في بعض العبادات والحالات، قد تأتي البسملة في المرتبة الثانية أو الثالثة، وهذا لا يناقض القاعدة القائلة: "بسم الله هي بداية كل خير". فهذه العبارة تُستخدم بمعناها العام والأغلب، وليست شرطًا يجب الالتزام به حرفيًا في كل مقام.
بدء الصلاة بالتكبير فرض. والتكبير، والتسبيح، والتحميد هي خلاصة وجوهر القرآن والصلاة. والبسملة تأتي ضمن هذا السياق.
فـنبدأ بالتكبير فدعاء الاستفتاح ، ثم تأتي البسملة، وبعدها أول آية من الفاتحة وبهذا يتحقق التناسق الكامل في افتتاح الصلاة.
2-)
ما هو الموضوع الرئيسي الذي تتناوله "الكلمة الثانية"؟
"الكلمة الثانية" تتناول بشكل عام مقارنة بين نظرة المؤمنين ونظرة المنكرين (الكافرين) إلى الكون والوقائع. أغلب أجزاء رسائل النور تدور حول هذا المحور.
كما تُعد "الكلمة الثانية" شرحًا وإثباتًا لإمكانية أن يعيش الإنسان حياة الجنة حتى في هذه الدنيا.
"إن كنتَ تريد أن تعرف مدى ما في الإيمان من سعادة ونعمة، ومدى ما فيه من لذة وراحة، فاستمع إلى هذه الحكاية القصيرة" (1)
فالمؤمن، بنور الإيمان، يفسّر كل شيء تفسيرًا حسنًا، ولذلك يرى كل شيء جميلًا ومباركًا.
أما الكافر، فينظر إلى كل شيء من خلال منظارالكفر، فينكر ويسيء الظن، ولذلك يرى كل شيء قبيحًا وتعيسًا. هذه هي خلاصة "الكلمة الثانية"، وقد تم شرح هذه المعاني في مواضع كثيرة من رسائل النور.
___________
(1) الكلمات، الكلمة الثانية
3-)
ما هو تفسير قول الاستاذ " الأناني المغرور الذي كان متشائما لقي بلدا في غاية السوء والشؤم في نظره، جزاءً وفاقا على تشاؤمه، حتى إنه كان يرى -أينما اتّجه- عجَزةً مساكين يصرخون ويولولون من ضربات أيدي رجال طغاة قساة ومن أعمالهم المدمّرة ؟
يقول النص:
(فالأناني المغرور الذي كان متشائما لقي بلدا في غاية السوء والشؤم في نظره، جزاءً وفاقا على تشاؤمه، حتى إنه كان يرى -أينما اتّجه- عجَزةً مساكين يصرخون ويولولون من ضربات أيدي رجال طغاة قساة ومن أعمالهم المدمّرة. فرأى هذه الحالة المؤلمة الحزينة في كل ما يزوره من أماكن، حتى اتخذت المملكةُ كلُّها في نظره شكلَ دار مأتم عام. فلم يجد لنفسه علاجا لحاله المؤلم المظلم غير السُكر، فرمى نفسه في نشوته لكيلا يشعرَ بحاله، إذ صار كلُّ واحد من أهل هذه المملكة يتراءى له عدوا يتربّص به، وأجنبيا يتنكّر له، فظل في عذاب وجداني مؤلم لِما يرى فيما حوله من جنائزَ مُرعبة ويتامى يبكون بكاءً يائسا مريرا.)(1)
التوضيح:
المؤمن ينظر إلى كل شيء بعين الإيمان، فيفسر كل شيء تفسيرًا حسنًا، ولهذا فإن كل ما يراه يبدو له جميلًا ومبشّرًا.
الكافر، على العكس، ينظر إلى كل شيء من خلال "منظّار الكفر"، فيرى كل ما في الوجود قبيحًا، مظلمًا، ومخيفًا. ولهذا فإن عالمه مليء بالتعاسة واليأس.
الخلاصة:
الرؤية السوداوية للعالم ليست ناتجة عن الواقع الخارجي، بل هي نتيجة زاوية النظر.
فالكافر المتشائم، لأنه لا يرى وراء الحياة أي معنى إلهي أو رحمة، يعيش في قلق دائم، يرى في الموت نهاية مرعبة، وفي الحياة عبثًا لا يُحتمل، وفي الناس أعداء، وفي الأحداث ظُلما.
بينما المؤمن، بنور الإيمان، يرى الموت بداية لا نهاية، ويرى في الناس إخوة، وفي الحياة امتحانًا فيه رحمة وحكمة، وفي الوجود كله تجليات لأسماء الله الحسنى.
___________
(1) الكلمات – الكلمة الثانية من رسائل النور.
4-)
جدول توضيحي للقصة التمثيلية الواردة في "الكلمة الثانية" ؟
كما هو الحال في هذه "الكلمة"، لفهم الحقائق المعروضة على شكل تمثيل، يجب أولاً فهم التمثيل بشكل جيد. وللوصول إلى فهم تام للتمثيل،
يمكننا تحويل القصة الواردة في "الكلمة الثانية" إلى جدول على النحو التالي:
ماذا يوجد في الإيمان؟
راحة
لذة كبيرة
نعمة
سعادة عظيمة
الجدول المقارن للقصة التمثيلية
ما يراه الرجل المؤمن
ما يراه الرجل الأناني
هناك فرح وبهجة عامة في كل مكان.
الضعفاء المساكين يصرخون من ظلم الجبابرة.
هناك أماكن للذكر والتسبيح في كل مكان.
البلاد تحوّلت إلى مأتم عام.
الجميع أصدقاء وأقارب بالنسبة له.
الجميع أعداء وغرباء بالنسبة له.
لا توجد جنازات في الأفق.
هناك جنازات مرعبة منتشرة في الأرجاء.
هناك فرحة التسريح والفرح بالدخول إلى الجندية مع أصوات الطبول والأناشيد والتكبير والتهليل.
هناك أيتام يبكون بيأس.
سعيد ومسرور.
ضميره يتعذب.
الجدول المقارن لمعاني القصة التمثيلية
نظرة المؤمن إلى الدنيا
نظرة الكافر والفاسق إلى الدنيا
الدنيا دار ذكر لله الرحمن، ومعسكر تدريب للإنس والجن، ومدرسة للكائنات.
الدنيا دار حزن ومأتم عام.
كل موت هو تسريح من الوظيفة، والذاهبون ينتقلون إلى عالم أجمل. كل الأصوات إما ذكر وتسبيح في بداية المهمة، أو شكر عند التسريح، أو أناشيد ناتجة عن الفرح بالعمل.
الكائنات الحيّة يتامى باكون بسبب الفقد والموت.
كل الكائنات الحية جنود مكلفون، وموظفون راضون.
البشر والحيوانات كائنات سائبة تمزقها يد الأجل.
جميع المخلوقات خدم مألوفون، وموظفون محبوبون، وكتب لطيفة من الله تعالى.
المخلوقات العظيمة مثل الجبال والبحار كأنها جنازات مرعبة.
وأما هذه المشاهد فتمنحه لذة معنويّة.
فمثل هذه المشاهد تؤلمه معنويًّا.
5-)
لماذا اكتفى الاستاذ بـ «بسم الله»
أولًا: أستاذنا بدیع الزمان النورسي تناول في "الكلمة الأولى" من رسائل النور جزء "بسم الله" فقط، لكنه فسّر أيضًا الاسمين "الرحمن" و"الرحيم" في "اللمعة الرابعة عشرة - المقام الثاني". وقد رأى الأستاذ أن تُكتب هذه الرسالة في نهاية "الكلمة الأولى" بعد "اللمعات"، وبذلك يكون قد تناول "البسملة" بكاملها في مواضع متعددة.
ثانيًا: يجب النظر إلى رسائل النور كوحدة متكاملة؛ فبعض الرسائل تشرح وتفسر البعض الآخر وتُسهم في توضيح المعاني. ولو جمعنا كل المواضيع التي تتناول "البسملة" في رسائل النور لخرجنا بكُتيب مستقل. من ذلك مثلًا: شرح البسملة في "إشارات الإعجاز"، وأسماء الله "الرحمن" و"الرحيم" في مقام خاص، إلى جانب "الكلمة الأولى" و"اللمعة الرابعة عشرة - المقام الثاني"، وكل هذا ينبغي النظر إليه بوصفه وحدة مترابطة.
ثالثًا: لا شك أن قول "بسم الله الرحمن الرحيم" أفضل وأكثر فضيلة من الاقتصار على "بسم الله"، ولكن في "الكلمة الأولى"، قد يكون قصد الأستاذ تسليط الضوء على اسم "الله" وحده، لأن اسم "الله" هو اسم جامع يشير إلى الذات الإلهية بكل صفاتها وكمالاتها. بينما "الرحمن" و"الرحيم" يدلان على معانٍ خاصة في إطار الرحمة الإلهية.
وبذلك يكون اختياره متعمّدًا لتحقيق مقصد تربوي وعقائدي معيّن.
6-)
علاقة الإيمان بالغيب وكون الإيمان فيه الشعور بالأمان
التفسير ينقسم إلى قسمين: تفسير لفظي وتفسير إشاري.
في التفسير اللفظي، يتم التركيز على الشكل اللفظي للآية ومعانيها المباشرة.
أما في التفسير الإشاري، فيُسلَّط الضوء على المعاني العميقة والدقيقة التي لا يفهمها الجميع، ولهذا قد يبدو أحيانًا أن هذه التفسيرات بعيدة عن ظاهر الآية. ولكن في الحقيقة، هناك علاقة لطيفة ونورانية تربط بينهما.
قال تعالى:{ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ}(البقرة:3)
أي: "أولئك المتقون الذين يؤمنون بالله وما أخبر به، رغم أنهم لا يرونه."
في "الكلمة الثانية"، يتم بإيجاز عقد مقارنة بين نظرة المؤمنين و نظرة الكافرين إلى الحياة. ويُبيَّن أن الحياة في الجنة يمكن للإنسان أن يذوقها في الدنيا، من خلال الإيمان بالغيب.
كذلك، فإن أبرز وأوضح معنى في "الكلمة الثانية" هو تأثير الإيمان بالغيب في حياة الإنسان، وما يمنحه له من سعادة وطمأنينة.
ولذلك، هناك علاقة وثيقة جدًا بين الآية :{ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} التي في بداية "الكلمة الثانية" ومحتواها.
7-)
شرح قول الاستاذ: " فالذي يترك صلاته لأجل هموم العيش مَثَـلُهُ كمثل ذلك الجندي الذي يترك تدريبَه وخندقَه ويتسوّل متسكعا في الأسواق. "
في هذا التشبيه، يُشبّه الشخص الذي يترك الصلاة (وهي أهم واجباته الدينية) بسبب انشغاله بطلب الرزق والمعيشة، بـ جندي في ساحة المعركة يترك تدريبه وموقعه الدفاعي في الخندق، ويذهب إلى السوق ليتسوّل!
وهذا التصرف من الجندي يعني فقدان الثقة في الدولة التي تكفّلت برزقه، وتجهيزه، ورعايته.
وبالمثل، من يترك الصلاة ويغرق في همّ المعيشة يكون قد سوء ظنّ بالله تعالى، وضعف توكّل، واتهم ربه ضمنًا بالتقصير في توفير الرزق.
أدلة من القرآن والسنة تؤكد وجوب التوكل ونبذ القلق على الرزق:
قال رسول الله ﷺ:[ لو أنكم تتوكلون على الله حقَّ توكُّله ؛ لرزقكم كما يرزق الطيرَ : تغدوا خماصًا وتروح بطانًا ](الترمذي)
قصة الأخوين في زمن النبي ﷺ:
عن أنس بن مالك رضي الله عنه، قال:[ كان أخوانِ على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وكان أحدُهما يأتي النبي صلى الله عليه وسلم والآخر يَحتَرِف، فَشَكَا الُمحتَرِف أَخَاه للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: (لعَلَّك تُرزَقُ بِهِ)] (الترمذي)
حديث الرزق يطلب العبد أكثر من الأجل:
قال ﷺ:[ إنَّ الرَّزقَ لَيطلُبُ العبدَ أكثرَ مما يطلبُه أجلُه](الطبراني)
حديث من جعل الآخرة همه:
قال النبي ﷺ:[ من كانت الدُّنيا همَّه ،فرَّق اللهُ عليه أمرَه ،وجعل فقرَه بين عينَيْه ،ولم يأْتِه من الدُّنيا إلَّا ما كُتِب له ،ومن كانت الآخرةُ نيَّتَه ،جمع اللهُ له أمرَه ،وجعل غناه في قلبِه ،وأتته الدُّنيا وهي راغمةٌ ](الترمذي)
خلاصة التمثيل:
الصلاة والعبادة هي الوظيفة الأساسية للعبد، كما أن التدريب والجهاد هي الوظيفة الأساسية للجندي.
التوكل على الله والثقة به هو أساس النجاح الدنيوي والأخروي.
القلق الزائد على الرزق، إذا أدى إلى تضييع الفرائض، كان ذلك علامة ضعف الإيمان والتوكل.
8-)
في "الكلمة الرابعة"، لماذا استُخدمت تعبيرات زمنية مثل "شهران (للمزرعة)" و**"يوم واحد (للمحطة)"**؟ لماذا لم يُقل مثلًا "يومان" بدلًا من "يوم"، أو "أربعة أشهر" بدلًا من "شهرين"؟
في العبارة:" هناك محطة للمسافرين على بُعد يوم واحد "(1) يُشار إلى أن العمر كله يُقدّر بيوم واحد، بينما المسافة إلى المزرعة الجميلة (أي الجنة) تُقدَّر بشهرين.
الفرق الزمني بين "يوم" و"شهرين" يُمثّل جميع المراحل التي تبدأ بالموت وتنتهي بالجنة، مثل: القبر، المحشر، الموقف، الميزان، والصراط.
المقصود الأساسي من هذا التصوير الزمني ليس تحديد مدة دقيقة، بل التنبيه إلى أن الحياة الدنيا قصيرة جدًا مقارنة بالحياة الأبدية، وأن الإنسان يجب أن يستعد لتلك الرحلة الطويلة.
ولو قيل "أربعة أشهر" بدلاً من "شهرين"، لكان من الممكن أن يُسأل: ولماذا لم تُقل "ثمانية"؟ وهذا لا نهاية له. فمثل هذه التعابير لا ينبغي التوقف عند الأرقام نفسها، بل ينبغي التأمل في المعنى الذي تشير إليه تلك الأرقام.
___________
كليات رسائل النور- الكلمة الرابعة.
9-)
كيف نفهم استخدام صيغة الماضي في قوله تعالى: { إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَىٰ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ ۚ ...}
يقول الله تعالى في سورة الأعراف (172):
{ وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ ۖ قَالُوا بَلَىٰ ۛ شَهِدْنَا ۛ أَن تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَٰذَا غَافِلِينَ }
وقد فُسّرت هذه الآية الكريمة بوجه عام على أن الله تعالى خلق الأرواح في عالم "الذر" أو "الأرواح"، وأشهدها على ربوبيته، وأخذ منها الميثاق. وقال بعض المفسرين إن هذا الخطاب يتوجه بشكل دائم إلى الأجنة في أرحام أمهاتهم، ويُؤخذ منهم هذا العهد هناك.
وبناءً على هذه الآية وتفاسيرها، فإن من كان من المؤمنين قد وفى بهذا العهد، فيدخل الجنة بفضل الله وكرمه.
قال الأستاذ بديع الزمان سعيد النوسي :
" نعم، إن الصور الذي هو بوق إسرافيل عليه السلام، ليس قاصرا عن البوق العسكري، كما أن طاعةَ الأرواح التي هي في جهة الأبد وعالم الذرات والتي أجابت بـ ﴿ قَالُوا بَلٰى ﴾ (الأعراف:١٧٢)
عندما سمعت نداء ﴿ اَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ ﴾ (الأعراف:١٧٢) المُقبل من أعماق الأزل، ونظامَها يفوق بلا شك أضعاف أضعاف ما عند أفراد الجيش المنظم.. "(1)
فالله عز وجل، لأن علمه أزلي، يرى الماضي والحاضر والمستقبل كشيء واحد، أي أن الزمن لا يُقسَّم لديه إلى ماضٍ وحاضر ومستقبل، بل كل شيء مكشوف عنده في وقتٍ واحد. لذلك فإن صيَغ الزمن في القرآن الكريم لا تُفهم بالنسبة إلى الله، بل بالنسبة إلى الإنسان، فالإنسان هو المقيَّد بالزمن.
وبما أن الله يعلم أزلاً من سيبيع نفسه وماله في سبيله ويستحق الجنة، فإنه يُخاطب بصيغة الماضي، وكأن ذلك قد وقع فعلاً. أما نحن، بسبب وجودنا في "نفق الزمن"، فإننا ننظر إلى هذا الحدث على أنه مستقبلي، أي من الغيب.
خلاصة القول:
استخدام الله لصيغة الماضي في هذه الآية إشارة إلى أزلية علمه، وأن ما سيكون، هو عنده بمنزلة ما كان.
____________
(1) كليات رسائل النور- الكلمة العاشرة ص:121.
10-)
ما المقصود بتعبير " بُعد شهرين" المذكور في "الكلمة الرابعة"؟
بادئ ذي بدء، لا بد من الانتباه إلى التنبيه المذكور في مقدمة "الكلمة العاشرة":
" إن سبب إيرادي التشبيه والتمثيلَ بصورة حكايات في هذه الرسائل هو تقريبُ المعاني إلى الأذهان من ناحية، وإظهار مدى معقولية الحقائق الإسلامية ومدى تناسبها ورصانتها من ناحية أخرى، فمغزى الحكايات إنما هو الحقائقُ التي تنتهي إليها، والتي تدل عليها كنايةً. فهي إذن ليست حكايات خيالية وإنما حقائق صادقة "(1)
وقوله:" فمغزى الحكايات إنما هو الحقائقُ التي تنتهي إليها، والتي تدل عليها كنايةً " يعني أن الغرض ليس تقديم أرقام دقيقة أو معانٍ حرفية، بل إيصال معانٍ رمزية، لذا ليس من الصواب أن نتوقع أن لكل تعبير أو جملة مقابلًا دقيقًا في الواقع.
على سبيل المثال، في عبارة: "هناك محطة للمسافرين على بُعد يوم واحد "
يُفهم أن طول الحياة الدنيا حتى القبر لا يُعدّ شيئًا في ميزان الأبدية، بل كأنه يوم واحد فقط.
أما تعبير " بُعد شهرين" الذي استخدمه الأستاذ النورسي، فيُشير إلى الرحلة الأبدية التي تبدأ من عالم الأرواح وتنتهي إما بالجنة أو النار. وهذه الرحلة الطويلة تمر بمراحل مثل: القبر (البرزخ)، الحشر، الموقف، الميزان، الصراط، إلخ.
وأقصر مرحلة في هذه الرحلة هي الحياة الدنيا، والتي تُقدَّر في المتوسط بنحو ستين سنة.
وعندما يذكر الأستاذ "شهرين"، لا يقصد تحديدًا زمنيًا دقيقًا، بل يستخدم تعبيرًا تقريبيًا يُشير إلى أن الدنيا، بكل ما فيها، لا تتعدى "يوماً واحداً" مقارنة بطول الآخرة. فالمقصود ليس الحساب الزمني، بل المغزى الروحي.
النتيجة:
الصلاة هي الوسيلة التي تُخفف وتُسهّل علينا تلك المراحل بعد الموت: القبر، يوم القيامة، الصراط، وغيرها.
___________
(1) كليات رسائل النور- الكلمة العاشرة.
11-)
شرح قول الاستاذ: " وستُشغّل تلك المكائن والآلات التي في حوزتكم الآن في معاملي وباسمي وعُهدتي، وسترتفع أثمانُها من الواحد إلى الألف
إن المقصود من العبارة هو تشبيه أعضاء الإنسان ومواهبه (مثل العقل، والبصر، والسمع، واليد، وغيرها) بأدوات مصنع. فإذا استخدم الإنسان هذه "الآلات" أو الأعضاء في طاعة الله ووفق أوامره، فإن قيمتها تتضاعف من "واحد" إلى "ألف".
لكن إذا استُخدمت هذه الأعضاء في سبيل الشهوات والهوى والذنوب، فإنها تُبتذل وتفقد قيمتها، بل وتُستخدم في الخيانة، أي في معصية من وهبها.
شرح توضيحي:
العقل مثلًا:
إذا استُخدم في التفكير في آيات الله والتأمل في خلقه وفهم حكمته، فإنه يكون مفتاحًا لرحمات لا تُحصى، ويقود صاحبه إلى السعادة في الدنيا والآخرة.
أما إذا استُخدم في التفكير في الأوهام والمخاوف والهموم فقط، وأُبعد عن الله، فإنه يصبح سببًا في التعاسة، حيث يجترّ الذكريات المؤلمة من الماضي، ويقلق صاحبه بمخاوف المستقبل.
العين أيضًا:
إذا نُظر بها إلى جمال خلق الله وتأملت في بديع صنعه، فإنها تكون وسيلة للمعرفة والسمو، وتُرفع منزلتها عند الله.
أما إذا استُخدمت في النظر إلى الحرام، فإنها تصبح أداة للذنب، ويهبط قدرها إلى الحضيض.
وهكذا يُقاس على ذلك بقية الجوارح:
اللسان، السمع، اليد، القدم... كلما كانت في خدمة الإيمان والطاعة، ارتفع قدرها، وكلما وُضعت في معصية، انحطت قيمتها.
خلاصة المعنى:
عندما تُستخدم أعضاء الإنسان باسم الله، في طاعته وخدمة خلقه، فإنها تصبح ذات قيمة عظيمة، وتُجزى بالأجر الكبير، كمن وجد "معادن نفيسة".
أما إذا تُركت بلا هدف نبيل، أو استخدمت في الحرام، فإنها تُهدر وتفقد قيمتها، تمامًا كالمصنع الذي لم يُكتشف فيه أي معدن ثمين، فيُهمل ويُترك.
12-)
هل يمكنكم شرح العبارة التالية: " فسيدُنا كريم رحيم، لعلّه يشملك برحمته وينالك عفوُه عما بدَر منك من تقصير"
هل يمكنكم شرح العبارة التالية:
" فسيدُنا كريم رحيم، لعلّه يشملك برحمته وينالك عفوُه عما بدَر منك من تقصير"
الجواب:
هذه العبارة التي قالها الأستاذ النورسي (رحمه الله)، تُشير إلى رجاء العبد في رحمة الله ومغفرته، وأن الله تعالى كريمٌ وغفورٌ، وقد يعفو عن عبده ويغفر له ما اقترف من الذنوب، خاصة إن أقبل العبد على الصلاة والتوبة.
العبارة تعني باختصار:
"سيدُنا – أي الله تعالى – كريم، وقد يعفو برحمته عن ذنبك، فلا تيأس من رحمته".
هذه الفكرة مستندة إلى عدة أحاديث نبوية تُبيّن أن الصلاة من أعظم الأسباب في تكفير الذنوب ومحو الخطايا.
بعض الأحاديث التي تدعم هذا المعنى:
- عن سلمان الفارسي رضي الله عنه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:[ إن المسلم إذا توضأ ، فأحسن الوضوء ، ثم صلى الصلوات الخمس تحاتت خطاياه ، كما تحات هذا الورق ، ثم تلا هذه الآية:{ وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات ذلك ذكرى للذاكرين}(هود:114) .]
- عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال النبي صلى الله عليه وسلم:
[أَرَأَيْتُمْ لو أنَّ نَهْرًا ببَابِ أَحَدِكُمْ يَغْتَسِلُ منه كُلَّ يَومٍ خَمْسَ مَرَّاتٍ، هلْ يَبْقَى مِن دَرَنِهِ شيءٌ؟ قالوا: لا يَبْقَى مِن دَرَنِهِ شيءٌ، قالَ: فَذلكَ مَثَلُ الصَّلَوَاتِ الخَمْسِ، يَمْحُو اللَّهُ بهِنَّ الخَطَايَا ]
- وفي حديث آخر عنه أيضًا، قال صلى الله عليه وسلم:[ ألا أدلُّكُم على ما يَمحو اللَّهُ بهِ الذُّنوبَ ويرفعُ الدَّرجاتِ قالوا بلى يا رسولَ اللَّهِ قال إِسباغُ الوضوءِ على المَكارِه وَكثرةُ الخُطا إلى المسجِدِ وانتظارُ الصَّلاةِ بعدَ الصَّلاةِ فذلِكَ الرِّباطُ ثلاثَ مرَّاتٍ]
- وعن عثمان بن عفان رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [ ما من امرئٍ مسلمٍ تحضُرُه صلاةٌ مكتوبةٌ ، فيُحسِنُ وَ ضوءَها و خشوعَها و ركوعَها ، إلا كانت كفارةً لما قبلَها من الذنوبِ ، ما لم تُؤْتَ كبيرةٌ ، و ذلك الدَّهرَ كلَّه ]
النتيجة:
العبارة التي قالها الأستاذ النورسي تُظهر رجاء العبد في كرم الله ومغفرته، وتدلّ على أن العبد لا ينبغي له أن يقنط من رحمة الله، بل عليه أن يُقبل على الصلاة والطاعة، فإن الله كريمٌ رحيمٌ، ويغفر الذنوب لمن تاب وأناب. والله غفور رحيم.
13-)
في "الكلمة السادسة"، إلى ماذا تشير الرموز مثل المكائنَ والآلاتٍ والأسلحة والحيوانات وهل يمكنكم إعطاؤنا معلومات عن وجهها الذي يخصّنا؟ الجواب:
يفسّر الأستاذ -رحمه الله- هذا التمثيل ويفتح معانيه في سياق الموضوع بقوله:
" وتلك المزرعة والمكائن والآلات والموازين هي ما تملكينه في الحياة الدنيا من جسم وروح وقلب، وما فيها من سمع وبصر وعقل وخيال، أي جميع الحواس الظاهرة والباطنة." (1)
فالرموز المذكورة في التمثيل مثل المكائنَ والآلاتٍ والأسلحة والحيوانات، ترمز إلى اللطائف مثل العقل، والقلب، والوجدان، والمشاعر مثل المحبة، والخوف، والأعضاء مثل العين، والأذن.
والأصل أن تُستخدم هذه الأمانات في سبيل رضا الله، وأن يكون الإنسان خليفةً أمينًا في ذلك. أما استخدامها في الاتجاه المعاكس، فيُعد خيانةً للأمانة.
____________
(1) كليات رسائل النور- الكلمة السادسة ص:22.
14-)
جدول توضيحي للحكاية التمثيلية في الكلمة الثالثة
لكي نفهم الحقائق التي تُعرض في شكل تمثيلي، لا بد من فهم التمثيل نفسه بشكل جيد.
ولأجل فهم هذا التمثيل بشكل كامل، فإن إنشاء جدول مقارن يُعد وسيلة فعّالة.
وها نحن نعرض القصة التمثيلية في "الكلمة الثالثة" على شكل جدولين توضيحيين، كما يلي:
ما هي العبادة؟
أما الفسق والفجور فيؤديان إلى:
تجارة عظيمة
السعادة
الخسران
الهلاك
الجدول المقارن لتمثيل القصة:
تسلَّم جنديان اثنان - ذات يوم - أمرا بالذهاب إلى مدينة بعيدة، فسافرا معا إلى أن وصلا مفرق طريقين
الطريق الأيمن
الطريق الأيسر
لا ضرر فيه
لا منفعة فيه
تسعة من كل عشرة يربحون ويستريحون
تسعة من كل عشرة يخسرون
الطريقان متساويان
الطريقان متساويان في الطول والقِصر
طريق منظم تحت النظام العسكري
طريق فوضوي بلا قانون ولا نظام
لمسافر يحمل حقيبة وزنها أربع أوقيات
المسافر يمشي بدون حقيبة
يحمل سلاحًا حكوميًا وزنه أوقيتان
يمشي بلا سلاح
حمل ظاهري، لكن في الحقيقة راحة عظيمة
راحة ظاهرية وخفة كاذبة
لا يخاف أحدًا، لا يستعطي من أحد،
ولا يرتجف من شيء
يرزح تحت مخاوف لا تنتهي، يستعطي الناس،
ويرتجف من كل شيء
ينال مكافأة عظيمة
في نهاية الطريق يُعاقب كعاصٍ فارّ
الجدول المقارن لمعاني القصة التمثيلية:
المعنى الحقيقي
الرمز
طريق الحياة؛ يبدأ من عالم الأرواح، يمر بالقبر، وينتهي بالآخرة
الطريق
من يطيع أوامر الله ويسلك طريق العبادة
الذاهب في الطريق اليميني
العاصي الذي يتبع شهواته وأهواءه
الذاهب في الطريق اليساري
العبادة والتقوى
الحقيبة والسلاح
15-)
" يخرج الخادمان بعد تسلّمهما الأوامر. كان أحدهما سعيدا محظوظا، إذ صرف شيئا يسيرا مما لديه لحين وصوله المحطة، صرفَه في تجارةٍ رابحة يَرضى بها سيدُه، فارتفع رأسُ ماله من الواحد إلى الألف " هل يمكنكم شرح هذه العبارة؟
الأستاذ النورسي (رحمه الله) يشرح هذه العبارة في سياقها من "الكلمة الرابعة"، وهي مشهد تمثيلي يُظهر حال الإنسان في هذه الدنيا، ويقارن بين من يستثمر حياته في طاعة الله، ومن يُهملها فيضيعها.
توضيح الرموز في هذا المثال:
"المحطة" : ترمز إلى القبر، حيث ينتهي طريق الحياة الدنيا ويبدأ طريق الآخرة.
"الخادم السعيد": يمثل الإنسان المؤمن الذي يُؤدي الصلاة والعبادات ويعيش حياته وفقًا لأوامر الله ورضاه.
"المال الذي أنفقه": يُشير إلى الجهد والتكاليف البسيطة التي يبذلها الإنسان في الطاعة، كأن ينهض من نومه ليصلي أو يصوم أو يزكّي.
" تجارةٍ رابحة يَرضى بها سيدُه ":هي العبادات والعمل الصالح، التي تُثمر رضا الله وتُضاعف الأجر.
" ارتفع رأسُ ماله من الواحد إلى الألف ":هو العمر الذي يستثمر في طاعة الله فيتحول إلى ثواب عظيم لا يُقارن بمقدار الجهد المبذول.
مثال يوضح الفكرة:
من يُحيي ليلة القدر في العبادة – وهي ليلة واحدة – يُكتب له أجر أكثر من 80 سنة من العبادة، لأنها "خيرٌ من ألف شهر".
فهذا مثل واضح على كيف أن القليل من الجهد بإخلاص، يُثمر أجرًا عظيمًا.
أما من يتكاسل عن العبادة ويتبع شهواته، فهو يضيع عمره (رأسماله) بلا فائدة، وسيُحاسب على هذا التبذير في الآخرة حسابًا عسيرًا.
النتيجة:
العبارة تُرشدنا إلى أن الحياة قصيرة، لكنها إن استُثمرت في الطاعة والعبادة، فإنها تُثمر أجرًا عظيمًا يفوق التصور، ويكون سببًا لرضا الله والفوز الأبدي.
16-)
شرح قول الاستاذ: " دائرة الحلال واسعة فسيحة، تكفي للراحة والسعادة والسرور. فلا داعي للولوج في الحرام "
قول الأستاذ: " دائرة الحلال واسعة فسيحة، تكفي للراحة والسعادة والسرور. فلا داعي للولوج في الحرام "
هو حكم عام، وينطبق على كل العصور. فالأكل، والتسلية، وسماع الموسيقى، وسائر حالات المتعة، يمكن تلبيتها كلها من خلال الوسائل المشروعة.
لكن لا يخفى أن في زماننا انتشرت أمور كثيرة يُشكّ في حلّها، من معاملات، ومأكولات، ومشروبات، حتى عمّت كل الجوانب. وفي مثل هذا الجو، يُنصح الإنسان بأن يكون شديد الحذر في ما لا يعلم يقينًا أنه حلال، وأن يعمل بالأحوط لا بالأيسر.
وفي عصر تهاجم فيه الذنوب الإنسان من كل جهة، يكون حفظ النفس صعبًا بلا شك.
والطريق الذي أشار إليه الأستاذ هو طريق السنة النبوية، ومن أمثلته:
الاعتدال في الطعام
عدم الإسراف حتى ولو كنت تتوضأ على شاطئ نهر
ترك المائدة وفي النفس رغبة في الأكل
تجنّب المشتبهات
والسير في دائرة الحلال هو السبيل الحق الذي ينبغي الثبات عليه.
17-)
" سلك المحظوظُ السعيد الطريقَ الأيمن، ومضى في دربه حاملا على ظهره وكتفه رطلا من الأثقال إلّا أنّ قلبَه وروحه قد تخلّصا من آلاف الأرطال من ثقل المنّة والخوف.." هل يمكنكم شرح هذه الجمل؟
كلما ازداد إيمان الإنسان بالله وتوكله عليه، ازداد أمانه وسلامه من هموم الدنيا وآلامها.
ففي الإيمان، تكمن حقيقة التوكل.
أي: إذا كنا نؤمن بأن كل شيء بيد الله وتدبيره، فالضرر والنفع أيضًا لا يكونان إلا بإذنه.
فإذا قدّر الله منفعةً للعبد، لا يستطيع أحد أن يمنعها.
وهذا الاعتقاد وهذا التسليم، يجعل الإنسان في طمأنينة وأمان من وساوس الحياة ومخاوفها.
شرح العبارة الرمزية:
"الجندي الذي ذهب إلى اليمين":
هو المؤمن الذي اختار طريق الإيمان والطاعة.
"حمل رطلا من الأثقال ":
يرمز إلى ثقل التكاليف الدينية والعبادات الظاهرية في هذه الدنيا، مثل:
الاستيقاظ للفجر في البرد
الوضوء بالماء البارد
أداء الصلاة في أوقاتها رغم الانشغال
هذه الأمور قد تبدو متعبة للنفس، لكنها مؤقتة.
" إلّا أنّ قلبَه وروحه قد تخلّصا من آلاف الأرطال من ثقل المنّة والخوف":
أي أن المؤمن يرتاح من الأعباء النفسية والعقلية الثقيلة، مثل:
الخوف من المستقبل
القلق من الفقر أو المرض
الخضوع لأهواء الناس وطلب رضاهم
وهم السيطرة على كل شيء
بمعنى آخر:
( قد تتحمل القليل من التعب الجسدي في الطاعة، لكنك ترتاح من أطنان من القلق الروحي والمعنوي).
الخلاصة:
من يعيش بالإيمان والتوكل، وإن تحمّل بعض المشقة في العبادة،
إلا أن روحه تنعم براحة وطمأنينة لا تُقدّر بثمن،
لأنه يعلم أن كل شيء بيد الله، وأنه ليس وحيدًا في مواجهة الحياة.
18-)
" إقامة الصلاة واجتناب الكبائر وظيفة حقيقية تليق بالإنسان ونتيجة فطرية ملائمة مع خلقته!" وفقًا لهذا التعبير، هل تُعدّ أمور الدنيا مهامًا غير حقيقية؟
لقد خُلق الإنسان في هذه الدنيا من أجل الإيمان، والمعرفة، والعبادة؛ لذا لا ينبغي له أن يُهمل وظيفته الأساسية، ولا أن يتخذ الدنيا غاية له. فأمور الدنيا تكون خيّرة ما دامت في سبيل الآخرة، أما إن لم تكن كذلك، فهي تُعدّ تَرْكًا للوظيفة الحقيقية. ويجب ألا ننسى أن مشاغل الدنيا مؤقتة وزائلة. فلو شاء الله، لأغدق علينا نعمه دون وسائط أو أسباب.
فإن كانت أمور الدنيا تُنسي الإنسان عبوديته لله، فإنها تصبح عدوًا له. أما إن لم تكن تشكّل عائقًا أمام أداء العبودية، فإن كل هذه الأمور تُعتبر عبادة ويُكتب أجرها في ميزان الآخرة.
فمثلًا، إذا كان عامل البناء يُؤدي صلواته في وقتها أثناء عمله اليومي، فإن جهده وعمله في البناء يُعدّ عبادة ويُكتب له في حساب الآخرة.
الإسلام يحثّ على العمل كي لا يكون الإنسان عالة على غيره، ويشجع على الغنى لأداء الزكاة. لذا يجب أداء واجب العبودية جنبًا إلى جنب مع الانشغال بأمور الدنيا. فلا ينبغي أن نُهمِل الآخرة من أجل الدنيا، ولا أن نترك الدنيا والسعي فيها. فإذا أُهمِلَت العبادات وتُركت وظيفة العبودية، فإن الانشغال وحده بأمور الدنيا لا يُعدّ عبادة.
نتيجة الخَلْق تعني غاية الخلق، وسببه، وهدفه. فمثلًا، نتيجة خلق الشمس هي أن تمنح الحرارة والنور لهذا العالم الذي يُعبد فيه الله. ونتيجة خلق النحلة هي صنع العسل في هذا العالم المخصص للعبادة. لأن العبادة إذا انقطعت كليًا، ستقوم الساعة وتنتهي مهام هذه المخلوقات أيضًا.
فجميع المخلوقات، الحية وغير الحية، لها غاية من خلقها ونتيجة من وجودها.
قال الله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ }(الذاريات: 56)
بهذا الأمر الإلهي، بيّن ربّنا سبب خلق الجنّ والإنس.
فكما أن نتيجة خلق الغيوم هي المطر، ونتيجة خلق دودة القز هي الحرير، ونتيجة خلق الأشجار هي الثمار، فإن نتيجة خلق الإنسان هي: الإيمان، والمعرفة، والعبادة، والدعاء، والذكر، والتفكر.
19-)
شرح قول الاستاذ: " ستدعو بالويل والثبور دائما، وستئنّ من صدمة الفراق والزوال ووطأة تكاليف الحياة التي أرهقتَ بها كاهلَك الـضعيف مع أنّ فقرَك قائم وعجزَك دائم "
من لا يتوكل على الله تعالى، يُجبر على أن يحمل أعباء هذه الحياة الثقيلة على ظهره الضعيف، مع ضعفه وفقره، فيظل دائم الشكوى والأنين.
وقد شرح أستاذنا هذه المسألة في "الكلمة الثالثة والعشرون" من "الكلمات" بمثال جميل، قال فيه: " إن مَثلَ المتوكلِ على اللّٰه وغيرَ المتوكل كَمثَلِ رجلَين قاما بحمل أعباءٍ ثقيلةٍ حُمّلتْ على رأسيهما وعاتقهما، فقطعا التذاكر وصعدا سفينةً عظيمةً، فوضعَ أحدهُما ما على كاهِله حالما دخل السفينةَ وجلسَ عليه يرقُبُه، أما الآخرُ فلم يفعل مثلَه لحماقته وغروره، فقيل له: "ضَعْ عنك حملكَ الثقيل لترتاح من عنائك؟". فقال: "كلا، إني لست فاعلا ذاك مخافةَ الضياع، فأنا على قوةٍ لا أعبأ بحملي، وسأحتفظ بما أملُكه فوقَ رأسي وعلى ظهري".
فقيل له ثانية: "ولكن أيها الأخ إنّ هذه السفينةَ السلطانية الأمينةَ التي تأوينا وتجري بنا هي أقوى وأصلبُ عودا منا جميعا. وبإمكانها الحفاظُ علينا وعلى أمتعتنا أكثرَ مِن أنفسنا، فربما يُغمَى عليك فتهوي بنفسِك وأمتعتك في البحر، فضلا عن أنك تفقِد قوتَك رويدا رويدا، فكاهلُك الهزيل هذا وهامتُك الخرقاء هذه لن يَسَعهما بعدُ حملُ هذه الأعباء التي تتزايد رَهَقا، وإذا رآك ربّانُ السفينة على هذه الحالة فسيظنُّك مصابا بمسٍّ من الجنون وفاقدا للوعي، فيطرُدُك ويقذِفُ بكَ خارجا، أو يأمرُ بإلقاء القبضِ عليك ويُودِعك السجن قائلا: إن هذا خائن يتّهم سفينَتَنا ويستهزئُ بنا، وستُصبح أضحوكةً للناس، لأنك بإظهارك التكبّر الذي يُخفي ضعفا -كما يراه أهلُ البصائر- وبغرورِك الذي يحمل عَجزا، وبتصنّعك الذي يُبطن رياءً وذلة، قد جعلتَ من نفسك أضحوكةً ومهزلةً. ألا ترى أن الكل باتوا يضحكون منك ويستصغرونك..!"
وبعد ما سمع كلَّ هذا الكلام عاد ذلك المسكينُ إلى صوابه فوضع حِملَه على أرضِ السفينة وجلسَ عليه وقال: "الحمد للّٰه.. ليرضَ اللّٰه عنك كل الرضا فلقد أنقذتَني من التعب والهوان ومن السجن والسخرية".
فيا أيها الإنسانُ البعيدُ عن التوكل! ارجعْ إلى صوابك وعُد إلى رُشدك كهذا الرجل وتوكّل على اللّٰه لتتخلص من الحاجة والتسـوّل من الكائنات، ولتنجوَ من الارتعاد والهلع أمام الحادثات، ولتنقذَ نفسَك من الرياء والاستهزاء ومن الشقاء الأبدي ومن أغلال مضايقات الدنيا."
______________
(1) كليات رسائل النور- الكلمة الثالثة والعشرون ص:353
20-)
هل المسلم لا يعمل في أمور الدنيا؟ هل يقضي عمره كله في العبادة فقط؟
العبادات الأساسية مثل الصلاة والصيام، هي بمثابة الخميرة والأساس لحياة مستقيمة ومتزنة للمؤمن. ولكن الحياة التعبدية لا تقتصر فقط على هذه العبادات الظاهرة.
فالنظر إلى الأشياء بمعناها الإشاري (الرباني)، أي النظر إليها من جهة علاقتها بالله، هو عبادة.
وكذلك، كل عمل أو جهد يُبذل بنية طلب رضا الله يُعتبر عبادة أيضًا.
ومن هذا المنظور، لا يوجد انفصال بين الدنيا والآخرة:
فالصلاة التي تُؤدّى رياءً لا تُعد عملًا أخرويًا،
كما أن دراسة الفيزياء أو الكيمياء بنية طلب مرضاة الله ليست من أعمال الدنيا فقط، بل تُعتبر عبادة.
وقد ورد في "الكلمة الرابعة" من رسائل النور:
" وفوق ذلك فإن سائر أعمال المصلي الدنيوية المباحة ستكون له بمثابة عبادة لله، وذلك بالنية الصالحة"(1).
فكل ما يُفعل لنُصرة اسم الله ورفع شأنه يُعد عبادة.
فإذا كان للمرء قدرة وطاقة، وسخّرها في خدمة الإسلام والمسلمين، وسعى ليلًا ونهارًا، فإن كل ذلك يُحسب له من العبادة.
ويقول الأستاذ بديع الزمان النورسي في هذا المعنى عبارة مختصرة جامعة:
" الذي يقيم الصلاة دون أن ينسى نصيبَه من الرزق، يبحث عنه في مطبخ رحمة الرزاق الكريم، لئلا يكون عالةً على الآخرين فجميل عملُه، بل هو رجولة وشهامة، وهو ضرب من العبادة أيضا "(2).
_______________
كليات رسائل النور- الكلمة الرابعة
كليات رسائل النور - الكلمة الخامسة
21-)
في "الكلمة الخامسة"؛ هل المقصود بـ "الكبائر" في عبارة "إقامة الصلاة واجتناب الكبائر " هو "السبع الموبقات" فقط؟
نظرًا لعدم ذكر عبارة "السبع الموبقات" تحديدًا في هذا الموضع، فإن تفسير العبارة لتشمل جميع الكبائر يكون أقرب إلى الصواب. إذ أن هناك كثيرًا من الذنوب الكبيرة غير محصورة في السبع الموبقات فقط.
وقد بيّن أستاذنا النورسي رحمه الله معنى الكبائر (الكبائر السبع) على النحو التالي:
" وتسألون أيضا في رسالتكم عن الكبائر السبع، فأقول: إن الكبائر كثيرة، إلا أن أكبر الكبائر وأعظم الذنوب التي تطلق عليها الموبقات السبع هي القتل والزنا والخمر وعقوق الوالدين (أي قطع صلة الرحم) والقمار وشهادة الزور وموالاة البدع التي تضر بالدين. "(1)
وقد قال أستاذنا النورسي أيضًا: في هذا الزمان الذي يؤدي الفرائض ولا يرتكب الكبائر، ينجو بإذن الله.
وهذا تشخيص واقعي تمامًا يتوافق مع ظروف هذا العصر الخطير. فمن يبتعد عن السبع الكبائر، ويؤدي ما فرضه الله عليه، فإننا نرجو أن يحافظ على إيمانه، إن شاء الله.
22-)
ما معنى الحقيبة والسلاح في "الكلمة الثالثة"؟ وكيف نفهم أن من يعتني بالتقوى يكون في أمان في عبادته؟
النظام العسكري المذكور في "الكلمة الثالثة" يرمز إلى الإسلام وشرائعه، وحب هذا النظام يعني الالتزام بأوامر الإسلام ونواهيه.
الحقيبة ترمز إلى العبادات
السلاح يرمز إلى الابتعاد عن الذنوب، أي التقوى
فالمؤمن إذا أدى عباداته في هذه الحياة الدنيا، وحافظ على نفسه من الذنوب، فإنه يُوفَّق إلى نيل السعادة الأبدية. وهذا يعني أنه يعيش في أمان واطمئنان في الدنيا والآخرة.
على سبيل المثال:
من يؤدي الصلاة، سيكون في قبره في نور وسعة بسببها، وسيشعر بالأمن والسكينة.
ويمكن أن نطبق هذا المعنى على بقية العبادات بنفس الطريقة.
الطريق المستقيم هو طريق الإسلام والقرآن.
المدينة التي يُسافر إليها، هي النهاية الحتمية للإنسان: إما الجنة أو النار.
فمن أتمّ وظيفته في الدنيا من عبادة وعبودية لله، فإنه يُستقبل في الآخرة استقبالًا كريمًا ويُكرم في مقامه.
أما الأمان من المنّة والخوف، فيعني أن المؤمن، أمام كل حادثة، يكون متوكلًا ومُسلمًا أمره لله، نابعًا من إيمانه.
أما المنكر (الملحد أو غير المؤمن)، فينظر إلى الكون على أنه لا معنى له، عبثي، تسيره الصدف العمياء، ولذلك يرى كل شيء من حوله عذابًا وضيقًا.
بينما المؤمن، يعلم أن كل شيء بتدبير الله وحكمته، وأن له معنى وفائدة، فيرى الأشياء جميلة ومليئة بالطمأنينة.
23-)
الأستاذ النورسي يتحدث أحيانًا بلغة عسكرية. فكيف يمكننا أن نؤمن بالله من خلال هذه اللغة؟
قال الأستاذ النورسي رحمه الله:" أرى أن أسعد إنسان في هذه الحياة الدنيا هو ذلك الذي يتلقى الدنيا مضيفَ جندية ويذعن أنها هكذا، ويعمل وفق ذلك. فهو بهذا التلقي يتمكن من أن ينال أعظمَ مرتبة ويحظى بها بسرعة، تلك هي مرتبةُ رضى الله سبحانه، إذ لا يمنح قيمةَ الألماس الثمينة الباقية لقِطع زجاجية تافهة، بل يجعل حياتَه تمضي بهناء واستقامة."(1)
كما هو واضح هنا، فإن أسعد إنسان هو من يعتبر هذه الدنيا معسكرًا مؤقتًا، ويعتبر نفسه جنديًا فيه. وعندما نتحدث عن "الجندية"، فإن أول ما يتبادر إلى الذهن هو "الطاعة المطلقة للأوامر".
فكما أن لكل مخلوق وظيفة، فإن وظيفة الجندي الأساسية هي "التدريب والانضباط". وإذا انشغل الجندي بأعمال خارج مهمته الأساسية، فإنه يُهمِل وظيفته الحقيقية.
وكما أن الجندي مُلزَم بطاعة قوانين الجيش، فإن العبد أيضًا مُلزَم بطاعة أوامر الله واجتناب نواهيه.
وعندما يقول الجندي: "بندقيتي"، أو "حزامي"، فهو يقصد تمييز أدواته عن أدوات بقية الجنود، لكنها في الحقيقة ليست ملكًا له، بل هي أمانة مُعطاة له. فإن استخدم بندقيته في غير موضعها، أو أضاعها أو كسرها، يُعدّ خائنًا للأمانة ويُعاقب على ذلك. وعند تسريحه من الخدمة، يجب عليه أن يُسلّم جميع الأمانات المسجلة عليه.
وبالمثل، فإن كل الحواس والمواهب والأعضاء التي مُنحت للإنسان هي أمانات، ولا يحق له استخدامها كما يشاء.
____________
(1) كليات رسائل النور- المكتوب التاسع
24-)
ما الحكمة من قول "بسم الله" عند الأعمال البسيطة
البسملة لا تعني فقط الاعتماد على الله والثقة به، بل تتضمن أيضًا معاني الشكر والذكر والتفكر، وهي كلها من وظائف العبودية. ولهذا، عندما يذكر الإنسان بسم الله في كل لحظة من لحظاته، فإنه يكون قد قام بعدة عبادات دفعة واحدة.
ثم إن تناول الطعام ليس بالأمر البسيط كما يُظن. فإذا تأملنا جيدًا، فإن مجرد حركة بسيطة من الذراع تحتاج إلى عمل منظم ومعقد تقوم به العظام والعضلات والخلايا، بالإضافة إلى أن كل الجسم يتفاعل معها، والجسم نفسه على ارتباط شامل بالكون كله ليؤدي وظيفته.
كما قيل:( المسمار ينقذ الحدوة والحدوة تنقذ الحصان والحصان ينقذ الفارس والفارس ينقذ أمة)
وهذا المثل ينطبق أيضًا على حركاتنا التي نراها بسيطة.
فعلى سبيل المثال: حتى يرى الإنسان شيئًا بعينه، يجب أن يعمل النظام الشمسي بأكمله بتناسق؛ لأن الرؤية لا تتم من دون ضوء الشمس. إذن، النظر ليس فعلًا بسيطًا، بل يعتمد على قدرة الله المطلقة وإرادته الشاملة...
الخلاصة:
حتى أبسط الأفعال في ظاهرها، مثل الأكل أو النظر، ما هي إلا نتائج لتسخير كوني دقيق، وعندما يبدأ العبد ببسم الله في كل عمل، فإنه يعترف ضِمنًا بهذا التسخير الإلهي ويؤدي شكرًا وعبادة لله عز وجل.
25-)
ماذا يعني "حقيبة كاملة من مستخلصات غذائية تزن أربع «أوقيات» وسلاحاً حكومياً يزن «أوقيتين» يستطيع أن يغلب به كلَّ عدو"؟
في تتمة الرسالة التي تناولت هذا الموضوع، ورد ما نصه: " وأما تلك الحقيبة والسلاح فهما العبادةُ والتقوى."
أي أن "الأربع أوقيات" تشير إلى العبادة، و"الأوقيتين" إلى التقوى.
عندما نقول "العبادة"، فإن أول ما يتبادر إلى الذهن هو أركان الإسلام الخمسة.
ومنها: الشهادتان، وهي بمثابة عقد يدخل به الإنسان في دائرة الإسلام، ويمهد لأداء العبادات الأربع المفروضة الأخرى. فهي أقرب للإيمان والعقيدة منها إلى العبادة العملية.
ويبقى من أركان الإسلام: الصلاة، الصوم، الزكاة، والحج، وهي العبادات الفعلية. إذًا، يُحتمل أن تكون الأربع أوقيات رمزًا لهذه العبادات الأربع.
أما الرقم اثنان، فهو يشير إلى الإيمان بالله واليوم الآخر، لأن التقوى لا تتحقق إلا بإيمان راسخ بهذين الركنين. وهذا المعنى تدعمه عبارة واردة في "الكلمة السابعة"، جاء فيها:
" أن الإيمانَ بالله وباليوم الآخر، أثمنُ مفتاحَين يحلّان لروح البشر طلسمَ الكون ولُغزَه، ويفتحان أمامها باب السعادة والهناء..." (1)
_____________
(1) كليات رسائل النور- الكلمة السابعة.
26-)
شرح قول الاستاذ: كان المُتقن واجبَه يهتم الاهتمام كلَّه بأوامر التدريب وشؤون الجهاد....
الموضوع الرئيس في "الكلمة الخامسة" هو أن شؤون الدنيا لا تُشكّل عائقًا أمام الصلاة والعبادة.
في التمثيل المذكور، ترمز حالة التعبئة العامة وساحة المعركة إلى هذه الحياة الدنيا التي نعيشها، والتي تتّسم بعدم الاستقرار، والاضطراب، والحزن، والفناء، حيث لا يستطيع أحد أن يحافظ على ما في يده.
أما الجيش، فيُشير إلى الحياة الاجتماعية.
ويمثل الجندي الحريص على أداء واجبه الإنسان المؤمن التقي، الذي يؤدي فرائضه ويتجنب المعاصي.
أما الجندي الجاهلُ بواجباته والمهمل، المتّبع لهواه ، فيُمثّل الإنسان الغارق في الدنيا، الذي نسي وظيفته الأصلية وانشغل فقط بلقمة العيش، متناسياً الآخرة.
التدريب (التعليم العسكري) يُشير إلى أداء العبادات المفروضة، وعلى رأسها الصلاة.
والجهاد يُمثّل الجهاد الأكبر، وهو مجاهدة النفس والشيطان.
أما الطعام والمؤونات (الإعاشة)، فهي ترمز إلى الرزق والنصيب الدنيوي، والذي هو من تقدير الله تعالى، وليس من مسؤولية العبد.
فالله عز وجل هو من تكفّل برزق عباده، وهو الذي يضمن لهم ما يقيم حياتهم.
ومن لا يتوكل على الله، ولا يرضى بما قسمه له، فهو في الحقيقة يعترض على القدر ويتهم ربه – والعياذ بالله.
وقد قال الأستاذ النورسي:" ومالِك الملك أيضا يدعوك إلى ترك لذة تلك الساعة ليريحَك في تلك السنين مع أوِدّائكَ. فأجب داعيَ الله قبل أن تُساق إليه بالسلاسل "(1)
فالذي خلق الإنسان، والذي يرزقه من نعمه، والذي يشفيه إذا مرض، هو الله وحده.
أما وظيفة الإنسان الحقيقية فهي: العبودية لله.
فينبغي له أن يقوم بواجبه، ولا يتدخل في أمور تخص تدبير الله وتقديره.
أفضل من فسّر البسملة بأسلوب شامل وعميق هو أستاذنا بدیع الزمان النورسي في "الكلمة الأولى" و"اللمعة الرابعة عشرة – المقام الثاني". فإذا تأملنا هذه الرسائل بعناية، نُدرك بإذن الله عمق ومعنى البسملة.
البسملة تعني: أن يبدأ المؤمن كل عملٍ باسم الله، لأنها تعني التحرك باسم الله. ولهذا السبب، بدأ الله كتابه الكريم بهذه الآية المباركة، ليُعلِّم الإنسان هذا المعنى العظيم.
فالبسملة هي رابطة مقدسة بين العبد وربه، ومن خلال هذه الرابطة، يستمد الإنسان قوة لا نهائية من قدرة الله ورحمته.
كلمة "بسم الله" هي رمز يُشير إلى يد الله التي تدير وتُصرّف كل ما في الوجود. أي أن زمام كل شيء وتصرّفه بيده سبحانه. وكل الأسباب ليست سوى ستائر وحجج ظاهرية خلفها الفعل الإلهي. فإذا فهمنا هذا المعنى وارتبطنا بالله إيمانيًا، نرتاح من أثقال الوجود ونشعر براحة روحية عظيمة.
لكن، إذا نسبنا الأحداث إلى الأسباب وظننا أنفسنا خارج تدبير الله وتربيته، فعندئذ تصبح كل الأمور عبئًا على ظهورنا، وتتحوّل الأحداث إلى مصدر ضغط نفسي، وتصبح الحياة كأنها سجن ومصدر ألم.
فالوجود يعلن بلغة الحال أنه تحت تصرف وإرادة الله. ونحن يجب أن ننسجم مع هذا النداء الكوني بالإيمان والانتماء، وإلا نكون قد تحركنا عكس تيار الكون.
قدرة الله وبركته تعمل في الكون سواء آمنا أو لم نؤمن، لكن المهم هو أن نُدرك ونعترف بهذه القدرة الإلهية بالإيمان.
وعندما نُدرك معنى "بسم الله" عن طريق الإيمان، تتحول إلى قوة روحية وبركة لنا. فنكون قد انسجمنا مع الحقيقة، ونحصل على تسهيل مادي ومعنوي في كل أمورنا.
وقد روي [ أوحى الله تعالى إلى الدنيا أن اخدمي من خدمني، وأتعبي من خدمك]
فتأخذ الكائنات وضعها وسلوكها بحسب حالتنا الروحية. فالنار أصبحت بردًا وسلامًا على إبراهيم عليه السلام، والحوت أصبح وسيلة نجاة ليونس عليه السلام، والبقرة والنحلة مسخرتان لخدمة الإنسان، وهذه أمثلة على ذلك...
28-)
ما هو الموضوع الرئيسي للكلمة الثالثة؟
الموضوع الرئيسي في "الكلمة الثالثة" هو مقارنة حال من يؤدون واجباتهم في العبودية لله بمن لا يؤدونها، وما تكسبه العبادة، والتوكل، والتسليم للإنسان.
فالتوكل هو ثمرة التوحيد. فالمؤمن الذي يملك إيمانًا راسخًا ويقينًا كاملاً بالتوحيد، يكون في حالة توكل تام، ولا يضطرب أمام الأحداث. وكما عبّر الاستاذ بديع الزمان سعيد النورسي: " فلو أصبحت الكرةُ الأرضية قنبلةً مُدمِّرة وانفجرت، فلربما لا تخيف عابدا لله ذا قلب منوَّر." (1)
إن هذا الثبات في الإنسان أساسه وجود عقيدة التوحيد في القلب والوجدان بشكل كامل ومطمئن. وقد تم تناول هذا الجانب من التوكل في هذه الكلمة.
_____________
(1) كليات رسائل النور- الكلمة الثالثة.
29-)
شرح قول الاستاذ: وأما واجبُه الأساس فهو التدّرب على أمور الجهاد ليس إلّا، مع علمه أن هذا لا يمنع من أن يقوم بشؤون التجهيز وبعض أعمال الإعاشة كالطهي وغسل المواعين....
يقول الأستاذ النورسي رحمه الله:
" كان المُتقن واجبَه يهتم الاهتمام كلَّه بأوامر التدريب وشؤون الجهاد. ولم يكن ليفكر قط بلوازم معاشه وأرزاقه، حيث إنه أدرك يقينا أن إعاشتَه ورعايةَ شؤونه وتزويدَه بالعتاد، بل حتى مداواته إذا تمرض، بل حتى وضع اللقمة -إذا احتاج الأمر- في فمه، إنما هو من واجب الدولة. وأما واجبُه الأساس فهو التدّرب على أمور الجهاد ليس إلّا، مع علمه أن هذا لا يمنع من أن يقوم بشؤون التجهيز وبعض أعمال الإعاشة كالطهي وغسل المواعين، وحتى في هذه الأثناء لو سُئل: «ماذا تفعل؟» لقال: «إنما أقوم ببعض واجبات الدولة تطوّعا»، ولا يجيب: «إنني أسعى لأجل كسب لوازم العيش » "(1)
التفسير:
في هذا التمثيل، يشير الطهي وغسل المواعين إلى سعي الإنسان في طلب الرزق والعمل لكسب المعاش.
وكما أن رزق الجندي ومؤونته مضمونة من قبل الدولة، فإن رزق الإنسان في هذه "الثكنة الدنيوية" هو من ضمان الله سبحانه وتعالى. لذلك، لا ينبغي للإنسان أن يقلق بشأن رزقه.
فلو أن جنديًا فقد الثقة بدولته، وانشغل بالقلق على قوته، وترك تدريبه وجهاده، بل وراح يتسوّل، فهل يكون عاقلاً؟ لا، بل يتهم الدولة ضمنًا بالتقصير.
وبالمثل، فإن الإنسان إذا ترك عبادته واهتمامه بآخرته، وركز فقط على تحصيل الرزق الدنيوي، فهو بذلك يتهم ربه ويتطاول على القدر – والعياذ بالله.
تقسيم الوظائف في هذا المثال:
في هذا التمثيل، يُبيّن الأستاذ أن للجندي وظيفتين:
الوظيفة التي تخص الحاكم أو الدولة: وهي تأمين معيشة الجندي، من طعام ولباس وسلاح.
ويمكن أن تُكلِّف الدولة الجندي بأعمال بسيطة من ضمن هذه الأمور، مثل تنظيف الأواني أو تجهيز الطعام، لكنها تبقى ليست من صلب وظيفته.
لذا فإنها تُعتبر "أعمالًا إضافية" (تطوعية) أي بلا مقابل مباشر، ومجرد تكليف لخدمة عامة.
الوظيفة التي تخص الجندي نفسه: وهي التدريب والجهاد، أي القيام بمهمته الأصلية في حماية الدين والوطن.
ولهذا يقول النورسي: " مثلُك كمثل نفرِ عسكرٍ له وظيفة أصلية هي التعليم المخصوص، والحرب والجهاد، والسلطان مُعينُه في هذه الوظيفة بإحضارلوازماتها، ولسلطانه وظيفةٌ مخصوصة هي إعطاء أرزاق ذلك النفر وتعييناته ولباسه حتى دوائه.... فالنفر المشتغل بالتجارة لتَدارُك رزقه جاهلٌ شقيّ يُزيَّف ويؤدّب.. والتارك للتعليم والجهاد خائن عصيّ يُضرَب ويُعنَّف "(2)
_____________
(1) كليات رسائل النور- الكلمة الخامسة ص:18.
(2) كليات رسائل النور- المثنوي النوري - شما ص:372.
30-)
البعض لا يذكر بسم الله ولكنه سعيد
في "الكلمة الأولى"، كُتب أن من لا يقول "بسم الله" ولا يتحرك باسم الله سيؤول به الحال إلى الشقاء. لكننا في الحياة نرى عكس ذلك فهم يعيشون براحة أكثر منا ، فكيف يمكن تفسير هذا؟
الجواب:
ما ذكرتموه بقولكم: "هم يعيشون براحة أكثر منا..." يتعلق بالجانب المادي فقط. بينما ما أُشير إليه في "الكلمة الأولى" هو البُعد المعنوي والروحي.
فهل يُمكن لشخص ينتظر حبل المشنقة، وإن عاش في القصور والرفاهية، أن يشعر بالسعادة الحقيقية؟ لننظر إلى ما قاله الأستاذ بديع الزمان في اللمعة السابعة عشرة:
(أيتها الروح الخبيثة التي تنشر الكفر وتبث الجحود! تُرى هل يمكن أن يسعد إنسانٌ بمجرد تملّكه ثروة طائلة، وترفّله في زينة ظاهرة خادعة، وهو المصاب في روحه وفي وجدانه وفي عقله وفي قلبه بمصائبَ هائلة؟ وهل يمكن أن نطلق عليه أنه سعيد؟ ألَا ترين أنّ مَن يَئِس من أمرٍ جزئي، وانقطع رجاؤه من أملٍ وهمي، وخابَ ظنُّه من عملٍ تافهٍ، كيف يتحول خيالُه العذبُ مُرّاً علقماً، وكيف يتعذّب مما حوله من أوضاع لطيفة، فتضيق عليه الدنيا كالسجن بما رحُبت!. فكيف بمن أُصيب بشؤمك بضربات الضلالة في أَعمق أعماق قلبه، وفي أَغوار روحه، حتى انقطعت -بتلك الضلالة- جميعُ آمالِه، فانشقت عنها جميعُ آلامه، فأيُّ سعادةٍ يمكنك أن تضمَني لمثل هذا المسكين الشقي؟ وهل يمكن أن يُطلَق لمن روحُه وقلبُه يُعذَّبان في جهنم، وجسمه فقط في جنةٍ كاذبة زائلة.. أنه سعيد؟..)
وجاء في الحديث الشريف [ لو كانتِ الدُّنيا تعدلُ عندَ اللهِ جناحَ بعوضةٍ ما سقى كافرًا منها شربةَ ماءٍ] (الترمذي)
يُفهم من هذا الحديث أن المعيار الحقيقي هو راحة القلب وطمأنينة الروح، لا مظاهر الدنيا.
أما الرقي المادي فقد ربطه الله بسُنة الأسباب، أي بالعمل والاجتهاد، دون النظر إلى الإيمان أو الكفر. ولذلك فإن المؤمنين الذين لم يعملوا بجد لأجل دنياهم يعانون من النقص فيها، لكنهم يعملون لأجل آخرتهم، فسيجدون السعادة هناك بإذن الله.
وأما الكفار، فبما أنهم عملوا للدنيا، فقد أُعطوا حظًا منها. ولكنهم في الآخرة سيواجهون العذاب الأليم.
والإسلام يدعو إلى السعادة في الدنيا والآخرة معًا، ولكن بما أن الدنيا فانية والآخرة باقية، فإن السعادة الأبدية هي الأهم وهي الأصل.
الخلاصة:
لا يُقاس الشقاء أو السعادة الحقيقية بالمظاهر الدنيوية. من لم يقل "بسم الله"، قد يربح ظاهرًا، لكنه خاسر في باطنه وآخرته.
31-)
في بداية "الكلمة الرابعة"، يُستخدم وصف "أبله" (أي مجنون أو أحمق) للشخص الذي لا يُصلي. فما الذي ينبغي أن نفهمه من هذا التعبير؟
كلمة "أبله" تُطلق على الأشخاص الذين بلغ بهم السفه وانعدام التفكير السليم إلى درجة لا يستطيعون فيها التمييز بين ما هو ضار وما هو نافع لهم.
فعلى سبيل المثال، من يستبدل ألماسة تساوي مليارات الليرات بقطعة زجاج مكسورة ورخيصة، فهذا إنسان لا يعرف ما هو الخير أو النفع لنفسه، ومثل هذا الشخص يُعدّ أبلهاً (أي فاقدًا للعقل).
ومثال آخر:
"تخيّل موظفًا أُعطي 24 ليرة كمصاريف سفر لزيارة عدة مناطق، فأنفق 23 ليرة منها في أول منطقة دخلها. ماذا سيفعل في المناطق الأخرى؟ وماذا سيقول للحكومة عند عودته؟ هل يمكن لعاقل أن يصف هذا التصرف بأنه تصرف حكيم؟"
32-)
شرح قول الاستاذ:وأما الآخر فهو الفاسق الخاسر الذي يلهث وراء هموم العيش لحدّ اتهام الرزاق الحقيقي
إذا تذرّع شخص بهمّ المعيشة وطلب الرزق، وجعل ذلك سببًا لترك الصلاة وسائر العبادات الواجبة، فقد وقع في خسارة عظيمة.
فمثل هذا السلوك يتضمّن في باطنه اتهامًا لرحمة الله، وسوء ظنّ بربّه، وضعف توكّل، وقلقًا لا مبرر له بشأن الرزق الذي تكفّل به الله تعالى.
لزيادة البيان، من المفيد تأمل هذا المقطع من "اللمعة الثامنة والعشرين" من رسائل النور:
ثم يشرح الأستاذ النورسي هذا المعنى فيقول:
" الوجه الثاني:
الإنسان مُغرمٌ بالرزق كثيراً، ويتوهم أن السعي إلى الرزق يمنعه عن العبودية، فلأجل دفع هذا التوهم، ولكي لا يُتخَذ ذريعةً لترك العبادة تقول الآية الكريمة: ﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْاِنْسَ اِلَّا لِيَعْبُدُونِ ﴾ وتحصر الغاية من الخلق في العبودية لله، وأن السعي إلى الرزق -من حيث الأمر الإلهي- عبوديةٌ لله أيضاً.
أما إحضارُ الرزق لمخلوقاتي ولأنفسكم وأهليكم وحتى رزقُ حيواناتكم فأنا الكفيل به. فأنتم لم تُخلَقوا له، فكل ما يخص الرزق والإطعام يخصني أنا وأنا الرزاق ذو القوة المتين.. فلا تحتجّوا بهذا فتتركوا العبادة، فأنا الذي أُرسل رزقَ مَن يتعلق بكم من عبادي.."(1)
وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنه، قال رسول الله ﷺ:[ مَنْ جَعَلَ الهَمَّ هَمًّا واحدًا كفاهُ اللهُ همَّ دُنياهُ، ومَنْ تشعَّبتْ به الهمومُ لم يُبالِ اللهُ في أيِّ أوديةِ الدُّنيا هلَكَ ] (2)
خلاصة المعنى:
من يجعل همّ المعيشة سببًا لترك الفرائض وارتكاب المعاصي، يكون قد خسر الدنيا والآخرة.
مثل هذا الإنسان يُعتبر فاسقًا خاسرًا، لأنه اتهم الله ضمنًا بالتقصير في الرزق.
العبادة هي الغاية الأساسية من خلق الإنسان، بينما السعي في طلب الرزق لا ينبغي أن يشغله عنها.
الله هو الرازق الحقيقي، فلا يصح أن يطغى السعي الدنيوي على التكاليف الشرعية.
33-)
في "الكلمة الرابعة"، وردت عبارات مثل "بُعد شهرين، و بُعد يوم واحد"، فما معنى هذه المفاهيم؟ وكم تكون مدة عالم البرزخ بحسب ذلك؟
ما يُعرف بـ عالم البرزخ، أي حياة القبر، ينتهي عند قيام الساعة وبدء البعث الثاني.
بعد ذلك تأتي مراحل: المحشر، الصراط، الجنة، والنار، وهذه المراحل قد تطول أو تقصر تبعًا لأعمال كل إنسان. فبحسب العمل، تكون الرحلة إما طويلة أو قصيرة.
العبارة التي استخدمها الأستاذ النورسي – " بُعد شهرين" – تشير إلى الرحلة الأبدية التي تبدأ من عالم الأرواح وتنتهي بالجنة أو النار. وفي هذه الرحلة الطويلة، تُعد الحياة الدنيا أقصر مراحلها، وهي – في المتوسط – لا تتجاوز ستين سنة.
عندما يقول الأستاذ "شهرين"، لا يقصد تحديدًا زمنيًا دقيقًا، بل يستخدم تعبيرًا مجازيًا يُبرز أن الدنيا، بكل ما فيها، لا تُعدّ إلا كأنها يوم واحد في سياق الرحلة الأبدية. فلا يُفهم من كلامه أن "تبقى شهرًا بعد يوم"، بل المقصود هو النسبة بين قِصر الدنيا وطول الآخرة.
وبالتالي، فإن حياة البرزخ (القبر)، ويوم الحساب (المحشر)، ومرحلة الصراط، يمكن أن تُختصر وتُخفف عن الإنسان بفضل الصلاة، التي هي من أعظم الوسائل لذلك.