الصوم مفتاح للشكر

الأستاذ: منير توران

رسالةُ رَمَضان

 

لقد بُحِثَت نُبذةٌ مختصرةٌ عن الشعائرِ الإسلاميةِ في خِتامِ القِسمِ الأوّلِ، لذا سَيُذكَرُ في هذا القِسم الثاني عَددٌ من الحِكَمِ التي تخصُّ صيامَ شهرِ رَمَضانَ المباركِ الذي هو أسطعُ الشعائرِ وأجلُّها. هذا البحثُ عبارةٌ عن تسعِ نِكاتٍ دقيقةٍ ومسائلَ لطيفةٍ تُبين تسعاً من الحِكمِ الكثيرةِ لصيامِ شَهرِ رَمضانَ المباركِ.

﴿شَهۡرُ رَمَضَانَ ٱلَّذِيٓ أُنزِلَ فِيهِ ٱلۡقُرۡءَانُ هُدٗى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَٰتٖ مِّنَ ٱلۡهُدَىٰ وَٱلۡفُرۡقَانِۚ﴾ (البقرة: 185)

النكتةُ الثانيةُ

إنَّ إحدَى الحِكمِ الوَفيرةِ لصيامِ شَهرِ رَمضانَ المباركِ من حيثُ تَوجُّهُه إلى الشُّكرِ على النِّعمِ التي أَسبَغَها الباري عَلَينا، هي: أنّ الأطعمةَ التي يأتي بها خادمٌ من مَطبخِ سلطانٍ لها ثَمَنُها -كما ذُكر في «الكلمة الأولى»- ويُعَدُّ من البلاهةِ تَوهُّمُ الأطعمةِ النفيسةِ تافهةً غير ذاتِ قيمةٍ، وعدمُ معرفةِ مُنعِمِها الحقيقيِّ، في الوقتِ الذي يُمنحُ الخادمُ هِبات وعَطايَا لأجلِها، وكذلك الأطعمةُ والنِّعَمُ غيرُ المعدودةِ التي بَثّها اللهُ سبحانه في وَجهِ الأرضِ فإنه يَطلُبُ مِنّا حتماً ثَمَنَها، ألاَ وهُو القيامُ بالشُّكرِ له تجاهَ تلك النِّعمِ، والأسبابُ الظاهريةُ التي تُحمَلُ عليها تلك النِّعمُ وأصحابُها الظاهِرُون هُم بمثابةِ خَدَمةٍ لها، فنَحنُ نَدفَعُ للخُدّامِ ما يَستَحِقُّونَه من الثمَنِ ونظلُّ تحتَ فَضلِهِم ومِنّتِهم بل نُبدِي لهم من التوقيرِ والشُّكرِ أكثرَ مما يَستَحقّونَه، والحالُ أنّ المنعِمَ الحقيقيَّ سبحانه يَستحِقُّ -ببثِّه تلك النِّعَمَ- أن نُقَدِّمَ له غايةَ الشُّكرِ والحمدِ، ومُنتهَى الامتنانِ والرِّضا، وهو الأهلُ لكلِّ ذلك، بل أكثرُ. فتقديمُ الشُّكرِ لله سُبحانه إنما يكُونُ بمَعرفةِ صُدورِ تلك النِّعمِ والآلاء منه مباشرةً.. وبتقديرِ قِيمَتِها.. وبشعورِ الحاجةِ إليها. لذا فإنّ صيامَ رَمضانَ المباركِ لهو مِفتاحُ شُكرٍ حقيقيٍّ خالِصٍ، وحمدٍ عظيمٍ عامٍّ لله سبحانه، وذلك لأنّ أغلَبَ الناسِ لا يُدرِكُون قيمةَ نِعَمٍ كثيرةٍ -غيرَ مُضطرِّين إليها في سائر الأوقاتِ- لعدَمِ تَعرُّضِهِم لقَساوَةِ الجوعِ الحقيقيِّ وأَوضارِه، فلا يُدرِكُ -مثلاً- درجةَ النِّعمةِ الكامنةِ في كَسرةِ خُبزٍ يابسٍ أولئك المُتخَمُونَ بالشَّبَعِ، وبخاصةٍ إن كانوا أثرياءَ مُنعَّمِين، بَينما يُدرِكُها المؤمِنُ عند الإفطارِ أنّها نعمةٌ إلهيةٌ ثمينةٌ، وتَشهدُ على ذلك قوّتُه الذائقةُ، لذا يَنالُ الصائمُونَ في رَمضانَ -ابتداءً منَ السُّلطانِ وانتهاءً بأفقرِ فقيرٍ- شكراً مَعنويًّا لله تعالى مُنبَعثاً من إدراكِهِم قيمةَ تلك النِّعمِ العظيمةِ، أمّا امتناعُ الإنسانِ عَن تَناوُلِ الأطعمةِ نهاراً فإنه يَجعلُه يَتوصّلُ إلى أن يُدرِكَ بأنها نعمةٌ حقًّا، إذ يُخاطِبُ نَفسَه قائلاً: «إنَّ هذه النِّعمَ ليسَت مِلكاً لي، فأنا لستُ حرًّا في تَناوُلها، فهي إذن تَعودُ إلى واحدٍ آخرَ، وهي أصلاً من إنعامِه وكَرَمِه عَلَينا، وأنا الآنَ في انتظارِ أمرِه».. وبهذا يكُونُ قد أدَّى شكراً مَعنويًّا حِيالَ تلك النِّعمِ. وبهذه الصورةِ يُصبِحُ الصومُ في حُكمِ مِفتاحٍ للشُّكرِ مِن جِهاتٍ شَتَّى، ذلك الشُّكرُ الذي هو الوظيفةُ الحقيقيةُ للإنسانِ.

 

https://www.nafizatalnoor.com/?q=%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%AD%D8%AA%D9%88%D9...

التعليقات