في بعض العبادات والحالات، قد تأتي البسملة في المرتبة الثانية أو الثالثة، وهذا لا يناقض القاعدة القائلة: "بسم الله هي بداية كل خير". فهذه العبارة تُستخدم بمعناها العام والأغلب، وليست شرطًا يجب الالتزام به حرفيًا في كل مقام.
بدء الصلاة بالتكبير فرض. والتكبير، والتسبيح، والتحميد هي خلاصة وجوهر القرآن والصلاة. والبسملة تأتي ضمن هذا السياق.
فـنبدأ بالتكبير فدعاء الاستفتاح ، ثم تأتي البسملة، وبعدها أول آية من الفاتحة وبهذا يتحقق التناسق الكامل في افتتاح الصلاة.
أولًا: أستاذنا بدیع الزمان النورسي تناول في "الكلمة الأولى" من رسائل النور جزء "بسم الله" فقط، لكنه فسّر أيضًا الاسمين "الرحمن" و"الرحيم" في "اللمعة الرابعة عشرة - المقام الثاني". وقد رأى الأستاذ أن تُكتب هذه الرسالة في نهاية "الكلمة الأولى" بعد "اللمعات"، وبذلك يكون قد تناول "البسملة" بكاملها في مواضع متعددة.
ثانيًا: يجب النظر إلى رسائل النور كوحدة متكاملة؛ فبعض الرسائل تشرح وتفسر البعض الآخر وتُسهم في توضيح المعاني. ولو جمعنا كل المواضيع التي تتناول "البسملة" في رسائل النور لخرجنا بكُتيب مستقل. من ذلك مثلًا: شرح البسملة في "إشارات الإعجاز"، وأسماء الله "الرحمن" و"الرحيم" في مقام خاص، إلى جانب "الكلمة الأولى" و"اللمعة الرابعة عشرة - المقام الثاني"، وكل هذا ينبغي النظر إليه بوصفه وحدة مترابطة.
ثالثًا: لا شك أن قول "بسم الله الرحمن الرحيم" أفضل وأكثر فضيلة من الاقتصار على "بسم الله"، ولكن في "الكلمة الأولى"، قد يكون قصد الأستاذ تسليط الضوء على اسم "الله" وحده، لأن اسم "الله" هو اسم جامع يشير إلى الذات الإلهية بكل صفاتها وكمالاتها. بينما "الرحمن" و"الرحيم" يدلان على معانٍ خاصة في إطار الرحمة الإلهية.
وبذلك يكون اختياره متعمّدًا لتحقيق مقصد تربوي وعقائدي معيّن.
البسملة لا تعني فقط الاعتماد على الله والثقة به، بل تتضمن أيضًا معاني الشكر والذكر والتفكر، وهي كلها من وظائف العبودية. ولهذا، عندما يذكر الإنسان بسم الله في كل لحظة من لحظاته، فإنه يكون قد قام بعدة عبادات دفعة واحدة.
ثم إن تناول الطعام ليس بالأمر البسيط كما يُظن. فإذا تأملنا جيدًا، فإن مجرد حركة بسيطة من الذراع تحتاج إلى عمل منظم ومعقد تقوم به العظام والعضلات والخلايا، بالإضافة إلى أن كل الجسم يتفاعل معها، والجسم نفسه على ارتباط شامل بالكون كله ليؤدي وظيفته.
كما قيل:( المسمار ينقذ الحدوة والحدوة تنقذ الحصان والحصان ينقذ الفارس والفارس ينقذ أمة)
وهذا المثل ينطبق أيضًا على حركاتنا التي نراها بسيطة.
فعلى سبيل المثال: حتى يرى الإنسان شيئًا بعينه، يجب أن يعمل النظام الشمسي بأكمله بتناسق؛ لأن الرؤية لا تتم من دون ضوء الشمس. إذن، النظر ليس فعلًا بسيطًا، بل يعتمد على قدرة الله المطلقة وإرادته الشاملة...
الخلاصة:
حتى أبسط الأفعال في ظاهرها، مثل الأكل أو النظر، ما هي إلا نتائج لتسخير كوني دقيق، وعندما يبدأ العبد ببسم الله في كل عمل، فإنه يعترف ضِمنًا بهذا التسخير الإلهي ويؤدي شكرًا وعبادة لله عز وجل.
أفضل من فسّر البسملة بأسلوب شامل وعميق هو أستاذنا بدیع الزمان النورسي في "الكلمة الأولى" و"اللمعة الرابعة عشرة – المقام الثاني". فإذا تأملنا هذه الرسائل بعناية، نُدرك بإذن الله عمق ومعنى البسملة.
البسملة تعني: أن يبدأ المؤمن كل عملٍ باسم الله، لأنها تعني التحرك باسم الله. ولهذا السبب، بدأ الله كتابه الكريم بهذه الآية المباركة، ليُعلِّم الإنسان هذا المعنى العظيم.
فالبسملة هي رابطة مقدسة بين العبد وربه، ومن خلال هذه الرابطة، يستمد الإنسان قوة لا نهائية من قدرة الله ورحمته.
كلمة "بسم الله" هي رمز يُشير إلى يد الله التي تدير وتُصرّف كل ما في الوجود. أي أن زمام كل شيء وتصرّفه بيده سبحانه. وكل الأسباب ليست سوى ستائر وحجج ظاهرية خلفها الفعل الإلهي. فإذا فهمنا هذا المعنى وارتبطنا بالله إيمانيًا، نرتاح من أثقال الوجود ونشعر براحة روحية عظيمة.
لكن، إذا نسبنا الأحداث إلى الأسباب وظننا أنفسنا خارج تدبير الله وتربيته، فعندئذ تصبح كل الأمور عبئًا على ظهورنا، وتتحوّل الأحداث إلى مصدر ضغط نفسي، وتصبح الحياة كأنها سجن ومصدر ألم.
فالوجود يعلن بلغة الحال أنه تحت تصرف وإرادة الله. ونحن يجب أن ننسجم مع هذا النداء الكوني بالإيمان والانتماء، وإلا نكون قد تحركنا عكس تيار الكون.
قدرة الله وبركته تعمل في الكون سواء آمنا أو لم نؤمن، لكن المهم هو أن نُدرك ونعترف بهذه القدرة الإلهية بالإيمان.
وعندما نُدرك معنى "بسم الله" عن طريق الإيمان، تتحول إلى قوة روحية وبركة لنا. فنكون قد انسجمنا مع الحقيقة، ونحصل على تسهيل مادي ومعنوي في كل أمورنا.
وقد روي [ أوحى الله تعالى إلى الدنيا أن اخدمي من خدمني، وأتعبي من خدمك]
فتأخذ الكائنات وضعها وسلوكها بحسب حالتنا الروحية. فالنار أصبحت بردًا وسلامًا على إبراهيم عليه السلام، والحوت أصبح وسيلة نجاة ليونس عليه السلام، والبقرة والنحلة مسخرتان لخدمة الإنسان، وهذه أمثلة على ذلك...
في "الكلمة الأولى"، كُتب أن من لا يقول "بسم الله" ولا يتحرك باسم الله سيؤول به الحال إلى الشقاء. لكننا في الحياة نرى عكس ذلك فهم يعيشون براحة أكثر منا ، فكيف يمكن تفسير هذا؟
الجواب:
ما ذكرتموه بقولكم: "هم يعيشون براحة أكثر منا..." يتعلق بالجانب المادي فقط. بينما ما أُشير إليه في "الكلمة الأولى" هو البُعد المعنوي والروحي.
فهل يُمكن لشخص ينتظر حبل المشنقة، وإن عاش في القصور والرفاهية، أن يشعر بالسعادة الحقيقية؟ لننظر إلى ما قاله الأستاذ بديع الزمان في اللمعة السابعة عشرة:
(أيتها الروح الخبيثة التي تنشر الكفر وتبث الجحود! تُرى هل يمكن أن يسعد إنسانٌ بمجرد تملّكه ثروة طائلة، وترفّله في زينة ظاهرة خادعة، وهو المصاب في روحه وفي وجدانه وفي عقله وفي قلبه بمصائبَ هائلة؟ وهل يمكن أن نطلق عليه أنه سعيد؟ ألَا ترين أنّ مَن يَئِس من أمرٍ جزئي، وانقطع رجاؤه من أملٍ وهمي، وخابَ ظنُّه من عملٍ تافهٍ، كيف يتحول خيالُه العذبُ مُرّاً علقماً، وكيف يتعذّب مما حوله من أوضاع لطيفة، فتضيق عليه الدنيا كالسجن بما رحُبت!. فكيف بمن أُصيب بشؤمك بضربات الضلالة في أَعمق أعماق قلبه، وفي أَغوار روحه، حتى انقطعت -بتلك الضلالة- جميعُ آمالِه، فانشقت عنها جميعُ آلامه، فأيُّ سعادةٍ يمكنك أن تضمَني لمثل هذا المسكين الشقي؟ وهل يمكن أن يُطلَق لمن روحُه وقلبُه يُعذَّبان في جهنم، وجسمه فقط في جنةٍ كاذبة زائلة.. أنه سعيد؟..)
وجاء في الحديث الشريف [ لو كانتِ الدُّنيا تعدلُ عندَ اللهِ جناحَ بعوضةٍ ما سقى كافرًا منها شربةَ ماءٍ] (الترمذي)
يُفهم من هذا الحديث أن المعيار الحقيقي هو راحة القلب وطمأنينة الروح، لا مظاهر الدنيا.
أما الرقي المادي فقد ربطه الله بسُنة الأسباب، أي بالعمل والاجتهاد، دون النظر إلى الإيمان أو الكفر. ولذلك فإن المؤمنين الذين لم يعملوا بجد لأجل دنياهم يعانون من النقص فيها، لكنهم يعملون لأجل آخرتهم، فسيجدون السعادة هناك بإذن الله.
وأما الكفار، فبما أنهم عملوا للدنيا، فقد أُعطوا حظًا منها. ولكنهم في الآخرة سيواجهون العذاب الأليم.
والإسلام يدعو إلى السعادة في الدنيا والآخرة معًا، ولكن بما أن الدنيا فانية والآخرة باقية، فإن السعادة الأبدية هي الأهم وهي الأصل.
الخلاصة:
لا يُقاس الشقاء أو السعادة الحقيقية بالمظاهر الدنيوية. من لم يقل "بسم الله"، قد يربح ظاهرًا، لكنه خاسر في باطنه وآخرته.