حكمة وقت صلاة الظهر
الأستاذ: منير توران
الكلمة التاسعة
﷽
﴿ فَسُبۡحَٰنَ ٱللَّهِ حِينَ تُمۡسُونَ وَحِينَ تُصۡبِحُونَ * وَلَهُ ٱلۡحَمۡدُ فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَعَشِيّٗا وَحِينَ تُظۡهِرُونَ ﴾ (الروم:17-18)
أيها الأخ! تَسألُني عن حكمةِ تَخصيصِ الصَّلاةِ في هذه الأوقاتِ الخمسةِ المعيَّنةِ، فسَنشيرُ إلى حِكمةٍ واحدةٍ فقط من بين حِكَمها الوَفيرةِ. نعم، كما أنَّ وقتَ كلِّ صَلاةٍ بدايةُ انقلابٍ زَمنيٍّ عظيمٍ ومُهمٍّ، فهو كذلك مرآةٌ لتصرُّفٍ إلهيٍّ عَظيمٍ، ومَعكِسٌ لآلاءٍ إلهيةٍ كُليَّةٍ في ذلك التَّصرف؛ لهذا فقد أُمِرَ في تلك الأوقاتِ بالصَّلاةِ، أي الزِّيادةِ من التَّسبيحِ والتعْظيمِ للقديرِ ذي الجلالِ، والإكثارِ من الحمدِ والشُّكرِ لنِعَمِه التي لا تُحصَى والتي تَجمَّعتْ بين الوقتَينِ.. ولأجل فَهمِ بَعضٍ من هذا المعنَى العَميقِ الدَّقيقِ، يَنبغِي الإصغاءُ -مع نفسي- إلى خمسِ نِكاتٍ.
النكتة الرابعة
إنَّ عقاربَ السَّاعةِ التي تَعُدُّ الثواني والدقائقَ والسَّاعاتِ والأيامَ، كلٌّ منها يُناظرُ الآخَرَ، ويُمثِّلُ الآخَرَ، ويَأخذُ كلٌّ منها حُكمَ الآخرِ. كذلك في عالم الدنيا الذي هو ساعةٌ إلهيةٌ كبرَى، فإنَّ دوَرانَ الليلِ والنهارِ الذي هو بِحُكمِ الثواني للساعةِ، والسَّنواتِ التي تَعُدُّ الدقائِقَ، وطبقاتِ عُمُرِ الإنسانِ التي تَعدُّ الساعاتِ، وأدوارَ عُمُرِ العالم التي تَعُدُّ الأيامَ، كلٌّ منها يُناظِرُ الآخرَ، ويَتشَابَه معه، ويُماثِلُه، ويُذكِّرُ كلٌّ منها الآخرَ، ويأخذُ حُكمَه،
فمثلا: وَقتُ الظُّهرِ: فهو يُشبِه ويُشيـرُ إلى مُنتصَفِ الصَّيفِ، وإلى عُنفُوانِ الشبابِ، وإلى فَترةِ خلقِ الإنسان في عُمُرِ الدنيا، ويُذكِّر ما في ذلك كلِّه من تجلياتِ الرحمةِ وفُيوضاتِ النِّعمةِ.
النكتة الخامسة
إن الإنسانَ بفطرتِه ضَعيفٌ جدا، ومع ذلك فما أكثرَ المُنغِّصاتِ التي تُورِثُه الحُزنَ والألَم؛ وهو في الوَقتِ نَفسِه عاجزٌ جدا، مع أن أعداءَه ومَصائِبَه كثيرةٌ جدا؛ وهو فَقيرٌ جدا مع أن حَاجاتِه كَثِيرةٌ وشديدةٌ؛ وهو كَسُولٌ وبلا اقتدارٍ مع أنَّ تكاليفَ الحياة ثقيلةٌ عليه؛ وإنسانِيتُه جَعلته يَرتبِطُ بالكونِ جميعا مع أنَّ فراقَ ما يُحبُّه وزوالَ ما يَستأنِسُ به يُؤلمانِه، وعَقلُه يُريهِ مَقاصدَ سامِيةً وثمارًا باقِيةً، مع أن يدَه قصِيرةٌ، وعُمُرَه قصِيرٌ، وقُدرَتَه محدُودةٌ وصبرَه مَحدودٌ. فروحُ الإنسانِ في هذه الحالةِ: وعندَ وَقتِ الظُّهرِ ذلك الوقتِ الذي هو ذِروةُ كمالِ النهارِ وميَلانُه إلى الزَّوالِ، وهو أَوَانُ تكامُلِ الأعمالِ اليومِيّةِ، وفَترةُ استِراحةٍ مُؤقَّتةٍ من عَناءِ المشاغِلِ.. وهو وقتُ حاجةِ الروحِ إلى التنفُّسِ والاستِرواحِ مما تُعطِيهِ هذه الدنيا الفانِيةُ والأشغالُ المرهِقةُ المؤقَّتةُ من غَفلةٍ وحَيرةٍ واضْطِرابٍ فضلا عن أنه أوانُ تَظاهرِ الآلاءِ الإلهيةِ. فَخلاصُ رُوحِ الإنسانِ من تلك المضايَقاتِ، وانسلالُها من تلك الغَفلةِ والـحَيرةِ، وخُروجُها من تلك الأمورِ التافهةِ الزائلةِ، لا يكونُ إلّا بالالتجاءِ إلى باب القيُّومِ الباقِي -وهو المنعِمُ الحقيقيُّ- بالتضَرعِ والتوسُّلِ أمامَه مكتوفَ اليدَينِ شاكرًا حامِدًا لمَجموعِ نِعمِه، مُستَعينًا به وَحدَه، مع إظهارِ العَجزِ أمامَ جلالِه وعظمَتِه بالرُّكوعِ، وإعْلانِ الذُّلِّ والخضوعِ -بإعجابٍ وتَعظيمٍ وهُيامٍ- بالسجودِ أمامَ كمالِه الذي لا يزولُ، وأمامَ جمالِه الذي لا يحول.. وهذا هو أداءُ صلاةِ الظهرِ، فما أجمَلها، وما ألذَّها، وما أَجْدرَها، وما أعظمَ ضَرورَتها! ومن ثَمَّ فلا يَحسَبنّ الإنسانُ نفسَه إنسانًا إن كان لا يَفهمُ هذا.
https://www.nafizatalnoor.com/?q=%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%AD%D8%AA%D9%88%D9...
التعليقات