الصوم يربي النفس ويهذبها

الاستاذ : منير توران

رسالةُ رَمَضان

النكتة الرابعة والخامسة

لقد بُحِثَت نُبذةٌ مختصرةٌ عن الشعائرِ الإسلاميةِ في خِتامِ القِسمِ الأوّلِ، لذا سَيُذكَرُ في هذا القِسم الثاني عَددٌ من الحِكَمِ التي تخصُّ صيامَ شهرِ رَمَضانَ المباركِ الذي هو أسطعُ الشعائرِ وأجلُّها. هذا البحثُ عبارةٌ عن تسعِ نِكاتٍ دقيقةٍ ومسائلَ لطيفةٍ تُبين تسعاً من الحِكمِ الكثيرةِ لصيامِ شَهرِ رَمضانَ المباركِ.

﴿شَهۡرُ رَمَضَانَ ٱلَّذِيٓ أُنزِلَ فِيهِ ٱلۡقُرۡءَانُ هُدٗى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَٰتٖ مِّنَ ٱلۡهُدَىٰ وَٱلۡفُرۡقَانِۚ﴾ (البقرة: 185)

النكتةُ الرابعةُ

إنَّ صومَ رمضانَ يَـحوِي من جهةِ تَربيةِ النفسِ البشريةِ حِكماً عدّةً، إحداهَا هي أنّ النفسَ بِطبِيعَتِها تَرغَبُ في الانفِلاتِ من عِقالِها حرةً طليقةً، وتَتَلقَّى ذاتَها هكذا، حتى إنها تَطلُبُ لنفسِها ربوبيةً مَوهُومةً، وحركةً طليقةً كيفَما تَشاء، فهي لا تريدُ أن تُفكِّرَ في كَونها تَنمُو وتَتَـرَعْرَعُ وتُربَّى بِنعمٍ إلهيةٍ لا حدَّ لها، وبخاصّةٍ إذا كانَت صاحبةَ ثَروةٍ واقتِدارٍ في الدنيا، والغفلةُ تُساندُها وتُعاونُها، لذا تَزدَرِدُ النِّعمَ الإلهيةَ كالأنعامِ دُون إذنٍ ورُخصَةٍ. ولكن تَبدأُ نفسُ كلِّ شخصٍ بالتفَطُّنِ في ذاتها في رَمضانَ المباركِ، ابتداءً من أغنى غَنيٍّ إلى أَفقرِ فقيرٍ، فتُدرِكُ بأنّها ليسَت مالكةً، بل هي مملوكةٌ، وليسَت حرّةً طليقةً، بل هي عَبدةٌ مَأمُورةٌ، فلا تَستَطِيعُ أن تَمُدَّ يدَها إلى أَدنَى عَمَلٍ من غيرِ أمرٍ، بل حتى لا تَستَطيعُ أن تَمدَّها إلى ماءٍ.. وبهذا يَنكسِـرُ غُرورُ رُبوبيَّتِها الموهُومةِ، فَتتقلَّدُ رِبقةَ العبوديةِ لله تعالى، وتَدخُلُ ضِمنَ وَظيفَتِها الأساسِ وهي «الشُّكرُ».

النكتةُ الخامسةُ

إنَّ لصومِ رَمَضانَ حِكَماً كثيرةً من حيثُ تَوجُّهُه إلى تَهذِيبِ النفسِ الأمّارةِ بالسُّوءِ، وتَقويمِ أخلاقِها وجعلِها تَتَخلَّى عن تَصرُّفاتِها العَشوائيةِ، نَذكُرُ منها حكمةً واحدةً: إنَّ النفسَ الإنسانيةَ تَنسَى ذاتَها بالغفلةِ، ولا تَرى ما في مَاهيتِها من عَجزٍ غيرِ محدودٍ، ومن فَقرٍ لا يَتَناهَى، ومن تَقصيراتٍ بالغةٍ، بل لا تُريدُ أن تَرى هذه الأمورَ الكامنةَ في ماهيتِها، فلا تُفكِّرُ في غايةِ ضَعفِها ومَدى تَعرُّضِها للزَّوالِ ومَدى استِهدافِ المصائبِ لها، كما تَنسَى كونَها من لحمٍ وعَظمٍ يَتَحلَّلانِ ويَفسُدان بسرعةٍ، فَتَتصَرَّفُ واهمةً كأنّ وُجُودَها من فُولاذٍ، وأنها مُنـزَّهةٌ عن الموتِ والزَّوالِ، وأنها خالدةٌ أبديةٌ، فتراهَا تَنقَضُّ على الدنيا وتَرمي نَفسَها في أَحضانِها حاملةً حِرصاً شديداً وطَمَعاً هائلاً وتَرتبِطُ بعلاقةٍ حميمةٍ ومحبّةٍ عارمةٍ مَعها، وتَشدُّ قَبضَتَها على كلِّ ما هو لذيذٌ ومُفيدٌ، ومن ثمَّ تَنسَى خالقَها الذي يُربِّيها بكمالِ الشفَقةِ والرَّأفةِ فتَهوِي في هاويةِ الأخلاقِ الرديئةِ ناسيةً عاقبةَ أَمرِها وعُقبى حياتِها وحياةَ أُخراهَا. ولكِنَّ صومَ رمضانَ يُشعِرُ أشدَّ الناسِ غفلةً وأعتاهُم تَمرُّداً بضَعفِهِم وعَجزِهِم وَفقرِهِم، فَبِوَساطةِ الجوعِ يُفكِّرُ كلٌّ منهم في نفسِه وفي مَعِدَتِه الخاويةِ ويُدرِكُ الحاجةَ التي في مَعِدَتِه فيَتذَكّرُ مدى ضَعفِه، ومَدى حاجتِه إلى الرحمةِ الإلهيةِ ورَأفتِها، فيَشعُرُ في أعماقِه تَوقاً إلى طَرقِ بابِ المغفرةِ الربانيةِ بعجزٍ كاملٍ وفَقرٍ ظاهرٍ، مُتخلِّياً عن فَرعنةِ النفسِ، مُتهيِّئاً بذلك لطرقِ بابِ الرحمةِ الإلهيةِ بِيَدِ الشُّكرِ المعنويِّ (إن لم تُفسِدِ الغفلةُ بَصِيرَتَه).

https://www.nafizatalnoor.com/?q=%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%AD%D8%AA%D9%88%D9...

التعليقات