمثيلين (ولله المثل الاعلى) فان صانع هذا الكون لكونه واحداً أحداً، يفعل مايريد بالوحدة. ولأنه يفعل بالوحدة، تسهل جميع الاشياء كالشئ الواحد. فضلاً عن انه يعمل الشئ الواحد باتقان تام كالاشياء جميعاً. ويخلق أفراداً لاحدّ لها في قيمة رفيعة. فيظهر جُوده المطلق بلسان هذا البذل المشاهد والرخص غير المتناهي، ويظهر بها سخاءه المطلق وخلاقيته المطلقة.
المبع الثلث: وهو تجلي الاحدية؛
أي ان الصانع الجليل منزّه عن الجسم والجسمانية، لذا لا يحصره زمان ولايقيده مكان، ولا يتداخل في حضوره وشهوده الكون والمكان، ولا تحجب الوسائط والاجرام فعله بالحجب. فلا انقسام ولاتجزؤ في توجهه سبحانه ولايمنع شئ شيئاً،
يفعل مالايحد من الافعال كالفعل الواحد، ولهذا فانه يدرج معنىً شجرة ضخمة جداً في بذرة صغيرة، ويدرج العالم في فرد واحد، ويدير امور العالم كله بيد قدرته كادارة فرد واحد.
فكما اوضحنا هذا السر في كلمات اخرى نقول ايضاً:
ان ضوء الشمس الذي لاقيد له الى حدٍ ما، يدخل في كل شئ لمّاع، حيث انه نوراني، فلو واجهتها الوفٌ بل ملايين المرايا، فان صورتها النورانية المثالية تدخل في كل مرآة دون انقسام، كما هي في مرآة واحدة. فلو كانت المرآة ذات قابلية، فان الشمس بعظمتها يمكن أن تُظهر فيها آثارها، فلا يمنع شئ شيئاً. اذ يدخل ـ مثال الشمس ـ في المرآة الواحدة كما في الالوف منها بسهولة تامة، وهي توجد في مكان واحد بسهولة وجودها في الوف الاماكن.وتكون كل مرآة وكل مكان مظهراً لجلوة تلك الشمس كما هي لألوف الاماكن.
(ولله المثل الاعلى) ان لصانع هذا الكون ذي الجلال تجلياً ، بسرّ توجّه الاحدية، بجميع صفاته الجليلة التي هي انوار، وبجميع اسمائه الحسنى التي هي نورانية، فيكون حاضراً ناظراً في كل مكان، ولايحدّه مكان، ولا انقسام في توجهه سبحانه، يفعل مايريد فيما يشاء في كل مكان، في آن واحد ومن دون تكلف ولامعالجة ولامزاحمة.
فبسر امداد الواحدية ويُسر الوحدة وتجلي الاحدية هذه:
اذا اسندت جميع الموجودات الى الصانع الواحد، فالموجودات كلها تسهل كالموجود الواحد ويكون كل موجود ذا قيمة عالية كالموجودات كلها من حيث الاتقان والابداع. كما ان دقائق الصنعة المتقنة الموجودة في كل موجود رغم الوفرة في الموجودات تبين هذه الحقيقة.
بينما ان لم تسند تلك الموجودات الى الصانع الواحد بالذات فان كل موجود عندئذٍ يكون ذا مشاكل بقدر مشاكل الموجودات كلها. وان قيمة الموجودات كلها تسقط الى قيمة موجود واحد. وفي هذه الحالة لايأتي شئ الى الوجود، او اذا وجد فلا قيمة له ولايساوي شيئاً.
ومن هذا السرّ، تجد السوفسطائيين الموغلين في الفلسفة، السابقين فيها قد نظروا
الى طريق الضلالة والكفرمعرضين عن طريق الحق ورأوا أن طريق الشرك عويصة وعسيرة وغير معقولة قطعاً بالوف المرات من طريق التوحيد، طريق الحق؛ لذا اضطروا الى انكار وجود كل شئ وتخلّوا عن العقل.
النكتة الرابعة:
ان ايجاد الجنة سهل كايجاد الربيع، وايجاد الربيع يسير كايجاد زهرة واحدة بالنسبة الى قدرة رب العالمين الذي يصرّف امور هذا الكون بافعاله الظاهرة المشهودة، ويمكن أن تكون ازاء تلك القدرة قيمة محاسن الصنعة البديعة لزهرة واحدة ولطف خلقتها بقيمة لطافة الربيع الزاهر.
ان سر هذه الحقيقة ثلاثة اشياء:
الاول: الوجوب والتجرد في الصانع الجليل.
الثاني: عدم التقيد مع مباينة ماهيته.
الثالث: عدم التحيز مع عدم التجزء.
السر الاول: ان الوجوب والتجرد يسببان السهولة المطلقة واليسر المطلق.
هذا السر عميق للغاية ودقيق للغاية. وسنقرّبه بتمثيل الى الفهم، وذلك:
ان مراتب الوجود مختلفة، وعوالم الموجودات متباينة، لذا فان ذرة من طبقة وجود ذات رسوخ في الوجود تعدل جبلاً من طبقة وجود اقل منها رسوخاً، وتستوعب ذلك الجبل، فمثلاً:
ان القوة الحافظة الموجودة في الانسان ـ وهي لاتعدل حبة خردل من عالم الشهادة ـ تستوعب وجوداً من عالم المعنى بمقدار مكتبة ضخمة.
وان مرآة صغيرة صغر الاظفر من العالم الخارجي، تضم مدينة عظيمة جداً من طبقة وجود من عالم المثال.
فلو كانت لتلك المرآة ولتلك القوة الحافظة من العالم الخارجي شعور وقوة للايجاد، لأحدثتا تحولات وتصرفات غير محدودة في ذلك الوجود المعنوي والمثالي، رغم ما
فيهما من قوة وجود خارجي صغير ضئيل. وهذا يعني انه كلما ترسّخ الوجود ازداد قوة، فالشئ القليل يأخذ حكم الكثير، ولاسيما إن كان الوجود مجرداً عن المادة ولم يدخل تحت ضوابط القيد وكَسبَ الرسوخ التام، فان جلوة جزئية منه تستطيع أن تدير عوالم كثيرة من سائر الطبقات الخفيفة من عالم الوجود.
(ولله المثل الاعلى) ان الصانع الجليل لهذا الكون العظيم هو واجب الوجود. أي أن وجوده ذاتي ازلي، ابدي، عدمه ممتنع، زواله محال، وان وجوده أرسخ طبقة من طبقات الوجود وارساها واقواها واكملها، بينما سائر طبقات الوجود بالنسبة لوجوده سبحانه بمثابة ظلٍ في منتهى الضعف.
وان هذا الوجود، واجب، راسخ، ذو حقيقة، الى حدٍ عظيم. ووجود الممكنات خفيف وضعيف في منتهى الخفة والضعف، بحيث دفع الشيخ محي الدين بن عربي وامثاله الكثيرين من اهل التحقيق ان يُنزلوا سائر طبقات الوجود منزلة الاوهام والخيالات، فقالوا: لاموجود الاّ هو، وقرروا انه لاينبغي ان يقال لما سوى الوجود الواجب وجوداً، اذ لاتستحق هذه الانواع من الوجود عنوان الوجود.
وهكذا فوجود الموجودات التي هي عرضية وحادثة، و ثبوت الممكنات التي لاقرار ولا قوة لها، يسيرٌ في منتهى اليسر أزاء قدرة واجب الوجود الذاتية الواجبة. فاحياء جميع الارواح في الحشر الاعظم ومحاكمتها سهل ويسير على تلك القدرة كسهولة حشر وإحياء الاوراق والازهار والثمار في الربيع بل في حديقة صغيرة بل في شجرة.
السـر الثاني: ان مباينة الماهية مع عدم التقيد يسببان السهولة المطلقة، وذلك: ان صانع الكون جل جلاله ليس من جنس الكون بلاشك، فلا تشبه ماهيته اية ماهية كانت، لذا فان الموانع والقيود التي هي ضمن دائرة الكائنات لاتتمكن قطعاً ان تعترض اجراءاته وتقيّدها، فهو القادر على ادارة الكون كله في آن واحد ويتصرف فيه تصرفاً مباشراً.
فلو احيل تصريف الامور وافعاله الظاهرة في الكون الى الكائنات انفسها، لنجمت من المشكلات والاختلاطات الكثيرة بحيث لايبقى اي انتظام اصلاً ولا أي شئ في الوجود بل لايأتي أصلاً الى الوجود.
فمثلاً: لو احيلت المهارة في بناء القبة الى احجارها، وفوّض ما يخص الضابط في ادارة الفوج الى الجنود انفسهم، فإما لا تحصل تلك النتيجة ولاتأتي الى الوجود أصلاً او يحدث فوضى من عدم الانتظام ومشكلات واختلاط الامور.بينما اذا اسندت المهارة في بناء القبب الى صناع ليس من نوع الحجر، وفوضت ادارة الجنود في الفوج الى ضابط حاز ماهية الضابط ـ من حيث الرتبة ـ فان الصنعة تسهّل والادارة تتيسر، حيث أن الاحجار وكذا الجنود يمنع احدها الآخر. بينما البنّاء والضابط ينظران ويتوجهان ويديران كل نقطة من نقاط البناء او الجنود دون مانع او عائق. (ولله المثل الاعلى) ان الماهية المقدسة لواجب الوجود ليست من جنس ماهية الممكنات. بل جميع حقائق الكائنات ليست الاّ أشعة لإسم "الحق" الذي هو اسم من الاسماء الحسنى لتلك الماهية.
ولما كانت ماهيته المقدسة، واجبة الوجود، ومجرّدة عن المادة، ومخالفة للماهيات كافة، اذ لامثل ولامثال ولامثيل لها، فان ادارة الكون اذاً وتربيته بالنسبة الى قدرة ذلك الرب الجليل الازلية، سهل كادارة الربيع بل كادارة شجرة واحدة، وايجاد الحشر الاعظم والدار الآخرة والجنة وجهنم سهل كاحياء الاشجار مجدداً في الربيع بعد موتها في الخريف.
السر الثالث: ان عدم التحيز وعدم التجزؤ سبب للسهولة المطلقة وذلك:
ان الصانع القدير لما كان منزهاً عن المكان فهو حاضر إذاً بقدرته في كل مكان قطعاً. وحيث لاتجزؤ ولاإنقسام، فيمكن اذاً أن يتوجه الى كل شئ بجميع اسمائه الحسنى.
وحيث أنه حاضر في كل مكان ومتوجه الى كل شئ فان الموجودات والوسائط والاجرام لاتعيق افعاله ولاتمانعها.بل لو افترضت الحاجة الى الاشياء ـ ولا حاجة اليها اصلاً ـ فانها تصبح وسائل تسهيل ووسائط وصول الحياة واسباباً للسرعة في انجاز الافعال كاسلاك الكهرباء واغصان الشجرة واعصاب الانسان. فلاتعويق اذاً ولاتقييد ولاتمانع ولامداخلة قطعاً، اذ كل شئ بمثابة وسيلة تسهيل ووساطة سرعة واداة ايصال، اي لا حاجة الى شئ من حيث الطاعة والانقياد تجاه تصاريف قدرة القدير الجليل، وحتى لو افترضت الحاجة ـ ولاحاجة اصلاً ـ فان الاشياء تكون وسائل تسهيل ووسائط تيسير.
حاصل الكلام: ان الصانع القدير يخلق كل شئ بما يليق به بلا كلفة ولامعالجة ولامباشرة، وفي منتهى السهولة والسرعة، فهو سبحانه يوجد الكليات بسهولة ايجاد الجزئيات ويخلق الجزئيات باتقان الكليات.
نعم! ان خالق الكليات والسموات والارض هو خالق الجزئيات وافراد ذوي الحياة من الجزئيات التي تضمها السموات والارض، وليس غيره. لأن تلك الجزئيات الصغيرة انما هي مثال مصغر لتلك الكليات وثمراتها ونواها.
وان من كان خالقاً لتلك الجزئيات لاشك أنه هو الخالق لما يحيط بها من العناصر والسموات والارض، لاننا نشاهد ان الجزئيات في حكم نوى بالنسبة للكليات ونسخة مصغرة منها، لذا لابد أن تكون العناصر الكلية والسموات والارض في يد خالق تلك الجزئيات كي يمكن أن يدرج خلاصة تلك الموجودات الكلية والمحيطة ومعانيها ونماذجها في تلك الجزئيات التي هي نماذجها المصغرة على وفق دساتير حكمته وموازين علمه.
نعم! ان الجزئيات ليست قاصرة عن الكليات من حيث عجائب الصنعة وغرائب الخلق. فالازهار ليست ادنى جمالاً عن النجوم الزاهرة ولا البذور أحط قيمة من الاشجار اليافعة. بل الشجرة المعنوية المدرجة بنقش القدر في البذرة الصغيرة اعجب من الشجرة المجسمة بنسج القدرة في البستان. وان خلق الانسان اعجب من خلق العالم.
فكما لو كتب قرآن الحكمة بذرات الاثير على جوهر فرد يمكن أن يكون اعظم قيمة من قرآن العظمة المكتوبة على السموات بالنجوم، كذلك هناك كثير جداً من الجزئيات هي ارقى من الكليات من حيث الصنعة.
النكتة الخامسة:
لقد بينا آنفاً شيئاً من اسرار وحكم ما يُشاهد في ايجاد الاشياء والمخلوقات من منتهى اليسر والسهولة ومنتهى السرعة في انجاز الافعال.
فوجود الاشياء بهذه السهولة غير المحدودة والسرعة المتناهية، يورث قناعة قاطعة لدى اهل الايمان؛ أن ايجاد الجنة ازاء قدرة خالق المخلوقات سهل كايجاد الربيع، والربيع كالبستان والبستان كالزهرة. وان حشر البشر قاطبة وبعثهم سهل كسهولة اماتة
رد وبعثه وذلك مضمون الآية الكريمة :
(ماخلقُكم ولابعثُكم الاّ كنفسٍ واحدة) (لقمان:28).
وكذلك فإن احياء جميع الناس يوم الحشر الاعظم يسير كيسر جمع الجنود المتفرقين في الاستراحة بصوت من بوق، وهو مضمون صراحة الآية الكريمة:
(إنْ كانت الاّ صيحةً واحدة فاذا هُم جميعٌ لدينا مُحـضَرون) (يس:53).
فهذه السرعة غير المتناهية والسهولة غير المحدودة، مع أنها ـ بالبداهة ـ دليل قاطع وبرهان يقيني على كمال قدرة الصانع جل جلاله، وسهولة كل شئ بالنسبة له، الاّ انها اصبحت سبباً للالتباس على اهل الضلالة. فالتبس في نظرهم تشكيل الاشياء وايجادها بقدرة الصانع الجليل الذي هو سهل بدرجة الوجوب ، وتشكّل الاشياء بنفسها والذي هو محال بالف محال.
اذ لأنهم يرون مجئ بعض الاشياء المعتادة الى الوجود في غاية السهولة فيتوهمون انها لاتخلق بل تتشكل بنفسها.
فتأمل في درك الحماقة السحيق حيث يجعلون دليل القدرة المطلقة دليلاً على عدمها، ويفتحون ابواباً لانهاية لها من المحالات.اذ يلزم عندئذٍ أن تعطى كل ذرة من ذرات كل مخلوق اوصاف الكمال التي هي لازمة ذاتية للصانع الجليل كالقدرة المطلقة والعلم المحيط وامثالها حتى تتمكن من تشكيل نفسها بنفسها.(*)
__________________
(*) المكتوب العشرون - ص: 318
14-)
بشرى الكلمة الرابعة: "له الملك"
باسمه سبحانه
ايها المستخلف المبارك
(لا إله إلاّ الله، وحده، لا شريك له، له الملك، وله الحمد يحيي، ويميت، وهو حي لا يموت، بيده الخير، وهو على كل شئ قدير، وإليه المصير(
يقول بديع الزمان سعيد النورسي:
كل كلمة من كلمات هذا الكلام التوحيدي الرائع تزف بشرى سارة، وتبث املاً دافئاً. وفي كل بشرى شفاء وبلسم.. وفي كل شفاء لذة معنوية وانشراح روحي.
بشرى الكلمة الرابعة: "له الملك"
أي ان الملك كله له، دون استثناء.. وانت.. ايضاً ملكه، كما انك عبده ومملوكه، وانت عامل في ملكه..
فهذه الكلمة تفوح املاً وتقطر بشرى شافية، وتقول:
أيها الانسان! لا تحسب انك مالك نفسك.. كلا.. لانك لا تقدر على أن تدير امور نفسك.. وذلك حمل ثقيل، وعبء كبير، ولا يمكنك ان تحافظ عليها، فتنجيها من البلايا والرزايا، وتوفر لها لوازم حياتك.. فلا تجرّع نفسك اذن الآلام سدىً، فتلقي بها في احضان القلق والاضطراب دون جدوى، فالملك ليس لك، وانما لغيرك، وذلك المالك قادر، وهو رحيم. فاستند الى قدرته، ولا تتهم رحمته.. دع ما كدر،
خذ ما صفا.. انبذ الصعاب والاوصاب وتنفـس الصعـداء، وحز على الـهـنـاء والسعادة.
وتقول ايضاً:
ان هذا الوجود الذي تهواه معنىً، وتتعلق به، وتتألم لشقائه واضطرابه، وتحس بعجزك عن اصلاحه.. هذا الوجود كله مُلك لقادر رحيم. فسلّم الملك لمولاه، وتخلّ عنه فهو يتولاه، واسعد بمسراته وهنائه، دون أن تكدرك معاناته ومقاساته، فالمولى حكيم ورحيم، يتصرف في ملكه كيف يشاء وفق حكمته ورحمته.
واذا ما اخذك الروع والدهشة، فأطل من النوافذ ولا تقتحمها، وقل كما قال الشاعر ابراهيم حقي(1):
لنرَ المولى ماذا يفعلُ
فما يفعل هو الأجمل.(*)
__________________
(1) ابراهيم حقي عالم تركي جليل وزاهد متصوف عاش في القرن الثاني عشر الهجري، قضى اواخر عمره في »تيللو« جنوب شرقي تركيا، اشهر مؤلفاته »معرفتنامه«. - المترجم.
(*) المكتوب العشرون - ص: 291
15-)
اثبات التوحيد الكلمة الرابعة [ له الملك ]
باسمه سبحانه
ايها المستخلف المبارك
(لا إله إلاّ الله، وحده، لا شريك له، له الملك، وله الحمد يحيي، ويميت، وهو حي لا يموت، بيده الخير، وهو على كل شئ قدير، وإليه المصير)
بديع الزمان سعيد النورسي يشير باختصار الى اثبات التوحيد من حيث الاسم الاعظم والجملة التي تلخص التوحيد فيتناولها كلمة كلمة
اثبات التوحيد الكلمة الرابعة [ له الملك ]
اي ان السموات والارض والدنيا والآخرة وكل موجود، من الفرش الى العرش، من الثرى الى الثريا، من الذرات الى السيارات، من الازل الى الابد هو ملكه. فله سبحانه المرتبة العظمى للمالكية التي تتجلى في اعظم مرتبة للتوحيد.
ولقد اُلقيت الى خاطر هذا العاجز خاطرة لطيفة في وقت لطيف بعبارات عربية اثبتُّها كما هي وابينُها حجةً كبرى لهذه المرتبة العظمى للمالكية والمقام الاعظم للتوحيد:
[له الملك؛ لان ذاك العالمَ الكبيركهذا العالم الصغير، مصنوعُ قدرته، مكتوبُ قدَره.. ابداعُه لذاك صيّره مسجداً، ايجادُه لهذا صيّره ساجداً.. انشاؤه لذاك صيّر ذاك مُلكاً، ايجادُه لهذا صيّره مملوكاً..صنعتُه في ذاك تظاهرت كتاباً، صبغتُه في هذا تزاهرت خطاباً..قدرته في ذاك تُظهر حشمته، رحمته في هذا تنظِّمُ نعمته..حشمته في ذاك تشهد: هو الواحد، نعمتُه في هذا تعلن: هو الاحد.. سكته في ذاك في الكل والاجزاء، خاتمُه في هذا في الجسم والاعضاء.]
الفقرة الاولى " ذاك العالم الكبير..." الخ.
ان العالم الاكبر اي الكون كله، والانسان وهو العالم الاصغر ومثاله المصغر، يظهران معاً دلائل الوحدانية المسطّرة في الآفاق والانفس بقلم القدر والقدرة.
نعم! ان في الانسان النموذج المصغر للصنعة المنتظمة المتقنة الموجودة في الكون، واذ تشهد الصنعة التي في تلك الدائرة الكبرى على الصانع الواحد، تشير الصنعة الدقيقة المجهرية الموجودة في الانسان الى ذلك الصانع ايضاً وتدل على وحدته، وكما ان هذا الانسان مكتوبٌ رباني ذو مغزى عميق، وقصيدة منظومة للقدر الإلهي، كذلك الكائنات قصيدة قدرية منظومة دبجت بذلك القلم نفسه، وبمقياس مكبر. فهل يمكن لغير الواحد الاحد أن يتدخل في سكة التوحيد المضروبة على وجه الانسان والمتوجهة بالعلامات الفارقة الى ما لا يحد من الناس، او ان يتدخل في ختم الوحدانية المضروب على الكائنات الجاعل موجوداتها كلها متعاونة متكاتفة؟.
الفقرة الثانية: "ابداعه لذاك... "الخ.
ان الصانع الحكيم قد خلق العالم الاكبر خلقاً بديعاً ونقش آيات كبريائه عليه، بحيث جعل الكون على صورة مسجد كبير. وأنشأ سبحانه هذا الانسان في احسن تقويم، واهباً له العقل، بحيث جعله يسجد سجدة اعجاب امام معجزات صنعته وبديع قدرته. واستقرأه ايات كبريائه، حتى صيّره عبداً ساجداً في ذلك المسجد الكبير بما غرز في فطرته من العبودية والخضوع له. فهل من الممكن ان يكون المعبود الحقيقي للساجدين العابدين في هذا المسجد الكبير غير الصانع الواحد الاحد؟.
الفقرة الثالثة: "انشاؤه لذاك... "الخ.
ان مالك الملك ذا الجلال قد انشأ العالم الاكبر، ولاسيما وجه الارض، انشاءً
كأنها دوائر متداخلة بما لاتعد ولاتحصى، كل دائرة بمثابة مزرعة او حقل يزرع فيها، كل وقت وكل موسم وكل عصر، ويحصد ويحصّل على المحاصيل، وهكذا يُشغل مُلكه باستمرار ويتصرف في اموره كل حين. حتى انه جعل اعظم دائرة من تلك الدوائر وهي دائرة الذرات في الكون مزرعة واسعة يزرع فيها ويحصل منها بقدرته وحكمته محاصيل بقدر الكون، ويرسل تلك المحاصيل من عالم الشهادة الى عالم الغيب، ومن دائرة القدرة الى دائرة العلم.
وجعل سبحانه سطح الارض الذي هو دائرة متوسطة بمثابة مزرعة كذلك، بحيث يزرع فيها كل موسم وباستمرار عوالم وانواعاً شتى ويحصدها ويحصّل منها محاصيلها كل فصل وموسم محاصيل معنوية يبعثها ايضاً الى عوالمه الغيبية والاخروية والمثالية والمعنوية..
ثم انه سبحانه يملأ بستاناً في الارض ـ وهو دائرة صغيرة ـ يملأه مرات ومرات بل الف مرة بقدرته ويفرغه بحكمته.
ثم انه سبحانه يحصل من الكائن الحي الذي هو دائرة اصغرـ كالشجرة والانسان ـ يحصل منه مائة ضعف وضعف من المحاصيل.
بمعنى: ان ذلك المالك الملك ذا الجلال قد أنشأ كل شئ ـ جزئيه وكليّه، صغيره وكبيره ـ بمثابة "موديل" يُلبسه مئات منسوجات صنائعه المنقشة بنقوش متجددة بمئات الاشكال والانماط. مظهراً به تجليات اسمائه الحسنى ومعجزات قدرته.وأنشأ كل شئ في ملكه بمثابة صحيفة يكتب فيها كتاباته البليغة بمئات الاشكال والوجوه، مظهراً بها آياته الحكيمة ويستقرئها اهل الشعور من مخلوقاته.
وكما انه قد أنشأ هذا العالم الاكبر ملكاً له، كذلك خلق هذا الانسان مملوكاً له ومنحه من الاجهزة والجوارح والحواس والمشاعر، ولاسيما النفس الامارة والهوى والحاجة والشهية والحرص والطلب، بحيث جعله في ذلك الملك الواسع مملوكاً وعابداً محتاجاً الى جميع ملكه.فهل من الممكن ان يتصرف في ذلك الملك، ويكون سيداً على ذلك المملوك سوى ذلك المالك للملك الذي جعل الموجودات كلها بدءاً من عالم الذرات ذلك العالم الواسع جداً الى جناح الذباب ملكاً ومَزارِع، وجعل
الانسان الصغير ناظراً على ذلك الملك الواسع العظيم ومفتشاً فيه ومزارعاً وتاجراً ودلالاً وعابداً ومملوكاً واتخذه ضيفاً عزيزاً عليه ومخاطباً محبوباً؟
الفقرة الرابعة: "صنعته في ذاك..." الخ
ان صنعة الصانع الجليل في العالم الاكبر تحمل من المعاني الغزيرة ما يظهرها كأنها كتاب بديع، مما دفع عقل الانسان الى استلهام حكمة العلوم الحقيقية منه، ويكتب مكتبتها على وفقه. فذلك الكتاب البديع الحكيم موثوق الصلة بالحقيقة، ومستمدٌ منها الى حدّ اُعلن عنه في صورة قرآن حكيم ـ منظور ـ والذي هو نسخة من الكتاب المبين.
ومثلما اتخذت صنعته سبحانه في الكون كله صورة كتاب بليغ، لكمال انتظامها، كذلك تفتحت صبغته ونقش حكمته في الانسان عن زهرة خطاب.. اي ان تلك الصنعة البديعة ذات مغازٍ دقيقة وجميلة بحيث انطقت ما في تلك الماكنة الحية من اجهزة.. وان ما صبغ بها من صبغة ربانية جعلتها في احسن تقويم حتى تفتحت عن زهرة البيان والخطاب، تلك الزهرة الحيوية المعنوية الغيبية في ذلك الرأس المادي الجامد.. فمنح سبحانه وتعالى رأس الانسان من قابلية النطق والبيان حتى انكشف ما فيه من اجهزة سامية معنوية عن مراتب كثيرة وكثيرة جداً اهّلته لموضع خطاب السلطان الازلى الجليل، مما نال رقياً ورفعةً وسمواً.
اي ان الصبغة الربانية التي في فطرة الانسان قد فتّحت زهرة الخطاب الإلهي.
فهل من الممكن أن يتدخل غير الواحد الاحد في الصنعة التي بلغت حد الاتقان والانتظام في الموجودات كلها حتى كأنها كتاب؟ وهل من الممكن أن يتدخل غيره سبحانه في الصبغة التي في فطرة الانسان التي ارتقت به الى مقام الخطاب؟! حاش لله.. وكلا.
الفقرة الخامسة: "قدرته في ذاك... "الخ.
ان القدرة الإلهية تُظهر عظمة الربوبية في العالم الاكبر، اما الرحمة الربانية فانها تنظّم النِعم في الانسان، العالم الاصغر. اي ان قدرة الصانع ـ من حيث الكبرياء والجلال ـ أوجدت العالم كله كأنه قصر عظيم، وجعلت الشمس فيه سراجاً وهاجاً، والقمر قنديلاً، والنجوم مصابيح، وجعلت سطح الارض سفرة مبسوطة للطعام،
ومزرعة جميلة، وبستاناً زاهياً، وجعلت الجبال مخازن ومستودعات، واوتاداً للتثبيت، وقلاعاً عظيمة.. وهكذا جعلت جميع الاشياء لوازم واثاثاً لذلك القصر المنيف، بمقياس مكبر، واظهرت عظمة ربوبيته سبحانه مثلما اسبغت رحمته سبحانه ـ من حيث الجمال ـ صنوف نعمه على كل كائن حي، حتى على اصغره، ونظّمت عليه، فجمّلت الكائنات طراً بالنعم وزيّنتها باللطف والكرم، دافعة هذه الألسنة الصغيرة الناطقة بجمال الرحمة أن تقابل تلك الألسنة العظيمة الناطقة بجلال العظمة، اي ان الاجرام الكبيرة، كالشمس والعرش حينما تنطق بلسان العظمة: "ياجليل..ياكبير.. ياعظيم"تقابلها ألسنة الرحمة في البعوض والسمك والحيوانات الصغيرة ب"ياجميل..يارحيم.. ياكريم "..مكونة بذلك نغمات منسجمة في موسيقى كبرى، تزيدها حلاوة ولذة.
فهل من الممكن ان يتدخل غير ذلك الجليل ذي الجمال، الجميل ذي الجلال في هذا العالم الاكبر والاصغر، من حيث الخلق والايجاد؟ حاشَ لله... وكلا.
الفقرة السادسة: "حشمته في ذاك... "الخ.
ان عظمة الربوبية الظاهرة في مجموع الكون، تثبت الوحدانية الإلهية وتدل عليها، كما ان النعمة الربانية التي تعطي الارزاق المقننة حتى لجزئيات ذوي الحياة، تثبت الاحدية الإلهية وتدل عليها.
اما الواحدية فتعني: ان جميع تلك الموجودات ملكٌ لصانع واحد، وتتوجه الى صانع واحد، وكلها ايجاد موجِد واحد.
اما الاحدية فهي: ان اكثر اسماء خالق كل شئ يتجلى في كل شئ.
فمثلاً: ان ضوء الشمس ـ بصفة احاطته بسطح الارض كافة ـ يبين مثال الواحدية، وان وجود ضوء الشمس وألوانه السبعة وحرارتها، وظلاً من ظلالها في كل جزء شفاف وفي كل قطرة ماء يبين مثال الاحدية. وكذا فان تجلي اكثر اسماء ذلك الصانع في كل شئ، ولا سيما في كل كائن حي، وبخاصة في كل إنسان يبين مثال الاحدية.
وهكذا فان هذه الفقرة تشير الى عظمة الربوبية التي تصرّف الامور في العالم والتي جعلت تلك الشمس العظيمة سراجاً وهاجاً وخادمة لاحياء الارض. والكرة الارضية
الضخمة مهداً للاحياء ومنزلاً، ومتجراً لها. وجعلت النار طباخة وصديقة مستعدة للقيام بالعمل في كل مكان، والسحاب مصفاة للهواء ومرضعة للاحياء، والجبال مخازن ومستودعات والهواء مروّحاً للانفس والنفوس، والماء مبعثاً للحياة وكالأم الرؤوم للاحياء الجدد. فهذه الربوبية الإلهية تبين الوحدانية الإلهية بوضوح تام.
نعم! من ذا الذي يجعل الشمس مسخرة لسكنة الارض غير الخالق الواحد؟ ومن ذا غير ذلك الواحد الاحد يمسك الهواء ويسخره في وظائف جليلة وعلى سطح الارض كافة؟ ومن غير ذلك الواحد الاحد يقدر على استخدام النار طباخة للاحياء ويجعلها تلتهم اشياء اكبر من حجمها بالاف المرات؟ وهكذا.. فكل شئ وكل عنصر وكل جرم سماوي يدل على الواحد ذي الجلال من حيث تلك الربوبية المهيبة.
فكما تظهر الواحديةُ من حيث الجلال والعظمة، تعلن النعمةُ والاحسانُ الاحديةَ الإلهية من حيث الجمال والرحمة، لان الاحياء ولاسيما الانسان من حيث الصنعة الجامعة المتقنة، يملك من الاجهزة والجوارح بحيث تعرف انواع النعم التي لاتعد ولاتحصى، وتتقبلها وتطلبها.حتى حظي الانسان بتجليات اسماء الله الحسنى كلها كما تتجلى في الكون كله، وكأنه بؤرة تظهر جميع الاسماء الحسنى دفعة واحدة في مرآة ماهيته، فيعلن بذلك الاحدية الإلهية.
الفقرة السابعة: "سكته في ذاك... "
اي كما ان للصانع الجليل سكة كبرى وعلامة عظمى على العالم الاكبر كله، كذلك وضع سكة وحدانيته وعلامتها على كل جزء من اجزاء الكون وعلى كل نوع من انواعه ايضاً.. وكما انه وضع ختم الوحدانية على وجه الانسان ـ وهو العالم الاصغر ـ وعلى جسمه كذلك، وضع الختم نفسه على كل عضو من اعضائه.
نعم! ان ذلك القدير ذا الجلال، وضع آية توحيد جلية على كل شئ، على الكلي والجزئي، فالنجوم والذرات، تشهد عليه، ووضع ختم الوحدانية على كل شئ ليدل عليه.
وحيث ان هذه الحقيقة العظيمة قد اثبتت اثباتاً قاطعاً في (الكلمة الثانية والعشرين) و(الكلمة الثانية والثلاثين) و(المكتوب الثالث والثلاثين)، نحيل البحث الى تلك الكلمات ونختمه هنا.(*)
_____________________
(*) المكتوب العشرون - ص: 300
16-)
اثبات التوحيد الكلمة التاسعة [ بيده الخير ]
باسمه سبحانه
ايها المستخلف المبارك
(لا إله إلاّ الله، وحده، لا شريك له، له الملك، وله الحمد يحيي، ويميت، وهو حي لا يموت، بيده الخير، وهو على كل شئ قدير، وإليه المصير)
بديع الزمان سعيد النورسي يشير باختصار الى اثبات التوحيد من حيث الاسم الاعظم والجملة التي تلخص التوحيد فيتناولها كلمة كلمة
اثبات التوحيد الكلمة التاسعة [ بيده الخير ]
اي ان الخيرات كلها بيده، الحسنات كلها في سجله، الآلاء كلها في خزينته، لذا من يريد الخير فليسأله منه، ومن يرغب في الاحسان فليتضرع اليه.
نشير الى امارات دليلٍ واسع جداً ولمعاته من ادلة العلم الإلهي التي لاتحصى، اظهاراً لحقيقة هذه الكلمة بجلاء. فنقول:
ان الصانع الجليل الذي يوجد ويتصرف بأفعاله الظاهرة في هذا الكون، له علم محيط بكل شئ، وان ذلك العلم خاصّة لازمة ضرورية لذاته الجليلة، محال انفكاكه عنها، اذ كما لايتصور وجود ذات الشمس بلا ضياء، كذلك الصانع الجليل الذي اوجد هذه الموجودات بانتظام رائع ـ لا يمكن بالوف المرات ـ ان ينفك علمه عنه.
فهذا العلم المحيط بكل شئ ضروري لتلك الذات الجليلة، فهو ضروري ايضاً لكل شئ من حيث التعلق. اي: لايمكن ان يتستر ويتخفى عنه اي شئ كان بأي حال من الاحوال. اذ كما لايمكن ان لاترى الاشياء المبثوثة على سطح الارض الشمس وهي التي تقابلها دون حجاب، كذلك لايمكن بل محال بالوف المرات ان تتستر الاشياء عن نور علم ذلك العليم الجليل سبحانه. وذلك لوجود الحضور، اي: ان كل شئ ضمن دائرة نظره سبحانه، ويقابله، وضمن دائرة شهوده جلّ وعلا، وان علمه نافذ في كل شئ.
فلئن كان شعاع هذه الشمس الجامدة، ونور هذا الانسان العاجز، وشعاع الاشعة السِّينيّة التي لاتملك شعوراً، وامثالها من الاشعة.. اقول: لئن كانت هذه الاشعة وهي حادثة، ناقصة، عارضة، تشاهد أنوارها كلَّ ما يقابلها وتنفذ فيه، فكيف بنور العلم الازلي، الواجب، المحيط، الذاتي.
اذاً.. لابد ان لايتستر عنه شئ قط ولايبقى شئ خارجه قطعاً.
وفي الكون من العلامات والآيات المبثوثة مالايعد ولايحصى كلها تشير الى هذه الحقيقة، نورد منها ما يأتي:
ان جميع الحِكَم المشاهدة في الموجودات تشير الى ذلك العلم المحيط، لان انجاز العمل بحكمة انما يكون بالعلم.
وكذا العناية والتزيين في الموجودات تشيران ايضاً الى ذلك العلم المحيط، لان الذي يعمل باللطف والعناية، لابد أنه يعلم، وانه يعمل بعلم.
وكذا كل موجود من الموجودات المنتظم الموزون بميزان دقيق، وكل هيئة من هيئاتها الموزونة والمقدّرة ايضاً، تشير الى ذلك العلم المحيط، لان اداء العمل بانتظام يكون بالعلم.
وكذا جميع العنايات والتزيينات تشير الى ذلك العلم. لأن الذي يخلق مصنوعاته بمكيال وميزان وتقدير واتقان، لاشك انه يعمل ما يشاء مستنداً الى علم قوي.
وكذا جميع المقادير المنتظمة المشاهدة في الموجودات كلها، والاشكال التي فصّلت على وفق الحكم والمصالح، والهيئات المنتجة، والاوضاع المثمرة التي نظّمت على وفق دساتير القضاء وضوابط القدر، انما تدل على علم محيط.
نعم، تصوير الاشياء على اختلافها تصويراً منتظماً، وتشكيل كل شئ بشكل مخصوص به وملائم لوجوده ولمصالح حياته، انما يكون بعلم محيط، لاغير.
وكذا ارسال الرزق لجميع ذوي الحياة - من حيث لايحتسب - وفي الوقت المناسب، وبشكل ملائم لكل واحد منها، انما يكون بعلم محيط؛ لان الذي يرزق لاريب انه يعلم حال من يحتاج الى الرزق ويعرفه ويعلم بوقت رزقه ويدرك حاجاته، ثم يرزقه على افضل صورة.
وكذا وفاة جميع ذوي الحياة بآجالها المعقودة بقانون من التعيّن - مع تسترها بعنوان الإبهام - تدل على علم محيط بكل شئ، لان اجل كل طائفة من طوائف ذوي الحياة معيّن في زمن محدود بين حدّين، وان كان لايشاهد ظاهراً وقتٌ معين لحلول آجال افرادها. لذا فالحفاظ على نتاج ذلك الشئ وثمرته ونواته بعد حلول اجله يديم وظيفته عقبه، ويحول تلك الثمرات والنوى الى حياة جديدة، انما يدل على ذلك العلم المحيط ايضاً.
وكذا ألطاف الرحمة السابغة على الموجودات كلها، كل بما يليق به، انما تدل على علم محيط ضمن رحمة واسعة، لان الذي يربّي اطفال ذوي الحياة وصغارها باللبن ويغيث النباتات الارضية المحتاجة الى الماء بالغيث، لابد انه يعرف اولئك الصغار ويعلم بحاجاتهم ويرى تلك النباتات ويدرك ضرورة المطر لها، ومن بعد ذلك يرسله اليها.
وهكذا تدل جلواتٌ لاتحد لرحمته الواسعة سبحانه والمكللة بالعناية والحكمة، على علم محيط.
وكذا ما في اتقان الصنعة للاشياء كلها من اهتمام بالغ وتصوير بديع وتزيين فائق يدل على علم محيط.لان انتقاء وضع منتظم حكيم مزيّن بديع من بين ألوف الاوضاع المختلفة المحتملة انما يكون بعلم نافذ، فهذا النوع من الانتقاء في الاشياء كلها يدل على علم محيط.
وكذا السهولة المطلقة في ايجاد الاشياء وابداعها بيسر تام تدل على علم كامل، لان اليسر في عمل ما والسهولة في ايجاد وضعٍ ما، يتناسبان مع مدى العلم والمهارة، اذ كلما زاد العلم سهُل العمل.
فبناء على هذا السر ننظر الى الموجودات فنرى ان كلاً منها معجزة من معجزات الصنعة والابداع، وانها توجد ايجاداً محيراً للالباب، في منتهى اليسر والسهولة، وبلا تكاليف ولاتكلف وفي اقصر وقت وفي أتم صورة معجزة. بمعنى ان هناك علماً لايحد له حدود بحيث يؤدي الى هذا العمل بسهولة مطلقة.
وهكذا فالامارات المذكورة وامثالها من ألوف العلامات الصادقة تدل على ان الرب الجليل الذي يدبّر شؤون الكون ويصرّف اموره، له علم محيط بكل شئ. فهو الذي يحيط علمه بجميع شؤون الشئ ويأتي عمله فيه وفق ذاك.
وحيث ان رب العالمين له علم كهذا فلابد انه يرى الانسان ايضاً واعمال الانسان كذلك ويعلم مايليق به وما يستحقه فيعامله بمقتضى حكمته ورحمته.
فيا ايها الانسان! عُد الى رشدك، وتدبّر في عظمة من يعلم بحالك ويراقبك. اعلم ذلك وانتبه!.
واذا قيل:
ان العلم وحده لايكفي، فالارادة ضرورية ايضاً، اذ إن لم تكن الارادة موجودة فلايكفي العلم وحده!.
الجـواب: الموجودات كلها تدل على علم محيط وتشهد له، كذلك تدل على الارادة المطلقة لذلك العليم بكل شئ وذلك؛
ان اعطاء تشخص في غاية الانتظام لكل شئ، ولاسيما لكل ذي حياة، باحتمال معين من بين احتمالات كثيرة جداً ومختلطة، بطريق منتج من بين طرق كثيرة جداً وعقيمة، وهو الذي يتردد ضمن امكانات واحتمالات كثيرة، انما يدل على ارادة كلية بجهات غير محدودة. لان اعطاء شكل موزون وتشخص منتظم، المحسوب حسابه بميزان في منتهى الدقة والحساسية، وبمكيال دقيق للغاية، مع انتظام في غاية الدقة والرقة، من بين إمكانات واحتمالات غير محدودة تحيط بوجود كل شئ، وتحفّه طرق عقيمة غير مثمرة لاتحد وفي خضم عناصر جامدة مختلطة تسيل سيلاً دون ميزان.. انما يدل بالبداهة والضرورة بل بالمشاهدة على انه أثر لإرادة كلية. لان انتخاب وضع
معين من بين اوضاع غير محدودة، انما يكون بتخصيص وبترجيح، وبقصد وبارادة، ويخصص بطلب وقصد.
فلاشك ان التخصيص يقتضي مخصِّصاً، والترجيح يستلزم مرجِّحاً، وما المخصِّص والمرجِّح الاّ الارادة.
فمثلاً:
ان ايجاد جسم الانسان الشبيه بماكنة مركبة من مئات الاجهزة المتباينة والآلات المختلفة من نطفة، وايجاد الطير الذي يملك مئات الجوارح المختلفة من بيضة بسيطة، وايجاد الشجرة التي لها مئات الفروع والاعضاء المتنوعة من بذرة صغيرة.. هذا الايجاد لاريب انه يدل على القدرة والعلم، كما يشهد شهادة قاطعة وضرورية للارادة الكلية لصانعها الجليل. حيث انه سبحانه بتلك الارادة يخصص كل ما يتطلبه ذلك الشئ، ويعطي شكلاً خاصاً لكل جزء من اجزاء ذلك الشئ ولكل عضو ولكل قسم منه فيلبسه وضعاً معيناً.
حاصل الكلام:
كما ان تشابه الاعضاء المهمة في الاشياء والاحياء - مثلاً - من حيث الاساس والنتائج وتوافقها، واظهارها سكة واحدة - وعلامة واحدة من علامات الوحدة - يدل دلالة قاطعة على ان صانع جميع الحيوانات واحد أحد. كذلك التشخصات المختلفة للحيوانات والتمييز الحكيم والتعيين الدقيق في سيماها - مع اختلافاتها وتخالفها - تدل دلالة واضحة على ان صانعها الواحد فاعل مختار ومريد، يفعل ما يشاء، فما شاء فعل وما لم يشأ لايفعل. فهو يعمل بقصد وارادة.
فهناك اذن دلالات وشهادات على العلم الإلهي والارادة الربانية بعدد الموجودات بل بعدد شؤونها، لذا فان نفي قسم من الفلاسفة للارادة الإلهية، وانكار قسم من اهل البدع للقدر الإلهي، وادعاء قسم من اهل الضلالة عدم اطلاعه سبحانه على الجزئيات، واسناد الطبيعيين لقسم من الموجودات الى الطبيعة والاسباب، كذب مضاعف وافتراء شنيع ترفضه الموجودات بعددها، بل ضلالة وبلاهة اضعاف اضعاف عدد الموجودات وشؤونها.
لان الذي يكذّب شهادات صادقة لاتحد، يفترى كذباً غير محدود.
ومن هنا يمكنك ان تقيس كم هو عِظم الخطأ، وكم هو عِظم البُعد عن الحقيقة وكم هو مناف للصواب واجحاف بالحق، قول البعض عن قصد: "امر طبيعي " بدلاً من قوله: "ان شاء الله.. ان شاء الله " في الامور التي لاتظهر للوجود الاّ بمشيئته سبحانه!.(*)
__________________
(*) المكتوب العشرون - ص: 313
17-)
بشرى الكلمة الحادية عشر: "واليه المصير"
باسمه سبحانه
ايها المستخلف المبارك
(لا إله إلاّ الله، وحده، لا شريك له، له الملك، وله الحمد يحيي، ويميت، وهو حي لا يموت، بيده الخير، وهو على كل شئ قدير، وإليه المصير)
بديع الزمان سعيد النورسي يقول:
كل كلمة من كلمات هذا الكلام التوحيدي الرائع تزف بشرى سارة، وتبث املاً دافئاً. وفي كل بشرى شفاء وبلسم.. وفي كل شفاء لذة معنوية وانشراح روحي.
بشرى الكلمة الحادية عشر: "واليه المصير"
أي ان الذين يُرسلون الى دار الدنيا.. دار الامتحان والاختبار للتجارة وانجاز الوظائف، سيرجعون مرة اخرى الى مرسلهم الخالق ذي الجلال، بعد أن ادّوا وظائفهم وأتموا تجارتهم وأنهوا خدماتهم وسيلاقون مولاهم الكريم الذي أرسلهم.. اي: انهم سيتشرفون بالمثول بين يدي ربهم الرحيم، في مقعد صدق عند مليكهم المقتدر، ليس بينهم وبينه حجاب. وقد خلصوا من مخاض الاسباب وظلام الحجب والوسائط وسيجد كل واحد منهم ويعرف معرفة خالصة كاملة خالقه وربه وسيده ومليكه.
فهذه الكلمة تشع املاً وتتألق بشرى تفوق كل تلك الآمال والبشارات اللذيذة، وتقول:
ايها الانسان! هل تعلم الى اين انت سائر؟ والى اين انت تُساق؟
فقد ذكر في ختام الكلمة الثانية والثلاثين:
ان قضاء الف سنة من حياة الدنيا وفي سعادة مرفهة، لا يساوي ساعة واحدة من حياة الجنة! وان قضاء حياة الف سنة وسنة بسرور كامل في نعيم الجنة لا يساوي ساعة من فرحة رؤية جمال الجميل سبحانه.
فأنت اذن ايها الانسان راجع الى ميدان رحمته، صائر الى اعتاب ديوان حضرته. فما الحسن والجمال الذي تراه في احبتك المجازيين- فتشتاق اليهم وتفتن بهم، بل ما الحسن والجمال في جميع موجودات الدنيا الاّ نوع ظلٍ من تجلي جماله سبحانه، وحُسن اسمائه جلّ وعلا. فالجنة بلطائفها ولذائذها وحورها وقصورها ما هي الاّ تجلٍ من تجليات رحمته سبحانه، وجميع انواع الشوق والمحبة والانجذاب والجواذب ما هي الاّ لمعة من محبة ذلك المعبود الباقي وذلك المحبوب القيوم! فانتم ذاهبون اذن الى دائرة حظوته ومقام حضرته الجليلة.. وانتم مدعوون اذن الى دار ضيافته الابدية.. الى الجنة الخالدة.
فلا تحزنوا ولا تبكوا عند دخولكم القبر، بل استبشروا خيراً واستقبلوه بابتسامة وفرح.
وتتابع هذه الكلمة وظيفتها في بث نور الامل والبشرى وتقول:
ايها الانسان! لا تتوهم انك ماضٍ الى الفناء، والعدم، والعبث، والظلمات، والنسيان، والتفسخ، والتحطم، والانهشام، والغرق في الكثرة والانعدام. بل انت ذاهب الى البقاء لا الى الفناء، وانت مسوق الى الوجود الدائم لا الى العدم، وانت ماضٍ الى عالم النور لا الى الظلمات وانت سائر نحو مولاك ومالكك الحق، وانت عائد الى مقر سلطان الكون.. سلطان الوجود.. سترتاح وتنشرح في ميدان التوحيد دون الغرق في الكثرة ابداً، فانت متوجه الى اللقاء والوصال دون البعاد والفراق!.(*)
_____________________
(*) المكتوب العشرون - ص: 296
18-)
اثبات التوحيد الكلمة الحادية عشرة [ واليه المصير]
باسمه سبحانه
ايها المستخلف المبارك
(لا إله إلاّ الله، وحده، لا شريك له، له الملك، وله الحمد يحيي، ويميت، وهو حي لا يموت، بيده الخير، وهو على كل شئ قدير، وإليه المصير)
بديع الزمان سعيد النورسي يشير باختصار الى اثبات التوحيد من حيث الاسم الاعظم والجملة التي تلخص التوحيد فيتناولها كلمة كلمة
اثبات التوحيد الكلمة الحادية عشرة [ واليه المصير]
اي اليه المآب من دار الفناء الى دار البقاء، واليه الرجعى في المقر الابدي للقديم الباقي، واليه المساق من دائرة الاسباب الكثيرة الى دائرة قدرة الواحد الاحد، واليه المضي من الدنيا الى الاخرة. اي مرجعكم انما هو ديوانه وملجؤكم انما هو رحمته. وهكذا تفيد هذه الكلمة كثيراً من امثال هذه الحقائق.
أما ما في هذه الحقائق من الحقيقة التي تفيد الرجوع الى الجنة ونيل السعادة الابدية فقد اثبتناها اثباتاً قاطعاً لاتدع حاجة الى بيان آخر، وذلك في البراهين الاثني عشر القاطعة في الكلمة العاشرة وفي الاسس الستة التي تتضمنها الكلمة التاسعة والعشرون
ودلائلها الكثيرة القاطعة بقطعية شروق الشمس بعد مغيبها. وقد اثبتت تلكما الكلمتان:
ان الحياة التي هي شمس معنوية لهذه الدنيا ستطلع طلوعاً باقياً صباح الحشر بعد غروبها بخراب الدنيا.وسيفوز قسم من الجن والانس بالسعادة الابدية وينال قسم منهم الشقاء الدائم.
ولما كانت الكلمتان العاشرة والتاسعة والعشرون قد اثبتتا هذه الحقيقة على أتم وجه نحيل الكلام اليهما ونقول:
ان الصانع الحكيم لهذا الكون والخالق الحكيم لهذا الانسان الذي له علم محيط مطلق وارادة كلية مطلقة وقدرة مطلقة ـــ كما اثبتت في التوضيحات السابقة اثباتاً قاطع - قد وعد بالجنة والسعادة الابدية للمؤمنين في جميع كتبه وصحفه السماوية. واذ قد وعد فلاشك انه سينجزه. لأن اخلاف الوعد محال عليه، اذ إن عدم ايفاء الوعد نقص مشين. والكامل المطلق منزّه عن النقص ومقدس عنه. وان عدم انجاز الموعود، اما انه ناتج من الجهل او العجز، والحال أنه محال في حق ذلك القدير المطلق والعليم بكل شئ الجهل والعجز قطعاً. فخلف الوعد اذاً محال.
ثم ان جميع الانبياء عليهم السلام وفي مقدمتهم فخر العالم صلى اللهعليه وسلم وجميع الاولياء وجميع الاصفياء وجميع المؤمنين يسألون دوماً ذلك الرحيم الكريم ماوعده من سعادة ابدية ويتضرعون اليه ويطلبونها منه.
فضلاً عن انهم يسألونها مع جميع اسمائه الحسنى، لأن اسماءه وفي المقدمة رأفته ورحمته وعدالته وحكمته، واسم الرحمن والرحيم واسم العادل والحكيم وربوبيته المطلقة وسلطنته المهيبة واسم الرب واسم الله سبحانه وتعالى، وامثالها من اكثر الاسماء الحسنى تقتضي الآخرة والسعادة الابدية وتستلزمها وتشهد لتحققها وتدل عليها، بل ان جميع الموجودات بجميع حقائقها تشير الى دار الآخرة (كما اثبت في الكلمة العاشرة ).
ثم ان القرآن الحكيم بألوف آياته الجليلة وبيّنات براهينه الصادقة القاطعة تدل على تلك الحقيقة وتعلّمها.
ثم ان الحبيب الكريم صلى الله عليه وسلم وهو فخر الانسانية قد درّس تلك الحقيقة وعلّمها، مستنداً الى الوف معجزاته الباهرة، طوال حياته المباركة، وبكل ماآتاه الله من قوة واثبتها واعلنها وشاهدها وأشهدها.
اللهم صلّ وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه بعدد انفاس اهل الجنة في الجنة واحشرنا وناشر هذا المكتوب ورفقاءه وصاحبه سعيداً ووالدينا واخواننا واخواتنا تحت لوائه وارزقنا شفاعته وادخلنا الجنة مع آله واصحابه برحمتك يا ارحم الراحمين. آمين.. آمين
ربنا لاتؤاخذنا إن نسينا او أخطأنا
(ربنا لاتُزِغْ قُلوبنا بعد إذ هديتنا وهَب لنا مِنْ لدنكَ رحمةً انك انت الوهّاب)
19-)
اثبات التوحيد الكلمة الاولى [ لا إله الاّ الله ]
باسمه سبحانه
ايها المستخلف المبارك
(لا إله إلاّ الله، وحده، لا شريك له، له الملك، وله الحمد يحيي، ويميت، وهو حي لا يموت، بيده الخير، وهو على كل شئ قدير، وإليه المصير)
بديع الزمان سعيد النورسي يشير باختصار الى اثبات التوحيد من حيث الاسم الاعظم والجملة التي تلخص التوحيد فيتناولها كلمة كلمة
اثبات التوحيد الكلمة الاولى [ لا إله الاّ الله ]
تتضمن هذه الكلمة، توحيد الالوهية وتوحيد المعبودية، نشير اليهما ببرهان قوي هو:
انه يشاهد على وجه هذا العالم، ولاسيما على صحيفة الارض فعالية منتظمة غاية الانتظام.. ونشاهد خلاقية حكيمة في غاية الحكمة.. ونشاهد بعين اليقين فتاحية في غاية النظام ـ اي إعطاء كل شئ ما يلائمه من شكل وإلباسه ما يلائمه من صورة ـ ونشاهد وهّابية و احسانات في غاية الشفقة والكرم والرحمة.
فهذه الاوضاع وهذه الاحوال تثبت بالضرورة وجوب وجود ربّ ذي جلال، فعّال خلاق فتاح وهاب، بل تشعر وحدانيته.
نعم! ان زوال الموجودات دائماً وتجددها باستمرار يبينان: ان تلك الموجودات هي تجليات اسماء لصانع قدير.. و ظلال أنوار اسمائه الحسنى.. وآثار أفعاله.. ونقوش قلم قدره وصحائف قدرته.. ومرايا جمال كماله.
وان رب العالمين يبين هذه الحقيقة العظمى، وهذه المرتبة العليا للتوحيد بجميع كتبه وصحفه المقدسة التي أنزلها، كما ان جميع اهل التحقيق العلماء والكاملين من البشر يثبتون مرتبة التوحيد نفسها بتحقيقاتهم العلمية وكشفياتهم.. وكذا الكون مع عجزه وفقره يشير الى مرتبة التوحيد نفسها بما نال من معجزات الصنعة وخوارق القدرة وخزائن الثروة.
بمعنى ان الله سبحانه وتعالى، وهو الشاهد الازلي، بجميع كتبه وصحفه، وأهل الشهود بجميع تحقيقاتهم وكشفياتهم، وعالم الشهادة بجميع شؤونه الحكيمة واحواله المنتظمة، يتفقون بالاجماع على تلك المرتبة التوحيدية.
فمن لايقبل بذلك الواحد الاحد جل وعلا إلهاً ومعبوداً، عليه ان يقبل ما لا نهاية له من الآلهة، او ان ينكر نفسه وينكر الكائنات قاطبة، كالسوفسطائي الاحمق.(*)
_________________
(*) المكتوب العشرون - ص: 298
20-)
بشرى الكلمة الثامنة: "وهو حي لا يموت"
باسمه سبحانه
ايها المستخلف المبارك
(لا إله إلاّ الله، وحده، لا شريك له، له الملك، وله الحمد يحيي، ويميت، وهو حي لا يموت، بيده الخير، وهو على كل شئ قدير، وإليه المصير(
بديع الزمان سعيد النورسي يقول:
كل كلمة من كلمات هذا الكلام التوحيدي الرائع تزف بشرى سارة، وتبث املاً دافئاً. وفي كل بشرى شفاء وبلسم.. وفي كل شفاء لذة معنوية وانشراح روحي.
بشرى الكلمة الثامنة: "وهو حي لا يموت"
اي: ان الكمال والحسن والاحسان الظاهر في الموجودات وسيلةً للمحبة.. يتجلى بما لا يمكن وصفه وبما لا يحده حدود وفوق الدرجات العلى من مالك الجمال والكمال والاحسان، فومضةٌ من تجليات جماله سبحانه تعادل جميع محبوبات الدنيا باسرها.. هذا الإله المحبوب المعبود له حياة أبدية دائمة منزهة عن كل شوائب الزوال وظلال الفناء، مبرأة عن كل عوارض النقص والقصور.
اذن فهذه الكلمة تعلن للملأ جميعاً من الجن والانس وارباب المشاعر والفطنة وأهل العشق والمحبة وتقول:
اليكم البشرى.. اليكم نسمة أمل وخير، ان لكم محبوباً ازلياً باقياً، يداوي الجروح المتمخضة من لوعة الفراق الابدي لمحبوبتكم الدنيوية ويمسها ببلسمه الشافي بمرهم رحمته. فما دام هو موجوداً، وما دام هو باقياً فكل شئ يهون.. فلا تقلقوا ولا تبتئسوا. فان الحسن والاحسان والكمال الذي جعلكم مشغوفين باحبائكم ليس الاّ لمحة من ظل ضعيف انشق عن ظلال الحجب والاستار الكثيرة جداً لتجلٍ واحدٍ من تجليات جمال ذلك المحبوب الباقي. فلا يعذبنكم زوال اولئك وفراقهم، لانهم جميعاً ليسوا الاّ نوعاً من مرايا عاكسة، وتبديل المرايا وتغييرها يجدد ويجمّل انعكاسات تجلي الجمال وشعشعته الباهرة، فما دام هو موجوداً، فكل شئ موجود اذن.(*)
_____________________
(*) المكتوب العشرون - ص: 294
21-)
اثبات التوحيد الكلمة الثامنة [ وهو حي لايموت ]
باسمه سبحانه
ايها المستخلف المبارك
(لا إله إلاّ الله، وحده، لا شريك له، له الملك، وله الحمد يحيي، ويميت، وهو حي لا يموت، بيده الخير، وهو على كل شئ قدير، وإليه المصير)
بديع الزمان سعيد النورسي يشير باختصار الى اثبات التوحيد من حيث الاسم الاعظم والجملة التي تلخص التوحيد فيتناولها كلمة كلمة
اثبات التوحيد الكلمة الثامنة [ وهو حي لايموت ]
اي ان حياته دائمة، ازلية ابدية. لايعرض عليها الموت والفناء والعدم والزوال قطعاً. لان الحياة ذاتية له، فالذاتي لايزول قط.
نعم، ان الازلي ابدي بلاشك، والقديم باقٍ بلاريب، والذي هو واجب الوجود، سرمدي البتة.
نعم، ان حياة ً.. يكون جميع الوجود بجميع أنواره، ظلاً من ظلالها، كيف يعرض عليها العدم!
نعم، ان حياةً ..يكون الوجود الواجب عنوانها ولازمها، لن يعرض عليها العدم والفناء قطعاً.
نعم، ان حياةً.. يظهر بتجليها جميع انواع الحياة باستمرار، ويستند اليها جميع الحقائق الثابتة للكائنات بل هي قائمة بها، لن يعرض عليها الفناء والزوال قطعاً.
نعم، ان حياةً.. تورث لمعة من تجلٍ منها وحدةً للاشياء الكثيرة المعرضة للفناء والزوال وتجعلها باقية وتنجيها من التشتت والتبعثر وتحفظ وجودها وتجعلها مظهراً لنوع من البقاء ـ اي تمنح الكثرة وحدة وتبقيها، فاذا ولّت تبعثرت الاشياء وفنيت - لاشك ان الزوال والفناء لايدنوان من هذه الحياة الواجبة التي تعد هذه اللمعات الحياتية جلوة من جلواته.
والشاهد القاطع لهذه الحقيقة هو زوال هذه الكائنات وفناؤها، اي ان الكائنات كما تدل وتشهد بانواع وجودها وصنوف حياتها على حياة ذلك الحي الذي لايموت وعلى وجوب وجود تلك الحياة(1) تدل وتشهد بانواع موتها وصنوف زوالها على بقاء تلك الحياة وعلى سرمديتها؛ لان الموجودات بعد زوالها تأتي عقبها امثالُها فتنال الحياة مثلها وتحل محلها، مما يدل على ان حياً دائماً موجودٌ، وهو الذي يجدّد باستمرار تجلي الحياة؛ اذ كما ان الحباب التي تعلو سطح النهر وتقابل الشمس تتلمع ثم تذهب، والتي تعقبها تتلمع ايضاً مثلها، وهكذا..طائفة إثر طائفة، كلٌ منها تتلمع، ثم تنطفئ وتذهب الى شأنها.. فهذا التعاقب في الإلتماع والانطفاء يدل على شمس دائمة عالية.. كذلك يشهد تبدل الحياة والموت ومناوبتهما في هذه الموجودات السيارة على بقاء حيّ باقٍ وعلى دوامه.
نعم، ان هذه الموجودات مرايا، ولكن مثلما الظلام يكون مرآة للنور بحيث كلما اشتد الظلام ازداد سطوع النور، فالموجودات ايضاً من حيث الضدية ومن جهات كثيرة جداً تقوم مقام المرايا.
فمثلاً: ان الموجودات تؤدي وظيفة المرآة باظهار قدرة الصانع بعجزها، وبيان غناه سبحانه بفقرها، كذلك تدل بفنائها على بقائه سبحانه.
نعم، ان لباس الجوع وجلباب الفقر الذي يلبسه سطح الارض وما عليه من اشجار في موسم الشتاء، وتبدل تلك الملابس بحلل الربيع الزاهية الطافحة بالغنى والثروات، دليل على قدير مطلق القدرة وعلى غني مطلق الغنى، وعلى ان الموجودات مرآة صافية لاظهار قدرته ورحمته سبحانه.
نعم، لكأن جميع الموجودات تقول بلسان حالها وتناجي ربها بمناجاة "أويس القرني"(2) وتقول:
"يا إلهنا..
انت ربنا، اذ نحن العبيد العاجزون عن تربية انفسنا، فأنت الذي تربينا.
وانت الخالق، اذ نحن مخلوقون، مصنوعون.
وانت الرزاق، اذ نحن المحتاجون الى الرزق، ايدينا قاصرة فانت الذي تخلقنا وترزقنا.
وهكذا تناجي جميعُ الموجودات جزئيّها وكليها ربَّها كـ "أويس القرني" مناجاة معنوية، وكل منها تؤدي وظيفة المرآة، ويعلن كل موجودبعجزه وفقره وتقصيره قدرة الله وكماله سبحانه.(*)
_____________
(1) ان انتقال سيدنا ابراهيم (عليه السلام)اثناء محاججته نمرود في الاماتة والاحياء، الى إتيان ا سبحانه بالشمس من المشرق وتعجيز نمرود باتيانها من المغرب، هو إنتقال وترقٍ من إماتة وإحياءٍ جزئيين الى إماتة وإحياء كليين، اي انتقال الى أوسع دائرة من دوائر ذلك الدليل وأسطعها، وليس هو صعود الى دليل ظاهر وترك الدليل الخفي، كما يقوله بعض المفسرين..ـ المؤلف.
(2) من سادات التابعين، اصله من اليمن، ادرك النبي صلى الله عليه وسلم ولم يره لبرّهِ بأمه. وفد على عمر بن الخطاب رضي الله عنه ثم سكن الكوفة، شهد وقعة صفين مع علي رضي الله عنه ويُرجّح انه قُتل فيها سنة 37هـ. أُسد الغابة 1/179 حلية الاولياء 2/79 الاعلام 2/32. - المترجم.
(*) المكتوب العشرون - ص: 311
22-)
بشرى الكلمة العاشرة: "وهو على كل شئ قدير"
باسمه سبحانه
ايها المستخلف المبارك
(لا إله إلاّ الله، وحده، لا شريك له، له الملك، وله الحمد يحيي، ويميت، وهو حي لا يموت، بيده الخير، وهو على كل شئ قدير، وإليه المصير(
بديع الزمان سعيد النورسي يقول:
كل كلمة من كلمات هذا الكلام التوحيدي الرائع تزف بشرى سارة، وتبث املاً دافئاً. وفي كل بشرى شفاء وبلسم.. وفي كل شفاء لذة معنوية وانشراح روحي.
بشرى الكلمة العاشرة: "وهو على كل شئ قدير"
أي: أنه واحد أحد. قادر على كل شئ، لا يشق عليه شئ، ولا يؤوده شئ، ولا يصعب عليه أمر، فخلق ربيع كامل - مثل - سهل ويسير عليه كخلق زهرة واحدة. وخلق الجنة عنده كخلق ذلك الربيع وبالسهولة واليسر الكاملين.فالمخلوقات غير المحدودة التي يوجدها ويجددها كل يوم، كل سنة، كل عصر، لتشهد كلها بألسنة غير محدودة على قدرته غير المحدودة.
فهذه الكلمة ايضاً تمنح املاً وبشرى وتقول:
ايها الانسان! ان اعمالك التي اديتها، وعبوديتك التي قمت بها، لا تذهب هباءً منثوراً، فهناك دار جزاء خالدة، ومقام سعادة هانئة قد هئ لك. فأمامك جنة خالدة متلهفة لقدومك، مشتاقة اليك. فثق بوعد خالقك ذي الجلال الذي تخر له ساجداً
عابداً، وآمن به واطمئن اليه، فانه محال أن يخلف وعداً قطعه على نفسه، اذ لا تشوب قدرته شائبة أو نقص، ولا يداخل اعماله عجز أو ضعف، فكما خلق لك حديقتك الصغيرة ويحييها، فهو قادر على ان يخلق لك الجنة الواسعة، بل قد خلقها فعلاً، ووعدك بها. ولأنه وعد فسيفي بوعده حتماً ويأخذك الى تلك الجنة.
وما دمنا نرى أنه يحشر وينشر في كل عام على وجه البسيطة اكثر من ثلاثمئة الف نوع من انواع النباتات وامم الحيوانات وبانتظام كامل وميزان دقيق، وفي سرعة فائقة وسهولة تامة.. فلابد أن هذا القادر الجليل، قادر ايضاً على أن يضع وعده موضع التنفيذ.
وما دام القادر المطلق يوجد في كل سنة آلاف النماذج للحشر والجنة وبمختلف الانماط والاشكال.. وما دام أنه يبشّر بالجنة الموعودة، ويعد بالسعادة الابدية في جميع أوامره السماوية.. وما دامت جميع اجراءاته وشؤونه حقاً وحقيقة وصدقاً وصائبة.. وما دامت جميع آثاره تشهد على أن الكمالات قاطبة انما هي دلالات على أنه منزّه عن كل نقص أو قصور.. وما دام نقض العهد وخلاف الوعد والكذب والمماطلة هو من أقبح الصفات فضلاً عن أنه نقص وقصور..فلابد أن ذلك القدير ذا الجلال، وذلك الحكيم ذا الكمال، وذلك الرحيم ذا الجمال سينفذ وعده حتماً مقضياً، وسيفتح ابواب السعادة الابدية، وسيدخلكم - ايها المؤمنون - الجنة.. موطن ابيكم آدم عليه السلام.(*)
_______________________________
(*) المكتوب العشرون - ص: 295
23-)
اثبات التوحيد الكلمة السادسة [ يحيي ]
باسمه سبحانه
ايها المستخلف المبارك
(لا إله إلاّ الله، وحده، لا شريك له، له الملك، وله الحمد يحيي، ويميت، وهو حي لا يموت، بيده الخير، وهو على كل شئ قدير، وإليه المصير)
بديع الزمان سعيد النورسي يشير باختصار الى اثبات التوحيد من حيث الاسم الاعظم والجملة التي تلخص التوحيد فيتناولها كلمة كلمة
اثبات التوحيد الكلمة السادسة [ يحيي ]
اي انه هو الذي يهب الحياة، فهو اذن وحده خالق كل شئ، لان الحياة هي روح الكون ونوره وخميرته ونتيجته وخلاصته. فمن وهب الحياة واعطاها فهو خالق الكون جميعاً، وهو المحيي الحي القيوم. نشير الى برهان عظيم لمرتبة التوحيد هذه بالآتي:
اننا نشاهد خيماً منصوبة على ارجاء الارض كافة لجيش ذوي الحياة العظيم، ونشاهد ايضاً ان جيشاً حديثاً من جيوش لاتعد ولا تحصى للحي القيوم يأتي من عالم الغيب ويتسلم اعتدته وتجهيزاته كل ربيع.
فاذ نحن نتأمل هذا الجيش الضخم نرى ان طوائف النباتات تربو على مائتي ألف نوع، وامم الحيوانات تنوف على مائة ألف نوع من الانواع المختلفة. كل امة من هذه الامم، وكل طائفة منها تلبس ملابس خاصة بها، ولها ارزاقها المعينة، ولها تدريبات وتعليمات مخصوصة، ولها رُخص تخصها، ومزودة باسلحة واعتدة تلائمها، ومدة خدماتها العسكرية معينة، ولكن مع كل هذا الاختلاف والتباين فان قائداً أعظم بقدرته المطلقة وحكمته المطلقة وعلمه غير المحدود وارادته غير المحدودة ورحمته الواسعة وخزينته التي لا تنضب، لا ينسى جندياً قط، ولا يلتبس عليه شئ من أمرهم ولا يؤخر عنهم اي شئ يحتاجونه، بل كل طائفة من الطوائف والامم التي تزيد على ثلاثمائة ألف من الطوائف والامم يرسل اليها أرزاقها المتباينة وملابسها المختلفة واسلحتها المتغايرة، وتدرّب تدريبات متنوعة وتسرح من وظائفها في اوقات متخالفة، كل ذلك في انتظام كامل وبميزان تام وفي الوقت المناسب. يشاهد هذا كل ذي عين باصرة، ويدركه كل ذي قلب شهيد ادراكاً بعين اليقين، كما اثبتنا ذلك في كلمة اخرى. فهل من الممكن ان يتدخل ويكون له حصة في هذا الاحياء والادارة، وهذه التربية والاعاشة سوى صاحب علم محيط يحيط بكل ما يخص ذلك الجيش وبشؤونه كافة، وصاحب قدرة مطلقة تدير اموره بجميع لوازمه؟ حاش لله الف الف مرة.
اذ من المعلوم؛ انه اذا وجد في فوج واحد عشر امم مختلفة، فان تجهيز كل امة باعتدة مميزة، عسير بعشرة اضعاف تجهيـز الفوج كله بالاعتدة نفسها، ومن هنا يلجأ الانسان العاجز الى تجهيزهم بالملابس والاعتدة الموحدة. بينما الحي القيوم سبحانه يجهّز هذا الجيش العظيم الذي تربو طوائفه واممه على ثلاثمائة الـف طـائفة بتجـهـيزات حياتيـة متباينة الواحدة عن الأخرى، وبكل سهولة ويـسر، وبغـيـر عناء، وبانتظام كامل، وفي منتهى الحكمة. حتى يسوق كل فرد من افراد ذلك الجيش للقول بلسان حاله: "هو الذي يحيي" بل يجعل تلك الجماعة العظمى تتلو في مسجد الكون العظيم:
(الله لا إله الاّ هوَ الحيُّ القيّوم لاتَأخُذهُ سِنةٌ ولانومٌ لهُ ما في السّموات وما في الارضِ مَن ذا الذي يَشفَعُ عندهُ إلاّ بإذنِهِ يعلمُ ما بينَ ايديهم وما خَلفَهُم ولايُحيطونَ بشَيءٍ من علمهِ الاّ بما شاءَ وسِعَ كُرسيُّهُ السّمواتِ والارض ولايَؤدُهُ حفظُهُما وهو العَليُّ العظيم) (البقرة :255)(*)
____________________
(*) المكتوب العشرون - ص: 308
24-)
بشرى الكلمة الخامسة: "له الحمد"
باسمه سبحانه
ايها المستخلف المبارك
(لا إله إلاّ الله، وحده، لا شريك له، له الملك، وله الحمد يحيي، ويميت، وهو حي لا يموت، بيده الخير، وهو على كل شئ قدير، وإليه المصير(
بديع الزمان سعيد النورسي يقول:
كل كلمة من كلمات هذا الكلام التوحيدي الرائع تزف بشرى سارة، وتبث املاً دافئاً. وفي كل بشرى شفاء وبلسم.. وفي كل شفاء لذة معنوية وانشراح روحي.
بشرى الكلمة الخامسة: "له الحمد"
أي أن الحمد والثناء والمدح والمنة خاص به وحده، ولائق به وحده، لأن النعم والآلاء كلها منه وحده، وتفيض من خزائنه الواسعة، والخزائن دائمة لا تنضب.
وهكذا تمنح هذه الكلمة بشرى لطيفة، وتقول:
أيها الانسان! لا تقاسي الالم بزوال النعمة، لأن خزائن الرحمة لا تنفد، ولا تصرخ من زوال اللذة، لأن تلك النعمة ليست الاّ ثمرة رحمة واسعة لا نهاية لها. فالثمار تتعاقب ما دامت الشجرة باقية.
واعلم ايها الانسان انك تستطيع ان تجعل لذة النعمة اطيب واعظم منها بمائة ضعف، وذلك برؤيتك إلتفاتة الرحمة اليك، وتكرمها عليك، وذلك بالشكر والحمد. اذ كما ان ملكاً عظيماً وسلطاناً ذا شأن اذا ارسل اليك هديةً- ولتكن تفاحة مثل - فان هذه الهدية تنطوي على لذة تفوق لذة التفاح المادية باضعاف الاضعاف، تلك هي لذة الالتفات الملكي والتوجّه السلطاني المكلل بالتخصيص والاحسان، كذلك كلمة "له الحمد" تفتح امامك باباً واسعاً تتدفق منه لذة معنوية خالصة هي ألذ من تلك النعم نفسها بألف ضعف وضعف، وذلك بالحمد والشكر، أي:بالشعور
بالإنعام عن طريق النعمة، أي: بمعرفة المنعم بالتفكر في الإنعام نفسه، أي: بالتفكر والتبصر في التفات رحمته سبحانه وتوجـهه اليك وشـفقته علـيـك، ودوام انـعامه عليك. (*)
_____________________
(*) المكتوب العشرون - ص: 292
25-)
بشرى الكلمة السابعة: "ويميت"
باسمه سبحانه
ايها المستخلف المبارك
(لا إله إلاّ الله، وحده، لا شريك له، له الملك، وله الحمد يحيي، ويميت، وهو حي لا يموت، بيده الخير، وهو على كل شئ قدير، وإليه المصير(
بديع الزمان سعيد النورسي يقول:
كل كلمة من كلمات هذا الكلام التوحيدي الرائع تزف بشرى سارة، وتبث املاً دافئاً. وفي كل بشرى شفاء وبلسم.. وفي كل شفاء لذة معنوية وانشراح روحي.
بشرى الكلمة السابعة: "ويميت"
اي: انه هوالذي يهب الموت، اي: هو الذي يسرّحك من وظيفة الحياة، ويبدل مكانك في الدنيا الفانية، وينقذك من عبء الخدمة، ويحررك من مسؤولية الوظيفة. اي: يأخذك من هذه الحياة الفانية الى الحياة الباقية.
وهكذا فهذه الكلمة تصرخ في اذن الانس والجن الفانين وتقول:
بشراكم.. الموت ليس اعداماً، ولا عبثاً ولا سدى ولا انقراضاً، ولا انطفاءً، ولا فراقاً ابدياً .. كلا فالموت ليس عدماً، ولا مصادفة، ولا انعداماً ذاتيا بلا فاعل.. بل هو تسريح من لدن فعال حكيم رحيم، وتبديل مكان، وتغيير مقام، وسَوق نحو السعادة الخالدة.. حيث الوطن الأصلي.. أي هو باب وصال لعالم البرزخ.. عالم يجمع تسعةً وتسعين بالمائة من الاحباب.(*)
______________________________
(*) المكتوب العشرون - ص: 293
26-)
اثبات التوحيد الكلمة الثالثة [ لا شريك له ]
باسمه سبحانه
ايها المستخلف المبارك
(لا إله إلاّ الله، وحده، لا شريك له، له الملك، وله الحمد يحيي، ويميت، وهو حي لا يموت، بيده الخير، وهو على كل شئ قدير، وإليه المصير)
بديع الزمان سعيد النورسي يشير باختصار الى اثبات التوحيد من حيث الاسم الاعظم والجملة التي تلخص التوحيد فيتناولها كلمة كلمة
اثبات التوحيد الكلمة الثالثة [ لا شريك له ]
لقد ُاثبتت هذه الكلمة في الموقف الاول من "الكلمة الثانية والثلاثين"اثباتاً واضحاً جلياً. لذا نحيل شرحها الى هناك، اذ لا بيان يفوق بيانه، ولا داعي الى بيان غيره إذ لا يوَضَّح مثلُه قط. (*)
_____________________
(*) المكتوب العشرون - ص: 300
27-)
اثبات التوحيد الكلمة الخامسة [ له الحمد ]
باسمه سبحانه
ايها المستخلف المبارك
(لا إله إلاّ الله، وحده، لا شريك له، له الملك، وله الحمد يحيي، ويميت، وهو حي لا يموت، بيده الخير، وهو على كل شئ قدير، وإليه المصير)
بديع الزمان سعيد النورسي يشير باختصار الى اثبات التوحيد من حيث
الاسم الاعظم والجملة التي تلخص التوحيد فيتناولها كلمة كلمة
اثبات التوحيد الكلمة الخامسة [ له الحمد ]
اي: ان الكمالات التي هي سبب المدح والثناء، في الموجودات كافة، تخصّه وحده سبحانه ، ولهذا فالحمد ايضاً له وحده، فكل ماصدر وما يصدر من مدح وثناء من الازل الى الابد، وممن صدر وعلى مَن وقع، يخصُّه وحده. لأن كل ماهو سبب المدح والثناء من كمال وجمال ومن نعم وآلاء وكل ماهو مدار الحمد، هو لله تعالى، يخصه وحده.
نعم! ان ما يصعد اليه سبحانه دوماً من الموجودات جميعاً عبودية وتسبيح وسجود ودعاء وحمد وثناء، يصعد كلها الى تلك الحضرة المقدسة باستمرار. كما يفهم من الاشارات القرآنية. نشير الى برهان عظيم يثبت هذه الحقيقة التوحيدية:
عندما ننظر الى العالم نشاهده كبستان عظيم، سقفه مرصّع بالنجوم، وارضه زيّنت بموجودات جميلة زاهية.. فهذه الاجرام العلوية النورانية المنتظمة، والموجودات الارضية الحكيمة المزينة، في هذا البستان العظيم، كل منها يقول بلسانه الخاص، وجميعها تقول معاً:
نحن معجزات قدرة قدير جليل، نشهد على وحدانية خالق حكيم وصانع قدير.
وفي رياض العالم هذا ننظر الى الارض نرى انها كروضة نثرت فيها مئات الالاف من طوائف النباتات ذات الالوان الزاهية والاشكال الجميلة، وانتشرت فيها مئات الآلاف من انواع الحيوانات المتنوعة. فجميع تلك النباتات الزاهية والحيوانات المزينة في روضة الارض، تعلن بصورها المنتظمة وباشكالها الموزونة:
نحن معجزات صانع واحد حكيم وخوارقه وادلاء على وحدانيته وشهداء عليها.
وكذا ننظر الى قمم الاشجار في تلك الروضة البهية نرى أن ثمارها وازاهيرها مخلوقة بمنتهى العلم والحكمة وبغاية الكرم واللطف والجمال.. فكل تلك الثمرات والازاهير الجميلة تعلن باشكالها والوانها المتنوعة، بلسان واحد:
نحن معجزات هدايا رحمن ذي جمال، وخوارق عطايا رحيم ذي كمال.
فما في بستان العالم من اجرام وموجودات ومافي روضة الارض من نباتات وحيوانات، وما على قمم الاشجار من ازاهير وثمرات يشهد، بل يعلن بصوت عالٍ رفيع:
ان خالقنا ومصوّرنا ـ الذي أهدانا اليكم ـ القادر ذو الجمال والحكيم الكريم، قدير على كل شئ، لايصعب عليه شئ، لايخرج عن دائرة قدرته شئ قط. فالنجوم والذرات سواء بالنسبة الى قدرته، والكلي سهلٌ عليها كالجزئي، والجزء نفيس كالكل، واكبر شئ يسيرٌ عليه كأصغره، والصغير متقن الصنع كالكبير، وربما الصغير أبدع اتقاناً من الكبير. فجميع الوقوعات الماضية التي هي عجائب قدرته، تشهد ان ذلك القدير المطلق قادر على عجائب الإمكانات التي ستحدث في المستقبل. فكما ان الذي أتى بالامس قادر على إتيان الغد، فان ذلك القدير الذي انشأ الماضي قادر على ايجاد المستقبل ايضاً، وذلك الصانع الحكيم الذي خلق الدنيا قادر على خلق الآخرة.
نعم؛ كما ان ذلك القادر الجليل هو المعبود الحق، فالمحمود بالحق ايضاً انما هو وحده. وكما ان العبادة خاصة به وحده، فالحمد والثناء ايضاً يخصانه سبحانه.
فهل من الممكن ان الصانع الحكيم الذي خلق السموات والارض يترك هذا الانسان سدىً، وهو الذي خلقه اعظم نتيجة للسموات والارض واكمل ثمرات العالم؟ وهل يمكن ان يحيله الى الاسباب والمصادفات، فيقلب حكمته الباهرة عبثاً؟ حاشَ لله.. وكلا..
وهل يعقل ان الحكيم العليم الذي يرعى الشجرة، ويدبّر امورها بعناية ويربيها في منتهى الحكمة ان يهمل ثمرات تلك الشجرة التي هي غايتها وفائدتها ولايهتم بها، فتتشتت وتتفرق في ايدي السراق وايدي العبث، وتضيع؟ لاشك ان عدم الاهتمام هذا محال قطعاً، اذ الاهتمام بالشجرة انما هي لأجل ثمراتها.
وهكذا فان اكمل ثمرات هذا العالم ونتيجته ذات الشعور وغايته هو الانسان، فهل يمكن أن يعطي صانع هذا العالم الحكيم، الحمد والعبادة والشكر والمحبة التي هي ثمرة الثمار ذات الشعور الى غيره تعالى.. فيضيّع حكمته الباهرة وينزّلها الى دركة
العدم.. او يقلب قدرته المطلقة الى عجز.. او يحوّل علمه المحيط الى جهل؟ حاشَ لله وكلا.. الف الف مرة!
فهل من الممكن ان يصل الشكر والعبادة التي يقدّمها ذوو الشعور الذين هم مدار المقاصد الإلهية في بناء قصر الكون ولاسيما الانسان الذي هو افضلهم ازاء النعم التي نالوها، الى غير صانع قصر الكون وان يسمح ذلك الصانع الجليل ان يقدم الشكر والعبادة وهي غاية المقاصد، الى غيره تعالى؟
وهل من الممكن أن مَن يحبب نفسه الى ذوي الشعور بانواع نعمه التي لاتعد ولاتحصى، ويعّرف نفسه اليهم بما لايحد من معجزات صنعته ثم يدع شكرهم وعباداتهم وحمدهم ومحبتهم ومعرفتهم ورضاهم الى الاسباب والطبيعة، ولايهتم بها فيدفعهم الى انكار حكمته المطلقة ويهوّن من شأن سلطان ربوبيته وينزّلها الى دركة العدم؟ كلا حاشلله مائة الف مرة.
وهل يمكن أن يكون شريكاً من يعجز عن خلق الربيع وعن ايجاد الثمرات كلها وعن خلق ثمرة التفاح ـ المتحدة في العلامات ـ على الارض كافة..في الحمد مع المحمود المطلق سبحانه بأن يخلق تفاحة واحدة منها ويقدمها نعمةً الى احدهم، ويحصل على شكره؟ حاشَ لله وكلا..لأن الذي يخلق التفاحة الواحدة هو خالق ثمرة التفاح في العالم كله. اذ السكة واحدة والعلامة واحدة. ثم ان الذي خلق التفاح كله في العالم هو الذي اوجد الحبوب والثمرات التي هي محور الرزق. بمعنى: ان من ينعم اصغر نعمة جزئية على اصغر كائن حي جزئي، هو خالق العالم، وهو الرزاق الجليل لاغيره، لذا فالحمد والشكر يخصانه وحده. وان حقيقة العالم تقول دائماً بلسان الحق:
له الحمد من كل احدٍ من الازل الى الابد.(*)
__________________
(*) المكتوب العشرون - ص: 306
28-)
اثبات التوحيد الكلمة السابعة [ ويميت ]
باسمه سبحانه
ايها المستخلف المبارك
(لا إله إلاّ الله، وحده، لا شريك له، له الملك، وله الحمد يحيي، ويميت، وهو حي لا يموت، بيده الخير، وهو على كل شئ قدير، وإليه المصير)
بديع الزمان سعيد النورسي يشير باختصار الى اثبات التوحيد من حيث الاسم الاعظم والجملة التي تلخص التوحيد فيتناولها كلمة كلمة
اثبات التوحيد الكلمة السابعة [ ويميت ]
اي انه هو الذي يهب الموت، اي كما انه واهب الحياة، فهو الذي يسلبها ويمنح الموت كذلك.
نعم؛ الموت ليس تخريباً وانطفاءً كي يسند الى الاسباب، ويحال على الطبيعة، بل الموت مهما يبدو ظاهراً انحلالاً وانطفاءً الاّ انه في الحقيقة مبدأ ومقدمة لحياة باقية للانسان وعنوان لتلك الحياة، مثلما تضمر البذرة تحت الارض وتموت ظاهراً الا انها تمضي باطناً من حياة البذرة الجزئية الى حياة السنبل الكلية.
لذا فان القدير المطلق الذي يهب الحياة ويديرها هو الذي يخلق الموت بلاريب.
نشير الى برهان عظيم لمرتبة التوحيد العظمى التي تتضمنها هذه الكلمة فنقول:
لقد بينا في النافذة الرابعة والعشرين من (المكتوب الثالث والثلاثين ):
ان هذه الموجودات سيالة بالارادة الإلهية.. وان هذه الكائنات سيارة بالامر الرباني..وان هذه المخلوقات تجري باستمرار في نهر الزمان باذن الله، وتُرسل من عالم الغيب ويُخلع عليها الوجود الظاهري في عالم الشهادة، ثم تنزل بانتظام على عالم الغيب. فتأتي دوماً من المستقبل بالامر الإلهي وتمر على الحال الحاضرة وتتنفس فيها ثم تصب في الماضي..فسيلان هذه المخلوقات في دائرة الرحمة والاحسان يتم باسلوب في منتهى الحكمة، وسيرانها ضمن دائرة الحكمة والانتظام يكون في غاية العلم.. وجريانها ضمن دائرة الشفقة والميزان يكون في رحمة واسعة.
وهكذا تمضي هذه المخلوقات منذ البدء الى النهاية وتكلل بالحِكَم والمصالح والنتائج والغايات الجليلة.
بمعنى ان قديراً ذا جلال وحكيماً ذا كمال يمنح الحياة باستمرار بقدرته المطلقة ويوظّف طوائف الموجودات، وجزئيات كل طائفةٍ، والعوالم المتشكلة من تلك الطوائف.. ثم يسرّحها بحكمة، مُظهراً عليها الموت ويرسلها الى عالم الغيب. اي انه يحوّلها من دائرة القدرة الى دائرة العلم.
فمن لايقدر على ادارة الكون برمته، ولاينفذ حكمه في الازمان كلها، ولاتبلغ قدرته لتمنح العوالم كلها الموت والحياة - كما يمنحها فرداً واحداً - ويعجز عن ان يجعل الربيع كالزهرة الواحدة، يمنحها الحياة، ويضعها على وجه الارض، ثم يقطفها بالموت.. ان الذي لايقدر على هذه الامور لايقدر على الاماتة والإحياء قطعاً.
اي ان موت اي كائن حي -مهما كان جزئياً - لابد ان يكون كحياته، اي يجري بقانون ربّ ذي جلال، بيده حقائق الحياة كلها وانواع الموت جميعها، ويجريها باذنه وبقوته وبعلمه.(*)
______________________
(*) المكتوب العشرون - ص: 310
29-)
اثبات التوحيد الكلمة الثانية [ وحده]
باسمه سبحانه
ايها المستخلف المبارك
(لا إله إلاّ الله، وحده، لا شريك له، له الملك، وله الحمد يحيي، ويميت، وهو حي لا يموت، بيده الخير، وهو على كل شئ قدير، وإليه المصير)
بديع الزمان سعيد النورسي يشير باختصار الى اثبات التوحيد من حيث الاسم الاعظم والجملة التي تلخص التوحيد فيتناولها كلمة كلمة
اثبات التوحيد الكلمة الثانية [ وحده]
هذه الكلمة تبين مرتبة توحيد صريحة. نشير الى برهان في غاية القوة يثبت اثباتاً تاماً هذه المرتبة، وهو:
اننا كلما فتحنا اعيننا وصوبنا نظرنا في وجه الكائنات، لفت نظرن - اول ما يلفت- نظام عام كامل، وميزان دقيق شامل.. فكل شئ في نظام دقيق، وكل شئ يوزن بميزان حساس وكل شئ محسوب حسابه بدقة..
واذا ما دققنا النظر، يلفت نظرنا تنظيم ووزان متجددان، اي: ان واحداً أحداً يغير ذلك النظام بانتظام ويجدّد ذلك الميزان بمقدار.. فيصبح كل شئ نموذجاً "موديل" تُخلَع عليه صورٌ موزونة منتظمة كثيرة جداً..
واذا ما انعمنا النظر اكثر، نرى ان عدالة وحكمة تشاهدان من تحت ذلك التنظيم والوزان حتى ان كل حركة ونأمة تعقبها حكمة ومصلحة ويردفها حق وفائدة.
واذا ما دققنا النظر بإنعام اكثر؛ تلفت نظر شعورنا، مظاهر قدرة ضمن فعالية حكيمة في غاية الحكمة وجلوات علمٍ محيط بكل شئ. بل محيط بكل شأن من شؤونه.. بمعنى ان هذا النظام والميزان الموجودين في الموجودات كافة، يبينان تنظيماً ووزاناً عامين شاملين لكل الموجودات. وان ذلك التنظيم والوزان يظهران حكمة وعدالة شاملتين، وان تلك الحكمة والعدالة تبينان لأنظارنا قدرة وعلماً. اي ان قديراً على كل شئ وعليماً بكل شئ يُرى للعقل من وراء تلك الحجب.
ثم ننظر الى بداية كل شئ ونهايته، ولاسيما في ذوي الحياة، فنرى ان بداياتها واصولها وجذورها، وكذا ثمراتها ونتائجها على نمط وطراز بحيث كأن تلك النوى والاصول برامج وفهارس وتعاريف تتضمن جميع اجهزة ذلك الموجود، وكذا يتجمع في نتيجة ذلك الموجود وفي ثمرته، ويترشح فيها معنى ذلك الكائن الحي كله، فيودع فيها تاريخ حياته. فكأن نواة ذلك الكائن الحي التي هي اصله، سجل صغير لدساتير إيجاده، اما ثمراته فهي في حكم فهرس لأوامر ايجاده.
ثم ننظر الى ظاهر ذلك الكائن الحي وباطنه، فنشاهد؛ تدبيرا ً وتصريفاً للامور لقدرة في منتهى الحكمة، وتصويراً وتنظيماً لإرادة في منتهى النفوذ. اي ان قوة وقدرة توجِدان ذلك الشئ وان أمراً وارادة تلبسانه الصورة.
وهكذا كلما دققنا النظر في اول كل موجود وبدايته رأينا ما يدل على علم عليم، وكلما دققنا النظر في آخره شاهدنا برامج صانع، وكلما دققنا في ظاهر الشئ رأينا حلة بديعة في غاية الاتقان لفاعل مختار مريد، وكلما نظرنا الى باطن الشئ شاهدنا جهازاً في غاية الانتظام لصانع قدير.
فهذه الاوضاع والاحوال تعلن بالضرورة والبداهة؛ انه لايمكن ان يكون شئ ولا وقت ولا مكان خارج قبضة الصانع الجليل الواحد الاحد وخارج تدبيره وتصريفه الامور. بل كل شئ وكل شأن من شؤونه يدبّر في قبضة قدير مريد، ويجمّل وينظم بلطف رحمن رحيم، ويحسّن ويزّين برحمة حنّان منّان.
نعم، ان هذا النظام والميزان والتنظيم والوزان في موجودات هذا الكون كله يدل دلالة واضحة على واحدٍ أحدٍ فرد قدير مريد عليم حكيم، ويري مرتبة وحدانية عظمى لكل من كان مالكاً لشعور وبصر.
نعم.. ان في كل شئ توجد وحدة، والوحدة تدل على الواحد.فمثلاً: الشمس التي هي سراج الدنيا واحدة، بمعنى ان مالك الدنيا واحد. والهواء والنار والماء مثلاً ـ وهي الخدَمة لأحياء الارض ـ واحدة، بمعنى ان من يستخدم هذه الاشياء ويسخّرها لنا واحد ايضاً.(*)
__________________
(*) المكتوب العشرون - ص: 299
30-)
بشرى الكلمة الثالثة: "لا شريك له"
باسمه سبحانه
ايها المستخلف المبارك
(لا إله إلاّ الله، وحده، لا شريك له، له الملك، وله الحمد يحيي، ويميت، وهو حي لا يموت، بيده الخير، وهو على كل شئ قدير، وإليه المصير(
يقول بديع الزمان سعيد النورسي:
كل كلمة من كلمات هذا الكلام التوحيدي الرائع تزف بشرى سارة، وتبث املاً دافئاً. وفي كل بشرى شفاء وبلسم.. وفي كل شفاء لذة معنوية وانشراح روحي.
بشرى الكلمة الثالثة: "لا شريك له"
اي: كما لاندّ له ولا ضد في الوهيته لأن الله واحد، فان ربوبيته واجراءاته وايجاده الاشياء منزهة كذلك من الشرك. بخلاف سلاطين الأرض، اذ يحدث أن يكون السلطان واحداً متفرداً في سلطنته الاّ انه ليس متفرداً في اجراءاته، حيث أن موظفيه وخدمه يعدّون شركاء له في تسيير الامور وتنفيذ الاجراءات، ويمكنهم ان يحولوا دون مثول الجميع أمامه، ويطلبوا منهم مراجعتهم اولاً! ولكن الحق سبحانه وتعالى وهو سلطان الازل والابد، واحد لا شريك له في سلطنته، فليس له حاجة قط في اجراءات ربوبيته ايضاً الى شركاء ومعينين للتنفيذ، اذ لا يؤثر شئ في شئ الاّ بأمره وحوله وقوته، فيمكن للجميع ان يراجعوه دون وسيط، لعدم وجود شريك أو معين. ولا يقال عندئذٍ للمراجع: لا يجوز لك الدخول في الحضرة الإلهية.
وهكذا تحمل هذه الكلمة في طياتها أملاً باسماً وبشارة بهيجة، فتقول:
ان الانسان الذي استنارت روحه بنور الايمان، ليستطيع عرض حاجاته كلها بلا حاجز ولا مانع بين يدي ذلك الجميل ذي الجلال، ذلك القدير ذي الكمال، ويطلب ما يحقق رغباته، اينما كان هذا الانسان وحيثما حلّ. فيفرش حاجاته ومطاليبه كلها امام ذلك الرحيم الذي يملك خزائن الرحمة الواسعة، مستنداً الى قوته المطلقة، فيمتلى عندئذ فرحاً كاملاً وسروراً غامراً.(*)
_________________________
(*) المكتوب العشرون - ص: 291
31-)
بشرى الكلمة السادسة: "يحيى"
باسمه سبحانه
ايها المستخلف المبارك
(لا إله إلاّ الله، وحده، لا شريك له، له الملك، وله الحمد يحيي، ويميت، وهو حي لا يموت، بيده الخير، وهو على كل شئ قدير، وإليه المصير(
بديع الزمان سعيد النورسي يقول:
كل كلمة من كلمات هذا الكلام التوحيدي الرائع تزف بشرى سارة، وتبث املاً دافئاً. وفي كل بشرى شفاء وبلسم.. وفي كل شفاء لذة معنوية وانشراح روحي.
بشرى الكلمة السادسة: "يحيى"
أي: هو الذي يهب الحياة، وهو الذي يديمها بالرزق، وهو المتكفل بكل ضروراتها وحاجاتها، وهو الذي يهيئ لوازمها ومقوماتها. فالغايات السامية للحياة تعود اليه، والنتائج المهمة لها تتوجه اليه، وتسع وتسعون بالمائة من ثمراتها ونتائجها تقصده وترجع اليه.
وهكذا فهذه الكلمة تنادى هذا الانسان الفاني العاجز، وتزجي له البشارة، نافخة فيه روح الأمل، وتقول:
ايها الانسان! لا ترهق نفسك بحمل اعباء الحياة الثقيلة على كاهلك الضعيف، ولا تذهب نفسك حسرات على فناء الحياة وانتهائها. ولا تظهر الندم والتذمر من مجيئك الى الحياة كلما ترى زوال نعيمها وتفاهة ثمراتها.. واعلم ان حياتك التي تعمر وجودك انما تعود الى "الحي القيوم" فهو المتكفل بكل حاجاتها ولوازمها. فهذه الحياة تعود اليه وحده، بغاياتها الوفيرة، ونتائجها الكثيرة. وما أنت الاّ عامل بسيط في سفينة الحياة. فقم بواجبك أحسن قيام، ثم اقبض اجرتك وتمتع بها، وتذكر دائماً: مدى عِظمَ هذه الحياة التي تمخر عباب الوجود، ومدى جلالة فوائدها، وثمراتها، ومدى كرم صاحبها وسعة رحمة مولاها.. تأمل ذلك واسبح في فضاء السرور، واستبشر به خيراً، وادّ شكر ما عليك تجاه مولاك. واعلم بأنك ان إستقمتَ في اعمالك تسجّل في صحيفتها اولاً نتائج سفينة الحياة هذه، فتوهب لك حياة باقية، وتحيا حياة ابدية.(*)
____________________________
(*) المكتوب العشرون - ص: 293
32-)
بشرى الكلمة الثانية: "وحده"
باسمه سبحانه
ايها المستخلف المبارك
( لا إله إلاّ الله، وحده، لا شريك له، له الملك، وله الحمد يحيي، ويميت، وهو حي لا يموت، بيده الخير، وهو على كل شئ قدير، وإليه المصير(
بديع الزمان سعيد النورسي يقول :
كل كلمة من كلمات هذا الكلام التوحيدي الرائع تزف بشرى سارة، وتبث املاً دافئاً. وفي كل بشرى شفاء وبلسم.. وفي كل شفاء لذة معنوية وانشراح روحي.
بشرى الكلمة الثانية: "وحده"
هذه الكلمة تشرق املاً وتزف بشرى سارة كالآتي:
ان روح البشر، وقلبه المرهقين بل الغارقين الى حد الاختناق تحت ضغوط ارتباطات شديدة واواصر متينة مع اغلب انواع الكائنات، يجدان في هذه الكلمة ملجأ اميناً، ينقذهما من تلك المهالك والدوامات. أي أن كلمة "وحده" تقول معنىً:
ان الله واحد أحد، فلا تتعب نفسك - ايها الانسان - بمراجعة الأغيار. ولا تتذلل لهم، فترزح تحت منتهم وأذاهم.. ولا تحني رأسك امامهم وتتملق لهم.. ولا ترهق نفسك فتلهث وراءهم.. ولا تخف منهم وترتعد أزاءهم.. لأن سلطان الكون واحد، وعنده مفاتيح كل شئ، بيده مقود كل شئ، تنحل عقد كل شئ بأمره، وتنفرج كل شدة باذنه.. فان وجدته فقد ملكت كل شئ، وفزت بما تطلبه، ونجوت من أثقال المن والاذى ومن أسر الخوف والوهم.(*)