عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ: «دِينَارٌ أَنْفَقْتَهُ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَدِينَارٌ أَنْفَقْتَهُ فِي رَقَبَةٍ، وَدِينَارٌ تَصَدَّقْتَ بِهِ عَلَى مِسْكِينٍ، وَدِينَارٌ أَنْفَقْتَهُ عَلَى أَهْلِكَ، أَعْظَمُهَا أَجْرًا الَّذِي أَنْفَقْتَهُ عَلَى أَهْلِكَ» رواه مسلم.
وَعَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ قَالَ لَهُ: «وَإِنَّكَ لَنْ تُنْفِقَ نَفَقَةً تَبْتَغِي بِهَا وَجْهَ اللهِ إلَّا أُجِرْت عَلَيْهَا حَتَّى مَا تَجْعَلُ فِي فِي امْرَأَتِك -أَيْ: فِي فَمِهَا-» متفق عليه.
تبلغ العلاقة بين الإنسان وأهله من قرابته وزوجه وولده في الإسلام مبلغًا ساميًا لا يضاهيه دين ولا مذهب ولا عقد اجتماعي في أي حضارة من الحضارات المعاصرة بما فيها الحضارة الغربية، وما تحمل في طياتها من تنظيم للعلاقات الاجتماعية التي تشمل العلاقات القرابية وغير القرابية.
فلا يوجد في دين من الأديان ولا ملة من الملل ولا مذهب من المذاهب أن يصبح ما ينفقه الإنسان على أهله وزوجه هو الكمال الأتم والمقصد الأهم فيما يتعلق بالنفقات؛ فلقد تَفَوَّق هذا الإنفاق على عموم الإنفاق في سبيل الله، إما باعتباره أعلى درجات الإنفاق في سبيل الله أو باعتباره إنفاقًا مقطوعًا في كونه في سبيل الله؛ فقد يرد الخلاف في إنفاق مال هل هو في سبيل الله أم لا؟ ولكن لا يختلف أحد في أن الإنفاق على الأهل والزوجة والأولاد هو إنفاق في سبيل الله.
وحضًّا على هذا النوع من الإنفاق وحثًّا عليه اعتبر ما كان منه أقرب إلى باعث الهوى والنفس أيضًا من الإنفاق الكريم المأجور عليه، وضرب الحديث مثالًا على ذلك بما يجعل الرجل في فم امرأته من الطعام، فهذه الحالة أبعد الأشياء عن الطاعة وأمور الآخرة، ومع ذلك فقد أخبر الشارع بأن ذلك يؤجر عليه بالقصد الجميل، فغير هذه الحالة من وجوه الإنفاق على الأهل أولى بحصول الأجر إذا قصد به وجه الله.
ولقد عمم الإسلام هذا المنحى فيما يتعلق بالعلاقات الاجتماعية عندما وضع تلك القاعدة الكلية "الأقربون أولى بالمعروف"، والتي هي مُؤَيَّدَة بالقرآن والسنة والإجماع.
أما في القرآن: فقوله تعالى: ﴿قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ﴾ [البقرة: 215]، وقوله تعالى: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ﴾ [البقرة: 180].
وأما في السنة: فالأحاديث التي بين أيدينا، وأحاديث أخرى مثل ما جاء من قوله صلى الله عَلَيْهِ وآله وَسلم لأبي طَلْحَة حِين تصدق ببئره -بِيْرُ حَاءَ- الْقَرِيب من مَسْجده صلى الله عَلَيْهِ وآله وَسلم، واستشاره فِيمَن يَجْعَلهَا فَقَالَ: « وَأَرَى أَنْ تَجْعَلَهَا فِي الأَقْرَبِينَ» رَوَاهُ البُخَارِيّ، ومثل ما رواه أصحاب السنن عَنْ سَلْمَانَ بْنِ عَامِرٍ الضَّبِّيِّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ: «الصَّدَقَةُ عَلَى الْمِسْكِينِ صَدَقَةٌ، وَعَلَى ذِي الْقَرَابَةِ اثْنَتَانِ: صَدَقَةٌ وَصِلَةٌ»، وما رواه مسلم عَنْ جَابِرٍ، في وصية رجل مِنْ بَنِي عُذْرَةَ أعتق عَبْدًا لَهُ عَنْ دُبُرٍ: «ابْدَأْ بِنَفْسِكَ فَتَصَدَّقْ عَلَيْهَا، فَإِنْ فَضَلَ شَيْءٌ فَلِأَهْلِكَ، فَإِنْ فَضَلَ عَنْ أَهْلِكَ شَيْءٌ فَلِذِي قَرَابَتِكَ، فَإِنْ فَضَلَ عَنْ ذِي قَرَابَتِكَ شَيْءٌ فَهَكَذَا وَهَكَذَا» يَقُولُ: فَبَيْنَ يَدَيْكَ وَعَنْ يَمِينِكَ وَعَنْ شِمَالِكَ.
ولقد أجمع الفقهاء على أن النفقة والصدقة تكون على الأقرب فالأقرب، ولهم في ذلك ترتيبات بحسب درجة القرابة، مذكورة بتفاصيلها في كتب الفقه.
2-)
لا تظهر بزي الكبير فتصغر
باسمه سبحانه
ايها المستخلف المبارك
لا تظهر بزي الكبير فتصغر
بديع الزمان النورسي في اللوامع يذكر من يتبختر بخيلاء قوله (أنا ) شاعراً في نفسه انه بحجم (نحن ) فيعرفه بميزان تقييم الذوات عله يتنبه الى مرتبته فيعود الى رشده
فيقول :
(( يا من يحمل «أنا» مضاعفاً، ويحمل في رأسه غروراً وكبراً! عليك ان تعرف هذا الميزان!
لكل شخص نافذة يطل منها على المجتمع ـ للرؤية والاراءة ـ تسمى مرتبة. فاذا كانت تلك النافذة أرفع من قامة قيمته، يتطاول بالتكبر. اما اذا كانت أخفض من قامة همته يتواضع بالتحدّب ويتخفض، حتى يشهد في ذلك المستوى ويشاهَد.
ان مقياس العظمة في الكاملين هو التواضع.
اما الناقصون القاصرون فميزان الصُغر فيهم هو التكبر)) (*)
ألم تتذكروا حقول القمح فهي تعطينا مشهداً حقيقياً لمراتب التواضع بتدرج انحناءات سنابلها كلما ثقل وزنها اشتد انحناؤها فدل على غناها بالخير فكأنها تميل الى الارض متواضعةً مستغنيةً عن رؤية الناس لها بل في طريق بحثنا عنها نطأ باقدامنا تلك السنابل المنتصبة متيقنين ان تعاليها بين قريناتها دلالة فراغ جوفها فهي مختالة بنفسها في حين انها لا تحتوي أي فائدة وقد قيل في الشعر ما ذكرناه
فصغار القوم هم من يتطاول ويتعالى بين الجموع المحتشدة فاثبت على قامتك، بل في انحنائك زيادة عون على ثقل هامتك ودخول من كل الابواب .
فزن بذلك هامات الرجال فالمتكبر المتعال ظاهرٌ دنو مقامه فلا يغرن أحد بتطاوله فما تطاول إلا لإنه صغير
***
اللهم صلى افضل صلاتك على أشرف مخلوقاتك سيدنا محمد
وعلى آله وسلم عدد معلوماتك ومداد كلماتك
كلما ذكره الذاكرون
او غفل عن ذكره
الغافلون
___________________________________
(*) الكلمات - اللوامع - ص: 870
3-)
التواضع والتحدث بالنعمة
باسمه سبحانه
ايها المستخلف المبارك
التواضع والتحدث بالنعمة
قال الله تعالى :{ وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ } (1)
وقال: {تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوًا في الأرض ولا فسادًا والعاقبة للمتقين} (2)
وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:[ بينما رجل يمشي في حلُّة تعجبه نفسه مرجِّل جمُّته(3)إذ خَسف الله به فهو يتجلجل(4) إلى يوم القيامة ] (5)
التحدث بنعمة الله تعالى من دواعي شكرها ، ومن إقرار المسلم بفضل الله عليه ، والتَّواضُع هوأن يتجنَّب الإنسان المباهاة بما فيه مِن الفضائل، والمفاخرة بالجاه والمال، وأن يتحرَّز مِن الإعجاب والكِبْر وان يرضى الإنسان بمنزلة دون ما يستحقُّه فضله ومنزلته
يقول بديع الزمان النورسي رسائل النور:
(( اعلم!(6) ان التواضع قد ينافي تحديث النعمة.وقد ينجرُّ تحديثُ النعمة الى الكِبر والغرور، فلا بد من الدقة والامعان وترك الافراط والتفريط.
وللاستقامة ميزان وهو: ان لكل نعمة وجهين:
وجهٌ الى المُنعَم عليه فيزيّنه ويميّزه ويتلذذ به، فيفتخر، فيقع في السُكر فينسى المالك، فيتملك، فيظن الكمال بملكه الذاتي، فيتكبر بما لا حقّ له فيه.
ووجهٌ ينظر الى المنعِم فيظهر كرمه، ويُعلن رحمته، وينادي على انعامه، ويشهد على اسمائه.وهكذا مما يتلو من آيات جلواته في انعامه. فالتواضع انما يكون تواضعاً اذا نظر الى الوجه الاول، والا تضمن كفرانا. وتحديث النعمة انما يكون شكراً معنوياً وممدوحاً اذا نظر الى الوجه الثاني، والا تضمن تمدحا وغروراً..
يا يوسف الكشرى(7) اذا تلبست بلباس فاخر غال لاخيك يوسف الكيشي، فقال لك سعيد: ما احسنك! فقل: الحسن للّباس، لا لي، فتصير متواضعاً في التحديث )).(8)
يقول رسول الله صلى الله عليه وعلى اله وسلم: [ وما تواضع أحدٌ لله إلا رفعه الله](9)
قال النووي : قوله صلى الله عليه وسلم : " وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله " : فيه وجهان : أحدهما : يرفعه في الدنيا , ويثبت له بتواضعه في القلوب منزلة , ويرفعه الله عند الناس , ويجل مكانه .
والثاني : أن المراد ثوابه في الآخرة , ورفعه فيها بتواضعه في الدنيا .
قال العلماء : وقد يكون المراد الوجهين معا في جميعها في الدنيا والآخرة ، والله أعلم.. (10)
اللهم صلِّ أزكى صلاتك على أعبد مخلوقاتك سيدنا محمد
وعلى آله وسلم عدد معلوماتك ومداد كلماتك
كلما ذكرك الذاكرون
او غفل عن ذكرك
الغافلون
______________________________
(1) الضحى : ( 11)
(2) القصص: (83)
(3) مرجل جمته : الترجيل هو تسريح الشعر ودهنه،
والجمة هي الشعر المتدلي من الرأس إلى المنكبين
(4) يتجلجل : ينزل في الأرض مضطرباً متدافعاً .
(5) البخاري ( 5452 ) ومسلم ( 2088 )
(6) المسألة السابعة من المكتوب الثامن والعشرين توضح هذا البحث.
يشير بديع الزمان النورسي في مكتوبه السادس عشر الى كينونة السعادة
(( فلابد ان اسعد انسان هو مَن: لا ينسى الآخرة لأجل الدنيا.. ولا يضحي بآخرته للدنيا.. ولا يفسد حياته الابدية لاجل حياة دنيوية.. ولا يهدر عمره بما لا يعنيه.. ينقاد للأوامر انقياد الضيف للمضيّف. ليفتح باب القبر بأمان.. ويدخل دار السعادة بسلام)).
ثم يقول في الحاشية
(( بناءً على هذه الاسباب لا ابالي بالمظالم التي نزلت بي شخصياً ولا اعير بالاً للمضايقات التي تحيط بي واقول: انها لا تستحق الاهتمام، فلا اتدخل بامور الدنيا )) .(*)
نعم فسيرنا في مزرعة الاخرة لابد ان يشابه حالة الضيف داخل مزرعة يقطف ما يشتهيه لا متلبساً بمشاعر عامل يحصد ليكتنز غيره فدم في اعمارك للارض كونك ضيف تسر بما يقدم اليك من موائد الارزاق فالله استضافك لا ليكون همك الاكتناز لغيرك بل ليكون معبرك لمقر سرورك الابدي واجعل فرحك بدوام استقامة سيرك ملهاتاً عن آلام اشواك تتعثر بها
فإن كنتُ سالكاً لدرب الوصول لا تسكرني مغريات تفوت، ولا تكدرني آلام وإن تدوم .
اللهم صلى افضل صلاتك على اسعد مخلوقاتك سيدنا محمد
وعلى آله وسلم عدد معلوماتك ومداد كلماتك
كلما ذكره الذاكرون
او غفل عن ذكره
الغافلون
_______________________________
(*) المكتوبات ص (89)
5-)
الموت ليس مرعباً كما يُتوهم
باسمه سبحانه
ايها المستخلف المبارك
الموت ليس مرعباً كما يُتوهم
يشير الى ذلك بديع الزمان النورسي في اللوامع من كتابه الكلمات فيقول :
(( الموت تبديل مكان وتحويل موضع وخروج من سجن الى بستان. فليطلب الشهادة من يريد الحياة . والقرآن الكريم ينص على حياة الشهيد.
الشهيد الذي لم يذق ألم السكرات يُعدّ نفسه حياً. وهو يرى نفسه هكذا، الاّ أنه يجد حياته الجديدة نزيهة طاهرة اكثر من قبل، فيعتقد انه لم يمت. والنسبة بين الاموات والشهداء شبيهة بالمثال الآتي:
رجلان يتجولان في الرؤيا في بستان زاهر جامع لأنواع اللذائذ.
احدهما يعرف ان الذي يراه هو رؤيا، لذا لا يستمتع كثيراً، وربما يتحسر. والآخر يظن ان ما يراه في الرؤيا حقيقة في عالم اليقظة فيستمتع ويتلذذ حقيقة.
الرؤيا ظلُ عالم المثال، وعالم المثال ظلُ عالم البرزخ، ومن هنا تتشابه دساتير هذه العوالم )). (*)
ذكر ابن كثير في تفسيره لقوله تعالى {ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون } (1) (( "وقد قال الإمام أبو الحسين مسلم بن الحجاج القشيري في صحيحه : حدثنا محمد بن عبد الله بن نمير ، حدثنا أبو معاوية ، حدثنا الأعمش ، عن عبد الله بن مرة ، عن مسروق قال : سألنا عبد الله عن هذه الآية : ( ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون ) فقال : أما إنا قد سألنا عن ذلك فقال : " أرواحهم في جوف طير خضر لها قناديل معلقة بالعرش ، تسرح من الجنة حيث شاءت ، ثم تأوي إلى تلك القناديل ، فاطلع إليهم ربهم اطلاعة فقال : هل تشتهون شيئا ؟ فقالوا : أي شيء نشتهي ونحن نسرح من الجنة حيث شئنا ؟ "(2)
ثم يذكر بعدها حديث آخر فقال : " وقد روينا في مسند الإمام أحمد حديثا فيه البشارة لكل مؤمن بأن روحه تكون في الجنة تسرح أيضا فيها ، وتأكل من ثمارها ، وترى ما فيها من النضرة والسرور ، وتشاهد ما أعده الله لها من الكرامة ، وهو بإسناد صحيح عزيز عظيم ، اجتمع فيه ثلاثة من الأئمة الأربعة أصحاب المذاهب المتبعة ، فإن الإمام أحمد ، رحمه الله ، رواه عن الإمام محمد بن إدريس الشافعي ، رحمه الله ، عن مالك بن أنس الأصبحي ، رحمه الله ، عن الزهري عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك ، عن أبيه ، رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " نسمة المؤمن طائر يعلق في شجر الجنة ، حتى يرجعه الله إلى جسده يوم يبعثه " قوله : " يعلق " أي : يأكل .
وفي هذا الحديث : " إن روح المؤمن تكون على شكل طائر في الجنة " .
وأما أرواح الشهداء ، فكما تقدم في حواصل طير خضر ، فهي كالكواكب بالنسبة إلى أرواح عموم المؤمنين فإنها تطير بأنفسها")).(3)
وكأن روح المؤمن تتنعم بمشاهدة الجنة بينما الشهيد يتجول بروحه في رياض الجنة
فطوبى لمن مات على الايمان والشهادة فكلا النزلين تخلص للروح من قيود الابدان لتسكن سعادة حياة البرزخ فتقيم في روضة من الجنة الى ان تخلد في تلك الجنان
{ مَن صامَ رمضانَ إيمانًا واحتسابًا غُفِرَ ما تقدَّمَ من ذنبِهِ }
(رواه البخاري:2014)
رسالة رمضان
نكته دقيقة ومسألة لطيفة تبين حكمة من الحكم الكثيرة لصيام شهر رمضان المبارك
ان صيام رمضان من حيث تطلعه لكسب الانسان - الذي جاء الى الدنيا لأجل مزاولة الزراعة الاُخروية وتجارتها - له حكم شتى. الا اننا نذكر واحدة منها هي:
ان ثواب الاعمال في رمضان المبارك يضاعَف الواحدُ الى الالف. ومن المعلوم أن كل حرف من القرآن الحكيم له عشر أثوبة، ويعدّ عشر حسنات، ويجلب عشر ثمار من ثمرات الجنة - كما جاء في الحديث الشريف - ففي رمضان يولّد كل حرف ألفاً من تلك الثمرات الأخروية بدلاً من عشرٍ منها، وكل حرف من حروف آيات - كآية الكرسي - يفتح الباب أمام الالوف من تلك الحسنات لتتدلى في الآخرة ثماراً حقيقية. وتزداد تلك الحسنات باطراد أيام الجُمع في رمضان، وتبلغ الثلاثين ألفاً من الحسنات ليلة القدر.
نعم، ان القرآن الكريم الذي يهب كل حرف منه ثلاثين ألفاً من الثمرات الباقية يكون بمثابة شجرة نورانية - كشجرة طوبى الجنة - بحيث يُغنِم المؤمنين في رمضان المبارك تلك الثمرات الدائمة الباقية التي تعد بالملايين.. تأمل هذه التجارة المقدسة الخالدة المُربِحة وأجل النظر فيها، ثم تدبر في أمر الذين لا يقدّرون قيمة هذه الحروف المقدسة حق قدرها، ما أعظم خسارتهم وما أفدحها؟
وهكذا، فان شهر رمضان المبارك أشبه ما يكون بمعرض رائع للتجارة الاُخروية او هو سوق في غاية الحركة و الربح لتلك التجارة وهو كالارض المنبتة في غاية الخصوبة والغَناء لإنتاج المحاصيل الاُخروية.. وهو كالغيث النازل في نيسان لإنماء الاعمال وبركاتها.. وهو بمثابة مهرجان عظيم وعيد بهيج مقدّس لعرض مراسيم العبودية البشرية تجاه عظمة الربوبية وعزة الالوهية.
لأجل كل ذلك فقد أصبح الانسان مكلَّفاً بالصوم، لئلا يلج في الحاجات الحيوانية، كالأكل والشرب من حاجات النفس بالغفلة، ولكي يتجنب الانغماس في شهوات الهوى وما لا يعنيه من الامور.. وكأنه أصبح بصومه مرآة تعكس (الصمدانية) حيث قد خرج مؤقتاً من الحيوانية ودخل الى وضع مشابهٍ للملائكية، أو أصبح شخصاً اُخروياً وروحاً ظاهرة بالجسد، بدخوله في تجارة اُخروية وتخلّيه عن الحاجات الدنيوية المؤقتة.
نعم، ان رمضان المبارك يكسب الصائم في هذه الدنيا الفانية وفي هذا العمر الزائل وفي هذه الحياة القصيرة عمراً باقياً وحياة سرمدية مديدة، ويتضمن كلها. فيمكن لشهر رمضان واحد فقط أن يمنح الصائم ثمرات عمر يناهز الثمانين سنة. وكون ليلة القدر خيراً من ألف شهر - بنص القرآن الكريم - حجة قاطعة لهذا السر.
فكما يحدد سلطان أياماً معينة في فترة حكمه، أو في كل سنة، سواء باسم تسنمه عرش الحكم أو أي يوم آخر من الايام الزاهرة لدولته، جاعلاً من تلك الايام مناسبات وأعياداً لرعيته، فتراه لا يعامل رعيته الصادقين المستحقين في تلك الايام بالقوانين المعتادة، بل يجعلهم مظهراً لأحسانه وانعامه وأفضاله الخاصة. فيدعوهم الى ديوانه مباشرة دون حجب، ويخصّهم برعايته الخاصة ويحيطهم بكرمه وباجراءاته الاستثنائية، ويجود عليهم بتوجهاته الكريمة.. كذلك القادر الازلي ذو الجلال والاكرام وهو سلطان الازل والابد وهو السلطان الجليل لثمانية عشرألف عالم من العوالم، قد أنزل سبحانه في شهر رمضان أوامره الحكيمة السامية وقرآنه الحكيم المتوجه الى تلك الالوف من العوالم، لذا فان دخول ذلك الشهر المبارك في حكم عيد ومناسبة إلهية خاصة بهيجة، وفي حكم معرض بديع رباني، ومجلس مهيب روحاني، هو من مقتضى الحكمة. فما دام شهر رمضان قد تمثل بتلك المناسبة البهيجة وذلك العيد المفرح فلابد أن يؤمَر فيه بالصوم، ليسمو الناس - الى حدٍ ما - على المشاغل الحيوانية السافلة. فالكمال في ذلك الصوم هو جعل جميع حواس الانسان كالعين والاذن والقلب والخيال والفكر على نوع من الصوم، كما تقوم به المعدة. أي تجنيب الحواس تلك من المحرمات والسفاهات وما لا يعنيها من أمور، وسوقها الى عبودية خاصة لكل منها.
فمثلاً: يروّض الانسان لسانه على الصوم من الكذب والغيبة والعبارات النابية ويمنعه عنها، ويرطب ذلك اللسان بتلاوة القرآن الكريم وذكر الله سبحانه والتسبيح بحمده والصلوات والسلام على الرسول الكريم صلى الله عليه وآله وسلم والاستغفار، وما شابهه من أنواع الاذكار.
ومثلاً: يغض بصره عن المحرمات، ويسد أذنه عن الكلام البذئ، ويدفع عينه الى النظر بعبرةٍ واُذنَه الى سماع الكلام الحق والقرآن الكريم. ويجعل سائر حواسه على نوع من الصيام.
ومن المعلوم أن المعدة التي هي مصنع كبير جداً إن عطّلت أعمالَها بالصيام فان تعطيل المعامل الصغيرة الاخرى يكون سهلاً ميسوراً.(*)
اللّهم صل وسلم على سيدنا محمد صلاةً تكون لك رضاءً ولحقّه أداءً بعدد ثواب حروف القرآن في شهر رمضان وعلى آله وصحبه وسلم.
نكته دقيقة ومسألة لطيفة تبين حكمة من الحكم الكثيرة لصيام شهر رمضان المبارك
ان من الحكم الوفيرة في صيام رمضان المبارك من حيث توجهه الى نزول القرآن الكريم ومن حيث أن شهر رمضان هو أهم زمان لنزوله، نورد حكمة واحدة فقط هي:
لما كان القرآن الكريم قد نزل في شهر رمضان المبارك فلابد من التجرد عن الحاجيات الدنيئة للنفس، ونبذ سفساف الامور وترهاتها استعداداً للقيام باستقبال ذلك الخطاب السماوي استقبالاً طيباً يليق به، وذلك باستحضار وقت نزوله في هذا الشهر والتشبه بحالات روحانية ملائكية؛ بترك الاكل والشرب، والقيام بتلاوة ذلك القرآن الكريم تلاوةً كأن الآيات تتنزل مجدداً ، والاصغاء اليه بهذا الشعور بخشوع كامل، والاستماع الى ما فيه من الخطاب الإلهي للسمو الى نيل مقام رفيع وحالة روحية سامية، كأن القارئ يسمعه من ا لرسول الاكرم صلى الله عليه وآله وسلم، بل شد السمع اليه كأنه يسمعه من جبريل عليه السلام، بل من المتكلم الازلي سبحانه وتعالى، ثم القيام بتبليغ القرآن الكريم وتلاوته للآخرين تبياناً لحكمة من حكم نزوله.
ان العالم الاسلامي في رمضان المبارك يتحول الى ما يشبه المسجد، ويا له من مسجد عظيم تعج كل زاوية من زواياه، بل كل ركن من أركانه، بملايين الحفَّاظ للقرآن الكريم. يرتلون ذلك الخطاب السماوي على مسامع الارضيين، ويظهرون بصورة رائعة براقة مصداق الآية الكريمة: ﴿شَهْرُ رَمضَانَ الَّذى اُنْزِلَ فيهِ الْقرآن..﴾ مثبتين بذلك أن شهر رمضان هو حقاً شهر القرآن. أما الافراد الآخرون من تلك الجماعة العظمى فمنهم من يلقي السمع اليهم بكل خشوع وهيبة، ومنهم من يرتل تلك الآيات الكريمة لنفسه..
ألا ما أقبح وما أزرى الانسلاخ من هذا المسجد المقدس الذي له هذا الوضع المهيب، لهاثاً وراء الاكل والشرب تبعاً لهوى النفس الامارة بالسوء! وكم يكون ذلك الشخص هدفاً لاشمئزاز معنوي من قبل جماعة المسجد؟ وهكذا الامر في الذين يخالفون الصائمين في رمضان المبارك فيصبحون هدفاً لازدراء واهانةٍ معنويين - بتلك الدرجة - من قبل العالم الاسلامي كله.(*)
اللّهم صل وسلم على سيدنا محمد صلاةً تكون لك رضاءً ولحقّه أداءً بعدد ثواب حروف القرآن في شهر رمضان وعلى آله وصحبه وسلم.
نكته دقيقة ومسألة لطيفة تبين حكمة من الحكم الكثيرة لصيام شهر رمضان المبارك
ان حكمة واحدة للصوم من بين حكمه الغزيرة المتوجهة الى الحياة الاجتماعية للانسان هي :
ان الناس قد خُلقوا على صور متباينة من حيث المعيشة، وعليه يدعو الله سبحانه الاغنياءَ لمدّ يد المعاونة لإخوانهم الفقراء. ولا جرم أن الاغنياء لا يستطيعون أن يستشعروا شعوراً كاملاً حالات الفقر الباعثة على الرأفة، ولا يمكنهم أن يحسوا احساساً تاماً بجوعهم، الا من خلال الجوع المتولد من الصوم.. فلولا الصوم لما تمكن كثير من الأغنياء التابعين لاهوائهم أن يدركوا مدى ألم الجوع والفقر ومدى حاجة الفقراء الى الرأفة والرحمة. لذا تصبح الشفقة على بني الجنس - المغروزة في كيان الانسان - هي احدى الاسس الباعثة على الشكر الحقيقي، حيث يمكن أن يجد كل فرد أياً كان مَنْ هو أفقرَ منه من جهة، فهو مكلّف بالاشفاق عليه.
فلو لم يكن هناك اضطرار لإذاقة النفس مرارةَ الجوع، لما قام أحد اصلاً باسداء الاحسان الى الآخرين والذي يتطلبه التعاون المكلّف
به برابطة الشفقة على بني الجنس، وحتى لو قام به لما أتقنه على الوجه الأكمل، ذلك لأنه لا يشعر بتلك الحالة في نفسه شعوراً حقيقياً. (*)
اللّهم صل وسلم على سيدنا محمد صلاةً تكون لك رضاءً ولحقّه أداءً بعدد ثواب حروف القرآن في شهر رمضان وعلى آله وصحبه وسلم.
يذكرنا بديع الزمان النورسي في المثنوي العربي النوري بوظيفتنا التي خلقنا من اجلها فيحذرنا من الانشغال بهموم خواطر مآلات السعي دون الالتزام بوظيفة السعي فنحن مكلفون بوظيفة مخصصة هي السعي في عمارة الارض بكل اشكال العبادة
(( اعلم!(1)ايها السعيد الغافل الفضولي!. انك تترك وظيفتك، وتشتغل بوظيفة ربك. فمن ظلمك وجهلك؛ تركك لوظيفة العبودية الخفيفة التي هي في وسعتك.. وحملك على ظهرك ورأسك وقلبك الضعيف، وظيفة الربوبية التى تختص بمن (خَلَقَكَ فَسَوّيكَ فَعَدَلَكَ _ في اَيّ صُورَةٍ مَاشَاءَ رَكّبَكَ)(2) فالتزم وظيفتك، وفوّض اليه وظيفته لتسعد وتستريح.. وإلاّ صرت عاصياً شقياً وخائناً غوياً. مثلك(3) كمثل نفر عسكر له وظيفة اصلية هي التعليم المخصوص، والحرب والجهاد، والسلطان مُعينُه في هذه الوظيفة باحضار لوازماتها، ولسلطانه وظيفة مخصوصة هي اعطاء ارزاق ذلك النفر وتعييناته ولباسه حتى دوائه.. لكن قد يستخدم النفر في وسائل هذه الوظيفة، لكن بحساب الدولة.
ومن هذا السر اذا قلت لنفر يطبخ طعامه: ماتفعل؟ يقول: افعل سخرةً (وعنقرةً)(4)للدولة، ولا يقول اعمل لرزقي.. لعلمه انه ليس من وظيفته، بل على الدولة حتى ان تدخل اللقمة في فمه، ان لم يقتدر بالمرض مثلا. فالنفر المشتغل بالتجارة لتدارك رزقه جاهلٌ شقيّ يُزيَّف(5) ويؤدّب.. والتارك للتعليم والجهاد خائن عصيّ يُضرَب ويُعنَّف.
فيا سعيد الشقي! انت ذلك النفر، وصلاتك هي تعليماتك. وتقواك - بترك الكبائر ومجاهدتك مع النفس والشيطان - هي حربُك. فهذه هي غاية فطرتك لكن الله هو الموفق المعين.واما رزقك وادامة حياتك وما يتعلق بك من الاموال والاولاد، فهي من وظيفة فاطرك، لكنه قد يستخدمك في وسائل قرع ابواب خزائن رحمته بالسؤال الفعلي او الحالى او القالى، وقد يستعملك في الذهاب في المسالك التى توصلك الى مطابخ نعمته، فتطلب بلسان الاستعداد او الاحتياج او الفعل او الحال او القال ماعَيّن وَقَدّرلك. . فما اجهلك في اتهامك - في حق رزقك - من رزقك اطيب الرزق، وانت طفل صغير بلا اختيار ولا اقتدار ويرزق كل دآبة لا تحمل رزقها وَهُو السميع العليم القدير الغني الذي جعل الارض في الصيف مطبخةً لضيوفه يفيض فيوضه في ظروف الرياض، ويملأ أواني الاشجار بلذيذات الاطعمة.. فاعمل بحسابه وباسمه وباذنه فيما استعملك فيه بعد ايفاء وظيفتك الاصلية..فاذا تعارضا فعليك بوظيفتك فتوكل عليه، وقُلْ: حَسْبِيَ الله ونِعْمَ الوَكيلُ نِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصير.)) (6)
نعم نحن ما خلقنا الا لنسعى بكل اشكال العبادة لخالقنا اما مآلات العبادة ونتائج السعي فليس لنا فيها أي تدبير فبيد الله خالقنا الآمر( بكن )، فيكون تقديرها وتكوينها، فلا يجوز لأي عاقل أن يرضى بالانشغال بما كُفل له ويترك ما وكل إليه لقد خلقنا الله لأمرٍ واحد فقال في كتابه العزيز ( وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون *ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون * إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين ( (7)
أي أنه تعالى خلق العباد ليعبدوه وحده لا شريك له ، فمن أطاعه جازاه أتم الجزاء ، ومن عصاه عذبه أشد العذاب ، وأخبر أنه غير محتاج إليهم ، بل هم الفقراء إليه في جميع أحوالهم ، فهو خالقهم ورازقهم ،وكذلك نبه الى مصير المنشغلين عن ذكره فقال تعالى {وَمَنْ أعرَضَ عن ذكري فإنَّ له معيشةً ضنكًا و نحشُرُهُ يومَ القِيَامةِ أعمى}(8).
وروى الإمام أحمد عن أبي هريرة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم: [ قال الله : " يابن: آدم ، تفرغ لعبادتي أملأ صدرك غنى ، وأسد فقرك ، وإلا تفعل ملأت صدرك شغلا ولم أسد فقرك "](9)
ولقد حذَّرنا النبي - صلى الله عليه وسلم - من أن تتعلق قلوبنا بتحصيل أرزاقنا؛ فننسى الله – تعالى - والدار الآخرة،
عن ابن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :[ليس من عمل يقرب إلى الجنة إلا قد أمرتكم به ولا عمل يقرب إلى النار إلا قد نهيتكم عنه لا يستبطئن أحد منكم رزقه أن جبريل عليه السلام ألقى في روعي أن أحدا منكم لن يخرج من الدنيا حتى يستكمل رزقه فاتقوا الله أيها الناس واجملوا في الطلب فإن استبطأ أحد منكم رزقه فلا يطلبه بمعصية الله فإن الله لا ينال فضله بمعصية ] (10)
فقضية الرزق من حيث الإيمان به جزء مهم من الاعتقاد في الله تعالى، فالله سبحانه تكفل للخلق بالرزق مهما كانوا وأينما كانوا، مسلمين أو كافرين، كبارًا أو صغارًا، رجالا أو نساء، إنسًا وجنا، طيرًا وحيوانا، قويًّا وضعيفًا، عظيمًا وحقيرًا؛ قال تعالى: {وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ}(11).
وخلاصة ما مر ان الله قد خلقك لتعبده بإطاعة أوامره واجتناب نواهيه وهي شاملة لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة ففي كل حركاتك وسكناتك عبادة له ان عرفت ، فانشغل بالعبادة بأداء حق الله الواجب علينا وهو المفروض ونترك المضمون لله فإن الله لا يضيع أهله ولا يخيب ظن عباده به.
اللهم صلِّ أفضل صلاتك على أعبد مخلوقاتك سيدنا محمد
وعلى آله وسلم عدد معلوماتك ومداد كلماتك
كلما ذكرك الذاكرون
او غفل عن ذكرك
الغافلون
___________________________
(1) كتاب الكلمات - الكلمة الخامسة- والدرس السابع من"المدخل الى النور".
(2) الانفطار: (7،8)
(3) هذا المثال موضح في كتاب الكلمات "الكلمة الثانية"
(4) كلمة مستعملة بالتركية اصلها يوناني ، وهي تعني العمل مجاناً من دون رغبة ولا اجرة.
1) قال تعالى :﴿وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ﴾ الذاريات: 56
1)عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الله تعالى : " ياابن آدم تفرغ لعبادتي أملأ صدرك غنى وأسد فقرك وإلا تفعل ملأت صدرك شغلا ولم أسد فقرك" وَأَخْرَجَهُ أَحْمَدُ « الْمُسْنَدُ »(2/358) ، وَابْنُ مَاجَهْ (4107) ، وَابْنُ حِبَّانَ (393) ، وَالْحَاكِمُ (2/481) والترمذي 2468
نكته دقيقة ومسألة لطيفة تبين حكمة من الحكم الكثيرة لصيام شهر رمضان المبارك
ان حكمة من الحكم الكثيرة لصيام رمضان المبارك المتعلقة بالحياة الشخصية للانسان تتلخص بما يأتي:
ان في الصوم نوعاً من أنواع العلاج الناجع للانسان وهو (الحِمية) سواء المادية منها أو المعنوية، فالحِمية ثابتة طباً. إذ إن الانسان كلما سلكت نفسُه سلوكاً طليقاً في الأكل والشرب سبّب له أضراراً مادية في حياته الشخصية. وكذلك الحال في حياته المعنوية،
اذ إنه كلما إلتهم ما يصادفه دون النظر الى ما يحل له ويحرم عليه تسممت حياته المعنوية وفسدت، حتى يصل به الامر ان تستعصي نفسُه على طاعة القلب والروح فلا تخضع لهما. فتأخذ زمامَها بيدها وهي طائشة حرة طليقة، وتسوق الانسانَ الى شهواتها دون أن تكون تحت سيطرة الانسان وتسخيره.
أما في رمضان المبارك فان النفس تعتاد على نوع من الحِمية بوساطة الصوم وتسعى بجد في سبيل التزكية والترويض وتتعلم طاعة الاوامر، فلا تصاب بأمراض ناشئة من امتلاء المعدة المسكينة وادخال الطعام على الطعام. وتكسب قابلية الاصغاء الى الاوامر الواردة من العقل والشريعة. وتتحاشى الوقوع في الحرام بما أخذت من أمر التخلي عن الحلال. وتجدّ في عدم الاخلال بالحياة المعنوية وتكدير صفوها.
ثم أن الاكثرية المطلقة من البشرية يُبتلَون بالجوع في أغلب الاحيان. فهم بحاجة الى ترويض، وذلك بالجوع الذي يعوّد الانسان على الصبر والتحمل. وصيام رمضان هو ترويض وتعويد وصبر على الجوع يدوم خمس عشرة ساعة أو أربعاً وعشرين ساعة لمن فاته السحور. فالصوم اذن علاج ناجع لهلع الانسان وقلة صبره، وعدم تحمله الامور اللذين يضاعفان من مصيبة الانسان وبلاياه.
والمعدة كذلك هي نفسها بمثابة معمل لها عمال وخَدَمَة كثيرون، وهناك في الانسان أجهزة ذات علاقات وارتباطات معها، فان لم تعطَّل النفسُ مشاغلَها وقت النهار مؤقتاً لشهر معين ولم تدعها، فانها تُنسي أولئك العمال والخَدَمَة عباداتهم الخاصة بهم، وتُلهيهم جميعاً بذاتها، وتجعلهم تحت سيطرتها وتحكمها، فتشوش الامر على تلك الاجهزة والحواس وتنغّص عليها بضجيج دواليب ذلك المصنع المعنوي وبدخانه الكثيف، فتصرف أنظار الجميع اليها وتنسيهم وظائفهم السامية مؤقتاً. ومن هنا كان كثير من الاولياء الصالحين يعكفون على ترويض أنفسهم على قليل من الاكل والشرب، ليرقوافي سلّم الكمال.
ولكن بحلول شهر رمضان يدرك أولئك العمال أنهم لم يُخلقوا لأجل ذلك المصنع وحده، بل تتلذذ ايضاً تلك الاجهزة والحواس بلذائذ سامية وتتمتع تمتعاً ملائكياً وروحانياً في رمضان المبارك ويركزون أنظارهم اليها بدلاً من اللهو الهابط لذلك المصنع. لذلك ترى المؤمنين في رمضان المبارك ينالون مختلف الانوار والفيوضات والمسرات المعنوية - كلٌ حسب درجته ومنزلته - فهناك ترقيات كثيرة وفيوضات جمة للقلب والروح والعقل والسر وأمثالها من اللطائف الانسانية في ذلك الشهر المبارك. وعلى الرغم من بكاء المعدة ونحيبها فان تلك اللطائف يضحكن ببراءة ولطف.(*)
اللّهم صل وسلم على سيدنا محمد صلاةً تكون لك رضاءً ولحقّه أداءً بعدد ثواب حروف القرآن في شهر رمضان وعلى آله وصحبه وسلم.
الافتخار شاكرين بمزايا اخوانكم، وتصورها في انفسكم، وعد فضائلهم في ذواتكم.
فهناك اصطلاحات تدور بين المتصوفة أمثال: الفناء في الشيخ، الفناء في الرسول. وانا لست صوفياً، ولكن "الفناء في الاخوان" دستور جميلٌ يناسب مسلكنا ومنهجنا تماماً. اي ان يفنى كل في الاخر، اي ان ينسى كل اخ حسياته النفسانية، ويعيش فكراً مع مزايا اخوانه وفضائلهم.حيث ان اساس مسلكنا ومنهجنا هو "الاخوة" في الله، وان العلاقات التي تربطنا هي الاخوة الحقيقية، وليست علاقة الاب مع الابن ولا علاقة الشيخ مع المريد. وان كان لابد فمجرد العلاقة بالاستاذ. وما دام مسلكنا هو "الخليلية" فمشربنا اذاً "الخلة". والخلة تقتضي صديقاً صدوقاً، ورفيقاً مضحياً، وأخاً شهماً غيوراً.. وأس الاساس لهذه الخلة هو "الاخلاص التام". فمن يقصّر منكم فيه فقد هوى من على برج الخلة العالى، ولربما يتردى في واد سحيق، اذ لا موضع في المنتصف.
نعم!ان الطريق طريقان، فمن يفارقنا الآن في مسلك الاخلاص التام - وهو الجادة الكبرى للقرآن الكريم - فربما يكون من الذين يخدمون الالحاد اعداء القرآن دون ان يشعر.
فالذين دخلوا ميدان خدمة القرآن الكريم المقدسة بوساطة رسائل النور لا يهوون بإذن الله في مثل تلك الهاوية، بل سيمدون النور والاخلاص والايمان قوة. (*)
ينقل لنا بديع الزمان النورسي في المثنوي العربي النوري حقيقة الادب عند الاستماع الى القرآن،
فهل تستحضر كونها رسالة قادمة من أين،
دقق السمع بنبرات من انتقلت حتى وصلتك،
نعم فلنعلم علنا نزداد ادباً
(( اعلم!انك اذا استمعت القرآن فألبس لكلّ نغمةٍ من نغماتهِ المتطوّرة على الحُجُب، والمتنوعة في المراتب الارشادية، والمنصبغة بحسيات الوسائط، من جبرائيل عليه السلام الى من تسمع منه، مايناسبها.
فلك ان تَمُرّ بسمعك من القارئ في مجلسك الى الاستماع من النبيِّ صلى الله عليه وسلم الذي يقرأُه في ذروة شاهق النبوة في مجلس الارض على ابنائها من بني آدم وغيرهم.
ولك ايضاان تستمع من جبرائيل وهو يخاطب النبيَّ في الافق الاعلى "عليهماالصلاة والسلام".
ولك ان تستمع من خلف سبعين الف حجابٍ من المتكلم الأزلي، وهو يتكلم مع النبي في قاب قوسين او ادنى. فألبسْ ان استطعتَ لكلٍّ ما يليقُ به!..)) (*)
رسالة من خالق الكون حاملها ملك مقرب مبلغها اشرف الخلق ونقل بتواتر خيرة كل جيل وها نحن نسمعها ممن طهروا الابدان فأي حلة ادب يناسبنا يا معشر السامعين..
نكته دقيقة ومسألة لطيفة تبين حكمة من الحكم الكثيرة لصيام شهر رمضان المبارك
ان صوم رمضان من حـيث كسرهِ الربوبية المـوهومة للنـفس كسـراً مباشراً ومن ثم تعريفها عبوديتها واظهار عجزها أمامها، فيه حكم كثيرة، منها:
أن النفس لا تريد أن تعرف ربها، بل تريد أن تدعي الربوبية بفرعونية طاغية. فمهما عُذبَت وقُهرت فان عِرق تلك الربوبية الموهومة يظل باقياً فيها. فلا يتحطم ذلك العرق ولا يركع الا أمام سلطان الجوع.
وهكذا، فصيام رمضان المبارك ينزل ضربة قاضية مباشرة على الناحية الفرعونية للنفس. فيكسر شوكتها مُظهراً لها عجزها، وضعفها، وفقرها، ويعرّفها عبوديتها.
وقد جاء في احدى روايات الحديث: ان الله سبحانه قال للنفس: (مَن أنا وما أنتِ؟) أجابت النفس: (أنا أنا، أنت أنت) فعذّبها الربُ سبحانه وألقاها في جهنم، ثم سألها مرة أخرى فأجابت: (أنا أنا، أنت أنت) ومهما أذاقها من صنوف العذاب لم تردع عن أنانيتها.. ثم عذبها الله تعالى بالجوع، أي تركها جائعة، ثم سألها مرة أخرى: من أنا وما أنتِ؟ فأجابت النفس: أنتَ ربيِ الرحيم وأنا عبدُك العاجز.(*)
اللّهم صل وسلم على سيدنا محمد صلاةً تكون لك رضاءً ولحقّه أداءً بعدد ثواب حروف القرآن في شهر رمضان وعلى آله وصحبه وسلم.
﴿سُبحانَ ربّكَ رَبِّ العِزَّةِ عمَّا يَصفون* وسلامٌ على المُرسَلين *
نكته دقيقة ومسألة لطيفة تبين حكمة من الحكم الكثيرة لصيام شهر رمضان المبارك
ان هـناك حكماً عدة يتوجه بها صيامُ رمضان المـبارك بالشكـر على النعَم التي أسبغها الباري علينا، احداها:
أن الأطعمة التي يأتي بها خادمٌ من مطبخ سلطانٍ لها ثمنُها - كما ذُكر في الكلمة الاولى – (1) ويُعدّ من البلاهة توهّم الاطعمة النفيسة تافهةً غير ذات قيمة، وعدمُ معرفة مُنعمها الحقيقي، في الوقت الذي تُمنح الخادم هبات وعطايا لأجلها. وكذلك الاطعمة والنعم غير المعدودة التي بثّها الله سبحانه في وجه الارض فانه يطلب منّا حتماً ثمنَها، ألا وهو القيام بالشكر له تجاه تلك النِعم. والاسباب الظاهرية التي تُحمل عليها تلك النعم وأصحابها الظاهرون هم بمثابة خَدَمة لها، فنحن ندفع الخدام ما يستحقونه من الثمن ونظل تحت فضلهم ومنتهم بل نبدي لهم من التوقير والشكر اكثر مما يستحقونه والحال أن المنعم الحقيقي سبحانه يستحق - ببثّه تلك النِعَم - أن نقّدم له غاية الشكر والحمد، ومنتهى الامتنان والرضا، وهو الأهلُ لكل ذلك، بل أكثر. اذن فتقديم الشكرلله سبحانه واظهار الرضا ازاء تلك النعم انما يكون بمعرفة صدور تلك النعم والآلاء منه مباشرة.. وبتقدير قيمتها.. وبشعور الحاجة اليها.
لذا فان صيام رمضان المبارك لهو مفتاح شكر حقيقي خالص، وحمدٍ عظيم عام لله سبحانه. وذلك لأن أغلب الناس لا يدركون قيمة نِعَمٍ كثيرة - غير مضطرين إليها في سائر الاوقات - لعدم تعرّضهم لقساوة الجوع الحقيقي وأوضاره. فلا يُدرِك - مثلاً ـ درجةَ النعمة الكامنة في كسرة خبز يابس أولئك المتخمون بالشبع، وبخاصة إن كانوا أثرياء منعّمين، بينما يدركها المؤمن عند الافطار أنها نعمة إلهية ثمينة، وتشهد على ذلك قوته الذائقة. لذا ينال الصائمون في رمضان - ابتداءاً من السلطان وانتهاء بأفقر فقير - شكراً معنوياً لله تعالى منبعثاً من ادراكهم قيمةَ تلك النعم العظيمة. أما امتناع الانسان عن تناول الاطعمة نهاراً فانه يجعله يتوصل الى ان يدرك بأنها نعمةٌ حقاً، اذ يخاطب نفسه قائلاً:
(ان هذه النِعم ليست مُلكاً لي، فأنا لست حراً في تناولها، فهي اذن تعود الى واحد آخر، وهي أصلاً من إنعامه وكَرَمه علينا، وانا الآن في انتظار أمره).. وبهذا يكون قد أدى شكراً معنوياً حيال تلك النعم.
وبهذه الصورة يصبح الصوم في حكم مفتاح للشكر من جهات شتى، ذلك الشكر الذي هو الوظيفة الحقيقية للانسان.(*)
اللّهم صل وسلم على سيدنا محمد صلاةً تكون لك رضاءً ولحقّه أداءً بعدد ثواب حروف القرآن في شهر رمضان وعلى آله وصحبه وسلم.
﴿سُبحانَ ربّكَ رَبِّ العِزَّةِ عمَّا يَصفون* وسلامٌ على المُرسَلين *
يحصل الصناعيون واهل الحرف على الانتاج الوفير وعلى ثروة هائلة نتيجة اتباعهم قاعدة "المشاركة في الصنعة والمهارة". واليك المثال:
قام عشرة من صناعي ابر الخياطة بعملهم، كل على انفراد، فكانت النتيجة ثلاث ابر فقط لكل منهم في اليوم الواحد.. ثم اتفق هؤلاء الاشخاص حسب قاعدة "توحيد المساعي وتوزيع الاعمال" فأتى احدهم بالحديد والاخر بالنار، وقام الثالث بثقب الابرة والاخر ادخالها النار والاخر بدأ يحدها.. وهكذا.فلم يذهب وقت احد سدى، حيث انصرف كل منهم الى عمل معين وانجزه بسرعة، لانه عمل جزئي بسيط اولاً ولاكتسابه الخبرة والمهارة فيه ثانياً. وحينما وزعوا حصيلة جهودهم رأوا ان نصيب كل منهم في يوم واحد ثلاثمائة ابرة بدلاً من ثلاث ابر.. فذهبت هذه الحادثة انشودة يترنم بها اهل الصناعة والحرف، الذين يدعون الى توحيد المساعي وتوزيع الاعمال.
فيا اخوتي! ما دامت تحصل مثل هذه الفوائد العظيمة نتيجة الاتحاد والاتفاق في امور دنيوية وفي مواد كثيفة، فكم يكون يا ترى ثواب اعمال اخروية ونورانية! وكم يكون الثواب المنعكس من اعمال الجماعة كلها بالفضل الإلهي في مرآة كل فرد منها!
تلك الاعمال التي لا تحتاج الى تجزئة ولا انقسام. فلكم ان تقدروا ذلك الربح العظيم..فإن مثل هذا الربـح العظيم لا يُفوّت بالحـسد وعدم الاخلاص..! (*)
{وقضى ربُّك الاّ تعبدُوا الاّ ايّاهُ وبالوالِدَين إحساناً إمّا يَبْلُغَنّ عِنْدَكَ الكِبَرَ اَحَدُهما أو كلاهما فلا تَقُلْ لَهُما اُفٍّ ولا تَنْهَرهُما وَقُل لهما قولاً كريماً * واخفض لهما جناح الذلِّ من الرحمة وقل ربِّ ارحمهما كما ربَّياني صغيراً * ربُّكُم أعلمُ بما في نفوسِكُمْ ان تكونوا صالحين فانه كان للأوابين غفوراً} (الاسراء:23ـ25)
ايها الغافل، ويا من يسكن في بيته أب شيخ، او أم عجوز، او احد من ذوى قرباه، او اخ في الدين مقعد، او شخص عاجز عليل.. انظر الى هذه الاية الكريمة بدقة وامعان، انظر كيف ان آية واحدة تجلب للوالدين العجوزين خمسة انواع من الرحمة بصور مختلفة واشكال متعددة؟ نعم، ان اسمى حقيقة في الدنيا هي شفقة الامهات والآباء حيال اولادهم، وان أعلى الحقوق كذلك هو حق احترامهم مقابل تلك الشفقة والرأفة؛ ذلك لأنهم يضحّون بحياتهم فدىً لحياة اولادهم بكل لذة وسعادة. ولذلك فان كل ولد ـ ان لم تسقط انسانيته ولم ينقلب بعد الى وحش ـ لا بد ان يوقّر باخلاص اولئك الاحبة المحترمين، المضحين الصادقين ويقوم بخدمتهم خدمة صادقة، ويسعى لنيل رضاهم وادخال البهجة في قلوبهم. ان العم والعمة هما في حكم الاب، وان الخالة والخال في حكم الام. فاعلم ما اشد انعداماً للضمير
استثقال وجود هؤلاء الشيوخ الميامين واسترغاب موتهم! بل ما أشده من دناءة ووضاعة بالمرّة. اعلم هذا..واصحَ!
أجل افهم، ما اقذره من ظلم وما افظعه من انعدام للضمير ان يتمنى متمنٍ زوال الذي ضحى بحياته كلها في سبيل حياته هو!
ايها الانسان المبتلى بهموم العيش! اعلم ان عمود بركة بيتك ووسيلة الرحمة فيه، ودفع المصيبة عنه، انما هو ذلك الشيخ، او ذلك الاعمى من اقربائك الذي تستثقله. لا تقل ابداً: ان معيشتى ضنك، لا استطيع المداراة فيها!.. ذلك لانه لو لم تكن البركة المقبلة من وجوه اولئك، لكان ضنك معيشتك اكثر قطعاً. فخذ مني هذه الحقيقة، وصدّقها، فانني اعرف لها كثيراً من الادلة القاطعة، واستطيع ان احملك على التصديق بها كذلك. ولكن، لئلا يطول الامر فانني اوجزها. كن واثقاً جداً من كلامي هذا. أقسم بالله ان هذه الحقيقة هي في منتهى القطعية، حتى ان نفسي وشيطاني ايضاً قد استسلما امامها. فلا غرو ان الحقيقة التي اغاظت شيطاني واسكتته وحطمت عناد نفسي الامارة بالسوء لا بد انها تستطيع ان تقنعك ايضاً.
أجل؛ ان الخالق ذا الجلال والاكرام الذي هو الرحمن الرحيم وهو اللطيف الكريم ـ بشهادة ما في الكون اجمع ـ حينما يرسل الاطفال الى الدنيا فانه يرسل ارزاقهم عقبهم مباشرة في منتهى اللطف؛ كانقذاف ما في الاثداء وتفجيره كالينابيع الى افواههم، كذلك فان ارزاق العجزة ـ الذين دخلوا في عداد الاطفال بل هم احق بالمرحمة واحوج الى الرأفة ـ يرسلها لهم سبحانه وتعالى بصورة بَرَكَة، ولا يحمّل الاشحاء من الناس اعاشة هؤلاء ولا يدعها لهم. فالحقيقة التي تفيدها الايات الكريمة:{انّ الله هو الرزّاق ذو القوةِ المتين}(الذاريات :58).{وكأيّن من دابّةٍ لا تحمِلُ رِزقَها الله يرزُقها واياكم وهو السميع العليم }.(العنكبوت:60) حقيقة ذات كرم ينطق بها وينادى بلسان حال جميع المخلوقات المتنوعة من الاحياء. وليس الشيوخ الاقرباء وحدهم يأتيهم رزقهم رغداً بصورة بركة بل رزق حتى بعض المخلوقات التي وهبت لمصاحبة الانسان وصداقته كأمثال القطط. فان ارزاقها ترسل ضمن رزق الانسان، وتأتي بصورة بركة ايضاً. ومما يؤيد هذا، ما شاهدته بنفسي من مثال، هو:كانت لي حصة من الغذاء كل يوم ـ كما يعلم احبائي القريبون ـ قبل سنتين او ثلاث وهي نصف رغيف، وكان رغيف تلك القرية صغيراً، وكثيراً ما كان لا
يكفيني.. ثم جاءني أربع قطط ضيوفاً، وقد كفاني ذلك الغذاء وكفاهم. بل غالباً كانت تبقى منه فضلة وزيادة.
هذه الحالة قد تكررت عندي بحيث اعطتني قناعة تامة من أننى انا الذي كنت استفيد من بركات تلك القطط!وأنا اعلن اعلاناً قاطعاً الان ان تلك القطط ما كانت حملاً ولا عبئاً عليّ ولم تكن تبقى تحت منتي، وانما انا الذي كنت ابقى تحت منّتها.
ايها الانسان! ان حيواناً شبه مفترس يأتي ضيفاً الى بيت يكون محوراً للبركة، فكيف اذا حلّ في البيت من هو اكرم المخلوقات وهو الانسان؟ ومن هو اكملهم من بين الناس وهو المؤمن؟ ومن هو من العجزة والمعلولين المعمرين من بين اهل الايمان؟ ومن هو اكثر أهلاً للخدمة والمحبة من بين المعلولين والمعمّرين وأولى من يستحقونها وهم الاقربون؟ ومن هم اخلص صديق واصدق محب من بين هؤلاء الاقربين وهم الوالدان؟! كيف بهم اذا حلوا في البيت. فلك ان تقيس، ما اعظمها من وسيلة للبركة، ومن وساطة لجلب الرحمة ومن سبب لدفع المصيبة، كما يتضمنه معنى الحديث الشريف: لولا الشيوخ الركع لصبّ عليكم البلاء صباً.(1)
اذن ايها الانسان: تأمل .. واعتبر واعلم انك ان لم تمت فلا مناص من ان تصير شيخاً عجوزاً، فان لم تحترم والديك، فسيأتي عليك يوم لا يوقرك اولادك ولن يحترموك، وذلك بما اودع الله من سر في " الجزاء من جنس العمل". لذا.. ان كنت محباً لآخرتك فدونك كنزٌ عظيم الا وهو: اخدمهما ونل رضاهما. وان كنت تحب الدنيا فارضهما كذلك واشكر لهما. حتى تمضي حياتك براحة، وحتى يأتي رزقك ببركة من ورائهم.
والاّ .. فان استثقال هؤلاء وتمني موتهم وتجريح قلوبهم الرقيقة الحساسة يجعلك ممن تنطبق عليه حقيقة الاية الكريمة (خسر الدنيا والاخرة).
واذا كنت تريد رحمة الرحمن الرحيم فارحم ودائع ذلك الرحمن، وما استودعك في بيتك من أمانات.
كان لي اخ من اخوان الاخرة وهو "مصطفى جاووش"(2) وكنت أراه موفقاً في دينه ودنياه معاً. ولم اكن اعرف السر. ثم علمت سبب ذلك التوفيق وهو: ان هذا الرجل الصالح كان قد علم حقوق امه وابيه، وانه راعى تلك الحقوق حق رعايتها. فكان ان وجد الراحة والرحمة ببركة وجوههم. وارجو ان يكون قد عمّر آخرته كذلك ان شاء الله. فمن اراد ان يكون سعيداً فليقتد به، وليكن مثله.
(1) (لولا عباد لله ركّع وصبية رضّع وبهائم رتّع لصبّ عليكم البلاء - وفي رواية العذاب -صباً رواه الطيالسي والطبراني وابن منده وابن عدى وغيرهم عن ابي هريرة رفعه… ورواه السيوطي في الجامع الصغير - الحديث نفسه -ثم رُصّ رصّاً، قال المناوي نقلاً عن الهيثمي 10/ 227. وهو ضعيف. (باختصار عن كشف الخفاء 2/163) - المترجم.
(2) مصطفى جاووش: اسمه الحقيقي خلوصي مصطفى ولد سنة 1882، خدم الاستاذ النورسي في بارلا وتوفي في شباط سنة 1939 عن سبعة وخمسين سنة من العمر. - المترجم.
(3) حديث (الجنة تحت اقدام الامهات): عزاه السيوطي في الجامع الصغير (3642) الى القضاعي والخطيب في الجامع وقال الحاكم صحيح الاسناد ووافقه الذهبي وأقره المنذري إلاّ أنه ضُعف بهذا اللفظ. انظر ضعيف الجامع الصغير وزيادته (2665) وكشف الخفاء(1/335). قلت: ويغني عنه مايلي:
عن معاوية جاهمة رضي ا عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليهوسلم"الزم رجلها فثمَّ الجنة". حسن : في صحيح الجامع الصغير وزيادته(1259): رواه ابن ماجة قال المحقق: حسن.
وعن جاهمة رضي الله عنه قال : قال رسول الله "الزمها فان الجنة تحت اقدامه" يعني الوالدة. حسن: في صحيح الجامع الصغير وزيادته (1260) رواه أحمد والنسائي قال المحقق: حسن. وانظر كنـز العمال 16/461والديلمي مسند الفردوس 2/116
(*) المكتوب الحادي والعشرون - ص: 335
17-)
المتوكل والغير متوكل
باسمه سبحانه
ايها المستخلف المبارك
ان مَثلَ المتوكلِ على الله وغيرَ المتوكل كَمثَلِ رجلَين قاما بحمل اعباءٍ ثقيلةٍ حُمّلت على رأسهما وعاتقهما، فقطعا التذاكر وصعدا سفينةً عظيمةً، فوضعَ احدهُما ما على كاهِله حالما دخل السفينة وجلسَ عليه يرقُبُه أما الآخرُ فلم يفعل مثلَه لحماقته وغروره، فقيل له:
((ضع عنك حملكَ الثقيل لترتاح من عنائك؟)). فقال:
((كلا، اني لست فاعلاً ذاك مخافة الضياع، فانا على قوةٍ لا أعبأُ بحملي، وسأحتفظ بما أملُكه فوقَ رأسي وعلى ظهري)). فقيل له ثانية:
((ولكن أيها الأخ إنّ هذه السفينةَ السلطانية الأمينةَ التي تأوينا وتجري بنا هي أقوى وأصلبُ عوداً منا جميعاً. وبامكانها الحفاظُ علينا وعلى أمتعتنا اكثرَ مِن أنفسنا، فربما يُغمى عليك فتهوي بنفسِك وأمتعتك في البحر، فضلاً عن انك تفقُد قوتَك رويداً رويداً، فكاهلُك الهزيل هذا وهامتُك الخرقاء هذه لن يَسَعهما بعدُ حملُ هذه الأعباء التي تتزايد رَهَقاً، واذا رآك ربّان السفينة على هذه الحالة فسيظنك مصاباً بَمسٍ من الجنون وفاقداً للوعي، فيطرُدُك ويقذِفُ بكَ خارجاً، أو يأمرُ بإلقاء القبضِ عليك ويُودِعك السجن قائلاً: ان هذا خائنٌ يتهم سفينَتَنا ويستهزئُ بنا، وستُصبح أضحوكةً للناس، لأنك باظهارك التكبّر الذي يُخفي ضعف - كما يراه أهلُ البصائر - وبغرورِك الذي يحمل عَجزاً، وبتصنّعك الذي يُبطن رياءً وذلة، قد جعلتَ من نفسك اُضحوكةً ومهزلةً. ألا ترى ان الكل باتوا يضحكون منك ويستصغرونك..! وبعد ما سمع كلَّ هذا الكلام عاد ذلك المسكينُ الى صوابه فوضع حِملَه على أرضِ السفينة وجلسَ عليه وقال:
الحمد للّه... ليرضَ الله عنك كل الرضا فلقد أنقذتَني من التعب والهوان ومن السجن والسخرية)).
فيا أيها الانسان البعيدُ عن التوكل! ارجع الى صوابك وعُد الى رُشدك كهذا الرجل وتوكّل على الله لتتخلص من الحاجة والتسوّل من الكائنات، ولتنجوَ من الإرتعاد والهلع أمام الحادثات، ولتنقذَ نفسَك من الرياء والاستهزاء ومن الشقاء الابدي ومن أغلال مضايقات الدنيا.(*)
________________
(*) كليات رسائل النور - الكلمات الكلمة الثالثة والعشرون - ص: 353
18-)
الصوم إظهار للربوبية
بِسْمِ الله الرَّحْمنِ الرَّحيمِ
﴿شهْرُ رَمضَانَ الَّذى اُنْزِلَ فيهِ القرآن هُدىً للِنَّاسِ
نكته دقيقة ومسألة لطيفة تبين حكمة من الحكم الكثيرة لصيام شهر رمضان المبارك
أن صيام شهر رمضان يأتي بين أوائل الاركان الخمسة للاسلام، ويُعدّ من أعاظم الشعائر الاسلامية.
ان أكثر الحكم المتمخضة عن صوم رمضان تتوجّه الى إظهار ربوبية الحق تبارك وتعالى، كما تتوجّه الى حياة الانسان الاجتماعية والى حياته الشخصية، وتتوجه أيضاً الى تربية النفس وتزكيتها، والى القيام بالشكر تجاه النِعَم الإلهية.
نذكر حكمةً واحدة من بين الحِكم الكثيرة جداً من حيث تجلي ربوبية الحق تبارك وتعالى من خلال الصوم وهي:
ان الله سبحانه وتعالى قد خلق وجهَ الأرض مائدةً ممتدة عامرة بالنِعم التي لا يحصرها العد، وأعدها اعداداً بديعاً من حيث لا يحتسبه الانسان. فهو سبحانه يبيّن بهذا الوضع، كمالَ ربوبيته ورحمانيتَهورحيميته. بيد أن الانسان لا يبصر تماماً - تحت حجاب الغفلة وضمن ستائر الاسباب - الحقيقة الباهرةَ التي يفيدها ويعبّر عنها هذا الوضع، وقد ينساها.. أما في رمضان المبارك فالمؤمنون يصبحون فوراً في حكم جيش منظــّم، يتقلدون جميعاً وشاح العبودية لله، ويكونون في وضعٍ متأهب قُبيل الافطار لتلبية أمر القادر الازلي: (تفضّلوا) الى مائدة ضيافته الكريمة.. فيقابلون - بوضعهم هذا - تلك الرحمة الجليلة الكلّية بعبودية واسعة منظمة عظيمة.. تُرى هل يستحق اولئك الذين لم يشتركوا في مثل هذه العبودية السامية، وفي مثل هذه الكرامة الرفيعة أن يُطلق عليهم اسم الانسان؟ (*)
اللّهم صل وسلم على سيدنا محمد صلاةً تكون لك رضاءً ولحقّه أداءً بعدد ثواب حروف القرآن في شهر رمضان وعلى آله وصحبه وسلم.
المبالغة تشوِّش الأمورَ وتبلبلها،لأن من ســجايا البشر مزجَ الخيال بالحقيقة بميل إلى الاســتزادة في الكلام فيما التذّ به، والرغبةَ في إطلاق الكلام جزافاً فيما يصف، والانجذابَ إلى المبالغة فيما يحكى. وبهذه السجية السيئة يكون الإحسانُ كالإفساد، ومن حيث لا يعلم يتولد النقصان من حيث يزيد، وينجم الفساد من حيث يُصلح، وينشأ الذم من حيث يمدح، ويتولد القبح من حيث يحسن.. وذلك لإخلاله -من حيث لا يشعر- بالحُسن الناشئ من الانسجام والموازنة (في المقاصد).
فكما أن الاستزادة من دواء شاف قلبٌ له إلى داء؛ كذلك المبالِغون في الترغيب والترهيب، المستغنِي عنهما الحقُ؛ كجعل الغيبة كالقتل، أو إظهار التبول وقوفاً بدرجة الزنا، أو التصدق بدرهم مكافئا لحَجَّة... وأمثالها من الكلمات غير الموزونة التي يُطلقها المبالِغون... إنما يستخفون بالزنا والقتل ويهوّنون شأن الحج.
فبناءً على هذا لا بد أن يكون الواعظُ حكيماً، وذا دراية بالمحاكمات العقلية.
نعم، إن الوعاظ الذين لا يملكون موازين، ويطلقون كلامَهم جزافاً، قد سببوا حَجْبَ كثير من حقائق الدين النيّرة.
فمثلاً: الزيادة التي زيدت في معجزة انشقاق القمر الباهرة بالمبالغة في الكلام، وهي أن القمر قد نزل من السماء ودخل تحت إبط الرسول ثم رجع إلى السماء... هذه الزيادة، جعلت تلك المعجزة الباهرة كالشمس، مَخفيةً كنجم السهى، وجعلت ذلك البرهان للنبوة الذي هو كالقمر مخسوفاً، وفَتحت أبواب حجج تافهة للمنكرين.
حاصل الكلام: يجب على كل محبٍّ للدين وعاشق للحقيقة: الاطمئنانُ بقيمة كل شيء وعدمُ إطلاق الكلام جزافاً وعدمُ التجاوز؛ إذ المبالغةُ افتراء على القدرة الإلهية، وهي فقدان الثقة بالكمال والحسن في العالم واستخفاف بهما واللذين ألجأ الإمامَ الغزالي إلى القول: "ليس في الإمكان أبدع مما كان".
أيها السيد المخاطب! قد يؤدي التمثيلُ أيضاً ما يؤديه البرهانُ من عمل؛
فكما أن لكل من الألماس والذهب والفضة والرصاص والحديد قيمتَها الخاصة، وخاصيتها الخاصة بها، وهذه الخواص تختلف، والقيَم تتفاوت... كذلك مقاصد الدين تتفاوت من حيث القيمة والأدلة. فإن كان موضع أحدها الخيال، فموضع الآخر الوجدان والآخر في سر الأسرار. إنّ من يعطي جوهرة أو ليرة ذهبية في موضع فلس أو عشر بارات، يُحجَر عليه لسفَهه، ويُمنع من التصرف في أمواله. وإذا انعكست القضية فلا يُسمع إلاّ كلماتُ الاستهزاء والاستخفاف؛ إذ بدلاً من أن يكون تاجراً صار محتالاً يُسخَر منه. كذلك الأمر في من لا يميز الحقائق الدينية ولا يعطي لكل منها ما يستحقه من حق واعتبار، ولا يعرف سكة الشريعة وعلامتَها في كل حكم. كلُّ حُكم شبيهٌ بجزء من ترس يدور على محوره لمعمل عظيم. فالذين لا يميزون يعرقلون تلك الحركة، مثَلُهم في هذا كمثل جاهل شاهَد ترساً صغيراً لطيفاً في ماكنة جسيمة، وحاول الإصلاح وتغيير ذلك الوضع المتناسق. ولكن لعدم رؤيته الانسجام الحاصل بين حركة الترس الصغير والماكنة الكبيرة وجهلِه بعلم المكائن، فضلاً عن غرور النفس الذي يغريه ويخدعه بنظره السطحي؛ تراه يخلّ بنظام المعمل من حيث لا يشعر ويكون وبالاً على نفسه.
زبدة الكلام: إن الشارع سبحانه وتعالى قد وضع سكته وختمَه المعتمد على كل حكم من أحكام الشرع. ولابد من قراءة تلك السكة والختم. فذلك الحكم مستغن عن كل شيء سوى قيمته وسكته. فهو في غنىً عن تزيينِ وتصرف الذين يلهثون وراء المبالِغين والمغالين والمنمقين للّفظ. وليعلَم هؤلاء الذين يطلقون الكلام جزافاً، كم يكونون ممقوتين في نظر الحقيقة في نصحهم الآخرين. فمثلاً: لم يكتف أحدهم بالزجر الشرعي لتنفير الناس عن المسكِرات فقال كلاماً أمام جمع غفير من الناس أخجلُ من كتابته، وقد شطبته بعد كتابته.
فيا هذا! إنك بكلامك هذا تعادي الشريعة! وحتى إن كنتَ صَديقاً فلا تكون إلاّ صديقاً أحمق، وأضرّ على الدين من عدوه.
خاتمة:
أيها الظالمون الذين يحاولون جرحَ الإسلام ونقده من بعيد، من الخارج! زِنوا الأمور بالمحاكمة العقلية. ولا تنخدعوا ولا تكتفوا بالنظر السطحي؛ فهؤلاء الذين أصبحوا سبباً لأعذاركم الواهية -في نقد الإسلام- يسمَّون بلسان الشريعة "علماء السوء". فانظروا إلى ما وراء الحجاب الذي ولّده عدم موازنتهم الأمور، وتعلقُهم الشديد بالظاهر، سترون أن كل حقيقة من حقائق الإسلام برهان نيّر كالنجم الساطع، يتلألأ عليه نقشُ الأزل والأبد.
نعم، إن الذي نزل من الكلام الأزلي يمضي إلى الأبد والخلود. ولكن -يا للأسف- يلقي أحدُهم ذنوبه على الآخرين ليبرئ نفسه، وما ذلك إلاّ مِن حبه لها وانحيازه إليها ومن عجزه وأنانيته وغروره. وهكذا يُسنِد كلامَه الذي يحتمل الخطأ أو فعله القابل للخطأ إلى شخص معروف، أو إلى كتاب موثوق، بل حتى أحياناً إلى الدين، وغالباً إلى الحديث الشريف، وفي نهاية المطاف إلى القدر الإلهي، وما يريد بهذا إلاّ تبرئة نفسه.
حاش لله ثم حاشَ لله! فلا يَرِدُ الظلامُ من النور. وحتى لو ستر النجومَ المشاهَدة في مرآته لا يستطيع ستر نجوم السماء، بل هو العاجز عن الرؤية والإبصار.
أيها السيد المعترض! إنه ظلم فاضح جعلُ الشبهات الناشئة من سوء فهم الإسلام، والأحوال المضطربة الناشئة من مخالفة الشريعة، ذريعةً لتلويث الإسلام... وما هذا إلاّ كالعدو الذي يتذرع لأي سبب كان للانتقام والثأر، أو مثل الطفل الذي يروم البكاء لأتفه سبب. إذ إن كل صفة من صفات المسلم لا يلزم أن تكون ناشئة من الإسلام.(*)
نكته دقيقة ومسألة لطيفة تبين حكمة من الحكم الكثيرة لصيام شهر رمضان المبارك
ان لصوم رمـضان حكماً كثيرة من حيـث توجـهه الى تهـذيب النفس الامارة بالسوء، وتقويم أخلاقها وجعلها تتخلى عن تصرفاتها العشوائية. نذكر منها حكمة واحدة:
أن النفس الانسانية تنسى ذاتها بالغفلة، ولا ترى ما في ماهيتها من عجز غيرمحدود، ومن فقر لا يتناهى، ومن تقصيرات بالغة، بل لا تريد أن ترى هذه الامورالكامنة في ماهيتها، فلا تفكر في غاية ضعفها ومدى تعرضها للزوال ومدى استهداف المصائب لها، كما تنسى كونها من لحم وعظم يتحللان ويفسدان بسرعة، فتتصرف واهمة كأن وجودها من فولاذ وأنها منزّهة عن الموت والزوال، وأنها خالدة أبدية، فتراها تنقضّ على الدنيا وترمي نفسها في أحضانها حاملة حرصاً شديداً وطمعاً هائلاً وترتبط بعلاقة حميمة ومحبة عارمة معها، وتشد قبضتها على كل ما هو لذيذ ومفيد، ومن ثم تنسى خالقها الذي يربيّها بكمال الشفقة والرأفة فتهوي في هاوية الاخلاق الردئية ناسية عاقبة أمرها وعقبى حياتها وحياة اُخراها.
ولكن صوم رمضان يُشعر أشد الناس غفلة وأعتاهم تمرداً بضعفهم وعجزهم وفقرهم، فبوساطة الجوع يفكر كلُّ منهم في نفسه وفي معدته الخاوية ويدرك الحاجة التي في معدته فيتذكر مدى ضعفه، ومدى حاجته الى الرحمة الإلهية ورأفتها، فيشعر في أعماقه توقاً الى طرق بابِ المغفرة الربانية بعجز كامل وفقر ظاهرمتخلياً عن فرعنة النفس متهيئاً بذلك لطرقِ باب الرحمة الإلهية بيد الشكر المعنوي (ان لم تفسد الغفلة بصيرته).(*)
اللّهم صل وسلم على سيدنا محمد صلاةً تكون لك رضاءً ولحقّه أداءً بعدد ثواب حروف القرآن في شهر رمضان وعلى آله وصحبه وسلم.
﴿سُبحانَ ربّكَ رَبِّ العِزَّةِ عمَّا يَصفون* وسلامٌ على المُرسَلين *
نكته دقيقة ومسألة لطيفة تبين حكمة من الحكم الكثيرة لصيام شهر رمضان المبارك
ان صوم رمضان يحوي من جهة تربية النفس البشرية حكماً عدة، احداها هي:
أن النفس بطبيعتها ترغب الانفلات من عقالها حرة طليقة، وتتلقى ذاتها هكذا.
حتى أنها تطلب لنفسها ربوبية موهومة، وحركة طليقة كيفما تشاء، فهي لا تريد أن تفكر في كونها تنمو وتترعرع وتُربى بِنعمٍ إلهية لا حد لها، وبخاصة اذا كانت صاحبة ثروة واقتدار في الدنيا، والغفلة تساندها وتعاونها. لذا تزدرد النعم الإلهية كالانعام دون إذن ورخصة.
ولكن تبدأ نفسُ كل شخص بالتفطن في ذاتها في رمضان المبارك، ابتداء من أغنى غني الى أفقر فقير، فتدرك بأنها ليست مالكة، بل هي مملوكة، وليست حرة طليقة، بل هي عبدة مأمورة، فلا تستطيع أن تمدّ يدَها الى أدنـى عمل من غير أمر، بل حتى لا تستطيع أن تمدها الى ماء.. وبهذا ينكسر غرور ربوبيتها الموهومة، فتتقلد ربقة العبودية لله تعالى، وتدخل ضمن وظيفتها الاساس وهي (الشكر).(*)
اللّهم صل وسلم على سيدنا محمد صلاةً تكون لك رضاءً ولحقّه أداءً بعدد ثواب حروف القرآن في شهر رمضان وعلى آله وصحبه وسلم.